وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0925 - معاملة الأسرى.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

 الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
 اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

معاملة الأسرى في الإسلام :

 أيها الإخوة الكرام، الخبر الأول الذي تداولته وسائل الإعلام في كل بقاع الأرض، ما يجري من تعذيب وإذلال للأسرى، ومجاوزة لكل أعراف أهل الأرض، وشرائع السماء، في سجون العراق.
 أخ كريم تمنى عليّ أن يكون موضوع الخطبة اليوم: كيف عامل المسلمون الأسرى، لتروا البونَ الشاسع بين أهل الإيمان وأهل الشرك، لتروا البَوْنَ الشاسعَ بين مَن أودع الله في قلبه الرحمة بسبب اتصاله به، وبين من امتلأ قلبه قسوة بسبب انقطاعه عنه.

تكريم الأسير والحفاظ على حياته :

 أيها الإخوة الكرام، لقد كرم الإسلام الأسير، وضمن له الحفاظ على حياته، وأنه لا يمكن أن يتعرض له أحد بأذى، فلا يجوز في الإسلام لمن أسر أسيراً أن يقتله، بل عليه أن يسلمه لإمام المسلمين، ويتشاور الإمام مع قادته، وأصحاب الرأي عنده: كيف يعاملون الأسرى، بل إن القرآن الكريم حثّنا على أن نحسن إلى الأسرى، فقال تعالى:

 

﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ﴾

( سورة الإنسان : 8)

 ومما ورد في السنة العملية أن النبي عليه الصلاة والسلام، على الرغم من كل ما صنعه يهود بني قريظة من عداء وخيانة للمسلمين، فقد أبى عليه الصلاة والسلام أن يبقوا في شدة الحر، بل أمر أصحابه أن يتركوهم في فترة القيلولة، وأن يسقوهم ماءً بارداً.

 

ستر عورة الأسير والإحسان إليه :

 الإسلام أيها الإخوة يأمر أن يستر الأسير، لا أن يعرّى، وأن يؤتى له بثياب أفضل من التي يلبسها:
 يروي الإمام البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه لما كان يوم بدر جيء بأسرى، وبعض الأسرى كان عليه ثوب بالٍ، فما كان من النبي، عليه الصلاة والسلام، إلا أن خلع ثوبه، وأعطاه لهذا الأسير.
 وكان الأسرى يبيتون عند المؤمنين في بيوتهم، أو في المساجد حفاظاً على حياتهم، وحفاظاً على سلامتهم، يقول الحسن: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول له: أحسن إليه.

 

 

منع تعذيب الأسير لاستنطاقه :

 بل وصل حد التكريم للأسير عند المسلمين ألا يعذب من أجل الحصول على معلومات عن جيشه، وهم المحاربون الذين غزوا البلاد، يسجل هذا الخبر كمفخرة للمسلمين:
 عن الإمام مالك رحمه الله تعالى حين سئل: أيعذب الأسير إن رجي أن يدل على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك.
 أيها الإخوة الكرام:
 عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال:

 

(( كانت ثقيف حُلفَاءَ لِبَني عُقَيْلٍ، فأسَرَتْ ثقيف رَجُلَيْنِ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسَرَ أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عُقَيْلٍ، وأصَابُوا معه الْعَضْباءَ، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق، فقال: يا محمدُ، فأتاه، فقال: ما شاْنُك؟ فقال: بِمَ أخَذْتني وأخذتَ سابقَة الحاجِّ؟ يعني: العَضباءَ، فقال: أخَذْتُكَ بجِريرة حُلفائك ثقيف، ثم انصرف عنه، فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رقيقاً، فرجع إليه، فقال: ما شأنُك؟ قال: إني مُسلم، قال: لو قُلْتَها وأنت تملكُ أمرَك أفلحتَ كُلَّ الفلاح، ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد، يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنُك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآنُ فأسقنِي، قال: هذه حاجتُكَ، ففدي بالرجلين ))

 

[ من حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود ]

إطعام الأسير والوصية بإكرامه :

 أيها الإخوة الكرام، جعل الإسلام إطعام الأسير وإكساءه وتلبية حاجاته وإكرامه طريقاً إلى الجنة، فقال تعالى:

 

﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (*)إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾

 

( سورة الإنسان، 8-9)

 هذا الهدي النبوي يتوّج بتاج آخر، ففضلاً عما يستحقه الأسير من طعام وشراب وكساء وإكرام، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( استوصوا بالأسارى خيراً ))

[ من حديث أخرجه الطبراني بإسناد حسن ]

 وقال علماء الأصول: إن كلمة خيراً جاءت نكرة، ليتجدد المعنى في كل عصر، ففي كل عصر هناك طريقة لإكرام الأسير، هذا المعنى متجدد، لأن كلمة خيراً جاءت نكرة.

 

 وكان المسلمون، أيها الإخوة، يفضلون الأسرى على أنفسهم، فكان المسلمون يقدمون للأسرى أجود الطعام، ويأكلون أردأه، يقدمون لهم أثمن شيء، لتقديرهم أن هؤلاء الأسرى أمانة في أعناقهم، حتى يقضيَ الله في شأنهم، وكأن الأسرى أصبحوا ضيوفاً في ديار الإسلام، فوجب على المسلمين إكرام ضيوفهم.
 بل كان من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج بنفسه ليطمئن على حال الأسرى، وأن أحداً لم يتعرض لهم بأذى أو سوء، بل ربما كساهم من ثيابه، وأطعمهم من طعامه الذي في بيته.

عدم إيذاء الأسير ولو كان مذنباً :

 سيدنا عمر جاءته رسالة من بعض الولاة، قال: يا أمير المؤمنين، إن أناساً اغتصبوا مالاً ليس لهم، لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلت؟ فأجابه عمر: يا سبحان الله، أتستأذنني في تعذيب بشر؟ وهل أنا لك حصن من عذاب الله؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله؟ أقم عليهم البينة، فإن قامت فخذهم بالبينة، فإن لم تقم فادعهم إلى الإقرار، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، فإنْ لم يقروا فادعهم لحلف اليمين، فإذا حلفوا فأطلق سراحهم، وأيم الله، لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم.
 الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، والنبي عليه الصلاة والسلام في السنة المطهرة، ينهيان عن إيذاء الإنسان أو تعذيبه بأية صورة، بل إن في السنة النبوية ما يسمو فوق هذا، لقد راعى الإسلام مشاعر الحيوان الأعجم، وأشار النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا الحيوان يحس، ويتألم، وقد مرَّ عليه الصلاة والسلام ذات يوم على رجل، وقد أضجع شاته ليذبحها، وبدأ بشحذ سكينه، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( أتريد أن تميتها موتات؟ هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها ))

[ حديث صحيح، أخرجه الحاكم في مستدركه ]

 وعن شداد بن أَوس رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( إِنَّ الله كتبَ الإِحسانَ على كل شيء، فإِذا قَتَلتم فأَحسِنوا القِتْلة، وإِذا ذَبَحتُم فأحسنوا الذَّبحَ، وليُحِدَّ أحدُكم شَفرتَه، وليُرِحْ ذَبيحتَهُ ))

[ حديث صحيح، أخرجه مسلم والترمذي ]

 أيها الإخوة الكرام، كان عليه الصلاة والسلام إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، ومن الوصايا المشهورة للجند:

 عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، كانَ إذا بعثَ جيشاً قال:

(( انطلقوا باسمِ اللهِ، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طِفلاً صغيراً، ولا امْرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضمُّوا غَنائمَكم، وأَصلِحُوا وأحْسِنُوا، إن اللَّهَ يُحِبُّ المحْسِنينَ ))

[ حديث صحيح، أخرجه أبو داود ]

 أيها الإخوة الكرام، يروى أن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أصاب إنساناً عن غير قصد، بأن وكزه بعرجونٍ كان بيده صلى الله عليه وسلم، فطلب عليه الصلاة والسلام من هذا الرجل أن يقتاد منه بهذا العرجون الذي في يده.
 أيها الإخوة الكرام، ورد في الأثر: أن النبي عليه الصلاة والسلام دعي إلى التمثيل بقتلى المشركين، فقال: لا أمثل بهم فيمثل الله بي و لو كنت نبياً.
 لم يثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام ضرب الرق على أسير، بل عرف أنه أطلق أرقاء مكة وبني المصطلق وحنين، وورد في السيرة أنه قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

حق تأمين الأسير قبل أسره :

 هذه النظرة الإسلامية السمحة مع أسرى الحرب تبدأ قبل الأسر، فإذا طلب الأمان جندي من الأعداء المحاربين يلزم المسلمين قبوله، ويصبح المحارب بذلك آمناً، ولا يجوز الاعتداء عليه بأي وجه من الوجوه، قال تعالى:

 

﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ﴾

 

( سورة التوبة : 6)

 هذا حق للمحارب قبل أن يؤسر، إذا طلب الأمان فهو آمن حتى يسمع كلام الله.
 يروى أن سيدنا عمر بلغه أن مقاتلاً أمّنه بعض المسلمين، قال له: لا تخف، ثم قتله، فكتب لقائد الجيش: إنه والذي نفسي بيده، لا يبلغني أن أحداً فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
 أن تؤمنه، هذا حق مقدس للمحارب الذي يحارب المسلمين، إذا استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله.
 يروى أن النبي عليه الصلاة والسلام استقبل رسولاً من أعدائه، والرسول في حكم الشرع مثل المؤَمَّن، فهذا الرسول دخل الإسلام إلى قلبه، وأراد أن يُسلِم، وأن يبقى مع النبي عليه الصلاة والسلام:
 فعن أبي رافع رضي الله عنه، قال:

(( بعثَتني قُرَيش إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُلقِيَ في قلبي الإسلامُ، فقلتُ: يا رسول اللهِ، لا أرْجِعُ إليهم أبداً، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أخِيسُ بالعهدِ، ولا أحْبِسُ البُرُد، ولكنِ ارْجع، فإن كان في نَفْسِكَ الذي في نفسك الآن فارْجِعْ، قال: فذهبتُ، ثم أتيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأسلمتُ ))

[ حديث أخرجه أبو داود بإسناد صحيح ]

 حتى إن المستأمَن إذا دخل بلاد المسلمين ينبغي أن يحافَظَ على نفسه، وعلى ماله وسائر حقوقه، وإن مال المستأمَن لا يصادر إلا إذا حارب المسلمين، أما الطرف الآخر فيصادِرون أي مال، بسبب أو بغير سبب.

إكرام الأسير ذي الشأن والمكانة :

 أيها الإخوة الكرام، ثمامة بن أثال، زعيم من زعماء العرب، وقع في يد أصحاب رسول الله أسيراً، ولم يكونوا يعرفون مكانته:
 فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

 

(( بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خَيْلاً قِبَلَ نَجْد، فجاءت بِرَجُل من بني حَنيفة يقال له: ثُمامة بن أُثال ، سَيِّد أهلِ اليمامة، فربطوه بِسارِية من سواري المسجد، فخرج إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ماذا عندكَ يا ثُمامةُ؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تَقْتلْ ذا دم، وإن تُنْعِم على شاكر، وإن كنْتَ تريدُ المالَ فَسَلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فتركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغَد، قال له: ما عِنْدَك يا ثمامة؟ فقال: مثل ذلك، فتركه حتى إذا كان بَعْد الغَدِ، فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قُلتُ لك، وذكر مثله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أطْلِقُوا ثمامة، فأطلَقوه، فانْطَلَقَ إلى نخل قريب منَ المسجد، فاغتسل، ثم دَخَلَ المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبْغَضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجْهُكَ أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله ما كان من دِين أبْغَضَ إليَّ من دينِك، فقد أصبح دِينُك أحبَّ الدِّين كلِّه إليَّ، والله ما كان من بلد أبْغَضَ إليَّ من بَلَدِك، فقد أصبح بَلَدُك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ ))

 

[ من حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 هذه المعاملة السمحة الحسنة، وهذا الخلق الكريم، نجح في استمالة قلب رجل غير عادي، ليس من بسطاء الناس، بل هو سيد قومه، ولم يكن إسلامه إسلام تقية أو خوفاً على نفسه أو حياته، بل كان صادقاً في إسلامه.

النهي عن منع الطعام عن الأسير :

 أيها الإخوة الكرام، كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يطعمون الأسير من أطيب طعامهم، وعدّ الإسلام منع الطعام عن الأسير من الكبائر:

 

 فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( عُذِّبت امرأة في هرَّةٍ سجنتْها حتى ماتت، فدخَلتْ النَّار، لا هيَ أَطْعَمتها وسقتها، إِذ هي حَبسَتها، ولا هي تَرَكَتها تَأكُل مِن خَشاشِ الأرض ))

[ حديث صحيح، أخرجه البخاري ومسلم ]

 فإذا كانت هذه المرأة تستحق النار لأنها حبست هرة، ولم تطعمها فما قولكم فيمن فوق الهرة؟ هؤلاء الذين تقصف منازلهم فيموتون تحت الأنقاض، يموتون من الجوع، يموتون من التعذيب.

عدم التفريق بين الأم الأسيرة وولدها :

 أيها الإخوة الكرام، كان عليه الصلاة والسلام يأمر أصحابه أن يحسنوا إلى الأسرى، ومن حقوق الأسرى ألا يفرق بينهم وبين أولادهم:
 فعن أبي أيوب الأنصاري، خالد بن زيد رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:

 

(( مَنْ فَرَّقَ بين والدة وَوَلَدِهَا، فرَّق الله بينه وبين أحِبَّتِهِ يوم القيامة ))

 

[ حديث حسن، أخرجه الترمذي ]

 ويروى أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه كان في جيش، ففرق بين الصبيان وبين أمهاتهم من الأسرى، فرآهم يبكون، فرجع يرد الصبي إلى أمه، ويقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( مَنْ فَرَّقَ بين والدة وَوَلَدِهَا، فرَّق الله بينه وبين أحِبَّتِهِ يوم القيامة ))

[ حديث حسن، أخرجه الترمذي ]

 أما التعذيب، فإذا كان المسلم مأموراً أن يطعم، وأن يسقي، وأن يكسو، وأن يكرم، وأن يحسن إلى الأسير، فأن يعذبه محرم أشد التحريم، من باب أولى.

صورة من حسن معاملة الأسرى :

 أيها الإخوة الكرام، محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية، توجّه بعد أن فتح القسطنطينية إلى كنيسة آيا صوفيا، وهي الآن متحف، وكانت قبل ذلك مسجداً، وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس، ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف من في الكنيسة خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان يفتح الأبواب، فطلب من الراهب تهدئة الناس، وطمأنتهم، وأن يعود بهم إلى بيوتهم بأمان، فاطمأن الناس، وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة، فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا، وأعلنوا إسلامهم.
 أعطى السلطان لهؤلاء حرية إقامة شعائرهم الدينية، وحرية اختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في القضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى.
 أيها الإخوة الكرام، إن السلطان محمد الفاتح عامل أهل القسطنطينية معاملة رحيمة، وأمر جنوده بحسن معاملة الأسرى والرفق بهم.

 

وأخيراً :

 أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا.
 الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

الخطبة الثانية:
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

معاملة الكفار للأسرى :

 أيها الإخوة الكرام، هذه الأخبار والقصص والتوجيهات القرآنية والنبوية تملأ النفس انشراحاً وثقةً بعظمة هذا الدين، وتملأ النفس راحة لإنسانية الإنسان، والقيم التي يتمسك بها.
 نذهب الآن إلى صورة أخرى:
 ورد في بعض الكتب التاريخية أن الروم ومن قبلهم الآشوريين والفراعنة، كانوا يسمّلون عيون الأسرى، ويكحلون أعينهم بالمسامير المحماة، ويسلخون جلودهم، ويطعمونها للكلاب حتى فضّل الأسرى السجناء الموت على الحياة، فقد نقلت رسالة من السجينات الأسيرات أن اقصفوا هذا السجن، واقتلونا رحمة بنا، لأن بطوننا ملئت من ماء هؤلاء الذين يعذبوننا.

 

 

ممارسات الأمريكان في العراق :

 أيها الإخوة الكرام، ضابط في الجيش المحتل للعراق شعر بالعار، وفر إلى بلد مجاور، وعقد مؤتمراً صحفياً نشرته إحدى الصحف بالقاهرة، وتناقلته المواقع المعلوماتية قال:
 إنني اشعر بالعار، لأنني ضابط في جيش محتل، وسوف أقول ذلك في كل مكان مهما كان الثمن، لم يكن هروبي سهلاً، فقد ذهبت إلى منزل كنت أعرفه قبل ثلاثة أسابيع، حيث سبق لنا أن اقتحمناه مع مجموعة من الجنود، وعندما لجأت إليهم، وكشفت لهم عن هويتي انتابني شعور بالخوف، ولكنهم عاملوني بلطف، وقدموا لي الشاي، وساعدوني كثيراً على فراري من العراق إلى دولة مجاورة.

 

سبب هروب الضابط الأمريكي :

 يضيف هذا الضابط من جيش الاحتلال: هربت من العراق لأنني أمارس القتل بشكل آلي دون وجه حق، قبل ذهابي للعراق كنت أشعر بأنني أمريكي عظيم، ولكنني أدرك الآن أن الأمريكي معزول عن كل إنسان، وغير مرغوب فيه في كل مكان.
 يقول هذا الضابط: كنا نقتحم المنازل في الليل، ونسبب الرعب والهلع والإرباك والإزعاج للمواطنين، ولا يغيب عن ذاكرتي تلك الطفلة التي توفيت من فورها خلال إحدى عمليات الاقتحام بسبب الخوف والذعر الذي أصيبت به.
قيل لنا في أمريكا قبل قدومنا: إن الشعب العراقي سوف يرحب بكم، ولكن الأمر كان على خلاف ذلك.
 كنت أفكر باستمرار بأن لي أماً وأصدقاء في أمريكا، وكذلك لهؤلاء العراقيين، وأنا أمثل الطرف المعتدي، بينما العراقي يدافع عن أهله ووطنه، كنا نشاهد يوميّاً منظر القتلى العراقيين، وحتى الجثث الملقاة في الشوارع، يصعب عليّ كثيراً أن أتحدث عن أعمال التعذيب التي كنا نمارسها ضد الأسرى العراقيين، استخدمنا كل الأساليب التي تشعر الأسير بالذل والهوان.

 

تعامل الأمريكان مع الأسرى :

 يقول هذا الضابط: كنا نضع كيساً قماشياً على رأس الأسير، ونستخدم الأغلال البلاستيكية التي تسبب الحروق نتيجة للحرارة المرتفعة، وجروحاً عظيمة في رسغ اليد، لقد جربنا ذلك أحياناً على أنفسنا، ولم نتمكن من تحمل هذه الأغلال لدقائق، إذ إنها كانت تسبب حروقاً شديدة وجروحاً عميقة.
 أيها الإخوة، يضيف هذا الضابط: قارنت ذلك بتعامل العراقيين مع الأسرى الأمريكيين، حيث كانوا يقدمون الشاي لهم، بينما نحن لا نقدم لهم الماء، ونقوم بنقلهم في شاحنات مفتوحة، وفي أسوأ الظروف، ويمكنك تصور آلام هؤلاء حينما ينقلون في سيارة، وتمشي فوق مطبات وأكمات تتكسر عظامهم، وعند الوصول لنقطة معينة كنا نقوم برميهم من الشاحنة على الأرض، وكنا نبصق ونبول عليهم، هذه كلها أشياء غير إنسانية، وأثرت فيّ كثيراً.

 

إعجاب الضابط بأخلاق المسلمين :

 كان عدد كبير منا يتناول أنواعاً من المخدرات، وحوالي سبعين في المئة من أصدقائي كانوا يتعاطون المخدرات، وحسب معلوماتي، إن قريباً من ألف عنصر فروا إلى بلد مجاور، ولا أستطيع أن أنسى نظرات المسلمين العراقيين عندما كانوا يرون الجنود الأمريكيين يعبثون بحرمات منازلهم، وبغرف نومهم ونسائهم ، مما يحولهم إلى أسود مجروحة.
 أيها الإخوة الكرام، يقول هذا الضابط: كنا نفكر دائماً ماذا سيفعل بنا العراقيون بعد أن نتركهم، أقول لكم بصراحة، وأنا أرتجف الآن: إن الفلسطينيين محقون عندما يتحولون إلى قنابل حية.
 يقول هذا الضابط: إن العراقيين أهل حضارة، ورأيت بأم عيني كم أن المسلمين منصفون.
 إن بلدان هذه المنطقة مهد الحضارات، وفي الوقت الذي جئت فيه لأدمرها قدم لي أهلها المساعدات.
 أيها الإخوة الكرام، يقول هذا الضابط: كنت أقدم لهم كل ألوان الأذى، ويقدمون لي كل ألوان المساعدة.
 يقول: لقد سمعت، وقرأت عن فيتنام، ولكنني عشت شخصيّاً المظالم الوحشية في العراق، وتأكدت أنه من الصعب جداً مواجهة أولئك الذين يدافعون عن وطنهم، إذ إن معنوياتهم عالية جداً، وكنت أفكر أحياناً أننا خدام الشيطان، ولا أتصور أننا نمثل العدالة، لأن العدالة لا يمكن أن تكون ممثلة باليورانيوم الموجود في الصواريخ النووية.

 

 

رسالته لمن يريد الخدمة في الجيش :

 أيها الإخوة الكرام، يقول هذا الضابط لهؤلاء الذين يرغبون في الخدمة بالجيش الأمريكي في العراق بسبب المكاسب المادية، أو للحصول على الجنسية الأمريكية، أو لأية أسباب أخرى، أن يفكروا أولاً بشرفهم، وبإنسانيتهم، لأن عليهم أن يتجردوا من الجانب الإنساني كي يستطيعوا الخدمة هناك، يقول: لأن جيشنا هو عصابة مافيا لا تستطيع أن تخرج منه بعد أن تدخله.
 ثم يضيف: وصلتني أخبار أن عائلتي قد تبرأت مني، والشباب يزعجون أخي الأصغر في مدرسته، يقولون: هذا شقيق الخائن، وأحياناً أسمع أن بعض العائلات لا ترحب بالجنود الذين ينهون خدمتهم بالعراق، ولا يقبـّلون الأرض فرحاً بعودتهم، بل يقولون: كان الأفضل أن تموتوا، لأن هذا كان سيساعدنا مادياً على مواجهة مصاعب الحياة.

 

سقوط القيم الغربية :

 في الخطبة الأولى أيها الإخوة، رأيتم ماذا يفعل المسلمون بالأسرى بسبب توجيهات القرآن الكريم، وتوجيهات النبي عليه الصلاة والسلام، ثم رأيتم ماذا يفعل الطرف الآخر.
 الحقيقة أيها الإخوة الكرام، أن البشر على اختلاف مللهم ونحلهم وانتماءاتهم وأعراقهم وأجناسهم وألوانهم ومذاهبهم وطوائفهم، لا يخرجون عن رجلين:
 رجل عرف الله فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة.
 ورجل غفل عن الله، وتفلت من منهجه، وأساء إلى خلقه، فشقي في الدنيا والآخرة.
 قال تعالى:

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (*)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾

( سورة الماعون، 1-2)

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾

( سورة القصص : 50)

 أيها الإخوة الكرام، قبل زمن طويل كان هناك أبيض وأسود، وآلاف الألوان الرمادية، الآن أيها الإخوة، اتضح كل شيء، ليس إلا الأبيض والأسود، مؤمن أو كافر، وليّ أو إباحي، مجرم أو إنسان منصف، الأمر واضح جداً، وأكبر مكسب للإسلام والمسلمين عقب هذه الأحداث الخطيرة أن الغرب الذي يدعي القيم الإنسانية والحرية والديمقراطية، ويدعي حفاظه على حقوق الإنسان سقط في الوحل، ولم يبق في نظر أطفالنا إلا قوة غاشمة.
 إذاً: أصبح الطريق إلى الله سالكاً، لأنه ما لم نكفر بالكفر فالطريق إلى الله غير سالك، شكراً لهم لقد أعانونا على أن نكفر بهم، أعانونا على أن نوقن أنه ليس من خلق حقيقي أصيل إلا عن طريق الاتصال بالله، أما الخلق المزيف، خلق الادعاء، خلق الذكاء، خلق المكر، هذا لا يقدم ولا يؤخر، وهو ساقط عند الله وعند الناس.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك.
 اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت.
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين.
 اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
 اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين.
 اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، أذل أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين.
 اللهم شتت شملهم، فرق جمعهم، خالف فيما بينهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين.
 اللهم أرنا قدرتك بتدميرهم كما أريتنا قدرتهم في تدميرنا يا رب العالمين، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور