وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 70 - القوة - الإيمان قوة مطلقة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين ، غافر الذنب ، وقابل التوب ، شديد العقاب ، ذي الطول، يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل ، وينادي: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ ويقول: عبدي لا تعجز ، منك الدعاء وعليّ الإجابة ، منك الاستغفار وعليّ المغفرة ، منك التوبة وعليّ القبول ، من أحبنا أحببناه ، ومن عصانا أمهلناه ، ومن رجع إلينا قبلناه .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، يا رب لك العبادة ، وإليك التوجه ، ومنك الخشية ، وعليك الاعتماد ، لا احتكام إلا إليك ، ولا سلطان إلا لشريعتك ، ولا اهتداء إلا بهديك.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، بلَّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وكشف الغُمَّة ، وجاهد في الله حق الجهاد ، وهدى العباد إلى سبيل الرشاد .
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله ، وأصحابه ، أمناء دعوته، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

القوّة مطلب أساسي و هي مصدر الثقة :

أيها الأخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام : الله جل جلاله وحده هو القوي ، ولا قوي سواه ، وكل قوة في الأرض في الذوات والأشياء مستمدة من قوة الله ، تأييداً ، أو استدراجاً ، أو تسخيراً ، لحكمة بالغة عرفها من عرفها ، وجهلها من جهلها ، قال تعالى:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً ، يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ، أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ، وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾

[سورة البقرة : 165]

لذلك المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف ، كن عضواً في جمعية الأقوياء ، ولا تكن رأساً في قطيع النعاج.
قد تبدو ضعيفاً لأنك قبلت أن تكون ضعيفاً ، فعشْ كما تريد ، ولكن لا بد من أن تعلم أنه بإمكانك أن تصبح قوياً ، وأن تتعافى من شعورك بالضعف.
إن الأقوياء بالحق هم السعداء ، والضعفاء بالباطل هم التعساء ، واعلم يقيناً أن الشيء الذي لا تستطيعه هو الشيء الذي لا تريد أن تكونه .
تعلم من البعوضة التي تصر دون كلل على النفاذ لجلدك
القوّة مطلب أساسي ، وإلا فلا قيمة للحياة من دون قوة ، إن القوّة مصدر للثقة ، والثقة لا توجد إلا في قلوب الأقوياء ، وإذا أردت القوّة الحقيقيّة فابحث عن قوّة لا تحتاج إلى غيرها إنها قوة الله عز وجل.
إن الجبن والخور ، والاستكانة والاستسلام ، والانهزامية والذلّ ، وجميع المفردات في قاموس الضعف مرفوضة في حياة الأقوياء ؛ فأنت كائن لم تُخلق لتكون مسلوب الإرادة ، بارد الهمّة ، تأمّل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك ]

عليك ألاّ تتردّد لحظة في الانتساب لعضوية نادي الأقوياء ، فلديك عملاق ينام بين جنبيك فابحث عنه ، حتى لا تموت ، وأنت تعيش بين الأحياء :

ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
***

تأمّل في البعوضة إنها لا تبدو بالنسبة إليك شيئاً مذكوراً لكنها أقوى منك حينما تصر البعوضة من دون كلل أو ملل في البحث عن منفذ في جلدك .

أشكال القوّة متنوعة و أشهرها :

1 ـ التوحيد :

لكن السؤال المهم في هذا الموضوع : كيف نبحث عن القوة ونحن ضعفاء ؟
إن الحديث عن القوة النابعة من الضعف ليس دعوة إلى الرضا بالضعف ، أو إلى السكوت عليه ، بل هو دعوة لاستشعار القوة ، حتى في حالة الضعف ، إذاً يجب أن نبحث في كل مظنة ضعف عن سبب قوة كامنة فيه ، ولو أخلص المسلمون في طلب ذلك لوجدوه ، ولصار الضعف قوة ، لأن الضعف ينطوي على قوة مستورة ، يؤيدها الله في حفظه ورعايته ، فإذا قوة الضعف تهد الجبال ، وتدق الحصون ، كما ترون وتسمعون .
أنت قويّ هذا سر ضعفك ، وأنا ضعيف هذا سر قوتي .
نقابل القنبلة الذرية بتربية جيل واع ملتزم
لذلك نستطيع أن نقابل القنبلة الذرية بقنبلة الذُّرية ، أي بتربية جيل واع ملتزم ينهض بأمته ، ويعيد لها دورها القيادي بين الأمم .
إن أشكال القوّة متنوعة ، وإن أبعادها مختلفة ، ومن الصعب الحديث عنها جميعاً، ولكن نشير إلى أشهر هذه القوى تفصيلاً حيناً وإجمالاً حينا آخر؛ التوحيد قوة التوحيد هو في الواقع تحرير للإنسان من كل عبودية إلا لربه الواحد الديان ، الذي خلقه فسواه ، وكرمه وأعطاه ، التوحيد تحرير لعقله من الخرافات والأوهام ، التوحيد تحرير لضميره من الخضوع والاستسلام ، التوحيد تحرير لحياته من تسلط الأرباب والمتألهين ، التوحيد يعين على تكوين الشخصية المتزنة التي توضحت في الحياة وجهتها ، وتوحدت غايتها ، وتحدد طريقها ، فليس لها إلا إله واحد ، تتجه إليه في الخلوة ، والجلوة ، وتدعوه في السراء والضراء ، وتعمل على ما يرضيه في الصغيرة والكبيرة ، ففي القرآن:

﴿َأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار﴾

[ سورة يوسف: 39 ]

التوحيد يملأ نفس المؤمن أمناً وطمأنينة ، فلا تستبد بها المخاوف التي تتسلط على أهل الشرك ، فقد سدّ الموحد منافذ الخوف التي يفتحها الناس على أنفسهم ، الخوف على الرزق ، والخوف على الأجل ، والخوف على النفس ، والخوف على الأهل والأولاد ، والخوف من الإنس ، والخوف من الجن ، والخوف من الموت ، والخوف مما بعد الموت.

 

المؤمن الصادق الموحد لا يخاف إلا الله :

أما المؤمن الصادق الموحد فلا يخاف إلا الله ، ولا يخشى غير الله ، ولهذا تراه آمناً إذا خاف الناس ، مطمئناً إذا قلق الناس ، هادئاً إذا اضطرب الناس ، قال تعالى:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾

[ سورة الشعراء: 213 ]

التوحيد يملأ نفس المؤمن أمنا وطمأنينة
التوحيد مصدر لقوة النفس ، إذ يمنح التوحيد المؤمن قوة نفسيةً هائلة ، حيث تمتلئ نفسه من الرجاء بالله تعالى ، والثقة به ، والتوكل عليه ، والرضا بقضائه ، والصبر على بلائه ، والاستغناء به عن خلقه ، فالمؤمن الموحد راسخ كالجبل لا تزحزحه الحوادث ، ولا تزعزعه الكوارث.
ولما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ ، وطغى في ولايته وتجبّر ، وكان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين بينوا للناس الحق والحقيقة ، وصدعوا بكلمة الحق من دون خوف أو وجل ، فعَلِمَ الحجَّاجُ بذلك ، ماذا فعل ؟ دخل إلى مجلسه وهو يتميَّز من الغيظ ، وقال لجلاَّسه : تبًّا لكم ، سُحقاً لكم ، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة و يقول ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يردُّه أو ينكر عليه ؟ والله لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع ودعا بالسياف فمَثل واقفا بين يديه ، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده ، وأمرهم أن يأتوا به ليقطع رأسه ، وينتهي الأمرُ ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ ، ووجفت عليه القلوبُ ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والسياف حرَّك شفتيه ، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلالُ المؤمن ، وعزة المسلم ، ووقارُ الداعية إلى الله ، فلما رآه الحجاجُ على هذه الحال هابه أشدّ الهيبة ، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد ، تعالَ اجلس هنا ، فما زال يوسع له و يقول: ها هنا ، والناس لا يصدَّقون ما يرون ، لقد طلب ليقتل، والنطع جاهز ، والسيَّاف واقف ، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه ، فما الذي حصل ؟ وكيف يستقبله الحجَّاج ؟ ويقول له: تعال إلى هنا يا أبا سعيد حتى أجلسَه على سريره ، ووضَعَه إلى جانبه ، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين ، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت ، وبيان ساحر ، وعلم واسع ، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد ، ثم دعا بغالية - نوع من أنواع الطيب - وطيَّب له بها لحيته ، وودَّعه ، ولما خرج الحسنُ البصري من عنده ، تبعه حاجبُ الحجاج ، وقال له: يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك ، دعاك ليقتلك ، والذي حدث أنه أكرمك ، وإني رأيتك عندما أقبلت ورأيت السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك ، فماذا قلت لربك ؟ فقال الحسن: لقد قلت: يا وليَ نعمتي ، وملاذي عند كربتي ، يا مؤنسي في وحشتي ، اجعل نقمته علي برداً و سلاماً ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم .

﴿الذين يبلغون رسالات الله ، ويخشونه ، ولا يخشون أحداً إلا الله﴾

[ سورة الأحزاب: 39]

وقد استنصح والي البصرة الحسن البصري مرة ، وقد جاءه من الخليفة توجيه إن نفذه أغضب الله ، وإن لم ينفذه أغضب الخليفة وعزله من الولاية ، قال له: اعلم أن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله .

 

2 ـ العلم :

العلم قوة
أما العلم فهو قوّة هائلة ؛ فالعلم يعطيك طاقة ، لا تتقيد بحدود الزمان أو المكان ، وتكسب صاحبها علواً ومنزلة ، وتمهّد الطريق أمامه للرفعة في الدنيا والآخرة

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾

[ سورة المجادلة : 11]

دخل سليمان بن عبد الملك الحرم ، ومعه الوزراء ، والأمراء ، والحاشية ، وقادة الجيش ، وكان حاسِرَ الرأس ، حافِيَ القدَمَيْن ، ليس عليه إلا إزارُهُ ، ورداء ، شأنُهُ كَشَأن أيّ حاجٍّ محرم من المسلمين ، ومن خلْفِهِ ولداهُ ، وهما غلامان كَطَلْعَة البدْر بهاءً ، وكأكْمام الورْد نضارةً وطيبًا ، وما إن انتهى خليفة المسلمين ، وأعظمُ مُلوك الأرض ، من الطَّواف حول البيت العتيق ، حتى مالَ على رجلٍ من خاصَّتِهِ ، وقال : مَن عالم مكة ؟ فقال: عطاء بن أبي رباح ، قال: أروني عطاء هذا ، فالتقى به ، فوجده شَيْخٌاً حبَشِيّاً ، أسْوَدُ البشَرَة، مُفَلْفَلُ الشَّعْر ، أفْطَسُ الأنف ، إذا جلسَ بدا كالغُراب الأسْوَد ، كأن رأسه زبيبة ، مشلولاً نصفه ، لا يملك من الدنيا درهمًا ولا دينارًا ، فقال سليمان: أأنت عطاء بن أبي رباح الذي طوّق ذكرك الدنيا ؟ قال : هكذا يقولون ، قال : بماذا حصلت على هذا الشرف ؟ قال: باستغنائي عن دنيا الناس وحاجتهم إلى علمي الذي انقطعت له ثلاثين عاماً ، قال سليمان : لا يفتي في المناسك إلا عطاء.
وحدث بعد اللقاء الأول أن اختلف سليمان وأبناؤه في مسألة من مسائل الحج ، فقال: خذوني إلى عطاء بن أبي رباح ، فأخذوه إلى عطاء وهو في الحرم ، والناس متحلقون حوله ، فأراد سليمان أن يجتاز الصفوف ، ويتقدم إليه وهو الخليفة ، فقال عطاء : يا أمير المؤمنين خذ مكانك ، ولا تتقدم الناس ؛ فإن الناس سبقوك إلى هذا المكان ، فلما أتى دوره سأله المسألة فأجابه ، فقال سليمان لأبنائه: يا أبنائي ، عليكم بتقوى الله ، والتفقه في الدين ، فو الله ما ذللت في حياتي إلا لهذا العبد ، لأن الله يرفع من يشاء بطاعته ، وإن كان عبدًا حبشيًّا ، لا مال ولا نسب ، ويذل من يشاء بمعصيته ، وإن كان ذا نسب وشرف... ثم قال سليمان لأحد ولديه : يا بني هذا الذي رأيْتَهُ ورأيْتَ ذُلَّنا بين يدَيْه هو وارِث عبد الله بن عبَّاس، الصحابيّ الجليل الذي أوتِيَ فهْمًا في القرآن الكريم ، وكان مَوْسوعةً في كلّ العُلوم ، ثمَّ أرْدَفَ يقول : يا بنيّ تَعَلّم العِلْم ، فَبِالعِلْم يشْرُفُ الوضيع ، وينْبُهُ الخامِل ، ويَعْلو الأرِقَّاء إلى مراتب المُلوك .
ولذلك قِيل : رُتْبةُ العِلْم أعلى الرُّتَب ، تعلَّموا العِلم ، فإنْ كنتُم سادةً فُقْتُم ، وإن كنتم وسطًا سُدْتُم ، وإن كنتم سُوقةً عِشْتُم.
وفي هذا العصر يأتمر صناع القرار في أقوى دول العالم بأولي الخبرة من العلماء ، فالعلماء في الحقيقة هم الذين يحكمون العالم .

3 ـ العبادة الخالصة :

كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، يقال له جُليبيب ، رجل فقير معدوم ، عليه أسمال بالية ، جائع البطن ، حافي القدمين ، مغمور النسب ، لا جاه ، ولا مال، ولا عشيرة ، ليس له بيت يأوي إليه ، ولا أثاث ، ولا متاع ، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين ، وينام في المسجد ، وسادته ذراعه ، وفراشه الأرض ، وكان في وجهه دمامة ، لكنه صاحب ذكر لربه ، وتلاوة لكتاب مولاه ، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات ، ولا في كل الغزوات ، ويكثر الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم
قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: يا جُليبيب ألا تتزوج ؟ فقال: يا رسول الله ومن يزوجني ؟! فقال رسول الله: أنا أزوجك يا جُليبيب. فالتفت جُليبيب إلى الرسول فقال : إذاً تجدُني كاسداً يا رسول الله.. فقال الرسول الكريم : غير أنك عند الله لست بكاسد ، ثم لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يتحين الفرص حتى يزوج جُليبيا...
جاء في يوم من الأيام رجلٌ من الأنصار ، قد توفي زوج ابنته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ليتزوجها النبي ، فقال له النبي: نعم... ولكن لا أتزوجها أنا !! فسأله الأب: لمن يا رسول الله !! فقال صلى الله عليه وسلم: أزوجها جُليبيبا.. فقال ذلك الرجل : يا رسول الله... تزوجها لجُليبيب ؟ انتظر حتى أستأمر أمها !! ثم مضى إلى أمها ، وقال لها : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إليك ابنتك ، قالت: نعم لرسول الله ، ومن يرد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال لها: إنه ليس يريدها لنفسه...!! قالت : لمن ؟ قال: يريدها لجُليبيب !! قالت: لجُليبيب ؟ لا لعمر الله ، لا أزوج جُليبيباً ، وقد منعناها فلاناً وفلاناً... فاغتم أبوها لذلك ، ثم قام ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم فصاحت الفتاة من خدرها وقالت لأبويها: من خطبني إليكما ؟؟ قال الأب: خطبك رسول الله.. قالت: أفتردان على رسول الله أمره... ادفعاني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني ! قال أبوها: نعم.. ثم ذهب إلى النبي الكريم وقال: يا رسول الله شأنك بها... فدعا النبي صلى الله عليه وسلم جُليبيبا ثم زوجه إياها ، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم كفيه الشريفتين وقال: اللهم صب عليهما الخير صباً ، ولا تجعل عيشهما كداً !! ثم لم يمض على زواجهما أيام حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة ، وخرج معه جُليبيب ، فلما انتهى القتال اجتمع الناس ، وبدؤوا يتفقدون بعضهم بعضاً ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل تفقدون من أحد ؟ قالوا: نعم يا رسول الله نفقد فلاناً وفلاناً ، ونسوا جليبيباً في غمرة الحديث ؛ لأنه ليس لامعاً ، ولا مشهوراً ، فقال صلى الله عليه وسلم: ولكنني أفقد جُليبيبا.. فقوموا نلتمس خبره ، ثم قاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال ، وطلبوه مع القتلى ، ثم مشوا فوجدوه في مكان قريب ، وقد استشهد.. فوقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام جسده المقطع ، ثم قال: أنت مني وأنا منك ، أنت مني وأنا منك.. ثم تربع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب هذا الجسد ، ثم حمل هذا الجسد ووضعه على ساعديه ، وأمرهم أن يحفروا له قبراً.. قال أنس: فمكثنا والله نحفر القبر ، وجُليبيب ماله فراش غير ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم.. قال أنس : فعدنا إلى المدينة وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب حتى تسابق إليها الرجال يخطبونها..
إن الفقر والخمول ما كان في يوم من الأيام عائقاً في طريق التفوق والوصول.
إن قيمتك أيها الإنسان في معانيك الجليلة ، وصفاتك النبيلة ، لا في درهمك ودينارك ، ولا في بيتك ومتاعك.

4 ـ الدعاء :

الدعاء قوة
هل من وضع أضعف من أن يجد الإنسان نفسه في فم حوت أزرق ؟ وبالمناسبة الحوت الأزرق يزيد وزنه عن مئة وخمسين طناً ، خمسون طناً لحماً ، وخمسون طناً دهناً ، وخمسون طناً عظماً ، ويستخرج منه تسعون برميلاً من زيت السمك ، ووجبته الصغيرة بين الوجبتين أربعة أطنان من السمك ، وإحدى رضعات وليده تزيد عن ثلاثمئة كيلو من الحليب ، ويستطيع الإنسان أن يقف على قدميه في فمه .
لو وجد الإنسان نفسه في فم الحوت كم نسبة احتمال النجاة ؟ قطعاً هي معدومة يقيناً ، لكن سيدنا يونس عليه السلام لحكمة تعليمية أرادها الله جل جلاله سمح لحوت عظيم أن يلتقم نبيه الكريم قال تعالى:

﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة الصافات: 139-144]

و قال :

﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء:87- 88]

وقد يقول قائل: إن هذا استثناء لنبي كريم ، ونقول له: هي قصة وقعت ، لكن الله جل جلاله حينما قال:

﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 88]

جعلها قانوناً ينتفع به كل المؤمنين الصادقين في كل زمان ومكان ، فالدعاء سلاح المؤمن ، فإذا أردت أن تكون أقوى الناس فادع القوي تكن قوياً .

5 ـ الاعتزاز بالله :

رستم قائد فارس ، وتحت يديه مئتان وثمانون ألفًا من الجنود ، يقول لسعد بن أبي وقاص القائد المسلم : أرسل إليَّ من جنودك رسولاً أكلمه ، فأرسل له سعدٌ رضي الله عنه رِبعيّ بن عامر ، وعمره ثلاثون عاماً ، من فقراء الصحابة ، قال له سعد: اذهب ولا تغير من مظهرك شيئًا ، لأننا قوم أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله ، فخرج ربعيّ بفرسه الهزيل ، وثيابه الرثة ، ورمحه البسيط ، فلما سمع رستم أن وافد المسلمين سوف يدخل عليه ، جمع حوله الأسرة الحاكمة ، والوزراء ، والجنود ، واستعدوا لأن يرهبوا هذا الوافد ، لعلّه يتلعثم ، فلا يستطيع الكلام ، فلما جلس رستم قال: أدخلوه عليّ ، فدخل يقود فرسه ، واعتمد برمحه على بُسُطهم ليظهر لهم أن الدنيا حقيرة ، وأنها رخيصة ، وأنها لا تساوي عند الله شيئًا ، ومن علامات رخصها وحقارتها أن الله أعطاها لمن لا يحب ، وجعل سعد بن أبي وقاص ينام على الثرى ، فلما وقف أمامه قال له رستم : اجلس ، قال ربعيّ : ما أتيتك ضيفًا حتى أجلس ، وإنما أتيتك وافدًا ، فقال رستم والترجمان بينهما : مالكم أيها العرب ، ما علمنا - وأقسم بآلهته - قوماً أذل ولا أقل منكم شأناً ، أنتم أهل جعلان تطاردون الإبل في الصحراء ، فما الذي أتى بكم ؟ قال ربعيّ: نعم أيها الملك كنا كما قلت وزيادة ، كنا أهل جهالة نعبد الأصنام ، يقتل القريب قريبه على شاة ، ولكن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة ، وللقصة تتمة... اسألوا عنها .

اجعل لربك كل عزك يستقر ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***

6 ـ الإصرار :

قال أحد الفلاسفة: إن القرار الذي يتخذه الإنسان في شأن مصيره قلّما تنقضه الأيام إن كان صادراً حقاً عن إرادة وإيمان .
روى لي عالم جليل أنه كان في صعيد مصر إنسان أمي ، في الخامسة والخمسين من عمره ؛ لا يعرف السماء من الأرض ، ولا الطول من العرض ، وقد ذهب ابنه الشاب إلى الأزهر في القاهرة ، وبعد سنوات عدة ، عاد ابنه إلى قريته خطيباً لمسجدها ، جلس أبوه في المسجد يستمع إلى خطبة ابنه ، وبدل أن يمتلئ قلبه فرحاً بما وصل إليه ابنه من علم ودعوة ، امتلأ قلبه حزناً وحسرة على عمره الذي أمضاه في الجهل والغفلة ، واتخذ قراراً مصيرياً ، وركب حمارته الهزيلة متجهاً بها من صعيد مصر إلى أزهر القاهرة ، واستغرقت الرحلة عشرات الأيام ، ولما وصل إلى القاهرة... سأل أين الأزعر ؟ فقيل له أي أزعر؟ إنه الأزهر ، فالتحق به ، وتعلم القراءة والكتابة ، ثم قرأ القرآن ، ثم طلب العلم... ومازال يطلب العلم حتى انتهى به طلب العلم إلى أن صار شيخ الأزهر ، بل ما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، وهو أعلى منصب ديني في مصر ، وشيخ الأزهر بمرتبة رئيس للوزراء .

7 ـ الجمال :

الجمال قوة وجمال المرأة أخلاقها
المرأة في الأصل جميلة ، ومحببة إلى زوجها ، وجمالها قوة كبيرة ، لا تحتاج إلى دليل ، ولا إلى شرح طويل ، ولكنها قوة حيادية ، يمكن أن توظف في الخير ، كما يمكن أن توظف في الشر ، فيمكن بجمالها أن تكون أداة إغواء ، وإفساد ، وانحلال كما ترون ، كما يمكن بجمالها أن تكون أداة ترويض ، وإصلاح ، واكتمال ، كما ترون ، وقد أدرك الغربيون هذه الحقيقة ، فكانوا يجبروننا بالقوة المسلحة على أن نفعل ما يريدون ، لكنهم الآن - من خلال البث الفضائي - يجبروننا بالقوة الناعمة أن نريد ما يريدون ، وقالوا: وراء كل رجل عظيم امرأة ، وأحياناً لولا المرأة لكان الرجل عظيماً ، إنها قوّة في الخير إذا استقامت ، وقوّة في الشر إذا انحرفت .
قال بعض أدباء مصر: إن خير النساء من تضيف إلى جمالها جمال أخلاقها ، ويكون عقلها جمالاً ثالثاً ، فهذه المرأة إن أصابت الرجل الكفء يسرت عليه ، ثم يسرت عليه، ثم يسرت عليه ، إذ تعد نفسها إنساناً يريد إنساناً ، ولا تعرض نفسها متاعاً يريد شارياً.

8 ـ العفة :

نبي كريم ابن كريم ابن كريم ، يوسف عليه السلام ، كان طفلاً أثيراً عند أبيه سيدنا يعقوب ، ائتمر إخوته عليه ، وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب ، ليتخلصوا منه - والقصة معروفة - ومرت بالبئر قافلة واستخرجته ، وباعته بثمن بخس ، وانتهى به البيع ليكون عبداً في قصر عزيز مصر ، وكان آية في الجمال ، فدعته امرأة العزيز إلى نفسها ، فاستعصم ، وقال : معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي ، وانتهى به الأمر إلى أن صار أقوى رجل في مصر ، صار عزيز مصر ، قال تعالى :

﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة يوسف:90]

﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ﴾

[ سورة يوسف:24]

9 ـ التسبيح :

التسبيح قوة وسبيل إلى الفرج من دون حاجة إلى وسائط بشرية تتقوى بها لتعينك على قضاء حوائجك ، يقول الله تعالى عن يونس في أثر قوّة التسبيح:

﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة الصافات :143-145]

10 ـ الاستغفار :

قال تعالى:

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً ﴾

[ سورة نوح : 10-12 ]

وفي حديث ابن عباس :

((من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب ))

[أبو داود عن ابن عباس]

11 ـ التقوى :

قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾

[ سورة الطلاق : 2-3]

12 ـ الاستقامة :

قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾

[ سورة فصلت : 30-32]

الشرف أن يكون الإنسان عبدًا لرب الأرض والسموات :

ومجمل القول : الشرف كل الشرف ليس في الدور ، ولا القصور ، ولا في الأموال ، ولا في الأولاد ، ولا في الهيئات ، ولا في الذوات ، الشرف أن تكون عبدًا لرب الأرض والسموات ، الشرف أن تكون ولياً من أولياء الله الصالحين ، الذين يعملون الصالحات، ويجتنبون المحرّمات ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :

 

الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإيمان قوة مطلقة :

نتابع موضوع الخطبة ، ونصل إلى حقيقة خطيرة وهي أن الإيمان قوة مطلقة ، إن لم تقطف ثماره في الدنيا قطفت في الآخرة .
ماشطة بنت فرعون هي تلك المرأة الصالحة ، التي كانت تعيش هي وزوجها في ظل ملك فرعون ، زوجها مقرب من فرعون.. وهى خادمة ومربية لبنات فرعون ، فمنّ الله عليهما بالإيمان... وعلم فرعون بإيمان زوجها فقتله ، فلم تزل الزوجة تعمل في قصر فرعون تمشط بناته ، وتنفق على أولادها الخمس ، وفي يوم من الأيام وهي تمشط ابنة فرعون ، وقع المشط من يدها فقالت: بسم الله ، فقالت ابنة فرعون : الله... أبي ؟ فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا.. بل الله ربي وربك ورب أبيك ، فتعجبت البنت أن تعبد ماشطتها غير أبيها ، فأخبرته فعجب فرعون أن يوجد في قصره من يعبد غيره ، فدعا بها ، وقال لها: من ربك ؟ فقالت: ربي وربك الله ، فاشتعل غيظاً ، وأمر بقدر من نحاس مملوء بالزيت المغلي ، وأوقفها أمام القدر ، فلما رأت العذاب ، أيقنت أنما هي نفس واحدة ، تخرج وتلقى الله تعالى ، وعلم فرعون أن لها أولاداً أيتاماً وهي تكدح لهم لتطعمهم ، فأراد أن يزيد من عذابها فأمر بإحضار أطفالها الخمس ، فلما رأوا أمهم تعلقوا بها وهم يبكون ، فانكبت عليهم تقبلهم وتبكي ، وأخذت أصغرهم وكان رضيعاً ضمته إلى صدرها ، وألقمته ثديها ، فلما رأى فرعون المنظر سأل أمهم : ألك رب غيري ؟ قالت : الله ربي وربك ، فأمر برمي أكبرهم في القدر ، فجره الجنود ، ودفعوه إلى الزيت المغلي ، والغلام يصيح بأمه ويستغيث ، ويسترحم الجنود ، ويتوسل إلى فرعون ، ويحاول الفكاك والهرب ، وينادي إخوته الصغار ، ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين ، وهم يصفعونه ويدفعونه ، وأمه تنظر إليه وتودعه ، فما هي إلا لحظات حتى ألقي الصغير في الزيت المغلي ، والأم تبكي ، وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة ، حتى ذاب لحمه من على جسده النحيل ، وطفت عظامه البيضاء فوق الزيت ، فنظر إليها فرعون ، وقال لها: ألك رب غيري ؟ قالت : الله ربي وربك ، وأمرها أن تنطق بكلمة الكفر أمرها أن تقول : أنت ربي ، فأبت عليه ذلك ، فغضب فرعون وأمر بولدها الثاني فسحب من عند أمه وهو يبكي ، ويستغيث ، وألقي في القدر ، فما هي إلا لحظات ، حتى طفت عظامه البيضاء ، واختلطت بعظام أخيه ، والأم ثابتة على دينها ، موقنة بلقاء ربها ، ثم قال لها: ألك رب غيري ؟ قالت: الله ربي وربك ، ثم أمر فرعون بالولد الثالث ، فسحب وفعل به ما فعل بأخويه ، والأم ثابتة على دينها ، فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت ، فأقبل الجنود إليه ، وكان صغيراً يتعلق بثوب أمه ، فلما جذبه الجنود بكى ، وانطرح على قدمي أمه ، ودموعه تجري على رجليها ، فحاولت أن تحمله لتودعه ، وتقبله قبل أن يفارقها، فحال الجنود بينه وبينها ، وحملوه من يديه الصغيرتين ، وهو يبكي ، ويستغيث ، ويتوسل ، بكلمات غير مفهومة ، وهم لا يرحمونه ، وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي ، وغاب الجسد ، وانقطع الصوت ، وعلت عظامه الصغيرة البيضاء فوق الزيت ، والأم تنظر إلى عظامه ، وقد رحل عنها إلى الدار الآخرة ، وهي تبكي لفراقه ، إذ طالما ضمته إلى صدرها ، وأرضعته من ثديها ، وطالما سهرت لسهره ، وبكت لبكائه ، بقي الرضيع الذي يلتقم ثديها... فجاهدت الأم نفسها أن تتجلد وتتماسك ، وهنا سألها فرعون: ألك رب غيري ؟ فسكتت ، وتضعضعت... وهنا حدثت المعجزة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أنطق الله هذا الرضيع فقال: اثبتي يا أمي... أنت على الحق... - ورد هذا في فتح الباري في شرح صحيح البخاري - فقالت الأم لفرعون : الله ربي وربك ، فأمر فرعون الجنود ، فانطلقوا إليها ، وتدافعوا نحوها ، وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها ، وكان قد التقم ثديها ، فلما انتزع منها صرخ ، وبكت المسكينة ، وألقي في الزيت ، وفي فمه بقايا من حليبها ، وفي يده شعرة من شعرها ، وعلى ثيابه بقية من دمعها ، وذهب الأولاد الخمس، وبعد قليل ستكون معهم ، ولم يبق إلا هي فأقبلوا إليها كالكلاب الضارية ودفعوها إلى القدر ، فلما حملوها ليقذفوها في الزيت نظرت إلى فرعون وقالت له : اجعل عظامي وعظام أولادي في قبر واحد ، كانت هذه الماشطة تستطيع أن تحول بينها وبين هذا العذاب الذي لا يحتمله بشر بكلمة كفر تسمعها لفرعون لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى... فلله در هذه الماشطة.. فما أقوى إيمانها ، وما أعظم ثباتها ، وحينما لا يملك الإنسان سلاحاً يحمي به نفسه ، أو يواجه به عدوه ، يثبت على مبدئه ولا يتضعضع أمام الطغيان ، يكون قد انتصر انتصاراً مبدئياً ، يقطف ثماره في اليوم الآخر .
ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيم هذه الماشطة فحدث أصحابه به وقال :

(( لما أسرى بي مررت برائحة طيبة - لم أشم مثلها قط - ، فقلت ما هذه الرائحة يا جبريل ؟ فقال لي: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها))

[مسند البزار عن ابن عباس ]

وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما - أي ما بين المشرق والمغرب - ولملأته ريحاً ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ))

[البخاري عن أنس ]

معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية :

لنا أن نستنبط من هذه القصة الشيء الكثير ، ولنا أن نأخذ منها إسقاطات كثيرة على واقع العرب والمسلمين ، والفراعنة الذين تآمروا على الأمة العربية والإسلامية كثيرون، وهم في كل عصر ومصر ، فمعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، ولعل في هذه القصة مواساة لمن يقتل مقهوراً ثابتاً على مبدئه ، متمسكاً بقيمه .

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران: 139]

قال تعالى:

﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾

[ سورة القصص:4-6]

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[ سورة يونس:90]

﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾

[ سورة غافر:45-46]

هذه قصة الطغاة في الأرض .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور