وضع داكن
19-04-2024
Logo
صور من حياة الصحابة - الندوة : 02 - الصحابي سراقة بن مالك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع:
 أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأهلاً ومرحبا بكم مع بداية هذه الحلقة الجديدة من برنامج صور من حياة الصحابة، يسعدنا أن نستضيف فضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الأستاذ المحاضر في كلية التربية في جامعة دمشق، والمدرس الديني في مساجد دمشق، أستاذ راتب أهلاً بكم ومرحبا
أستاذ راتب سراقة بن مالك هذا الصحابي الجليل، حبذا لو نلقي الضوء بشيء من الإيضاح على شخصية هذا الصحابي الجليل تفضل.
الأستاذ:
 سراقة بن مالك فارس من فرسان قومه المعدودين، طويل القامة عظيم الهامة، بصير باقتفاء الأثر، صبور على أهوال الطريق وكان إلى ذلك كله، أريباً، لبيباً، شاعراً، وكانت فرسه من عتاق الخيل.
المذيع:
ما معنى كلمة أريب ؟
الأستاذ:
فطـن.
 بلغه أن قريش أعدت مائة ناقة لمن يأتي برسول الله حياً أو ميتاً، فلبس سراقة لأمته ؛ أي درعه، وتقلد سلاحه وامتطى صهوة فرسه، وطفق يغز السير ليدرك محمداً قبل إن يأخذه أحدٌ سواه ويظفر بجائزة قريش، مضى سراقة يطوي الأرض طياً، لكنه ما لبث أن عثرت به فرسه وسقط عن صهوتها فتشاءم من ذلك وقال ما هذا تباً لكِ من فرس، وعل ظهرها غير أنه لم يمضي بعيداً حتى عثرت به مرة أخرى، فأزداد تشاءماً، وهمَّ بالرجوع، فما رد عن همه إلا طمعه بالنوق المائة، التي وضعتها قريش لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم، حياً أو ميتاً، وهذا في أثناء الهجرة، لم يبتعد سراقة كثيراً عن مكان عثور فرسه، حتى أبصر محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه فمد يده إلى قوسه، لكن يده جمدت في مكانها، ذلك لأنه رأى قوائم فرسه تسيخ في الأرض ـ أي تغوص في الأرض ـ والدخان يتصاعد من بين يديها، ويغطي عينيه وعينيها، فدفع الفرس فإذا هي قد رسخت في الأرض كأنما سمرت فيها من مسامير من حديد، فالتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وقال بصوت ضارع: يا هذان ادعوا لي ربكما أن يطلق قوائم فرسي، ولكما علي أن أكف عنكما، فدعى النبي صلى الله عليه وسلم، فأطلق الله له قوائم فرسه.
المذيع:
 أستاذ راتب هل يعد هذا من معجزات النبي الأعظم عليه الصلاة والسلام ؟
الأستاذ:
نعم، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾

( سورة المائدة: 67 )

 النبي عليه الصلاة والسلام واثق من أن الله سبحانه وتعالى يعصمه ويعصم هذه الدعوة التي هي دعوة الله، لكن أطماعه ما لبثت أن تحركت من جديد فدفع فرسه نحوهما، فساخت قوائمها هذه المرة أكثر من ذي قبل، فاستغاث بهما وقال: إليكما زادي، ومتاعي وسلاحي فخذاه، ولكما علي عهد الله أن أرد عنكما من ورائي من الناس، فقالا له: لا حاجة لنا بزادك، ومتاعك، ولكن رد عنا الناس ثم دع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرسه، فلما هم بالعودة ناداهم قائلاً تريثوا أكلمكم فوالله لا يأتيكم مني شيء تكرهونه فقالا له ما تبتغي منا، فقال: والله يا محمد إني لأعلم أنه سيظهر دينك ويعلو أمرك فعاهدني إذا أتيتك في ملكك أن تكرمني، واكتب لي بذلك.
المذيع:
أستاذ راتب ما نوع هذا الإيمان الذي أمن به سراقه ؟
الأستاذ:
 نوع هذا الإيمان أستاذ جمال، إيمان الفطرة، الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾

 

( سورة الشمس: 7 ـ 8 )

 وفي آية أخرى:

 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾

 

( سورة الروم: 30 )

إنه إيمان الفطرة.
 فأمر النبي عليه الصلاة والسلام الصديق، فكتب له على لوح من عظم ودفعه إليه.
ولما هما بالانصراف قال له النبي صلى الله عليه وسلم:
دقق في هذا القول !
وكيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى ؟
فقال سراقة في دهشة ! كسرى بن هرمز !
فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، كسرى بن هرمز.
شيء لا يصدق.
المذيع:
بالواقع أستاذ راتب من هنا بدأت المعجزة.
الأستاذ:
 أن أعرابياً من البادية سيلبس سواري كسرى ابن هرمز، وهو من أعظم حكام الدنيا، عاد سراقة أدارجه فوجد الناس قد أقبلوا ينشدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبونه، فقال لهم أرجعوا فقد نفضت الأرض نفضاً بحثاً عنهم وأنتم لا تجهلون مبلغ بصري بالأثر فرجعوا ثم كتم خبره مع محمد وصاحبه حتى أيقن أنهما بلغا المدينة وأصبحا في مأمنٍ من عدوان قريش، عند ذلك أذاعه فلما سمع أبو جهل بخبر سراقة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وموقفه منه لامه على تخاذله، وجبنه، وتفوته الفرصة.
تروي كتب التاريخ، أن سراقة كان شاعراً كم قلت قبل قليل فأجابه شعراً:
 قال أبا حكمٍ والله لو كنت شاهداً بأمر جوادي إذا تصوغ قوائمه علمت ولم تشـــــــكك بأن محمداً رسول ببرهان فمـن ذا يقاومــه
أستاذ جمال ثم دارت الأيام دورتها فإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي خرج من مكة طريداً، شريداً، مستتراً بجنح الظلام يعود إليها سيداً، فاتحاً، تحث به الألف المؤلف من بيض السيوف وسمر الرماح، وإذا بزعماء قريش الذي ملئوا الأرض عنجهية وغطرسة، يقبلونا عليه خائفين واجفين يسألونه الرأفة ويقولون ماذا عساك تصنع بنا ؟
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: في سماحة القواد العظام أذهبوا فأنتم الطلقاء.
المذيع:
أستاذ راتب تحت أية آية كريمة يندرج هذا الموقف العظيم ؟
الأستاذ:
الله جل جلاله يقول:

﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾

( سورة المجادلة: 21 )

 وفي آية أخرى:

 

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾

 

( سورة القصص: 83 )

 وفي آية ثالثة:

 

﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾

 

( سورة الروم: 47 )

 وفي آية رابعة:

 

﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾

 

( سورة محمد: 7 )

 عند ذلك أعد سراقة ابن مالك راحلته، ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعلن إسلامه بين يديه، ومعه العهد الذي كتب له قبل عشر سنوات.
 قال سراقة: لقد أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالجعران وهي مكان بين مكة والطائف، فدخلت في كتيبة من الأنصار، فجعلوا يقرعونني بكعوب الرماح ويقولون: إليك، إليك ماذا تريد ؟ فما زلت أشق صفوفهم حتى غدوت قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فرفعت يدي بالكتاب وقلت يا رسول الله: أنا سراقة بن مالك وهذا كتابك لي، فقال عليه الصلاة والسلام: أدنو مني يا سراقة أدنو، هذا يوم وفاء وبر، فأقبلت عليه وأعلنت إسلامي بين يدي ونلت من خيره وبره.
 لكن لم يمضي على لقاء سراقة بن مالك برسول الله صلى الله عليه وسلم غير بضعة أشهر، حتى أختار الله نبيه إلى جواره، فحزن عليه سراقة أشد الحزن، وجعل يتراء له ذلك اليوم الذي هم فيه بقتله من أجل مائة ناقة، وكيف أن نوق الدنيا كلها، قد أصبحت اليوم لا تساوي عنده قلامة من ظفر النبي، وجعل يردد ويقول: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى دون إن يخامره شك في أنه سيلبسهما.
المذيع:
أستاذ راتب السؤال هنا كيف نفسر مقولة الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام هذه ؟
الأستاذ:
 هذه المقولة تفسر بأن النبي عليه الصلاة والسلام، مؤمن بأنه رسول الله، ومؤمن بأن الله سينصره، وهذه ثقة النبي بالنصر، حتى حينما كانت الدعوة في أدنى مستوياتها، كان عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله ناصر نبيه.
 ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى، وآل أمر المسلمين إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهبت جيوش المسلمين في عهده المبارك على مملكة فارس، كما يهب الإعصار، فطفقت تدك الحصون، وتهزم الجيوش وتهز العروش، وتحرز الغنائم حتى أدان الله على يديه دولة الأكاسرة، وفي ذات يوم من أواخر أيام خلافة عمر قدم على المدينة رسل سعد بن أبي وقاص يبشرون خليفة المسلمين بالفتح، ويحملون إلى بيت مال المسلمين خمس ألفي الذي غنمه الغزاة في سبيل الله، فلما وضعت الغنائم بين يدي عمر، نظر إليها في دهشة، فقد كان فيها تاج كسرى المرصع بالدر، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب، ووشاحه المنظوم بالجوهر، وسواره اللذان لم ترى العين مثلهما قط، وما لا حصر له من النفائس الأخرى، فجعل عمر يقلب هذا الكنز الثمين بقضيب كان في يديه، ثم ألتفت إلى من حوله وقال: إن قوم أدوا هذا لأمناء، فقال له علي بن أبي طالب وكان عندئذ حاضراً، إنك عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين، ولو ركعت لركعوا، وهنا دعا الفاروق رضوان الله عليه سراقة بن مالك فألبسه قميص كسرى، وسراويله، وقبائه وخفيه، وقلده سيفه، ومنطقته ووضع على رأسه تاجه، وألبسه سواري نعم سواري، هذه القصة تلخصها الآية الكريمة:

 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي﴾

 

( سورة النور: 55 )

المذيع:
 صدق الله العظيم، وأهلاً ومرحباً بفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي الذي حدثنا عن الصحابي الجليل سراقة بن مالك شكراً جزيلاً.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

تحميل النص

إخفاء الصور