وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0932 - الصلاة 2 - الخشوع في الصلاة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به, ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين أمناء دعوته وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الصلاة 2 :

 أيها الإخوة المؤمنون، لازلنا في سلسلة خطب تتحدث عن الصلاة، وننتقل اليوم إلى موضوع من أهم موضوعات الصلاة، ألا وهو:

 

الخشوع في الصلاة :

 وقد قيل: إن الخشوع ليس من فضائل الصلاة، بل من فرائضها.
 والإنسان أيها الإخوة إذا تأمل للحظة واحدة أن هذا الفرض المتكرر الذي لا يسقط بحال ينبغي أن يتناسب مع قدر الذي فرضه.
 فإذا كان خالق الأكوان قد فرض علينا الصلاة، فهل أداء الصلاة التي يؤديها المسلمون يتناسب مع عظم هذه الفريضة؟
 أيها الإخوة الكرام، ما منا واحد على الإطلاق، وأنا معكم، إلا وهو معنيّ بهذا الموضوع، لأنه يصلي، يصلي ويقتطع من وقته وقتاً للصلاة، ويتوضأ، ويقف، ويقرأ، ويركع، ويسجد، فشتان بين أن تكون الصلاة مقبولة عند الله، وبين أن تكون عبادة جوفاء لا تقدم ولا تؤخر.
 أيها الإخوة الكرام، الخشوع في الصلاة موضوع في غاية الأهمية، لأن الخشوع روح الصلاة، فصلاة بلا خشوع كجسد بلا روح.
 أيها الإخوة الكرام، في القرآن الكريم آية تشير إلى أن الصلاة على غير الخاشع في منتهى الصعوبة، يقول الله عز وجل:

 

 

 

﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾

( سورة البقرة : الآية 45)

 أي أن الصلاة صعبة جداً إلا على الخاشع.

الصلاة لقاء مع الله تعالى :

 أيها الإخوة الكرام، لو تجاوزنا الأبحاث الفقهية المتعلقة بالصلاة من قيام وركوع، واطمئنان، وقعود وسجود، وقراءة، وتكبير وتسليم، لو تجاوزنا الأحكام الفقهية التي يعرف معظمها كل الناس، لو تجاوزنا هذه الأحكام الفقهية تعمقاً في حقيقة الصلاة، إلى سر الصلاة، نجد أن:
 الصلاة ببساطة كبيرة: لقاء مع الله، والدخول في الصلاة يعني الدخول على الله عز وجل.
 فلو أن المؤمن تفكَّر في هذا المعنى، وعلم أنه حينما يقول: الله أكبر، فإنها تعني:
 الله أكبر من أيّ شيء يشغلك عنه، من عملك، من همومك، من مطامحك، من مشاغلك، الله أكبر من ذلك كله.
 لذلك ورد في بعض الأحاديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعتُ رسولَ صلى الله عليه وسلم يقول:

(( قال الله عز وجل: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سألَ: فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدَني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثْنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالكِ يومِ الدين، قال: مجَّدَني عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 أيها الإخوة الكرام، أنت من خلال الصلاة تتصل بخالق الأرض والسماوات.
 تتصل بالرحيم فتشتق منه الرحمة:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 159)

 تتصل باللطيف، فإذا أنت من ألطف الناس
 تتصل بالكمال المطلق، فتشتق من الكمال المطلق بعض الكمال الذي هو ثمن الجنة.

الصلاة علة الوجود :

 أيها الإخوة الكرام، يقول الله عز وجل:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

(سورة الذاريات : الآية 56)

 فعلَّة وجودنا على وجه الأرض أن نعبد الله عز وجل، والصلاة من أبرز عبادات الإسلام، إنها الفرض الذي لا يسقط بحال.

 أيها الإخوة الكرام، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( .. كلُّ الناس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي ]

 أيْ: ما منا واحد إلا ويتحرك، ينطلق من بيته إلى عمله، ويعود إلى بيته، ويجلس مع أهله، وينتقل إلى بيت آخر، ويلتقي مع إخوانه ومع أصدقائه، فالإنسان في حركة دائمة، فإذا انتهت حركته إلى أن يعتق نفسه من النار فهو الفائز الأول، هو الموفق، هو المتفوق، هو الذي عرف سرَّ وجوده وغاية وجوده، والذي أوبقها في النار، وجعلها غافلة عن الله عز وجل، وتفلتت من منهج الله عز وجل، هو الذي شقيَ في الدنيا والآخرة.

البشر زمرتان :

 أيها الإخوة الكرام، يكاد البشر جميعاً من دون استثناء يفرزون في زمرتين:
 إنسان تعرَّفَ إلى الله، واتصل به، واستقام على أمره، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة.
 وإنسان غَفِلَ عن الله، وتفلت من منهجه، وانقطع عن ربه، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة.
 وكل التقسيمات الأخرى التي اصطنعها البشر لا قيمة لها، ولا معنى لها، ولا تقدمْ، ولا تؤخرْ، وهذا هو المقياس الحقيقي:
 الناس رجلان: بَرّ كريم، كريم على الله، وفاجر عاصٍ، هين على الله عز وجل.

 

(( .. كلُّ الناس يغدو، فبائع نَفْسَهُ فمعتقُها، أو مُوبِقها ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي ]

الدنيا عرَض زائل :

 أيها الإخوة الكرام، سيدنا عمر دخل على النبي عليه الصلاة والسلام، وقد اضطجع على حصير، فأثر في جنبه الشريف، فبكى عمر، وقال: يا رسول الله، كسرى ملك الفرس ينام على الحرير، وأنت رسول الله تنام على الحصير؟
 هناك روايات ثلاث في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عمر:
 قال في الإجابة الأولى: إنما هي نبوة، وليست ملكاً، أنا لست ملكاً إنما أنا نبي.
 والإجابة الثانية: أما ترضى أن تكون الدنيا لهم والآخرة لنا.
 والإجابة الثالثة: أفي شك أنت يا عمر؟
 إذاً: هذه الدنيا هي أحقر من أن تكون مكافأة لإنسان، أو عقاباً لإنسان، إنها عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والآخرة وعد صادق يحكم فيه ملك عادل.

 

 عن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما قال:

(( دخل عمر، رضوان الله عليه، على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو على سرير قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا؟ فقال: يا عمر، ما لي وللدنيا، وما للدنيا ولي، والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها ))

[ حديث صحيح، أخرجه أحمد والطبراني والحاكم ]

من أسباب الخشوع :


 أيها الإخوة الكرام، لا يخشع في صلاته إلا من أحبَّ الله، لأنه من أعْجَبِ العجب أن تحبه، ثم لا تطيعه، ومن أعجب العجب أن تعرفه، ثم لا تحبه، وأن تحبه، ثم لا تطيعه، وأن تطيعه، ثم لا تقبِلُ عليه.
 تعرفه، فتحبه، فتطيعه، فتقبل عليه.

 

1) الإقبال على الله :

 والإقبال على الله عز وجل هو حقيقة الصلاة.
 قال بعض العلماء:
 في القلب شعث، أي تمزق، لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفي القلب وحشة، لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفي القلب خوف وقلق، لا يذهبه إلا الفرار إلى الله.

 أيها الإخوة الكرام، حينما يقول الله عز وجل:

﴿ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

( سورة الرعد : الآية 28)

 أي: إن هذا القلب في اضطراب، وفي قلق، وفي حيرة، وفي سأم، وفي ضجر، وفي سوداوية، وفي تشاؤم، وفي ضيق، وفي شدة.
 لا تذهبُ عن القلب كل هذه الأعراض المتعبة إلا إذا اتصل بالله عز وجل:

فليتك تحلو والحياة مــريرة  وليتك ترضى والأنام غِضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر  وبينـي وبين العالمين خراب

 يقول بعض العلماء: إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغنِ أنتَ بالله، وإذا فرح الناس بالدنيا فافرحْ أنتَ بلقاء الله، وإذا أنِسَ الناس بأحبابهم فأنَسْ أنتَ بالله، وإذا ذهب الناس إلى بيوت كبرائهم يسألونهم الرزق، ويتودَّدون إليهم، فتودَّدْ أنت إلى الله.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً ﴾

( سورة مريم : الآية 96)

 هل من شيء أعظم من أن تكون لك مودة مع الله؟
 أيها الإخوة الكرام، ينبغي أن تحبَّ الله، وأن تأنَسَ به، وأن تناجيَه، وأن تشعر أنك في مرضاته، وأن تعرف أنك خلقت لمعرفته، وخلقت لطاعته، وخلقت لتسعد بقربه في الدنيا والآخرة.

2) الإلحاح على الله :

 ويقول عالم آخر: لا تسأم من الوقوف على باب ربك.
 قد تقف، وتصلي، ولا تشعر بشيء، وكأن الله لم يقبلك.
 قد تقف، وتصلي، ولا تشعر بالخشوع، وكأن الله حجبك عنه.
 قد تقف، وتصلي، ولا تشعر أن هذه الصلاة حركت فيك شعرة، فماذا تفعل؟
 يقول هذا العالم الجليل ناصحاً مثل هؤلاء: لا تسأم من الوقوف على باب ربك، ولو طردت. لا تمل من الوقوف على باب الحق جل وعلا، حتى لو لم يتحقق لك الخشوع في البداية، فلا تتعجل، ولا تترك مجاهدة نفسك لتحصيل الخشوع، بل ابكِ كثيراً، وداوم على طرق باب الملك:
 أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمنِ القرع للأبواب أن يلجا

 هذا الحجاب الذي بينك وبين الله، هذه العلاقة الفاترة التي بينك وبين الله، هي امتحان لصدقك:
 هل أنت مصرّ على هدفك؟
 هل تدمن قرع باب الملك؟
 هل تقف على أعتاب الله مرات ومرات؟
 فلعل الله سبحانه وتعالى يتعطف عليك، ويكشف لك بعض هذا الحجاب.
 داوم على طرق باب الملك، فإنه ملك الملوك.
 أيها الإخوة الكرام، لو أنك وقعت في مخالفة، لو أنها زلت قدمك، من لك إلا الله؟
 داوم على قرع باب الملك، ناجه، تذلل إليه، مرغ جبهتك في أعتابه، قل: يا رب ليس لي إلا أنت.

3) الدخول على الله :

 أيها الإخوة الكرام، هذا العالم الجليل ينصح هؤلاء الذين حُجِبوا عن الله عز وجل يقول:
 إذا فتح الباب للمقبولين فادخل معهم دخول المتطفلين.
 أناس في مجلس علم، اجلسْ بينهم، أناس في حلق الذكر، اذكرْ بينهم، أناس في عمل صالح، انخرطْ بينهم.
 إذا فتح الباب للمقبولين فادخل معهم دخول المتطفلين.

 أيها الإخوة الكرام، هذا الذي تجلس معه، إذا كان خيراً منك، لعل الله يقبلك معه، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم.
 كن من رواد المساجد فإنه ورد في الأثر:
 إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحُق على المزور أن يكرم الزائر.

 الجليس الصالح أيها الإخوة: مثله كمثل حامل المسك، إما أن تبتاع منه، وإما أن تشم منه رائحة طيبة.
 أولياء أمتي إذا رؤوا ذكر الله بهم:

﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

( سورة الكهف : الآية 28)

4) مناجاة الله :

 أيها الإخوة الكرام، إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلى السماء الدنيا فيقول رب العزة، خالق الأرض والسماوات يخاطب هذا العبد الصغير:
 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ يُمهِلُ حتى إِذَا ذَهَبَ ثُلُث الليل الأَوَّلُ، نَزَلَ إلى السماء الدنيا، فيقول: هل مِنْ مُستَغْفِرٍ؟ هل مِن تائِبٍ؟ هل من دَاعٍ؟ حتى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( لو يعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصفِّ الأول، ثم لم يَجِدُوا إلا أن يَسْتَهَِموا عليه لاسْتَهَمُوا، ولو يعلمون ما في التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتوهما ولو حَبْواً ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 ألا تشعر بحلاوة المناجاة مع الله عز وجل؟
 ألا تشعر أنك في قمة السعادة حينما تمرغ جبهتك في أعتاب الله عز وجل؟
 هل تناجيه وتبكي؟
 هل تستغفره وتندم؟
 هل تسأله رحمته وترجو؟
 هذا حال المصلي أيها الإخوة، لكن الصلاة الجوفاء ليس فيها خشوع، وليس فيها عقل، وليس فيها ذكر، ألم يقل الله عز وجل:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

( سورة طه : الآية 14)

 ألم يقل الله عز وجل:

﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾

( سورة العلق : الآية 19)

 ألم يقل الله عز وجل:

﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾

( سورة العنكبوت : الآية 45)

 هل يعقل أن تصلي وتفعل عملاًَ فاحشاً؟ تتكلم بكلمة فاحشة، تنظر نظرة فاحشة، هل يعقل أن تصلي وتخلف الوعد؟ هل يعقل أن تصلي ولا تنجز العهد؟ هل يعقل أن تصلي وتكذب؟ هل يعقل أن تصلي وتخون؟ هل يعقل أن تصلي وتحتال على الناس؟ هل يعقل أن تصلي وتبتز أموالهم؟
 هذا يتناقض مع أصل الإيمان.

(( يطبع المؤمن على كل خلة غير الخيانة والكذب ))

[ حديث رواه البزار وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ]

5) استشعار ربوبية الله :

 أيها الإخوة الكرام، مرة أحد الدعاة إلى الله جلس مع بعض الشباب، وتذاكروا جميعاً نعم الله عز وجل، فقال بعضهم: نعمة الصحة أجلّ نعمة، وقال آخر: نعمة الأولاد، وقال الثالث: نعمة السمع والبصر وسلامة الحواس، وقال الرابع: نعمة الأم والأب، وقال خامس: نعمة المال، وقال سادس: نعمة الإسلام، فقال شاب: إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا أنه ربنا، وأنه موجود، وأنه يسمعنا إذا دعوناه، وأنه يستجيب لنا، وأنه يحبنا، وأنه يرحمنا، وقد لخص بعضهم هذا كله بكلمة: الحمد لله على وجود الله:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾

( سورة إبراهيم : الآية 42)

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾

( سورة الزخرف : الآية 84)

6) استشعار العبودية لله :

 ألا تستشعر أنك ملك لله عز وجل؟ وأنك عبد له؟
 عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( تعِسَ عبدُ الدِّينار، وعَبْدُ الدِّرهم، والقَطيفةِ، والخميصةِ، إن أُعطيَ رَضِيَ، وإن لم يُعْطَ لم يَرْضَ ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ]

 أنت بين وضعين، إما أن تكون عبداً لله، فعبد الله حر، وإما أن تكون عبداً لشهوة من شهوات الدنيا، وعبد الشهوات ذليل.
 يقول بعض العلماء: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها، ولم يذوقوا أحلى ما فيها، فقيل له: وما أحلى ما فيها؟ قال: محبة الله عز وجل.
 في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
 ماذا يفعل أعدائي بي، بستاني في صدري، إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعل أعدائي بي؟

 

ما يناقض الخشوع :

 أيها الإخوة الكرام، مما يتناقض مع الخشوع في الصلاة كثرة الحركات في الصلاة.
 إن كثرة الحركات في الصلاة تدل على عدم حضور القلب، وعلى عدم خشوعه لله عز وجل، لذلك لما رأى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يعبث بلحيته قال رضي الله عنه: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
الجوارح أيها الإخوة مرآة القلب، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

 

صلاتنا وصلاة الصحابة الكرام :

 أيها الإخوة الكرام، أنا سأنقل لكم بعض ما في السنة عن حقيقة الصلاة، وعن صلاة أصحاب رسول الله، قد تجدون بوناً شاسعاً لا يتصور بين صلاة رسول الله وصلاة أصحابه الكرام والتابعين، وبين صلاة المسلمين اليوم.
 هذا الذي سأتلوه عليكم ينبغي ألا يحملكم على اليأس، لكن الصلاة التي أرادها الله هكذا، فاجتهد أن ترقى بصلاتك كي تقترب من هذه الصلاة، أنا واقعي، أقول: اجتهد أن ترقى بصلاتك كي تقترب من الصلاة التي أرادها الله، من الصلاة التي تسعد بها، من الصلاة التي هي نور لك، من الصلاة التي هي سكينة لك، من الصلاة التي هي قرب لك، من الصلاة التي هي ذكر لك، من الصلاة التي هي طمأنينة لقلبك.

 

الصلاة الصحيحة :

 أيها الإخوة الكرام:
 عن أبي هريرة رضي الله عنه:

(( أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فردَّ، وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فردَّه وقال: ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، فرجع ثلاثاً، فقال: والذي بعثك بالحق، ما أُحسن غيرَه، فعلِّمْني، فقال: إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّرَ معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، وافعل ذلك في صلاتك كلِّها ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن الالتفات في الصلاة، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:

(( سألتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقالت: هو الاختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ]

 عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، أو لا يقيم صلبه في الركوع ولا في السجود ))

[ حديث رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح ]

 وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:

(( لا يزال الله عز وجل مُقْبِلاً على العبد وهو في صلاته، ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه ))

[ حديث صحيح، أخرجه أبو داود والنسائي ]

 أيها الإخوة الكرام:
 عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( لا ينظر الله إلى صلاة رجل لا يقيم صلبه فيما بين ركوعه وسجوده ))

[ حديث رواه الإمام أحمد في مسنده ]

 وقد ورد في الأثر أن العبد إذا أقبل على صلاته ثم التفت، يقول الله له: أتلتفت إلى خيرٍ مني؟

 أيها الإخوة الكرام، مناط القبول في الصلاة حضور القلب، وفهم العقل، ولذلك ورد في الأثر: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها.

 أما هذا الذي يقول: سقط الوجوب، وإن لم يحصل المطلوب، فهذا لم يفقه حقيقة الصلاة.
 في الحقيقة: إذا صليت، ولم يحصل لك الخشوع، سقط عنك الوجوب، لكن المطلوب من الصلاة لم يحصل، فكما لو أن أحداً دعاك إلى طعام نفيس، حضرت، ولم تأكل، وعدت، فقد سقط عنك عتب الذي دعاك، لكنك لم تأكل شيئاً.

 عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، أنه صلى ركعتين فخففهما، فقال له عبد الرحمن: يا أبا اليقظان، أراك قد خففتهما؟ فقال: إني بادرت بها الوسواس، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( إن الرجل ليصلي الصلاة ولعله لا يكون له منها إلا عشرها، أو تسعها، أو ثمنها، أو سبعها، أو سدسها، حتى أتى على العدد ))

[ حديث صحيح، أخرجه أبو داود وأحمد في مسنده ]

 أيها الإخوة الكرام، كما قلت قبل قليل: نحن أمام نماذج من صلاة الصحابة، قد تجدون بوناً شاسعاً وغير متصور بين صلاتنا نحن، وصلاة هؤلاء الذين كانوا علماء حكماء، كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء.

صلاتنا هذه الأيام :

 سأذكر هذه الأحاديث، لتعلموا أن هذه الفريضة التي أرادها الله مسعدة لنا في الدنيا والآخرة، وكم نحن جميعاً مقصرون في أدائها.
 روي أن سيدنا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان يصلي في بستانه ذات يوم، ورأى طيراً يخرج من بين الشجر، فتعلقت عيناه بالطائر حتى نسي كم صلى، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يبكي، ويقول: يا رسول الله، إني انشغلت بالطائر في البستان حتى نسيت كم صليت، فإني أجعل هذا البستان صدقة في سبيل الله، فضعه يا رسول الله حيث شئت لعل الله أن يغفر لي.
 هل نحاسب أنفسنا هذه المحاسبة، أم نتابع بعض المسلسلات، ونحن نصلي كما يفعل بعض الناس؟ أم نستمع إلى ما يجري في غرفة الجلوس كلمة كلمة؟ أم نتابع ما يجري من أحاديث؟ أم ننشغل بحساباتنا؟
 هذه حال صلوات المسلمين:

﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾

( سورة مريم : الآية 59)

 وقد أجمع العلماء على أن إضاعة الصلاة لا تعني تركها، ولكن تعني تفريغها من مضمونها.
 كان الصحابة الكرام يخافون من الشرود في صلاتهم، ويعدونه ذنباً عظيماً، بل إن أحدهم يرى الشرود في الصلاة كأنه جبل يخاف أن يقع عليه، بينما المنافق يرى ذنبه كذبابة وقعت على وجهه فأطارها بكل سهولة.
 ويقول أبو هريرة رضي الله عنه: إن الرجل ليصلي ستين سنة، ولا تقبل منه صلاة، فقيل له: وكيف ذلك؟ فقال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا خشوعها.
 ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الرجل ليشيب في الإسلام، ولم يكمل لله ركعة واحدة، قيل: كيف يا أمير المؤمنين؟ قال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها.
 ويقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: يأتي على الناس زمان يصلون، وهم لا يصلون، وإني أتخوف أن يكون هذا هو الزمان الذي وصفه الإمام أحمد.
 ويقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: إن الرجل ليسجد السجدة يظن أنها تقربه من الله عز وجل، ووالله لو وزع ذنب هذه السجدة على أهل بلدته لهلكوا.

 يقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾

( سورة النساء : الآية 43)

 أيها الإخوة الكرام، الذي يصلي، ولا يعلم ما يقول، فهو في حكم السكران، بل هو أشد إثماً من السكران، لأنه ليس بسكران، ولكنه سكر بكأس الدنيا.

معنى إقامة الصلاة :

 أيها الإخوة الكرام، قال تعالى:

 

﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾

 

( سورة النور : الآية 56)

 لم يقل الله: صلوا، بل قال: أقيموا.
 إقامة البناء تحتاج إلى رخصة، وإلى موافقات، وإلى تهيئة مبالغ كبيرة، وإلى حفر أساسات، وإلى إشادة بناء على الهيكل، ثم إلى كسوته، ثم إلى فرشه.
 ما معنى إقامة البناء؟ أي أن الأمر يحتاج إلى جهد كبير.
 في معظم آيات القرآن الكريم، بل في كل آيات الصلاة، جاء الأمر: أقيموا الصلاة، لأنه عمل يحتاج إلى تمهيد، إلى استقامة، إلى ضبط لسان، إلى صدق، إلى عفاف، إلى عمل صالح، إلى انضباط، هذه إقامة الصلاة.

صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام :

 أيها الإخوة الكرام، يقول النبي عليه الصلاة والسلام متحدثاً عن إيجابيات الصلاة:

(( أقم الصلاةَ يا بلالُ، أرِحْنا بها ))

[ حديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح ]

 عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( حُبِّبَ إِليَّ: الطِّيبُ، والنساء، وجُعِل قُرَّةُ عَيْني في الصلاة ))

[ حديث حسن، أَخرجه النسائي ]

 عن حذيفة رضي الله عنه، قال:

(( كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَه أمر صلى ))

[ حديث أخرجه أبو داود بإسناد ضعيف ]

 نحن ماذا نفعل إذا أهمَّنا أمر؟ نبادر إلى زيد، وإلى عبيد، وإلى هذه الجهة القوية، وإلى حيلة، وإلى دعوى، وإلى قضاء، وإلى وساطة، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
 هيئوا أنفسكم لهذا الحديث أيها الإخوة، أنا أقول لكم: لا أنا، ولا أنت نستطيع أن نفعل مثل هذه الصلاة، ولكن انظر إذا أحب العبد ربه كيف يصلي؟

 عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:

(( صليتُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلتُ: يصلِّي بها في الركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آلَ عمران، فقرأها، يقرأ مترسِّلاً، إِذا مرّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرَّ بسؤال سَألَ، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعَوَّذ، ثم ركع، فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوُعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده، زاد في رواية: ربنا لك الحمد. ثم قام قياماً طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد، فقال: سبحان ربي الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 بالمناسبة، أيها الإخوة، كان عليه الصلاة والسلام أخفَّ الناس صلاةً، إذا كان يصلي إماماً بالناس، فهو لطيف، إذا سمع بكاء طفل اختصر من صلاته رحمةً بأمه.
 في هذا الحديث، النبي عليه الصلاة والسلام يصلي وحده، فكان أطولَ الناسِ صلاةً إذا صلى وحده، وكان أخفَّ الناس صلاةً إذا صلى إماماً.
وفي حديث آخر، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:

(( صلَّيتُ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأطال، حتى همَمْتُ بأمرِ سَوْء، قيل: وما همَمْتَ به؟ قال: هممتُ أن أجلسَ وأدَعَه ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 لم يعد يحتمل.
 قال تعالى:

﴿ طه (*) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾

( سورة طه 1-2)

 وعن عبد الله بن الشخير قال:

(( رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجَل، يعني يبكي ))

[ حديث صحيح، أخرجه أبو داود والنسائي ]

 هذه صلاة النبي، هذه صلاة الحب، وفرق كبير بين صلاة الحب وصلاة الفرض.
 الصلاة فرض، إن أديتها محباً كنت أسعد الناس بها، وإن أديتها مضطراً كانت صلاةً جوفاءَ سقط عنك الوجوب بها، ولكنك لم تقطف من ثمارها شيئاً.
 عن ربيعة بن كعب رضي الله عنه، قال:

(( كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم نهاري، فإذا كان الليل أويت إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبتّ عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان ربي، حتى أملّ أو تغلبني عيني فأنام، فقال يوماً:

 انظروا إلى وفاء النبي، سيد الخلق وحبيب الحق، رأى أن خدمة هذا الشاب ليست فرضاً عليه:

 فقال يوماً: يا ربيعة سلني فأعطيك

 أي أراد أن يكافئه، وهذا شأن المؤمن يقتدي برسول الله، يعطي، ولا يأخذ، لا يرى أن له منة على الخلق، هو يخدم الخلق جميعاً لعل الله يغفر له:

 يا ربيعة سلني فأعطيك

 أراد أن يكافئه على خدمته، أما هذا الذي يتوهم أن الناس مكلفون بخدمته، وأن له عليهم فضلاً كبيراً، هذا إنسان لا يعرف معنى الدعوة إلى الله:

 فقلت: أنظرني حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجيني من النار ويدخلني الجنة. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟ قال: قلت: ما أمرني به أحد، ولكني علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه، فأحببت أن تدعو الله. قال: إني فاعل فأعني بكثرة السجود ))

[ حديث رواه الطبراني في الكبير وبعضه في الصحيح ]

 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه يصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( .. وإذا رَكَعَ قال: اللَّهمَّ لَكَ رَكعتُ، وبكَ آمَنتُ، ولك أَسلمتُ، خَشَعَ لك سَمعي، وبَصَري ومُخِّي، وعَظْمي، وعَصَبي ))

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم ]

 كان عليه الصلاة والسلام مستغرقاً بالله عز وجل.

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

( سورة الأنعام : الآية 162)

 السيدة عائشة رضي الله عنها، تقول: كان عليه الصلاة والسلام يحدثنا ونحدثه، فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه.

نماذج من صلاة الصالحين :

 كان الحسن بن علي رضي الله عنهما إذا دخل في الصلاة ارتعش واصفر لونه، فإذا سئل عن ذلك قال أتدرون بين يدي مَنْ أقوم الآن؟
 وكان الإمام علي كرم الله وجهه يقول: الآن أحمل الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبيْنَ أن يحملنها، وأشفقنَ منها، وحملتها أنا.
 فهم الصلاة أمانة.
 وسئل حاتم الأصم رحمه الله: كيف تخشع في صلاتك؟ قال: بأن أقوم فأكبر بالصلاة، وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأمل صلاتي، وأظنها آخر صلاة، فأكبر الله بتعظيمه، وأقرأ بتدبر، وأركع بخضوع، وأسجد بخشوع، وأجعل في صلاتي الخوف من الله عز وجل، والرجاء في رحمته، ثم أسلم، ولا أدري أقبلت أم لم تقبل.
 فكيف بصلاتنا نحن؟
 أنتم جميعاً، وأنا معكم، معنيون بهذه الخطبة، نسأل الله عز وجل أن نرتقي بصلاتنا حتى تقترب من صلاة أقلِّ صحابي من أصحاب رسول الله.
 يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: استجمعْ قلبك في ثلاثة مواضع: عند قراءة القرآن، وعند الصلاة، وعند ذكر الموت، فإن لم تجده في هذه المواضع فاسأل الله أن يمنَّ عليك بقلب، فإنه لا قلب لك.

 

 عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز، قال:

(( إذا قمت في صلاتك، فصلِّ صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعتذر منه، وأجمع اليأس عما في أيدي الناس ))

[ حديث حسن، أخرجه ابن ماجه ]

وأخيراً :

 أيها الإخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

 

الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مراتب صلاة الناس :

 أيها الإخوة الكرام: قسم بعض العلماء صلاة الناس إلى خمس مراتب:

 

المرتبة الأولى :

 الذي لا يحافظ على صلاته، لا على وقتها، ولا على وضوئها، ولا على أركانها الظاهرة، من قيام، وركوع، وسجود، ولا على خشوعها، فهو معاقب بإجماع العلماء.

 

المرتبة الثانية :

 الذي يحافظ على الوضوء، والصلاة، والأركان الظاهرة، ولكن بلا خشوع، وهذا محاسب على صلاته حساباً شديداً.

 

المرتبة الثالثة :

 الذي يحافظ على الوقت، وعلى الوضوء، والأركان الظاهرة، ويجاهد شيطانه، فيخشع لبعض الوقت، ويسهو لبعض الوقت، فالشيطان يختلس من صلاته، ويسرق منها بين الحين والآخر، فهو في صلاة، وجهاد، وله أجران، أجر الصلاة، وأجر الجهاد.

 

المرتبة الرابعة :

 الذي يحافظ على الوقت، وعلى الوضوء، والأركان الظاهرة، وخاشع في صلاته، وهذا النوع نادر بين المسلمين، لا يوجد بالألف شخص واحد.

 

 

 

المرتبة الخامسة :

 الذي يحافظ على الوقت، والوضوء، والأركان الظاهرة، والأكثر من ذلك أنه خلع قلبه، وأسلمه لله عز وجل، فهو ليس في الدنيا، بل صار في مناجاة مع الله عز وجل، ولعل هذا ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:

 

(( .. وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيني في الصلاة ))

[ من حديث أخرجه النسائي بإسناد حسن ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
 اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمةَ الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، أذل أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين، شتت شملهم، فرق جمعهم، خالف فيما بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بتدميرهم كما أريتنا قدرتهم في تدميرنا يا رب العالمين، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور