وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0348 - تفسير سورة العصر ( لماذا أقْسَمَ بالزَّمَن ؟) - مرض المنغوليا.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا ، وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

سورة العصر :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ انْطلاقًا من أنَّه لا كلام يعْلُو على كلام الله ، ولا عمل أفضلَ من فهْم كلام الله ، ولا سُلوك أقْوَمَ من تطبيق كلام الله ، انْطلاقًا من هذا ؛ سورةٌ قصيرة يقرؤُها معظم الناس في صلواتهم ، وقالوا : شدَّة القُرْب حِجاب ، ربّما كانتْ أكْثَرُ السُّوَر قراءةً أبْعَدها عن فهْم الناس لها ، السورة سورة العصر . ربّنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَالْعَصْرِ ﴾

[ سورة العصر : 1]

 الواو واوُ قسَم ، أَيُقْسِمُ الله بالعصر ؟ ما العصْر ؟ هو الزَّمَن ، لماذا أقْسَمَ بالزَّمَن ؟ وما علاقة هذا الزَّمَن بِجَواب القسم ؟ قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 ما الذي يخسرهُ الإنسان ؟ ما تعريف الخسارة في علم التِّجارة ؟ الخسارة نقْصُ رأس مال الإنسان ؟ الإنسان بِضْعة أيّام ، الإنسان زمَن ، فإذا نقصَ الزّمن من دون زِيادة في مجالٍ آخر ، فهذه خسارة .

الزمن أثْمَنُ ما في حياة الإنسان :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ في حياة الإنسان حياتان ؛ حياةٌ اختباريّة ، وحياةٌ جزائيّة ، حياةٌ دنيا ، وحياةٌ عُليا ، حياةُ عملٍ ، وحياةُ جزاء ، حياة تكليف ، وحياة تشريف ، هناك حياتان؛ حياةٌ محدودة ، وحياة لا نهائيّة ، حياةٌ مَشْحونةٌ بالمتاعب ، وحياةٌ مشحونةٌ بالرغائب ، الحياة الثانيَة تحدّدها الحياة الأولى ، الحياة الأبديّة ؛ حياة الجزاء ، وحياة التشريف ، وحياة الخُلود ، وحياة الأبد ، تُحدِّدُها الحياة الدنيا ، الحياة المحدودة ، حياة التكليف والعمل ، حياة الكسْب ، حياة الاختِيار ، إذًا رأسُ مال الإنسان الذي يُحدِّدُ ربْحَهُ في الحياة الثانية هي الحياة الدنيا ، إذًا أثْمَنُ ما في حياة الإنسان هو الزَّمَن لأنَّه زَمَن ، ولأنّهُ بِضْعة أيّام ، ولأنّه بِضْع سِنين ، ولأنّه بِضع سِنين مع بِضعة أشهر ، مع بِضْعة أسابيع ، مع بِضعة أيّام ، مع بضع دقائق ، مع بِضْع ثواني ، رأْسُ مال الإنسان إما أنْ نسْتهلكَهُ ، وإما أنْ نسْتثمِرَهُ ، وربّنا عز وجل يقول :

﴿وَالْعَصْرِ﴾

[ سورة العصر: 1]

 هو يُقْسِم ، والإنسان أيّها الأخوة يُقسِمُ بِعَظيمٍ ، فهل هناك أعظمُ من الله عز وجل؟ قال بعض العلماء : إذا أقْسمَ الله بِشَيءٍ فبالنِّسْبة إلينا ، وإذا لمْ يُقْسِم فبالنِّسْبة إليه ، قال تعالى :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾

[ سورة الواقعة : 75]

 مواقع النّجوم ، بعض مواقع النّجوم التي عُرَفَتْ حتى الآن سِتَّة عشر ألف مليون سنة ضوْئيَّة ، مع أنَّ أربع سنواتٍ ضوئيّة تحتاج إلى أن تقْطَعها في مركبةٍ تستعملها في الدنيا إلى خمسين مليون عامًا ، الأربع سنوات خمسون مليون ، السَّتة عشر ألف مليون !! ربّنا عز وجل قال :

﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾

[ سورة الواقعة : 75]

 وقال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1]

 أقسم بالعصر ، فإذا أقْسمَ ربّنا سبحانه وتعالى فبالنّسبة إلينا ، لأنّ أخطر شيءٍ بالنِّسبة إلينا هو الوقت ، كيف نُمْضي الوقت ؟ إما أن نسْتهلكَهُ ، وإما أن نسْتثمِرَهُ ، لو أنّك لا تملكُ إلا مئة ألف ليرة ، فإنْ أنْفقْتَ منها تسْتهلكها ، أنت في خسارة ، لا بدّ من أن يأتِيَ يومٌ تنفقُ المال كلّهُ وتبقى بلا مال ، لكنَّك إذا دفعتها اسْتثمارًا ، وأنْفقْتَ من رَيْعِها فأنت في رِبْحٍ ، فهذا الوقت الذي نعيشُه أخْطرُ ما في حياتنا ، كيفَ نستهلكُه ؟ وكيف نُمْضي أوقاتنا ؟ كيف نمْضي أوقات فراغنا ؟ كيف نمضي أوقات العمل ؟ ماذا نعمل ؟ والعصْرِ ؛ إذًا يقْسِمُ الله بِأَخْطر ما في حياتنا ، يُقْسِمُ بالزَّمَن بل بِمُطلق الزَّمَن .

 

الحياة الدنيا رأس مال كل إنسان :

 والزَّمَن كما قال بعض العلماء هو البُعْد الرابع للأشياء ، النقطة لا كتلة لها ، إذا تحرّكَت رسَمَتْ خطًّا ، فإذا تحرّك الخط رسمَ سطحًا ، فإذا تحرّك السّطحُ رسمَ حجمًا ، فإذا تحرّك الحجمُ صارَ زمنًا ، الزَّمَن بُعْدٌ رابعٌ للأشياء ، الزمن متعلّق بالحركة ، ونحن نتحرّك ، الأرض تتحرّك حول نفسها ، وحول الشّمس ، والشّمس تجري لِمستقرّ لها ، المستقرّ نهاية الزّمن، حينما تنتهي حركة الأفلاك ، قال تعالى :

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾

[ سورة التكوير : 1-6]

 إذا توقّفــتْ حركة الكون توقّف الزّمن ، وبدأتْ الحياة الآخرة ، لها طبيعة خاصّة ، لها قوانينُ خاصّة ، ربّما كانت قوانين الآخرة لا علاقة لها إطلاقًا بِقَوانين الأرض ، حياةٌ كلّها سعادة ، أعني الجنّة ، حياةٌ كلّها راحة ، لا قلق ، لا خوف ، لا تناقص ، لا شيء يبعثُ في النّفس الألَم . فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1]

 الله سبحانه وتعالى يُقْسمُ بأخْطر ما نمْلكُه ، التاجر ؛ ما هو أخطرُ شيءٍ يمْلكهُ ؟ رأسُ مالِهِ ، ما قيمةُ عقلهِ وذكائه إن لم يكن معه مالٌ يشتري به ؟ ما قيمة متْجره إن لم يكن له رأسُ مال ؟ رأسُ مال التاجر أخطر شيءٍ في تجارته ، وأنت في تِجارة ، والدليل أنّ الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾

[ سورة الصف : 10]

 إذًا أنــت تُتَاجِر ، رأس مالك هذه الحياة الدنيا ، إن أنْفقْتَهَا اسْتِثْمارًا قبَضْتَ الثَّمَن سعادةً أبديّة إلى أبد الآبدين ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى حينما تحدّث عن المنافقين قال :

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾

[ سورة البقرة : 16]

 لقد خسِروا .

 

مفهوم الخسارة :

 مفهوم الخسارة ؛ الخسارةُ مؤلِمَةٌ جدًّا ، واسْألوا من خَسِرَ ، الخسارة ولو خسارة المال مُؤْلِمةٌ جدًّا ، فكيف إذا خسِر الإنسان كلّ شيءٍ ؟! قد يخْسرُ الإنسان مَتْجرهُ ، ويبقى بيتهُ، قد يخْسرُ أحدَ أولاده ويبقى الآخر ، قد يخْسرُ جانبًا من أعضائه ويبقى عضوٌ آخر ، أما إذا خسِرَ كلّ شيء ! لذلك قال الله عز وجل :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 هؤلاء الذين يستهلكون أوقاتهم اسْتِهلاكًا رخيصًا ، من دون أن يُوَظِّفوه لِرِبْحٍ أكيدٍ محقّق عند الله عز وجل ، هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، وخسروا كلّ شيء .

 

الإنسان مع مُضيّ الأزمان في خسارةٍ محقّقة :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 أيّ إنسان ؟ قال العلماء : حيثما وردَت كلمة إنسان معرَّفة بـ (الــ) فتَعْني مطلق الإنسان ، أيَّ إنسان كنت ، أيّ إنسان ؛ متعلّم أو غير متعلّم ، غنيّ أم فقير ، قويّ أو ضعيف، صحيح أو مريض ، وسيم أو دميم ، أيّ إنسانٍ ما دام يحْيا من يومٍ إلى آخر ، ومن أسبوعٍ إلى آخر ، ومن شهرٍ إلى آخر ، ومن سنةٍ إلى أخرى ، مادام الزَّمن يسير ، وليس في إمكانه أن يوقفهُ ، ما دام الزمن يسير وليس في إمكانه أن يوقفهُ ، ولا أن يسْتثمرهُ فهو في خسارة ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 هؤلاء الذين ركنوا في الحياة الدنيا ، وهؤلاء الذين أعْجبهم أن يسْتمتعوا بها ، وهؤلاء الذين أعْرضوا عن الله ، أعْرضوا عن منهجه ، أعرضوا عن كتابه ، أعرضوا عن التّقرّب إليه ، أعْرضوا عن أداء العبادات ، هؤلاء الذين أهمَّتْهم الدنيا ، يقول عليه الصلاة والسلام :

((مـَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمـَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 إذًا الإنسان لِمُجَرَّد أنّه إنسان ، ولمُجرّد أنّه ينتمي إلى بني البشر ، الإنسان مع مُضيّ الأزمان في خسارةٍ محقّقة ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾

[ سورة العصر: 1-2]

 لأنّ مُضيّ الزَّمَن يعني اسْتِهلاك رأسِ ماله ، مُضيّ الزّمن يعني أنّه يستهلكُ رأس ماله ، مُضيّ الزّمن يعني أنّه يتلاشى شيئًا فشيئًا إلى أن تأتي ساعة الصّفر ، فيذهب إلى الآخرة وهو صفْر اليدين ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

كيفية النجاة من الخسارة المحققة التي يصاب بها الإنسان :

 ما الذي يُنجيك من هذه الخسارة المحقّقة ؟ ما الذي ينجيك من أن تسْتهلك رأس مالك الأساسي ، ما الذي يُنجيك من أن تكون حياتك خسارةٌ في خسارة ؟ قال الله عز وجل:

﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

 هل أنفقـْت هذا الوقت الذي هو رأس مالك في نشاطٍ إيماني ؟ في تعلّم ؟ في تفكّر ؟ في تأمّل ؟ في مدارسةٍ ؟ في حُضور مجالس العلم ؟ في قراءةِ كتابٍ نافع ؟ في تلاوة القرآن ؟ في فهْم كلام النبي عليه الصلاة والسلام ؟ هذا الوقت الذي هو رأسُ مالك هل اسْتهلكْتهُ اسْتهلاكًا يتعلّق بالإيمان ؟ هذا الذي يقول : أنا ليس عندي وقتٌ فارغ لِحُضور مجالس العِلْم ! والله الذي لا إله إلا هو لو تذكَّر هذه الكلمة يوم يأتيه ملكُ الموت لتمنَّى أن يُقطّع إربًا إربًا ، ليس عندكَ وقتٌ لمعرفة الله ، عِندك وقتٌ لأي شيء ؟ ليس عندك وقتٌ لمعرفة الله ؟ أعِندك وقتٌ للقيل والقال ، لِسَفاسف الأمور ، للانْغِماسِ في الملذّات ، للانْكِباب على الدّنيا ، لِجَمع الدِّرْهم والدينار ؟ إن لم يكن عندكَ وقتٌ لمعرفة ربّك ، ولمعرفة كلامه ، فأيّ وقتٍ آخر له قيمة؟ إذا جاء الطبيب ، وهو يحْمِل أعلى درجة علميّة من الغرْب ، وفتَحَ عِيادةً ، وكتب الدوام من الساعة الخامسة وحتى الساعة السابعة ، وهو في أمسّ الحاجة إلى من يأتيه كي يُعالِجَهُ ، ويقْبض الثّمن ، فإذا جاءهُ مريض ، وقال له الطبيب : والله ليس عندي وقتٌ لِمُعالجتك !! ما هذا الكلام ؟ ما دُمْت قد فتَحْتَ هذه العيادة ، وقد أهَّلْتَ نفْسكَ بِهذه الدّرجة العلميّة العاليَة ، فإذا جاءك المريض في الوقت المناسب ، تقول له : ليس عندي وقت ! هذا يشْبهُ من يقول : ليس عندي وقتٌ لِحُضور مجالس العلم ! عندك وقتٌ لتُمضيَهُ في القيل والقال وفي الغيبة والنميمة ، وفي انْتِهاكِ حُرمات الله ، وفي متابعة أعمالٍ لا تُرضي الله ؟
 أيها الأخوة الأكارم ؛ لِمُجرّد أنَّك إنسان ، وأنّك غافلٌ عن الواحِد الدَّيان ، ولِمُجرّد أنّ الزّمن يسير فأنت في خسارةٍ محقّقة ، واسْأل أهل التِّجارة كم هو شُعورهم إذا هم خسِروا ؟ هناك من يقول : أنا خسِرتُ إذا قلَّ ربْحُه ، يَعُدّ بعضُ التّجار خسارةً إذا نزل رِبْحُه عن الحدّ الذي يطْمحُ إليه ، فكيف إذا فقدَ بعض رأسِ مالهِ ؟! يُقيمُ الدّنيا ولا يُقْعِدُها ، فكيف إذا خسِرَ رأس ماله كلّهُ ؟ فكيف إذا خسِرَ حياتهُ ؟ فكيف إذا خسِرَ كلّ شيء ؟ قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾

[ سورة الزمر : 15]

 قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 أربعة أشياء أيّها الأخوة الأكارم تُنْجي الإنسان من الخسارة ؛ أنْ يبذِلَ جهدًا حقيقيًّا في معرفة الله ، ومعرفة أمرهِ ، ومعرفة أحكامه التشريعيّة ، ومعرفة سنّة رسوله ، ومعرفة سيرة رسوله ، ومعرفة هؤلاء القادة العِظام من الصّحابة رِضوان الله تعالى عليهم ، لا بدّ من نشاطٍ إيماني ، ولا بدّ من مَشْربٍ تشْربُ منه ، ولا بدّ من منْهلٍ تنْهلُ منه ، ولا بدّ من جلسة إيمانٍ تجلسها مع من تثقُ بِعِلْمِهِ ، لابدّ من ساعةٍ تُمضيها في معرفة الله تعالى ، قال تعالى :

﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

 هناك إيمانٌ بالسّماع ، هناك إيمان بالتّأمُّل ، هناك إيمانٌ بالتّفكرّ، هناك إيمانٌ بالمطالعة ، لا بدّ أن تبْذلَ جهدًا في معرفة الله تعالى ، وفي معرفة أمْره ، إلا الذين آمنوا .

 

ترجمة الإيمان إلى عمل :

 واعْلَم علْم اليقين أيّها الأخ الكريم أنّ العلم في الإسلام وسيلة ، وليْسَ غاية ، وشرْطٌ لازمٌ غير كافٍ ، ما قيمة العلم إن لم يدعّم بالعمل ؟ قال تعالى :

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾

[ سورة الأنفال : 72]

 لا بدّ من أن يُتَرْجم الإيمان إلى عمل ، لذلك في أكثر من ثلاثمئة آية في القرآن الكريم قرن ربّنا عز وجل الإيمان مع العمل الصالح ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾

[ سورة الكهف : 107]

 قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 من العمل الصالح أن تلتزمَ الأمْر والنّهي ، أن يجِدَك الله عند الأمْر ، وأن يفْتقِدَك عند النّهي ، ومن العمل الصالح أن توقِعَ أعمالك كلّها وفْق أحكام الشريعة ، من العمل الصالح أن تسأل دائمًا ما حُكْم هذا التّصرّف ؟ وما حكم هذه الصّفقة ؟ وما حكم هذا الشّراء ؟ وما حكم هذا المبيع ؟ وما حكم هذا اللّقاء ؟ وما حكم هذه النّزهة ؟ وما حكم هذه الحفلة ؟ المؤمن الذي يحْرصُ على مرضاة ربِّهِ يسْعى جاهدًا لِتَوقيع سُلوكه وفْق شرْع ربِّه ، هذه الاستقامة ، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾

[ سورة فصلت : 30]

 شيّبتني هود كما قال عليه الصلاة والسلام ، أيّةُ هودٍ هذه ؟ سورة هود ، ولماذا ؟ لأنّ فيها آيةً واحدة ، وهي قوله تعالى :

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾

[ سورة هود : 112]

 إذًا الإيمان يمكن أن يكون عن طريق التّفكّر في خلق السموات والأرض ، وهو أوْسعُ باب ، وأقْصرُ طريق ، ويمكن أن يكون عن طريق سماع القرآن ، وفهْم القرآن ، وتدبّر القرآن ، ومُدارسة القرآن ، ويمكن أن يكون عن طريق معرفة أمْر الله ونهْيِهِ ، أما العمل الصالح فهو أن تجعل من حركتك اليوميّة تجْسيدًا لإيمانك ، أن تجعل من حركتك اليوميّة ، من علاقاتك، من كلّ نشاطاتك تجسيدًا لإيمانك ، الإيمان بلا عمل كالشّجر بلا ثمَر .

 

الدين النّصيحة :

 ثم قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 الأب مع أولاده ، والأم مع أولادها ، والأخ مع أخيه ، والجار مع جاره ، والزّميل مع زميله ، لا بدّ من أن تفيض ، ولا بدّ من أن تمتلئ ثمّ تفيض ، تفيضُ علْمًا على الآخرين ، تفيضُ خلقًا وأدبًا ، حتى يتَّسِعَ الحقّ ، حتى تتَّسِعَ دائرة الحق ، قال تعالى :

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾

[ سورة العصر: 3]

 الدِّين النصيحة ، لله ولرسوله ، ولكتابه ، ولأئمّة المسلمين ، ولعامّتهم ، لا بدّ من أن تأمرَ بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، لا بدّ من أن تلفِتَ النَّظَر إلى الله عز وجل ، لا بدّ من أن تذكر آياته الكونيّة ، آياته القرآنيّة ، سنّة نبيِّه عليه الصلاة والسلام ، سيرة نبيِّه عليه الصلاة والسلام لا بدّ من أن تجعَلَ من لقاءاتك ، ومن أحاديثك ، ومن أحزانك ، ومن أفراحك مناسبةً لِتَذْكير الناس بِرَبِّهم ، وبِشَرْعِهِم ، وبآخرتهم ، وبما يُصلحهم ، وبما يُسعدهم .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ أنا لا أتصوّرُ أبدًا مؤمنًا يسعى لِكَمال إيمانه يُطبقُ لسانهُ كليًّا عن تذكير الناس بالحـق ، أولادهُ أمانةٌ في عُنقه ، بناتهُ أمانة في عنقه ، جيرانهُ أمانةُ في عنقه ، لا أتصوّرُ أبدًا إنسانًا يمتلئ إيمانًا ، ويَضِنّ بهذا الإيمان عن الآخرين ، لا أتصوّرُ أبدًا إنسانًا يمتلئ يقينًا ، ولا يُشيعُ هذا اليقين في الآخرين ؛ فقد روى أبو داود عَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((وَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِهُدَاكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))

[أبو داود عَنْ سَهْلٍ بْنِ سَعْدٍ]

 كلامُ سيّد الخلق ، وكلام الذي لا ينطقُ عن الهوى ، كلام المعصوم ، كلامٌ سمَّاهُ بعضُ علماء الحديث وحْيًا غير مَتْلوّ ، يا عليّ لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها ، وخير لك من حمُر النّعَم ، هذا الابن الذي جعلهُ الله من صُلبِكَ ، وجعل حاجته عندك ، لماذا لمْ تُوَجِّهْهُ إلى الله عز وجل ؟ هذه البنْت التي جعل الله مصيرها إليك ، وأمْرَهَا إليك ، في زواجها ، وفي حياتها ، وفي علاقاتها ، لماذا لمْ تسْتغلّ أُبوَّتك لإرشادها إلى الله عز وجل ؟ ما هذه الكلمة الجافيَة التي يقولها بعض الآباء ؛ أنا أحبّ أن أجْعَلَ ابنتي حرَّةً طليقة تُحدِّدُ مستقبلها بِيَدَيها ؟‌‍‍!! هذه قد تسير وفق شهوتها ، فأنت الأب ، وأنت العالم ، وأنت المسؤول ، وأنت الراعي .

 

طاعة الله علامة معرفته :

 فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الآية خطيرة جدًّا ، لا تُعْفي الإنسان من التواصي بالحقّ ، لا يكفي أن تؤمن ، هناك أشخاصٌ من بيتهم إلى مسْجدهم رائعٌ هذا ، ولكنّ أهلهم في واد وهم في واد ، لا شيءَ من الإسلام واضحٌ في بيوتهم ، لا في خروج بناته ، ولا في خروجِ زوجته ، ولا في علاقاته الأخرى ، أيَقُول هذا الأب : لا علاقة لي بهذا ؟ من قال لك ذلك ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾

[سورة التحريم: 6]

 هذا أمْرٌ إلهي ؛ يحبُ أن تَقِيَ نفسكَ وأن تَقِيَ أهْلكَ نار جهنّم ، والآية الثانيَة قوله تعالى :

﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾

[سورة طه: 132]

 أن تعرفَ الله عز وجل لِوَحدكَ ، وأن تقول : لا علاقة لي بالناس ، هذا الكلام غير مقبول في هذه الآية ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 فهِمنا الإيمان ، بذلْت نشاطاً في معرفة الله ، سماع ، أو مدارسة ، أو تدبّر ، أو تفكُّر ، أو تأمّل ، أو أيّ شيءٍ آخر يجعلك تعرف الله عز وجل ، وعلامة معرفة الله طاعتهُ ، فإنْ لم تُطِعهُ فاعْتَقِد اعْتِقادًا قاطعًا أنَّك لا تعرفُه ، علامة معرفة الله طاعتهُ ، فإذا كان هناك مخالفةٌ ، أو خروجٌ عن طاعته فلْتَعْلَم علْم اليقين أنَّك لا تعرفُه ، لو عرفْتهُ لأطعْتهُ ، قال :

تعصي الإله وأنت تُظهر حبّه  ذاك لعَمْري في المقال بديع
لو كان حبُّك صادقًـــا لأطعـتهُ  إنّ المحِبّ لِمَن يحبّ يُطيعُ
***

 هذا هو الإيمان ، والعمل الصالح ؛ الاستقامة على أمر الله ، ترْك ما نهى الله عنه، وفِعْل ما أمر الله به ، أن توقِعَ أعمالك كلّها وفْق أحكام الشريعة أن تبْذِلَ من ذات نفسِكَ، ومن مالِكَ ، ومن وقْتِكَ ، ومن جُهدكَ ، ومن خِبْرتك ، ومن علْمِكَ ، ومن كلّ ما آتاك الله في سبيل التّقرُّب إليه ، هذا هو العمل الصالح .

 

التواصي بالحق :

 قال تعالى :

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾

 أين التواصي بالحق ؟ الآن أنت مسؤول عن زوجتك ، وعن بناتك ، وعن أولادك ، في نُصْحهم ، وفي إرشادهم ، وعن شريكك ، فقط ترْبحُ منه من دون أن ترْشدَهُ ؟ ومن دون أن تدلّه على مَشْربٍ ديني ؟ وعن جيرانك ، وعن كلّ من يلوذ بك ، قال تعالى :

﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾

.
 ولكن أيّها الأخ الكريم إيّاك أن تظنّ أنّ طريق الإيمان مفروشٌ بالوُرود ! لا ، فيه العقبات ، هكذا قال عليه الصلاة والسلام :

((من أنظر معسراً أو وضع له ، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله))

[ أحمد و الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً ]

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ...إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن ابن عبَّاس ]

 والشيء الحَزْنُ هو الأرض الوعِرة ، والحُزْن هو الألم والضِّيق النفسي ، وكذا الحَزَن، أما حَزْنٌ فتعني أرضٌ وعْرةٌ :

(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ...إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ))

[ أحمد عن ابن عبَّاس ]

 إذًا إيّاك أن تظنّ أنّ طريق الإيمان طريقٌ مَفروشٌ بالوُرود ، فيه متاعب ، لأنّ الشيطان ماذا قال :

﴿ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾

[ سورة الأعراف : 16]

 إذا اتَّبَعْتَ هواك فالشيطان مرتاحٌ وبعيدٌ عنك ، أما إذا اتَّجَهْتَ إلى الله عز وجل فيأتي دَوْرُ الشيطان لِيُشَكِّكَ ، ولِيُخَوِّفَك ، ولِيُحَذِّرَك ، ولِيَدْفَعَكَ إلى الجبْن ، ولِيَدْفَعَك إلى البُخْل ، وليوهِمَكَ بأنَّك لن تنال شيئًا من هذا الطريق ، إذًا طريق الإيمان فيه وساوِس ، وفيه عقبات ، فيه متاعب ، فيه معارضات ، لهذا جاء قوله تعالى :

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

.

 

التواصي بالصبر :

 لكن قد يتوهَّمُ متوهِّم أنَّ الصَّبْر متعلِّقٌ بالتواصي بالحق ؛ لا ، الصّبْر متعلّق بالإيمان والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، للأشياء الثلاثة ، فأنت من أجل أن تؤمن يجبُ أن تصبرَ ، ومن أجل أن تعملَ صالحًا يجب أن تصبر ، ومن أجل أن تتواصى بالحقّ يجبُ أن تصبر ، أن تكون في بيتك مرتاحًا مسْترخِيًا بين أهلك وأولادك .
 لتجلس على رٌكبتَيك تحتاج إلى صبْر ، قد يكون الوقتُ وقتًا رائجًا لتِجارتك وبِضاعتك ، أن تغلق محلّك التّجاري ، وتأتي إلى مجلس العلم هذه تحتاجُ إلى صبْر ، أن تحفظ القرآن شيءٌ يحتاجُ إلى صبر ، أن تصبِرَ على فهمه ومُدارسته شيءٌ يحتاجُ إلى صبر، قال تعالى :

﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾

 الصبر على الإيمان ، وعلى العمل الصالح ، وعلى التواصي بالحق ، أي إذا خلا يوْمُك من إيمانٍ ، وعملٍ ، ودعْوَةٍ ، وصبْرٍ ، فهذا يومٌ ضائعٌ من حياتك ، وهذا هو اليوم الذي تخسرُ فيه رأس مالك ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :

((إذا أتى عليّ يومٌ لا أزدادُ فيه علمًا يقربني إلى اللهِ فلا بُورك لي فى طُلُوعِ شمسِ ذلك اليومِ))

[رواه الطبراني عن عائشة]

 الإيمان والعمل ، مع أنّ الناس تواضعوا على تعظيم أرباب الأموال ، وأرباب الجاه والسلطان ، وأصحاب الأدْمِغة الكبيرة ، هناك مقاييس يقيسُ الناس بها بعضهم بعضًا ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى اعْتَمَدَ في قرآنه الكريم مقياسيْن اثْنَين ؛ الأوّل : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟ والثاني : ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا ، علمٌ وعمل ، ودعْوةٌ وصبر، إذا فعلْت هذه الأشياء الأربعة فقد نجوْت من الخسارة المحققّة التي هي من أشدّ المشاعر النفسيّة إيلامًا .

 

سورة العصر نشاط إيماني و تطبيق عملي و دعوةٌ إلى الله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقولون : شِدَّة القُرْب حِجاب ، والعصْرِ آيةٌ يقرؤُها معظمُ الناس في صلواتهم ، وهي من الآيات القصيرة ، قال تعالى :

﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3]

 نشاط إيماني ، تطبيق عملي ، دعوةٌ إلى الله بِشَكلٍ أو بآخر ، صبْرٌ على الإيمان، وعلى العمل الصالح ، وعلى الدعوة إلى الله ، بهذه الأشياء الأربعة تنْجو من الخسارة المحقّقة.
 حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها ، وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الراحة و الطمأنينة و السعادة في طاعة الله :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ موضوعٌ قصيرٌ جدًّا ذكرتُه لكم سابقًا ، ولكن ذكَّرني به خبر سمِعْتهُ ، هو أنّ مرضًا خطيرًا بدأ يظهرُ في بلاد الغرب غير مرض الإيدز ، إنه مرض المنغوليا ، هذا المرض بِسَبب زِنا المحارم ، كيفَ أنّ مرضَ الإيْدز كان كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( ... إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ ))

[ ابن ماجه عن ابن عمر]

 يُسْتنبطُ أنّ بين الطاعة ونتائجها علاقة علميّة ، وبين المعصيَة ونتائجها علاقة علميّة ، فحينما يأمرنا الله بشيءٍ ، ففي جوْهر هذا الشيء بُذور نتائجه ، وحين ينهانا عن شيءٍ ففي ضمن هذا الشيء بذور نتائجه ، أيْ أنّ بين الطاعة ونتائجها علاقة علميّة ، أيْ علاقة سبب بِنَتيجة ، والعلاقة بين المعصيَة ونتائجها علاقة علميّة ، أيْ علاقة سبب بِنَتيجة ، فهذا الكلام يدْعو إلى أن تؤْمِن إيمانًا قَطْعِيًّا أنّ الله عز وجل حينما أمركَ لِصَالِحك ، وحينما نهاك فهو لِصَالِحِك ، فإذا وثِقْتَ بِعِلم الله عز وجل ، ووثِقْتَ بِرَحمته ، ووثِقْت بِخِبْرته ، ولا ينبِّئك مثل خبير ، إذا وثِقْتَ بكلّ ذلك عرفْت أنَّ الخير كلّه ، والسعادة كلّها ، والنجاح كلّه ، والفوز كلّه، والتّفوُّق كلّه بِطاعة الله ، لأنَّك إذا عصَيْت الله فقد خالفْتَ تعليمات الصانع الحكيم ، وإذا كنتَ أنت الآلة ، وأنت الآلة الثمينة ، فَمِن دواعي الحِرْص على سلامتها ، وأن تعْطِيَ أعلى مردود أن تتَّبِعَ نصائِحَ صانعها ، إذا كنَّا نحن الآلات المعقّدة الراقيَة التي صنعها الله عز وجل ، وأتْقَنَ صُنعهُ فيها فمن دواعي حفاظنا على سلامة هذه الآلة ، ومن دواعي رغبتنا في حُسن مردودها أن نتّبِعَ تعليمات الصانع الحكيم .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما من مُشكلةٍ يُعاني منها المجتمع البشري على الإطلاق من دون تحفّظ ، خطيرة أم حقيرة ، منتشرة أم محدودة ، ما من مُشكلةٍ يُعاني منها المجتمع البشري إلا بِسَبب خروجٍ عن منهج الله ، وما من خروجٍ عن منهج الله إلا بسَبب الجهل ، لذلك يجبُ أن تعدّ الجهل أعدى أعدائك .
اشْترى مُزارعٌ سماداً ، فلمْ يعْبأ بتَعليمات الشركة الصانعة ، ضاعف الكميّة على النبات رغْبةً أن يُثْمِرَ ثمرًا يانعًا ، مُضاعفة الكميّة أحْرقَت كلّ المحصول ! وخسر ما يزيد عن مئتي ألف ليرة بسبب أنَّه ضاعف كميّة السماد التي حلّها في الماء ، هذا المزارع ما الذي قضى على كلّ محصوله ؟ جهلُهُ ، جهلُهُ وعدم اهتمامه بِتَعليمات الشركة الصانعة ، فيا أيها الأخوة الأكارم ؛ إذا أحْببْت نفْسكَ حبًّا جمًّا ، وإذا انْطَلَقْت من رغبةٍ جامحةٍ في الحِفاظ على سلامتك ، على وُجودك ، وعلى سلامة وُجودك ، وعلى اسْتِمرار وُجودك ، وعلى كمال وُجودك ، فعليك بِطاعة الله عز وجل ، ولا تنس قوله تعالى :

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾

[ سورة الأحزاب : 71]

 قد يبدو لك في المعصية حريّة ، وفيها المتعة ! هذا من وسْوَسة الشيطان ، فالراحة كلّها في الطاعة ، والنظافة كلّها في الطاعة ، والطمأنينة كلّها في الطاعة ، والسعادة كلّها في الطاعة .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور