وضع داكن
23-04-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 12 - حلاوة الإيمان 1 المؤمن مطمئن بالله ربا .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ عدنان:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، و يسرنا أن نلتقي اليوم مع سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، أهلاً و مرحباً.
الدكتور راتب:
أهلا بكم يا سيدي.
الأستاذ عدنان:
تعلمون أن الإنسان المؤمن يجد حلاوة في نفسه ضمن حياته التي يعيشها، إن كانت في كل أشكالها لا يجد مثل هذه الحلاوة إنسان آخر، ذلك أنه مطمئن بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، ومطمئن بأنه على الإيمان، ويرجو الله تعالى أن يستمر على الإيمان، ويكره أن يعود إلى تراجعٍ في هذا الإيمان، كما يخاف أن يقذف في النار، هذه أشياء خاصية في شخصية المؤمن لا نجدها في غيره، وهذه ناحية تعطي حياته التي يعيشها رونقاً خاصاً لا يجده غيره في المعتقدات الأخرى، إلى جانب هذا أن الدار الآخرة ستكون له بإذن الله تعالى، هذه الأمور إذا أردنا أن نستطلع انعكاساتها على شخصية الإنسان الذي آمن بالله رباً، وبمحمد عليه الصلاة والسلام نبياً، وآمن بالإيمان، وتبعه بكل ما فيه من دعوة، ومن أوامر، ومن نواه التزم أن ينتهي عنها، وما إلى ذلك، كيف تكون حياته التي يعيشها ؟
الدكتور راتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله و صحبه أجمعين.
أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً، هذه المعاني الذي تفضلت بها مندرجة في حديث ورد في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ))

[ متفق عليه ]

في هذا الحديث الشريف كلمات يجب أن نقف عندها، من هذه الكلمات حلاوة الإيمان، فرق كبير بين حقائق الإيمان وحلاوة الإيمان، أي إنسان آتاه الله فكراً ووقتاً وطاقة على متابعة العلوم يمكن أن يطلع على حقائق الإيمان، ولكن لا ينتفع منها إلا بشروط.
حقائق الإيمان لتقريب الفكرة من الإخوة المشاهدين كخارطة لقصر مبنية على أدق القواعد الهندسية، يمكن أن ترى في هذه الخارطة مساحات الغرف، ومساحات الشرفات، ومساحة الحديقة، وأين تقع الخدمات في هذا القصر، هذا كله مبني على حسابات دقيقة، وقام بها مهندسون مهرة، ولكن أن تملك خارطة لقصر، ولا تملك كوخاً شيء، وأن تملك هذا القصر، وأن تسكنه شيء آخر، فحلاوة الإيمان أن تسكن في هذا القصر، أو لو أنك اطلعت على صورة لمركبة فارهة جداً، ونظرت إلى فرشها من الداخل، وإلى خطوطها الانسيابية، وإلى ألوانها الرائعة، وإلى ميزاتها من خلال تعليمات، ومن خلال نشرات، هذه حقائق الإيمان، أما أن تمتلك هذه المركبة، وتركبها حلاوة الإيمان، فشتان بين حقائق الإيمان وحلاوة الإيمان.
الإنسان إذا أكرمه الله بحلاوة الإيمان هو إنسان آخر، لابد من أن تنعكس جميع مقاييسه، يبني حياته على العطاء بعد أن كانت مبنية على الأخذ، يبني حياته على بذل الجهد بعد أن كان يستهلك جهود الآخرين، يبني حياته على تقديم شيء ثمين للبشرية بعد أن كان عبئاً عليها، حلاوة الإيمان تجعل المؤمن إنساناً آخر، المؤمن شخصية فذة لها مرتبة خلقية، ومرتبة علمية، ومرتبة جمالية، فهناك منظومة قيم تحكم المؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان، وهناك حقائق توصل إليها المؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان، وهناك أذواق جمالية يتمتع بها المؤمن الذي ذاق حلاوة الإيمان، نحن في حياتنا ما يسمى اللذات، وفي حياتنا ما يسمى السعادة، والحقيقة أن هناك فرقاً كبيراً بين اللذات وبين السعادة، فاللذات طبيعتها حسية، وتأتيك من الخارج، لابد من بيت جميل، من مركبة فارهة، من امرأة، من حديقة غناء، من طعام نفيس، لذات الحياة تأتيك من الخارج، وتحتاج إلى أموال طائلة، هذه لا تحصل إلا في وقت متأخر من الحياة، والشيء الطريف أن اللذات تحتاج إلى شروط ثلاثة، الشرط الأول تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى صحة، وتحتاج إلى مال، ولحكمة أرادها الله عز وجل دائماً الإنسان تنقصه إحدى هذه الشروط، ففي بداية حياته الصحة موجودة، والوقت موجود، وليس هناك مال، في منتصف الحياة الصحة موجودة، والمال موجود، وليس هناك وقت، منغمس في تأسيس عمل، بعد أن تتقدم به السن، ويسلم العمل إلى أولاده المال موجود، والوقت موجود، لكن ما ليس هناك صحة، فإذا أردنا لذات الحياة فحياتنا منغصة، فقد قال تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾

[ سورة طه: 124]

فاللذات طبيعتها حسية، ولا تأتي إلا من الخارج، ولا تحصل بشكل كامل إلا بشق الأنفس، ولحكمة أرادها الله يعقبها كآبة، وقوة التأثر بها متراجعة، لا يمكن لشيء من حطام الدنيا أن يمدك بسعادة بشكل مستمر، مستحيل وألف ألف مستحيل، والناس يعرفون هذه الحقيقة.
الأستاذ عدنان:
هنا في الحقيقة دكتور أشرت إلى ناحية هامة جداً، إذا ما شرحناها أكثر، أو توقفنا عندها بشكل أدق يمكن أن تفيد الإخوة المشاهدين، اللذات الحسية كما ذكرتم تأتي من الخارج، وهي غير متوفرة في الأحوال كلها، إنما إن توفرت، وإن اجتمعت عندما يحصل عليها الإنسان فإنه من خلال أنها حسية، يطلب المزيد منها، وقد يتوفر هذا المزيد، وقد لا يتوفر، فإن لم يتوفر شعر بالكآبة التي ذكرتها، وإن توفرت فإنه يطلب المزيد ثانيةً وثالثة، ولا يحصل على هذا المزيد، في النهاية سيكون في حالة الكآبة، وقد يكون الإنسان يملك هذه اللذات التي تتحقق له، فإذا ما أصابه عارض في الدنيا وقف ونظر إلى موقع أقدامه، فعرف أنه على لا شيء.
الدكتور راتب:
هذا المعنى أشار إليه الإمام البوصيري رحمه الله تعالى قال:
فلا ترم بالمعاصي كسر شهوتها إن الطعام يقوي شهوة النهم
فهذه اللذات قوة تأثيرها متناقص لحكمة أرادها الله عز وجل، وليس في الدنيا شيء على الإطلاق يمكن أن يمدك بإحساس بتفوق مستمر، إلا أن هذه اللذات إذا كانت بعيدة عن منهج الله عز وجل تعقبها كآبة، وهذه الكآبة قد تنتهي مع الموت، وبعد الموت إلى عذاب لا يحتمل، أما السعادة فهذه تنبع من الداخل، ويملك أسبابها كل إنسان، وهي متنامية، وإذا رضي الله عز وجل عن هذا العبد الذي خطب ود الله عز وجل فربما جعل هذه السعادة متصلة بنعيم الآخرة، فشتان بين اللذات وبين السعادة، فالسعادة التي يحسها المؤمن، والذي قال عنها بعض العارفين بالله: " لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف "، هذه السعادة هي أحد بنود حلاوة الإيمان.
من بنود حلاوة الإيمان هذا الشعور بالأمن الذي يتمتع به المؤمن، وأنا أصر على أن الشعور بالأمن الحقيقي خاص بالمؤمن، لقول الله عز وجل:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)﴾

[ سورة الأنعام: 81-82]

لم يقل: أولئك الأمن لهم، لو قال: أولئك الأمن لهم لكان لهم ولغيرهم، أما حينما قدم الجار والمجرور على الاسم المرفوع فصار المعنى الأمن خاص بهم وحدهم، وقد قالوا: أنت من خوف الفقر فقر، لو كنت تملك المليارات فالخوف من الفقر أنت في فقر، فأنت من خوف المرض في مرض، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها، فمن خصائص حلاوة الإيمان التمتع بنعمة الأمن، لأن هذا المؤمن يرى أن الأمر كله بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يمنحه سعادة من دون شروط مادية، فمن بنود حلاوة الإيمان الشعور بالأمن، وهذا من خصائص المؤمن، الأمن الحقيقي.
الأستاذ عدنان:
بواعث هذا الأمن دكتور، إذا رأيت إنساناً عادياً، وقلت له: يجب أن تشعر يا هذا بالأمن الداخل، ينطلق من داخلك لا من خارجك، ينطلق من ذاتك لتشعر بأنك إنسان قد استخلفه الله في الأرض، ما هي بواعث هذا الأمن ؟
الدكتور راتب:
التوحيد، لأنه ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، يكفي أن تتوهم أن أمرك بيد عدو لك، وأنه أقوى منك، وأنه يتمنى أن يهلكك، هذا الشعور وحده يحطم حياة الإنسان، أما يكفي أن تشعر أن أمرك بيد الله ؟ وأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يسلمك إلى أحد ؟ وأن الأمور كلها بيد الله ؟ قال تعالى:

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة هود: 123]

﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾

[ سورة الفتح: 10]

﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف: 26]

وأن الله في السماء إله، وفي الأرض إله، وبيده مقاليد السماوات والأرض، وأن قضية الأعمار والأرزاق بيد الله وحده، لذلك إن كلمة الحق لا تقرب أجلاً، ولا تقطع رزقاً، حينما تشعر أن الأمر بيد الله، وأن الله سبحانه وتعالى معك، قال تعالى:

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

[ سورة طه: 123]

لا يضل عقله، ولا تشقى نفسه، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فمن بنود حلاوة الإيمان هذا الشعور بالأمن الذي سألتم عن بواعثه، وكان التوحيد والإيمان الحقيقي هو من بواعثه، وأن إبليس بمعنى أو بآخر يقول الله عزوجل عنه:

﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾

[ سورة ص: 82]

إذ يقول الله عز وجل :

﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ﴾

[ سورة الأعراف: 12]

آمن بالله رباً، وبالله عزيزاً، وآمن بالله خالقاً، وآمن بالآخرة، قال تعالى:

﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾

[ سورة الأعراف: 14]

ولكن هذا الإيمان الذي لا يرافقه طاعة لله عز وجل لا تقطف ثماره، لذلك قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[ سورة النساء: 136]

ما كل إيمان ينجي صاحبه، هذا البند الثاني.
البند الأول: أن من حلاوة الإيمان الإحساس بالسعادة الحقيقة المتنامية.
ومن بنود حلاوة الإيمان: الشعور بالأمن.
ومن بنود حلاوة الإيمان: السكينة، فهذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، وجدها أهل الكهف في الكهف، وجدها سيدنا إبراهيم في النار، وجدها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ:

(( لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ؟ ))

[متفق عليه]

فمن بنود حلاوة الإيمان السكينة، وهذه السكينة عطاء من الصعب أن نتصوره، إذا كان الله معك فمن عليك، وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك، وماذا وجد من فقدك ؟
ومن بنود حلاوة الإيمان والحكمة.
الأستاذ عدنان:
قبل أن ننتقل إلى موضوع الحكمة، مما أشاهد، ومما أسمع من خلال الناس، وباللقاء بهم هذا الكلام الذي تتحدثون به كلام جميل، وفعلاً تاريخنا كان يمتلئ بمثل هذه الشخصيات التي نضحت بحلاوة الإيمان والأمن والسعادة الداخلية، لكن في مجتمعاتنا الحالية هل ترى من نجده على هذه الشاكلة يكون منطلق ذلك الإيمان والعبودية لله تعالى، أم أن شخصية هذا الإنسان ضعيفة، ومن خلال ضعفها تستسلم لكل شيء، فتقول: ماشي الحال كما، يقال بالعامية ؟ هناك فارق كبير.
الدكتور راتب:
أرى أن الطرف الآخر إذا لم يكن على منهج الله ملتزماً يختل توازنه الداخلي، لأن فطرة الإنسان متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله، فلمجرد أن يعصي الإنسان الله عز وجل، أو لمجرد أن يخرج عن مبادئ فطرته، وكلا الأمرين واحد، إما عن وعي وإدراك، تعرف أن هذا الأمر إلهي، وتعصيه فهذه حالة، أو أنك تخرج عن مبادئ فطرتك، في كلا الحالين يختل توازن الإنسان، والإنسان في علم النفس حينما يختل توازنه يحاول أن يستعيد هذا التوازن، هناك طرائق ثلاثة لاستعادة هذا التوازن، الطريق الأول أن يرجع إلى الله، لكن الطريق الثاني والثالث طريقان إبليسيان يطعن في الآخرين، أو يتعلق بعقيدة فاسدة، فمن أجل أن يستعيد العاصي توازنه، ومن أجل أن يستعيد الذي خرج من مبادئ فطرته توازنه يتهم كل من تفوق عليه في الدين، أو في الخلق، أو في أي مجال آخر، هذا الاتهام دون أن يشعر وسيلة من وسائل الدفاع عن النفس، الطالب المقصر إذا سئل عن وظيفته يقول: لم نكتب الوظيفة، يا بني أنت طالب واحد، لماذا قالها في صيغة الجمع ؟ ليوسع دائرة التقصير، فيرتاح، فالإنسان حينما يختل توازنه، ويعصي ربه يريد أن يجعل هذا الفساد عاماً، لذلك يتهم كل الصالحين دون أن يشعر، هذا في عقله الباطن، فالإنسان حينما ينحرف، وحينما يخرج عن مبادئ فطرته، وحينما يعصي ربه يختل كل توازنه، وبدل أن يستعيد هذا التوازن بتوبة نصوح يستعيد هذا التوازن بالطعن في المتفوقين، يقول: هذا أبله، مثلاً، هذا درويش، بالتعبير العامي، لكن لو علم أن هذا الذي يتهمه ضيق الأفق، وأنه لا يعلم ما الحياة، لو كشف الغطاء لاختل توازنه مرةً ثانية، أو أن هذا الذي اختل توازنه يستعيد هذا التوازن بطريقة أخرى، أن يتعلق بعقيدة زائغة غير صحيحة، كأن يقول: هناك من يشفع لنا يوم القيامة، المفهوم الساذج، مع أنه غاب عنه قول النبي في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:

(( قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ))

[متفق عليه]

إذاً من بنود حلاوة الإيمان السعادة الحقيقة التي يملك كل منا أسبابها، والتي قد تنتهي بالجنة، وهي متنامية، وليست متناقصة، ومن بنود حقائق الإيمان هذا الشعور بالأمن، الحقيقة قال تعالى:

﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾

[ سورة التوبة: 51]


فإذا كنت مع الله كان الله معك، وقد قال العلماء: معية الله الخاصة شيء، ومعيته العامة شيء، فإذا قال الله عز وجل:

﴿ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ ﴾

، معكم بعلمه، أما إذا قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

فهذه معية خاصة، تعني أنه معهم بالتأييد، معهم بالنصر، معهم بالتوفيق، معهم بالحفظ، وحينما تشعر أن خالق السماوات والأرض معك فهذا الشعور يعطيك دفعاً إلى الأمام يصعب تصوره، فكيف إن كان العكس.
الأستاذ عدنان:
يشعر الإنسان بهذه الناحية التي تفضلت بها، يشعر بالأمن والأمان، إلى ما ذلك، لكنه في الحقيقة نزلت به نازلة كيف يكون وضعه ؟
الدكتور راتب:
هنا إن شاء الله في لقاءات قادمة نتحدث عن أنواع المصائب، مصائب المؤمنين ليست كمصائب الشاردين، مصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع، قال تعالى:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 155]

مصائب الشاردين مصائب قصم وردع، ومصائب المؤمنين مصائب دفع ورفع، ومصائب الأنبياء مصائب كشف، ينطوون على كمالات لا يمكن أن تظهر إلا بظروف خاصة، فالمصائب متنوعة، وإن شاء الله في ندوة قادمة أتحدث بشكل تفصيلي عن أنواع المصائب، فالمؤمن مصائبه من نوع آخر، لذلك عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( عَجِبْتُ لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، وَكَانَ خَيْرًا ))

[ مسلم، أحمد، الدارمي ]

وقد قال تعالى:

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾

[ سورة لقمان: 20]

قال بعض علماء التفسير: " النعم الباطنة هي المصائب "، وقد قال بعض علماء القلوب: " ربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك "، وحينما تفهم على الله عز وجل يكون المنع أحياناً عين العطاء، لذلك هذا الكلام كله يلخص بآية واحدة:

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[ سورة البقرة: 216]

لو تابعنا بنود حلاوة الإيمان، من هذه البنود الحكمة، أنا أرى أن الحكمة عطاء عظيم، ذلك أن الإنسان من غير حكمة يفقد أصدقاءه، من غير حكمة يفقد الزوجة من الدرجة الأولى، من غير حكمة يبدد ماله، من غير حكمة يدمر نفسه، نحن حينما ندعو، ونقول: اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، الإنسان أحياناً بتدبيره يدمر نفسه، وأنا أعتقد أنه مهما كان المرء ذكياً فإن كان مقطوعاً عن الله عز وجل حجبت عنه الحكمة، فيفعل أفعالاً، ويرتكب حماقات الطفل الصغير بعيد عنها، وهناك شواهد لا تعد ولا تحصى من خلال هذه الحقيقة، والشيء الذي ينظم هذه الفكرة قوله تعالى:

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾

[ سورة محمد: 1]

لذلك أعظم عطاء من الله عز وجل بأن يلهم المؤمن الحكمة، فبالحكمة يسعد بزوجة من الدرجة العاشرة، وبالحكمة يجعل أعداءه أصدقاء، وبالحكمة ينفق ماله القليل في شأن كبير، وبالحكمة يوظف وقته الضيق في عمل مفيد، وأنا لا أرى أن في الحياة عطاءً يزيد على عطاء الحكمة، وهذه خاصة بالمؤمن، وأما غير المؤمن فلا بد من أن يرتكب حماقة، مع أنه قد يكون في أعلى درجات الذكاء، لذلك لا ينفع ذا الجد منك الجد، يعني يا رب، الذكي معك لا يفلح، لكن يفلح معك المستقيم الذي أحبك، واستقام على أمرك، فهذه الحكمة هي ضالة المؤمن، هذه الحكمة هي عطاء كبير لهذا المؤمن.
حلاوة الإيمان، لابد من توضيح ببعض الأمثلة.
امرأة أنصارية بلغها أن النبي عليه الصلاة والسلام أصابه شر، فانطلقت إلى ساحة المعركة، في معركة أحد، فإذا بها تجد أباها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله ؟ ثم وجدت ابنها مقتولاً، تقول: ما فعل رسول الله ؟ ثم وجدت أخاها مقتولاً، فلما رأت النبي عليه الصلاة والسلام، وقرت عينها، قالت: يا رسول الله كل مصيبة بعدك جلل.
سيدنا الصديق أنفق كل ماله قال: يا أبا بكر ماذا أبقيت ؟ قال: أبقيت الله ورسوله، المؤمن حينما يشعر بحلاوة الإيمان يقدم الغالي والرخيص والنفس والنفيس.

 

فلو شاهدت عيناك من حـسننا       الذي رأوه لما وليت عنا  لغيرنـا

ولو سمعت أذناك حسن خطابنا       خلعت عنك ثياب العجب وجـئتنا

و لو ذقت من طعم المحبة ذرة       عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنـا

و لو نسمت لنا من قربك نسمة       لـمت غريباً واشتياقاً لقربنـــا

و لو لاح من أنوارنا لك لائـح      تركت جميع الكائنات لأجلنـــا

فما حبنا سهل ، و كل من ادعى      سهولـــته قلنا له : قد جهـلتنا

فأيسر ما في الحب بالصب قتله      وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا

فأيسر ما في الحب بالصب قتله وأصعب من قتل الفتى يوم هجرنا
الأستاذ عدنان:
الحقيقة ذكرتني بأشياء في الشعر كثيرة، لكن الوقت يداهمنا، لذلك نتابع هذا الموضوع أو غيره في حلقات قادمة بإذن الله.
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور