وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0946 - ضوابط الصحوة .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

ضوابط الصحوة :

أيها الإخوة الكرام، مع أن هناك حرباً عالمية ثالثة معلنةً على الإسلام، ومع أن هناك هجمةً شرسةً قويةً على هذا الدين العظيم، وعلى كتابه القرآن الكريم، وعلى نبيه سيدِ المرسلين، وعلى شريعتِه الغرّاء، مع كل هذه المحن التي يعاني منها المسلمون في شتى أقطارهم، هناك مكاسب كبيرة قد تغيب عن معظم المسلمين.
من هذه المكاسب، أيها الإخوة، أنَّ كلَّ النظم الوضعية أعلنت إفلاسَها، ولم تنجح في تحقيق أهداف الإنسان، ولا في سلامته، ولا في سعادته.
فلذلك يمكن أن نقول: إنه قبل خمسين عاماً كانت هناك كتل من المبادئ والقيم ثلاث، الشرق والغرب والإسلام، وقد تداعى الشرق من الداخل، وبقي في الساحة الغرب والإسلام.
والغرب كما تعلمون، أيها الإخوة الكرام، كان قوياً وغنياً وذكياً، وطرح قيماً رائعةً، كما أقول دائماً، طرح قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والسلام العالمي، وما إلى ذلك..
ولكن بعد الأحداث الأخيرة، سقط الغرب كحضارة، وبقي قوةً غاشمة، ولم يبق على ساحة المبادئ والقيم إلا مبادئ الإسلام وقيمه.
هذا مكسب كبير، قفز الإسلام إلى بؤرة الاهتمام في العالم، لذلك يعد هذا الدين، أيها الإخوة الكرام، الدين الأول في نموِّه في كل بقاع الأرض، وأذكّر بكلمة قالها بعض الذين هداهم الله إلى الإسلام قال:
أنا لا أصدق أن يستطيع العالم الإسلامي اللحاق بالغرب في المدى المنظور، لاتساع الهوة بينهما، ولكنني مؤمن أشد الإيمان أن العالم كله سيركع أمام أقدام المسلمين، لأن في الإسلام خلاصهم، بشرط أن يحسنوا فهم دينهم، وإن يحسنوا تطبيقه، وأن يحسنوا الدعوة إليه.
أيها الإخوة الكرام، أكثر الخطب توجَّه إلى كل المؤمنين، ولكن هذه الخطبة بالذات تتجه إلى طلاب العلم، ومن يطمحون أن يكونوا دعاةً إلى الله عز وجل.

 

أيها الإخوة الكرام:
مع أن الساحة الآن خالية من القيم إلا قيم الإسلام ومبادئه، ومع أن الدعوة إلى الله رائجة، ولكن هل هناك أخطار تتربص بهذه الصحوة الإسلامية؟
هذا موضوع الخطبة، ما الضوابط التي تجعل من هذه الصحوة الإسلامية صحوة إسلامية حقيقية يريدها الله ورسوله؟
من هذه الضوابط:

1) الإخلاص لله تعالى :

قال تعالى:

﴿ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ﴾

(سورة الزمر: 3)

﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾

(سورة البينة: 5)

بينما الذين لم يخلصوا قال تعالى فيهم:

﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً ﴾

(سورة الفرقان: 23)

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ﴾

(سورة الكهف: 110)

يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:

(( إِنما الأعمال بالنيات ))

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

وقال أيضاً:

(( مَن سَمَّع سَمَّعَ الله به، وَمَنْ رَاءَى رَاءَى الله به ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل يقتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تبارك وتعالى له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان قارىء، وقد قيل ذلك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، قال: فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، بل أردت إنما يقال: فلان جواد، فقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال فلان جريء، وقد قيل ذلك، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي، ثم قال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة، أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( قال الله تبارك وتعالى: أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلاً أشرك فيه مَعي غيري، تركتهُ وشِرْكَهُ ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

إذاً: هؤلاء الذين يطمحون إلى أن يكونوا دعاةً إلى الله، طلاب العلم الذين يتطلعون إلى أن يكونوا دعاة إلى الله، يجب أن يكونوا مخلصين في دعوتهم إلى الله عز وجل.
لذلك هناك دعوة إلى الذات، وهناك دعوة إلى الله، هناك دعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله.
من خصائص هؤلاء الابتداع والتنافس وإلغاء الطرف الآخر، بينما الدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها الاتباع، ومن خصائصها التعاون، ومن خصائصها الاعتراف بفضل الطرف الآخر.

ما يُخاف على طالب العلم :

أيها الإخوة الكرام:
مما يُخافُ على طالب العلم، حب الرئاسة والمركزية والمكانة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيَ الدعاةَ منها.
ومما يخاف على طلاب العلم وعلى من يدعو إلى الله، المكايدة والمعاندة، وحب الظهور والتفوق على الآخرين، وهذا خطر آخر.
المديح يسبب غرورا وشعورا بالكبر
ومما يخشى على الدعاة إلى الله، العمل بلا نية ولا قصد، وإنما مجاملة وحب ثناء وحب تعظيم.
أيها الإخوة الكرام:
عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال:

(( أَثنى رجل على رَجُل عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ويلك، قطعتَ عُنق صاحبك، ثلاثاً، ثم قال: مَنْ كان منكم مادحاً أخاه لا محالةَ، فليقل: أَحْسِبُ فلاناً، واللهُ حسيبه، ولا يُزَكِّي على الله أحداً، أَحْسِبُ كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ]

فالمديح يجب أن يخفف قليلاً، هذا المديح من آثاره السلبية أنه يعطي الإنسان غروراً وشعوراً بالكبر هو في غنى عنه.

أيها الإخوة الكرام، ما علاج هذا الخطر؟
الجواب: أن تعرف الله عز وجل، وأن تعرف أنه وحده هو المعطي والمانع، والنافع، والرافع، والخافض، والمعز، والمذل، فلا مطمح لك في سواه.
ومن دواء هذا الداء: أن تعرف أن الإنسان ضعيف لا يستطيع أن ينفعك، ولا أن يضرك.
أيها الإخوة الكرام، إذا شككت في نيتك، وفي إخلاصك، فانظر هذا العمل الذي تعمله أمام الناس، هل تعمله وحدك في خلوتك؟ فإذا كنت لا تعمل إلا مع الناس، ولا تعمل شيئاً في خلوتك فهذا مؤشر خطير.

2) تحصيل العلم والفهم :

بالعلم وحده يعرف الحق من الباطل
تحصيل العلم الحقيقي، وتحصيل الفهم العميق لهذا الدين: لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾

(سورة محمد: 19)

بالعلم وحده يُعبَد الله، بالعلم وحده يُعرف الخير من الشر، بالعلم وحده يُعرف الحق من الباطل، بالعلم وحده يُعرف الأمر والنهي، بالعلم تهذب النفوس، وتصلح القلوب، وتحيا الأرواح، وقد قال الله عز وجل عن أهل العلم:

﴿ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴾

(سورة العنكبوت: 43)

﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾

(سورة العنكبوت: 49)

﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾

(سورة المجادلة: الآية 11)

﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾

(سورة الزمر: الآية 9)

وعَنْ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

(( مَنْ يُرِد الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدين ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

أهمية العلم الشرعي :

أيها الإخوة الكرام، أيها الطالب، يا طالب العلم، لا تصغِ إلى من يثبط عزيمتك في طلب العلم، لا تصغِ لمن يقلل من شأن العلم عندك، لا تصغِ لمن يقول لك: عليك بالعمل الميداني، ودعك من العلم، هذا ليس ناصحاً لك، بل هو مثبط لك.
أيها الإخوة الكرام، لن نستطيع أن نتغلب على الفتن والغزو الفكري والثقافي إلا بالعلم، ولن نستطيع أن نصحح المسيرة إلا بالعلم، ولن نستطيع أن نجمع الشمل ونصلح حال الأمة إلا بالعلم، ولن يبنى الجيل إلا بالعلم، ولن تؤسس الحضارة إلا بالعلم.
هذه الحقائق، يؤكدها العقل والنقل والواقع والتاريخ، وإذا قلنا: العلم فهو العلم الشرعي، العلم بالله عز وجل، والعلم بمنهجه، والعلم بالكتاب والسنة، والعلم الذي يوصل إلى الله، أما العلوم التي تتخذ حرفة فهي حرفة، قد نسميها راقية، ولكن قد يكون الذي يحمل أعلى شهادة أمياً في الدين، فلا بد من معرفة الله، ومعرفة منهجه، ومعرفة أسباب السلامة والسعادة.
أيها الإخوة الكرام، قد يتمتع الإنسان بثقافة عامة، لكن الثقافة العامة شيء والعلم الشرعي شيء آخر، فلا بد من أن يكون علمك مؤصلاً، وعلمك منهجياً، وعلمك موثقاً بالأدلة اليقينية.

 

أهمية الأخوّة والتناصح :

لا شيء يضعف المسلمين اليوم كالخلاف والفرقة
أيها الإخوة الكرام، لا شيء يضعف المسلمين اليوم كالخلاف والفرقة، والبعد والتباغض، والشحناء، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾

(سورة آل عمران: الآية 105)

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾

(سورة الحجرات: الآية 10)

﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾

(سورة المائدة: الآية 55)

vوقد وصف الله المؤمنين بأنهم:

﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾

(سورة المائدة: الآية 54)

أيها الإخوة الكرام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لا تَحاسَدوا، ولا تَنَاجَشوا، ولا تَباغَضُوا، ولا تدابَرُوا، ولا يَبِعْ بعضكم على بَيْعِ بعض، وكونوا عبادَ الله إخواناً، المسلمُ أخو المسلم، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلهُ، ولا يَحْقِرهُ ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

لذلك أيها الإخوة الكرام، لا تكن فضّاحاً، إنْ نُقِل إليك خبر سيئ عن أخيك فلا تتحدث عنه أمام الملأ، اذهب إليه، وتوثق من الرواية، واسأله التفسير، واسأله التعليل، وقدم النصح له على انفراد، هذا اسمه تناصح.
بينما أن تشهر به أمام الملأ، هذا يزيد هوة الخلاف بين المؤمنين.

3) العمل وفق منهج تفصيلي :

أيها الإخوة الكرام:
من ضوابط الصحوة الإسلامية: العمل على منهج تفصيلي:
نحن في هذا الدين العظيم معنا كتاب كريم قطعي الثبوت، ففي أيّةِ آيةٍ تقرؤها ينبغي أن تبحث عن المعنى الذي أراده الله عز وجل، لكننا مع الحديث الشريف هناك وظيفتان:
الأولى: التأكد من صحة النص، لأن في الأحاديث الشريفة ما هو صحيح، وما هو حسن، وما هو ضعيف، وما هو موضوع، فلابد من التأكد من صحة النص.
والثانية: لا بد من فهم النص وفق ما أراد النبي عليه الصلاة والسلام.
أما كلام الآخرين في غير الكتاب والحديث، فكلام يجب أن يعرض على الكتاب والسنة، فإن وافقه فعلى العين والرأس، وإن خالفه فلا نعبأ به، ولا نلقي له بالاً.
أيها الإخوة الكرام: هناك ملاحظة مهمة في المنهج التفصيلي في الدعوة إلى الله:
أن نعبد الله وفق ما شرع.
وأن نفهم الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح.
وأن نقاوم كل بدعة مبتدعة في الدين.
هذه نقاط ثلاث ينبغي أن تلاحظ في المنهج التفصيلي للدعوة إلى الله.

 

مقاصد ووسائل الدعوة :

أيها الإخوة الكرام، ما القصد البعيد من الدعوة إلى الله؟ طبعاً إقامة شرع الله في الأرض، وجمع كلمة المسلمين، الجهاد النفسي: جهاد النفس والهوى، والجهاد الدعوي، قال تعالى:

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

(سورة الفرقان: الآية 52) والجهاد البنائي، قال تعالى:

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾

(سورة الأنفال: الآية 60)

وتربية الناس على اتباع الكتاب والسنة وفق ما شرع الله عز وجل، هذه مقاصد الدعوة الكبرى.
أيها الإخوة الكرام، شيء آخر، ما الوسائل التي يمكن أن نستخدمها في نقل هذه الحقائق؟ يجب أن تكون واعياً لما يجري، يجب أن تعلم تفاصيل الواقع الذي تعيشه، يجب أن تعلم حقيقة النفس البشرية، يجب أن تكون مسلحاً بعلم شرعي مؤصل، هذا كله من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل، ولا مانع إطلاقاً من أن تستخدم الوسائل المعاصرة في نقل الحقائق وتبليغ الناس، فلكل قوم طريقة في نقل المعلومات إليهم.

4) الوسطية والاعتدال :

من ضوابط الصحوة أن تكون وسطيا
من ضوابط الصحوة الإسلامية: أن تكون وسطياً: فلا إفراط، ولا تفريط، لا جفوة، ولا إهمال، أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾

(سورة البقرة: الآية 143)

فالحكيم كل الحكمة، من لم يقنّطِ الناسَ من رحمة الله، ولم يؤمّنهم من مكر الله.
أيها الإخوة الكرام، حينما نضخم الصغائر نقع في تشدّد مقيت، وحينما نتساهل بالكبائر نقع في تفلّت مخيف، فلا بد من ضابط وسطي في تقييم الحوادث، وتقييم السلوك.

أهمية التخصص لنجاح الدعوة :

التخصص في العلم الشرعي مهم
أيها الإخوة الكرام، لا بد من التخصص، بمعنى أنه حينما ندعو إلى الله ينبغي أن يكون هناك أناس متعمقون في كتاب الله، وأناس من المتعمقين في حديث رسول الله، أما أن يلمَّ الإنسان إلمامةً سريعة بكل شيء، فهذا لن يفلح في الدعوة إلى الله، لابدَّ من التخصص.
والأمم التي تقدمت وتفوقت اعتمدت على التخصّص، فكل إنسان يعمل في حقله، وكل إنسان يعمّق اختصاصه، وكل إنسان يكون نغماً في منظومة رائعة، هذا ما يسميه الناس اليوم فريق العمل.
فريق العمل فيه تخصّص، فريق العمل فيه إخلاص، فريق العمل فيه تعاون، فنحن بأمسِّ الحاجة إلى نظام فريق العمل، كل إنسان له اختصاص، ويتناغم مع أخيه ناصحاً ومتعاوناً، لا متنافساً ولا مستعلياً.

 

الجمع بين الشرع والواقع :

أيها الإخوة الكرام، ولا بد في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي ظهرت عقب ما يُكاد للمسلمين في شتى بقاعهم، من أن نجمَعَ بين علم الكتاب والسنة وبين علم الواقع، من عرف النصوص وعلِمَها، ولم يعلم واقعه كان كمن عنده دواء، ولكن لا يعرف ما المرض، ومن عرف الواقع، وليس له علم بالنصوص، كان كمن يعرف المرض، وليس عنده الدواء، وهذه حقيقة أيها الإخوة، إما أن تصف الواقعَ المرَّ وصفاً دقيقاً، ولا تعرف كيف الخلاص، ولا العلاج، وإما أن تعرف العلاج الدقيق، ولكن لا تعرف ما المرض الذي يعانيه الناس، فلا بد من أن يكون في الداعية ثقافة إسلامية عميقة وعلم بالواقع.

 

 

عدم تزكية النفوس :

على طالب العلم تجديد التوبة والإكثار من الاستغفار
أيها الإخوة الكرام، ولا بد في طالب العلم من أن يعترف بالتقصير، وأن يجدد التوبة، وأن يكثر الاستغفار، أي ألاّ نزكي أنفسنا، قال تعالى:

 

﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾

(سورة النور: الآية 21)

فالكمال لله وحده، والعصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت اعترف بتقصيرك، واعترف بضعفك، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ضعيفاً ليقوى بالله، وخلقه جاهلاً ليتعرف على الله، وخلقه فقيراً ليغتني بالله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام: هذه بعض الإشارات إلى ضوابط هذه الصحوة الإسلامية المباركة، لأن هناك أخطاراً تنتظرها، هذه الصحوة ربما كَبَتْ، وربما انحرفت، وربما استغلها أعداء الدين، وربما فرغت من مضمونها، هذه كلها أخطار كبيرة تنتظر الصحوة الإسلامية المباركة التي جاءت عقب هذه الحرب العالمية الثالثة المعلنة على هذا الدين، وهذا الدين من خصائصه أنك كلما قاومته ازداد قوة، وازداد شموخاً.

وأخيراً :

أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

* * *

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحلم المزعج :

أيها الإخوة الكرام: رجل كان يمشي في أدغال إفريقيا، حيث الطبيعة الخلابة، وحيث الأشجار العملاقة، وكان يتمتع بمنظر الأشجار، وهي تحجب أشعة الشمس من شدة كثافتها، ويستمتع بتغريد العصافير، ويستنشق عبير الزهور التي تنتج هذه الروائح الطيبة، وبينما هو مستمتع بتلك المناظر سمع صوتَ عَدْوٍ سريع، والصوت يزداد بوضوح، والتفت الرجل إلى الخلف فإذا به يرى سبعاً ضخم الجثة، منطلقاً بسرعة خيالية نحوه، ومن شدة الجوع الذي ألم بهذا السبع وجد خصره ضامراً بشكل واضح، أخذ الرجل يجري بسرعة والسبع وراءه، وعندما أخذ السبع يقترب منه رأى الرجل بئراً قديمة فقفز قفزةً قوية، فإذا هو في البئر، وأمسك بحبل البئر الذي يسحب به الماء، وأخذ الرجل يتأرجح داخل البئر، وعندما التقط أنفاسه، وهدأ روعه، وسكن زئير السبع، وإذا به يسمع صوت فحيح ثعبان ضخم الرأس، عريض الجسم في جوف البئر، وبينما هو يفكر بطريقة يتخلص بها من السبع والثعبان، إذا بفأرين، واحد أسود، والآخر أبيض، يصعدان إلى أعلى الحبل ويبدأان بقرض الحبل فانخلع قلب الرجل خوفاً، وأخذ يهز الحبل بيديه بغية أن يذهب الفأران، وأخذ يزيد عملية الهز حتى أصبح يتأرجح يميناً وشمالاً داخل البئر، وأخذ يصدم جوانب البئر، وفيما هو يصدم أحس بشيء رطب ولزج ضرب بمرفقه، وإذا بذلك الشيء عسل النحل التي تبني بيوتها في الجبال، وعلى الأشجار، وفي الكهوف، فقام الرجل بالتذوق منه، وأخذ لعقة، وكرر ذلك، ومن شدة حلاوة العسل نسي الموقف الذي هو فيه، نسي السبع الذي ينتظره على فوهة البئر، ونسي الثعبان الذي سيهاجمه، وفجأة استيقظ من النوم، وكان هذا المشهد حلماً مزعجاً.

 

تفسير هذا الحلم :

أراد هذا الرجل أن يذهب إلى من يفسر له هذا الحلم، وذهب إلى إنسان ذي خبرة بتفسير الأحلام، فضحك هذا الإنسان، وقال: ألا تعرف تفسيره؟ قال: لا.
قال: أما السبع الذي يجري وراءك فهو ملك الموت، وأما البئر التي فيها الثعبان فهي القبر، وأما الحبل الذي تعلقتَ فيه فهو عمرك، وأما الفأران الأبيض والأسود فهما الليل والنهار يقربانك من أجلك، وقال له: والعسل يا شيخ؟ قال: هي الدنيا أنستك حلاوتُها الآخرة، وما فيها من عذاب أليم.

الذكاء والتكيف :

أيها الإخوة الكرام، هذا الحلم ينطبق على جميع الناس، موت ينتظرنا، وقبر ينتظرنا، وحساب دقيق جداً نحاسب به.
وقد قالوا أن من أدق تعريفات الذكاء: أنه التكيف، وأذكى الأذكياء يتكيف مع أخطر حدث مستقبلي، وهو الموت.
والتكيف مع الموت يكون بالتوبة، ويكون بطلب العلم، ويكون بأكل الحلال، ويكون بضبط البيت، وضبط الدخل، وضبط الإنفاق، وأن تكون مع المؤمنين، وأن تطلب العلم الشرعي، هذا هو التكيف، وإلا ما منا واحد إلا وملك الموت ينتظره، ما منا واحد إلا والقبر مثواه الأخير، وفي كل نعيٍ: وسيشيع إلى مثواه الأخير، إنه القبر.

 

أيها الإخوة الكرام:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول:

(( أكثروا ذكر هاذم اللذات، الموت ))

[ حديث صحيح، أخرجه الترمذي ]

المصائب نعم باطنة :

المصائب هي في الحقيقة نعم باطنة
شيء آخر، هذه المصائب التي يراها الناس مصائب هي في الحقيقة نِعَمٌ باطنة، فالله عز وجل إن أعطاك المشقات والمصاعب والمشكلات فاعلم أنه يحبك، يريد أن يسمع صوتك، يريد أن تقبل عليه، يريد أن تتوب له، ما الشدائد إلا بواعث إلى باب الله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

(سورة السجدة: الآية 21)

إن أعطاك القليل فاعلم أن الله يحبك، لأنه سيعطيك الكثير في الآخرة.
إن أعطاك الرضا فاعلم أنه يحبك، لأنه أعطاك أجمل نعمة يتملكها الإنسان، أن ترضى عن الله.
يا رب، هل أنت راض عني؟
قال هذا إنسان كان يدعو الله حول الكعبة، وكان وراءه الإمام الشافعي، فقال له: يا هذا، هل أنت راض عن الله حتى يرضى الله عنك؟ قال : يا سبحان الله ! كيف أرضى عنه، وأنا أتمنى رضاه؟ قال: إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله.
إن أعطاك الله الصبر فاعلم أنه يحبك، وأنك من الفائزين.
إن أعطاك الإخلاص فاعلم أنه يحبك، يحب أن تكون مخلصاً له.
إن أعطاك الهم والحزن فاعلم أنه يحبك ينتظر منك أن تحمده، وأن تشكره على كل حال، إن أعطاك الحزن فاعلم أنه يحبك، لأنه يمتحن إيمانك.
إن أعطاك المال فاعلم أنه يحبك، فلا تبخل به على الفقير.
إن أعطاك الفقر فاعلم أنه يحبك، أعطاك ما هو أغلى من المال، الصبر.
إن أعطاك لساناً وقلباً فاعلم أنه يحبك، ينبغي أن تستخدم اللسان في الدعوة إلى الله.
إن أعطاك الصلاة والصوم والقرآن والقيام فاعلم أنه يحبك، أعانك على طاعته.
إن أعطاك الإسلام فاعلم أنه يحبك.
إن الله يحبك فلماذا لا تحبه؟ أعطاك الكثير، فكيف لا تعطيه طاعتك وحبك؟ إن الله يحب عباده ولا ينساهم.
أيها الإخوة الكرام، البطولة: لا أن تفهم ظاهر الحوادث، بل أن تفهم بواطنها.

نحن في العناية المشددة :

العالم الإسلامي الآن يعاني من متاعب لا تعد ولا تحصى، ولكن لأن هذا العالم الإسلامي على شيء من عقيدة، وعلى شيء من خوف، فإن الله يعالجه، أما الذين شردوا عن الله شرود البعير فقال الله عنهم:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾

(سورة الأنعام: الآية 44)

يجب أن نعتقد، أيها الإخوة الكرام، أننا في العناية المشددة، هناك متاعب لا تعد ولا تحصى، هناك أخطار، هناك تهديدات، هناك نقص في الأموال، هناك نقص في الحاجات، لكن هذا كله يجعلنا في العناية المشددة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون عقب هذه المتاعب والشدائد من المنيبين إلى الله عز وجل، فمن لم تحدِثِ المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر.

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم اهدنا لصالح الأعمال، لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، في العراق وفلسطين، يا رب العالمين.
خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور