وضع داكن
28-03-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 23 - الخطاب الديني 2 الإنسان الداعي قدوة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

المذيع:

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم عبر القناة الفضائية السورية من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وأستاذ الدراسات العلمية في الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة، أهلاً ومرحباً بكم.
 فيما مضى من لقاء معكم في موضوع تطوير الخطاب الديني تحدثتم بداية، ووضحتم أن الدعوة هي فرض عين على كل إنسان، إنما في نطاق معين، وأسلوب معين، حيث لا يشمل الناس جميعاً، وبالتالي يمكن أن تقع المسيرة في بعض الأخطاء، كما بينتم أن الداعية يجب أن يكون على علم وفقه في أسلوب الدعوة، ومعارفه التي تؤكد له اختيار الأسلوب الأمثل في دعوة الآخرين، كما أن هناك ثوابت ومتغيرات يجب أن ينتبه الإنسان إليها، فنحن لا نلغي الثوابت، كما أنه يجب أن نزيل ما علق بالدين من زيادات غير صحيحة، وأن نعيد للدين ما حذف منه حذفاً اعتباطياً من خلال أي شيء يمكن أن تبعه الإنسان لوسوسة شيطانية، كما بينتم أن أسلوب الدعوة يجب أن يكون فيه الإنسان قدوة كي يتبعه المقتدي، ويجب أن يكون عالماً فيه حتى لا يكون في الأمر ضحالة وضآلة، حيث يكون المدعو يرى فيمن يدعوه شيئاً سطحياً ساذجاً لا قيمة له، الموضوع يمكن أن تكون له أبواب كثيرة وجوانب عديدة، الآن إذا تابعنا هذا الموضوع بحيث نشير إلى تطوير الخطاب الديني أشرتم بداية، وأكدتم أن نزيل ما علق به، ونعيد ما حذف منه ضمن أسلوب أن: كل كلام لا يقال في أي وقت، وكل زمان لم يأتِ أوانه، ولم يحضر رجاله، وما إلى ذلك.

 

الأستاذ:

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً، في هذا اللقاء الثاني موضوع الخطاب الديني، أو تجديده أطرح فكرة، هي أن المشكلة ليست في تطوير الخطاب، ولكن في مصداقيته، وقبل أسابيع جاءتني رسالة من أخ كريم بالبريد الإلكتروني مقيم في بريطانية، الرسالة فيها قصة مؤثرة جداً: إمام مسجد في لندن، نُقِل إلى مركز إسلامي في ظاهر لندن، في مسجد هناك، وكل يوم ينتقل من بيته في لندن إلى خارج لندن، وكان يركب مركبة عامة، ويبدو أن هناك نظامًا دقيقًا في الرحلات، فكان يركب المركبة نفسها، ومع السائق نفسه كل يوم، في أحد المرات صعد للمركبة، وأعطى السائق قطعة نقود أكبر مما يجب أن يدفعه، فأعاد له الباقي، عدّ البقية فإذا هي تزيد عشرين سنتًا عما ينبغي أن يأخذه، هو كإيمام مسجد قال: أنا مسلم ينبغي أن أعيد هذا المبلغ للسائق، وهو جالس أتته خواطر، كل هذا المبلغ زهيد، والشركة عملاقة، ودخلها فلكي، وأنا أولى به، وكأنه هدية من الله ـ طبعاً هذا التفكير خطأ كبير ـ الاستقامة لا تتجزأ، وهي حدية، بينما العمل الصالح نسبي، فلما آن أوان نزوله من المركبة دون شعور وقف أمام السائق، ومدّ يده، وأعطاه العشرين سنتًا، فابتسم السائق، وقال له: ألست إمام هذا المسجد ؟ قال: له بلى، قال له: والله حدثت نفسي أن أزورك من أيام لتعبد الله في مسجدك، ولكنني أردت أن أمتحنك، فأعطاه الزيادة، هذا الإيمان.
 فيما تروي الرسالة فَقَدَ المسلمُ توازنه، ووقع على الأرض، بعد أن نزل، ثم استعاد نشاطه، وتمسك بعمود، ورفع نظره للسماء، وقال: يا رب، كدت أبيع الإسلام بعشرين سنتًا، التعليق على هذه القصة، أن قلة قليلة جداً من الناس يفرقون بين الإسلام والمسلمين، وبين الدين والمتدينين، لكن الخطر العريض في المجتمع لا يميزه، لا يفهمون الدين إلا في المتدينين، ولا الإسلام إلا من المسلمين، فكم من مسلم يبيع إسلامه كله بمبلغ، أو بحصة من شركة، أو ببيت، لذلك القضية فيما أتصور ليست في تطور الخطاب الديني، إنما في مصداقية الخطاب الديني.

 

 

المذيع:

هذا ما أشرتم إليه في الحلقة السابقة أن يكون الإنسان الداعي قدوة.

 

 

الأستاذ:

 سيدنا عمر كما تفضلتم كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته، وقال: " إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إذا رأوكم وقعتم، وقعوا، وايم الله، لا أوتين واحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني "، قال المعلقون: فأصبحت القرابة من عمر مصيبة.
 سيدنا عمر رأى إبلاً سمينة، قال: لمن هذه الإبل ؟ قيل: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، وكان غاضباً، فلما جاء به: قال: لمن هذه الإبل ؟ قال: هي لي، اشتريتها بمالي، وبعثت بها للمرعى لتسمن، فماذا فعلت ؟ قال، فيقول الناس: ارعوا هذه الإبل، فهي لأمير المؤمنين، فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين.
كما ورد في الأثر، النبي عليه الصلاة والسلام كان وأصحابه في سفر، وأراد أصحابه أن يأكلوا، فعالجوا شاة، فقال واحد:

 

(( عليّ ذبحها، قال الثاني: عليّ سلخها، قال الثالث: عليّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليّ جمع الحطب، فقال: نكفيك ذلك، قال: أعلم أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه ))

[ورد في الأثر]

 النبي عليه الصلاة والسلام قمة المجتمع الإسلامي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:

(( كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، كَانَ أَبُو لُبَابَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَكَانَتْ عُقْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا ))

(مسند الإمام أحمد)

 أقول: الفرق الصارخ بين نبي ومليار داعية أن النبي فعل ما قال، فحينما لا تجد مسافة بين الأقوال والأفعال يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

 

المذيع:

 يا سيدي، هذا إذا قال أحدهم من خلال هذا المثل: إن صاحب هذا المثل هو محمد عليه الصلاة والسلام، وهو من أولي العزم، ولكننا نقول لمن يتساءل أمام هذه الحوادث، نقول له: إن أبا حنيفة النعمان ذات مرة اختلط غنم الغارة بغنم الوقت، ليريد أن يأكل اللحم، وقد يكون فيه شبهة من خلال الاختلاط، سأل كم تعيش هذه الأغنام الفترة الأطول، فقيل له: إن أكثر غنم يمكن أن تعيش سبع سنوات، فامتنع عن أكل اللحم مدة سبع سنوات حتى لا يشارك طعامه شيء من شوائب ! لم يكن أبو حنيفة رسول من عند الله، إنما كان داعية، وصاحب مذهب إسلامي، كما يمكن أن يكون كل إنسان من عامة الناس إن طبق الإسلام فعلاً على نفسه.
 الإمام النووي كان يأتي من بلدة نوى إلى دمشق، وكان يجلب معه طعامه وشرابه مخافة أن يختلط ما يأكله، وما يشربه بشيء من شبهة، لأنه يعلم أن أكثر وقف ما في دمشق هو للمسلمين، وقد يكون فيه شيء اختلط، فيخشى من هذا الأمر.
أشياء كثيرة يمكن أن تذكر حتى من رعية سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لا من خلال أصحابه، ولا من خلال التابعين، إنما من خلال من جاؤوا أيضاً متأخرين يمكن أن يكون كل إنسان حصيناً لعقيدة الإيمان في قلبه وأعماله.

 

 

الأستاذ:

 ورد في بعض الأثر:

 

 

(( ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلط ))

 

[ورد في الأثر]

 حدثني أخ موظف في دائرة قدم طلبًا للرئيس بإجازة ستة أيام، يبدو أن الرئيس في الدائرة كان متشنجاً، فانفجر عليه في الوقت الحالي، لا يوجد إجازة، قال: هذه استهلكتها، قال: فمتى ؟ قال: كنتُ أذهب إلى الجامع كل يوم ربع ساعة، جمعت هذه الأيام، فهي ستة أيام، فصدم الرئيس، قال: من شيخك ؟ وأين مسجدك ؟ يقول هذا الأخ: والله لم أصدق في حياتي أن يقرأ هذا الإنسان كتاباً دينياً، أو يدخل مسجدًا، رآه في الأسبوع القادم في المسجد، ما الذي شد هذا الإنسان إلى الدين ؟ لا موضوعات عميقة، ولا كتب في العقيدة، ولا محاضرة قوية، شد هذا الإنسان الشارد عن الدين هذا الورع !
لذلك أكرّر للإخوة المشاهدين هذا الحديث:

 

(( استقيموا يستقم بكم ))

 

[ورد في الأثر]

 يوجد رجل يعيش في سان فرانسيسكو، ملحد كبير، أستاذ رياضيات في هذه الجامعة، جاءته طالبة شرق أوسطية، ترتدي حجابًا، والحجاب ليس رمزاً، بل هو جزء من الدين، المركبة مثلاً لها رمز، كالمرسيدس، هذه الشارة في مقدمة المركبة رمز للذي صنعها، لكن المكبح ليس رمزاً، بل هو جزء من المركبة، ليضمن لها سلامتها، فجاءته فتاة تحضّر درجة الدكتوراه في الرياضيات، والوقت صيف، فلما رآها بهذا الحجاب والكمال والاحتشام أخذ بقناعاتها الراسخة، مع أن الناس في أميركا في هذا الوقت شبه عرايا، فلما رآها أذكر أنه قال هذه الكلمة: شعرت بقدسيتها، واحترمت مبدأها، ونظرت في أن أعاونها، وعكفت من توّي على قراءة كتب الإسلام ! مع أن هذه الفتاة لم تنطق بكلمة عن الإسلام، إلا أن قناعتها صارخة بهذا الدين العظيم، فما الذي حصل أن جيفري لند داعية إسلامي كبير في أميركا، ألف كتابين، وترجما للغة العربية، وقرأت، وأحضرت أحد كتابيه إلى المسجد.

 

المذيع:

 الفتوحات الإسلامية كان كثيراً منها من خلال أخلاق المسلمين.

 

 

الأستاذ:

 لذلك:

 

 

(( استقيموا يستقم بكم ))

 

[ورد في الأثر]

 أنا أقول: إن هناك دعوة بيانية، لكن الناس الآن كفروا بالكلمة، الحقيقة مرة، وأنا أنطلق من أن الحقيقة المُرّة أفضل بألف مَرّة من الوهم المريح، الناس كفروا بالكلمة، لماذا ؟ لأن طغاة العالم اقترحوا كلاماً، وفعلوا عكسه، كما نسمع كل يوم أنهم جاؤوا من أجل حريتنا، ورفاهنا، ورخائنا، التدمير، والإفقار، والإذلال، والإفساد، هذا الذي يحصل، فالإنسان حينما يرى ممارسة منحرفة جداً مغطاة بالعسل يكفر بالكلمة.
الأنبياء جاؤوا بالكلمة، لم يأتوا ببوارج، ولا بصواريخ، ولا بكمبيوترات، ولا بأقمار صناعية، بل بكلمة، لكن الكلمة التي قالها الأنبياء لها رصيد لا يصدق.
أحد الصحابة حينما هاجر ألقي القبض عليه من قِبَل المشركين، فقال: عهداً لله إن أطلقتموني لن أقاتلكم، وصل إلى النبي ، وفرح به النبي ، وبعد حين كانت غزوة، فقال له النبي : ارجع ألم تعاهدهم.
أقول دائماً: والله لو فهم الصحابة الكرام الدين كما نفهمه نحن لما خرج الإسلام من مكة، ولكنه وصل إلى أطراف الدنيا بهذه القيم الأخلاقية والمبادئ، لذلك:

 

(( استقيموا يستقم بكم ))

 أقول: إن القرآن كون ناطق، وإن الكون قرآن صامت، والنبي  قرآن يمشي، أرى الحل في مسلم يمشي، مسلم إذا حدثك فهو صادق، وإذا عاملك فهو أمين، وإذا استثيرت شهوته فهو عفيف.
ألم يقل سيدنا جعفر للنجاشي:

 

 

(( أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ، وَصِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ، وَنَعْبُدَهُ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ... ))

 

(مسند الإمام أحمد عن أم سلمة)

هكذا الإسلام، مجموعة قيم أخلاقية.
 كنت مرة في الحج لفت نظري إنسان غربي، فيبدو أن الذي معي يعرفه، قال: هذا من بلاد غربية، سكن عنده طالب سوري، وكان هذا الطالب متمسكًا بإسلامه تمسكاً قوياً، وعند هذا الرجل الغربي فتاة جميلة جداً، وليس عند الأب هناك أن يكون عنده مانع لقيام علاقة بين الشاب والفتاة، إلا أنه تمنى أن يراه مرة ينظر إلى ابنته، فهذا الانضباط الذي لم يتصوره دعاه إلى حيرته، وانتهى به إلى إٍسلامه ! الذي أقوله: القضية ليست في الخطاب الديني، بل في مصداقية الخطاب الديني.
إذا أردت أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً فطبق ما تقول، وإذا أردت أن يخرج الناس من دين الله أفواجاً فارفع شعارات إسلامية، وافعل عكسها.

المذيع:

 هذا الكلام جميل، وهو في عمق الحقيقة، لكن هناك عقبات أخرى، كيف نستطيع أن نوصل هذا الخطاب الديني بهذا الشكل السريع، مع أن هذا الداعي صاحب الخطاب قدوة صالحة، وحسنة، يقتدي بها الآخرون، إذا كان صاحب الخطاب يملأ صوته في غرفة، وبقية الغرف فيها خطاب آخر يقيّض ما يبنيه هذه الداعية ؟ وإنْ عممنا أكثر حتى إذا قلنا: إن مثل هذا الكلام الواضح الذي يبث من خلال الفضائية، فما بالنا تجاه إعلام وافد يحاول أن يحارب هذا الإعلام النبيل الذي يريد أن ينتقل إلى الحقيقة ليفهم الآخرين الحقيقة.
الظروف الخارجية، والإعلام الوافد، وما يخطط عدونا له بمقدوره أشياء كثيرة أكثر مما في أيدينا.
 ترى كيف نستطيع أن نتغلب، لا أقول مباشرة في المراحل، نتغلب في النهاية، بإذن الله، لكن البدء يجب أن يكون سليماً، ويتابع الخطة للوصول للتغلب فيما بعد، كيف يمكننا أن نحافظ على هذا المسلك لنصل إلى النصر في النهاية ؟

 

الأستاذ:

 أرجو أن أكون على صواب، العبرة ألاّ ينفرد الباطل بالساحة، هناك فضائيات تبث السموم، وكتب تبث الضلالات، والباطل قوي الآن، والله عز وجل له حكمة بالغة، فمن امتحاناته الصعبة أن يقوى الباطل، ويقوى، ويقوى، حتى يسيطر على الساحة العامة، لكن العبرة ألاّ ينفرد الباطل في الساحة، قناعتي أن الذي يشد الناس إلى الدين ليس الكتب، ولا المحاضرات، يشد الناس لهذا الدين مجتمع يطبق هذا الدين، ويقطف ثماره، لكن مع الأسف الشديد البلاد التي ترفع شعارات إسلامية لا تجد الإسلام فيها كما ينبغي، فإذا جاء الآخرون إليها لم يروا فيها الثمار المرجوة من تطبيق الدين.
أذكر أن واحدًا في نيويورك طبق الدين تطبيقًا جيّدًا، فكانت تتهافت الشركات على فتح مكان في هذا الحي، وتهافت الناس على وضع أموالهم في هذه الأماكن، لأنهم وجدوا الأمن والصدق، فالذي يشد الناس إلى الدين هو السلوك.
 كيف أن الإسلام بدأ بالسلوك، ولا بد من أن ينتهي بالسلوك، لئلا ينفرد الباطل بالساحة، لأن الحق فيه قوة ذاتية، ولا يحتاج إلى عنف وعمل غير شرعي، لكن لتطبيق وترسيخ معالم، فحينما أكون صادقاً فالصدق وحده دعوة، إتقان العمل دعوة، الله عز وجل قال:

 

 

﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾

 

(سورة النمل)

﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾

(سورة السجدة)

إتقان العمل، عندنا شيء اسمه جهاد بنائي، وهو أن يتقن كل منا عمله إتقاناً، ويهبه لأمته، لأن الغرب سبقنا في إتقان الأعمال بشكل بارع.
 أذكر مرة حدثني أنّ أخًا صاحب معمل فقال: عندنا آلة تطريز مصنوعة في سويسرا، يبيع العشرين متر بمئتي ليرة، هذه القصة قديمة في السبعينات، الآلة نفسها بسويسرا تبيع المتر بألف ليرة بسبب إتقانها، فنحن نفتقر للإتقان والحفاظ على الوقت، وعمل المؤسسات، وإدارة الوقت، والهندسة النفسية، وروح العمل الجماعي، هذه المصادر تفوق الغرب، وأنا كمسلم يجب أن أقتبس هذه المصادر، وأن أطبقها في حياتي.
 العبرة ألاّ ينفرد الباطل بالساحة، ما دام هناك ساحة، ولو ضيقة، لكنها تقدم مثلاً أعلى في الدين، في الصدق، والإتقان والإنصاف، والعفة، فهذه المساحة الضيقة تتنامى، هكذا فعل الأنبياء، بدؤوا بقلة قليلة، لكن الصدق والانضباط الذي فعلوه هو الذي حقق نتيجة، أما الآن فهناك مظاهر دينية صارخة.
زرت مسجدًا كلّف مليار دولار، مظاهر، مؤتمرات، مساجد، كتب، محاضرات، مؤلفات، كتب، أشرطة، لكن الدين ضعيف، التطبيق بقي ثقافة كأيّ ثقافة.

المذيع:

ليست العبرة بالمكان إنما بالسكان.

الأستاذ:

 الآن يقول لك: عنده خلفية دينية، نزعة، اهتمامات، عاطفة، لكن لا يوجد إسلام، ولا تطبيق، وهذا المنهج قيمته في تطبيقه.
أنا أقول: العالم ينتظر من مجتمع صغير أن يطبق هذا الإسلام، أما الشيء الذي حدث فعكس ذلك، دائماً يتهم الإسلام بالعنف والإرهاب، وبأعمال لا ترضي الله، في الأساس هذا شأنه أن ينفر الناس من الدين، فما نريده ألا ينفرد الباطل بالساحة.
هذا الدين دين الله، والله ينصره بأية طريقة، ويمكن أن ينصره بأعدائه، ولكن العبرة أن يستعملك الله عز وجل في نصرة هذا الدين، وكنت أقول دائماً: لا تقلق على هذا الدين، فإنه دين الله، ولكن اقلق ما إن يسمح الله لك أن تكون أحد جنوده، وتقول: ماذا أفعل ؟
عندنا مرض، إما أن تحقق أهداف الدين الكبرى، والتي تبدو مستحيلة الآن، أنا أقول: بإمكانك أن تفعل مليون شيء، ولكي تحقق بعض أهداف الدين الكبرى يمكن أن تفعل في أهلك، تربي أولادك، تتقن عملك، ومع الأسف الشديد لم يبق مع المسلمين من ورقة رابحة إلا أولادهم، فحينما نعتني بأولادنا، فهم المستقبل، إن أردت لأمة أن تنهض فلتبدأ بالصغار، وبالمعلم، وبالبيت.

 

المذيع:

قبل هؤلاء الصغار أن يكون المربي قدوة صاحب الأسرة، وبعد ذلك يكون البدء بدءًا سليمًا، وتتوسع دائرة الخير في دائرة الشر، لكنها تتغلب في النهاية دائرة الخير على دائرة الشر.
 في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور