وضع داكن
18-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 12 - الصحابي أم سلمة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الأستاذ جمال: فضيلة الشيخ بداية ولو سمحتم ولو بعنوان عريض، من هي الصحابية الجليلة أم سلمة ؟
 أ.راتب: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، أم سلمة رضي الله عنها،  زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وهي أم المؤمنين، أبوها سيدٌ من سادات مخزوم المرموقين، وجوادٌ من أجواد العرب المعدودين، حتى إنه كان يقال له: زاد الراكب، لأن الركبان كانت لا تتزوَّد إذا قصدت منازله أو سارت في صحبته، وأما زوجها فعبد الله بن عبد الأسد أحد العشرة السابقين إلى الإسلام، إذ لم يسلم قبله إلا أبو بكرٍ الصديق ونفرٌ قليلٌ لا يبلغ أصابع اليدين عداً، وأما اسمها فهند، لكنها كُنيت بأم سلمة، ثم غلبت عليها الكُنية، أم سلمة أسلمت مع زوجها فكانت هي الأخرى من السابقات إلى الإسلام أيضاً، وما إن شاع نبأ إسلام أم سلمة وزوجها، حتى هاجت قريش وماجت، وجعلت تصبُّ عليها من نكالها، ما يزلزلها، فلم يضعفا، ولم يهنا ولم يترددا.
الأستاذ جمال: ما معنى كلمة نكال أستاذ راتب ؟
 الأستاذ راتب: النكال هو الأذى الشديد، نكَّل به أي أصابه بأذىً شديد، ولما اشتد عليها الأذى، وأذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة كانا أي هي وزوجها في طليعة المهاجرين، مضت أم سلمة وزوجها إلى ديار الغربة، وخلَّفت ورائها في مكة بيتها وعزها الشامخ ونسبها العريق، محتسبةً ذلك كله عند الله سبحانه وتعالى، مستقلةً له في جنب مرضاته، وعلى الرغم مما لقيته أم سلمة وصحبها من حماية النجاشي نضَّر الله في الجنة وجهه، فقد كان الشوق إلى مكة مهبط الوحي، والحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مصدر الهدى يفري كبدها وكبد زوجها فرياً، ثم تتابعت الأخبار على المهاجرين إلى أرض الحبشة بأن المسلمين في مكة قد كثر عددهم، وأن إسلام حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب قد شدَّ من أذرهم وكف شيئاً من أذى قريشٍ عنهم، فعزم فريقٌ منهم على العودة إلى مكة، يحدوهم الشوق ويدعوهم الحنين، فكانت أم سلمة وزوجها في طليعة العائدين، ولكن سرعان ما اكتشف العائدون أن ما نمي إليهم من أخبار كان مبالغاً فيه، وأن الوثبة التي وثبها المسلمون بعد إسلام حمزة وعمر قد قوبلت من قريشٍ بهجمةٍ أكبر، فتفنن المشركون في تعذيب المسلمين وترويعهم، وأذاقوهم من بأسهم ما لا عهد لهم به من قبل.
 أ.جمال: هنا يا أستاذ راتب النابلسي ماذا فعل رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟.
 أ.راتب: بعد هذه الشدة أذن النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، وهذه هي الهجرة الثانية.
 فعزمت أم سلمة وزوجها على أن يكونا أول المهاجرين فراراً بدينهما وتخلُّصاً من أذى قريش، لكن هجرة أم سلمة وزوجها لم تكن سهلةً ميسرةً كما خُيِّل إليهما، وإنما كانت شاقةً مرةً خلفت وراءها مأساةً تهون دونها كل مأسات.
أ.جمال: أستاذ راتب النابلسي لو سمحتم عوتمونا في كل حديث أن نترك الشخص، أو الصحابي الجليل نتحدث عن وعن الأمور التي حـصلت معه، فما رأيكم أن تتحدث أم سلمة عن كل تفاصيل حيـاتها وصـحبتها.
 الأستاذ راتب: بارك الله بكم أستاذ جمال، الحقيقة أن كتب السيرة تضمنت روايةً لأم سلمة عن قصتها.
 قالت أم سلمة: لما عزم أبو سلمة على الخروج إلى المدينة، أعد لي بعيراً ثم حملني عليه، وجعل طفلنا سلمة في حجري، ومضى يقود بنا البعير لا يلوي على شيء، وقبل أن نبتعد عن مكة رأنا رجالٌ من قومي، فتصدو لنا، وقالوا لأبي سلمة: إن كنت قد غلبتنا على نفسك فما بال امرأتك هذه وهي بنتنا، فعلام نتركك تأخذها منا وتسير بها في البلاد، ثم وثبوا عليه وانتزعوني منه انتزاعاً، وما إن رأهم قوم زوجي يأخذونني أنا وطفلي حتى غضبوا أشد الغضب وقالوا: لا والله لا نترك الولد عند صاحبتكم بعد أن انعتزعتموها من صاحبها انتزاعاً، فهو ابننا ونحن أولى به، ثم طفقوا يتجاذبون طفلي سلمة بينهم على مشهدٍ مني حتى خلعوا يده وأخذوه، وفي لحظاتٍ وجدت نفسي ممزقة الشمل وحيدةً فريدة ؛ فزوجي إتجه إلى المدينة فراراً بدينه ونفسه، وولدي اختطفه بنوا عبد الأسد من بين يدي محطماً مهيضاً، أما أنا فقد استولى علي قومي بني مخذوم وجعلوني عندهم، ففرِّق بيني وبين زوجي وبين إبني في ساعة، ومنذ ذلك اليوم جعلت أخرج كل غداةٍ إلى الأبطح، فأجلس في المكان الذي شهد مأساتي، وأستعيد صورة اللحظات التي حيل فيها بيني وبين ولدي زوجي، وأظل أبكي حتى يخيَّم علي الليل، وبقيت على ذلك سنةً أو قريباً من سنة، إلى أن مرَّ بي رجلٌ من بني عمي، فرقَّ لحالي ورحمني، وقال لبني قومي: ألا تطلقون هذه المسكينة، فرَّقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها ؟ وما زال بهم يستلين قلوبهم، ويستدرُّ عطفهم حتى قالوا: إلحقي بزوجكِ إن شئتِ ولكن كيف لي أن ألحق بزوجي في المدينة، وأترك ولدي وفلذة كبدي في مكة عند بني عبد الأسد ؟ كيف يمكن أن تهدأ لي لوعةٌ أو ترقأ لعيني عبرةٌ وأنا في دار الهجرة وولدي الصغير في مكة لا أعرف عنه شيئاً؟ ورأى بعض الناس ما أعالجه من أحزاني وأشجاني، فرقَّت قلوبهم لحالي، وكلموا بني عبد الأسد في شأني، واستعطفوهم علي، فردوا لي ولدي سلمة.
الآن أصبحت مهيئةً للذهاب إلى زوجها، هكذا تقول أم سلمة: ولم أشأ أن أتريس في مكة حتى أجد من أسافر معه، فقد كنت أخشى أن يحدث ما ليس بالحسبان فيعوقني عن اللحاق بزوجي عائق، لذلك بادرت فأعددت بعيري، ووضعت ولدي في حجري، وخرجت متوجهةً نحو المدينة أريد زوجي، وما معي أحدٌ من خلق الله، وما إن بلغت التنعيم ( مكانٌ في ظاهر مكة يحرم منه المعتمرون ) حتى لقيت عثمان بن طلحة، فقال: إلى أين يا بنت زاد الراكب ؟ فقلت: أريد زوجي في المدينة، قال: أوما معكِ أحدٌ ؟ قلت: لا والله إلا الله ثم بني هذا، قال: والله لا أترككِ أبداً حتى تبلغي المدينة.
 ثم أخذ بخطام بعيري وانطلق يهوي به، فوالله، ( دقق أستاذ جمال، دقق في هذه المروءة التي كان يتمتع بها العرب في الجاهلية، ليس مسلماً هذا )، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أكرم منه ولا أشرف منه، كان إذا بلغ منزلاً من المنازل ينيخ بعيري ثم يستأخر عني، حتى إذا نزلت عن ظهره واستويت على الأرض، دنى إليه واقتاده إلى شجرةٍ وقيده فيها، ثم يتنحى عني إلى شجرةٍ أخرى فيضجع في ظلها، فإذا حان الرواح قام إلى بعيره فأعده وقدمه إلي، ثم يستأخر عني ويقول: اركبي، فإذا ركبت واستويت على البعير أتى فأخذ بخطامة وقاده، وما زال يصنع بي مثل ذلك كل يوم حتى بلغنا المدينة، فلما نظر إلى قريةٍ بقباء لبني عمرو، قال زوجكِ في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة،ليس له عمل في المدينة إنما قدم لها هذه الخدمة وعاد إلى مكة.
 إجتمع الشمل الشتيت بعد طول افتراق، وقرَّت عين أم سلمة بزوجها، وسعد أبو سلمة بصاحبته وولده، ثم طفقت الأحداث تمضي سراعاً كلمح البصر، فهذه بدرٌ يشهدها أبوا سلمة، ويعود منها مع المسلمين وقد انتصروا نصرا مؤزراً، وهذه أحدٌ يخوض غمارها بعد بدرٍ، ويبلي فيها أحسن البلاء وأكرمه، لكنه يخرج منها وقد جرح جرحاً بليغاً، فما زال يعالجه حتى بدا له أنه قد إندمل، أي شفي، لكن الجرح كان قد رمَّ على فسادٍ، فما لبث أن انتكأ وألزم أبا سلمة الفراش، وفيما كان أبو سلمة يعالج من جرحه، قال لزوجته: يا أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول:

((لا تصيب أحداً مصيبةٌ فيسترجع عند ذلك ويقول: اللهم أخلفني خيراً منها إلا أعطاه الله عزَّ وجل.. يسترجع أن يقول إنا لله وإنا إليه راجعون.
وظل أبو سلمة على فراش مرضه أياماً، وفي ذات صباحٍ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ليعوده، فلم يكد ينتهي من زيارته ويجاوز باب
داره، حتى فارق أبو سلمة الحياة.شعر المهاجرون والأنصار معاً بحق أم سلمة عليهم، فما كادت تنتهي من حدادها على أبي سلمة، حتى تقدم منها أبو بكر الصديق يخطبها لنفسه، فأبت أن تستجيب لطلبه، ثم تقدم منها عمر بن الخطاب فردته كما ردت صاحبه، ثم تقدم منها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقالت: يا رسول الله، إن في خلالاً ثلاثة ؛ فأنا امرأةٌ شديدة الغيرة، فأخاف أن ترى مني شيئاً يغضبك فيعذبني الله به، وأنا امرأةٌ قد دخلت في السن، أي متقدمة في السن، وأنا امرأةٌ ذات عيال ))

 فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( أما ما ذكرتي من غيرتكِ فإني أدعو الله عزَّ وجل أن يذهبها عنكِ، وأما ما ذكرتي من السن فقد أصابني مثل الذي أصابكِ، وأما ما ذكرتي من العيال فإنما عيالكِ عيالي))

ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من أم سلمة، فاستجاب الله دعائها وأخلفها خيراً من أبي سلمة.
 الأستاذ جمال: أهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية جامعة دمشق،والمدرس الديني في مساجد دمشق، وخطيب جامع النابلسي بدمشق، نشكركم أستاذ راتب، ولنا لقاء إن شاء الله.

 

تحميل النص

إخفاء الصور