وضع داكن
28-03-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 10 - سيدنا عمر بن الخطاب 1 القرابة من عمر مسؤولية .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ عدنان:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج الفقه الحضاري في الإسلام، ويسرنا أن نلتقي اليوم مع سماحة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي الأستاذ في كلية التربية جامعة دمشق، وخطيب جامع الشيخ عبد الغني النابلسي، أهلاً و مرحباً.
الدكتور راتب:
شكراً أستاذ عدنان، جزاكم الله خيراً.
الأستاذ عدنان:
إن من الرجال رجالاً تبقى أسماؤهم حية شامخةً، وإن مضى الدهر عليهم والدهور، وإن من الناس أناساً يموتون وهم أحياء، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم ترك لنا رجالاً ما تزال سيرتهم العطرة تملأ الأجواء والأكوان، أبو بكر الصديق هو الصديق، خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفاروق، عثمان هو المتصدق المبتهل الذي كان ينفق أمواله في سبيل الله، الإمام علي هو بطل الإسلام، وعالمه، وفقيهه، وجاء من بعدهم أناس أيضاً ورجال أئمة في الخير والتقى، والاجتهاد والعمل أيضاً، فكانوا بحق كالملائكة، ولكن في قوالب آدميين، سيرتهم نحتذي بها، وأخبارهم نفتخر بها أيضاً، إذا أردنا أن نتوقف عند شخصية من تلك الشخصيات العظيمة التي نرفع بها رؤوسنا إلى السماء نقية ناصعة بيضاء، من جملة هؤلاء الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، هذا الذي كان يقف على الجبل، وينظر إلى الوادي من تحته، ويذكر أنه كان يرعى لأبيه، وكان يوسعه تأنيباً أحياناً أو شدة، وما إلى ذلك، ويتحدث مخاطباً نفسه هو الذي كان يرعى ما يرعى، ثم صار رعيته أمة محمد عليه الصلاة والسلام عندما صار أميراً للمؤمنين، هذه الشخصية بقدر ما فيها من العنف في الجاهلية هي فيها من الرقة والشعور المرهف في الإسلام مع البقاء على قوته ورجولته، إذا تطلب الموقف ذلك، إذا أردنا أن نخوض في تاريخ هذا الإنسان، سيرته، أعماله يمكن أن نستفيد منه في واقعنا، فماذا يمكن أن نقول ؟ والمحطات كثيرة، والشواهد عديدة ؟
الدكتور راتب: إن شاء الله تعالى، جزاكم الله عنا خيراً.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام ربى أبطالاً، فكان عهده بحق عهد البطولات، من هؤلاء الأبطال الأفذاذ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
تعقيباً على ما تفضلتم به أنه كان مرة يخطب، فقطع خطبته، وقال: يا عمر، كنت راعياً لإبل على قراريط لأهل مكة، ثم تابع الخطبة، فلما نزل تعجب أصحابه من قطع خطبته، وهذه الكلمة التي لا علاقة لها بسياق الخطبة، جملة اعتراضية، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: جاءتني نفسي، وقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد، فأردت أن أعرفها قدرها.
فكان على تفوقه وعلى عبقريته متواضعاً أشد التواضع، الحقيقة في هذا اللقاء الطيب أتمنى أن يكون محور هذا اللقاء لقطات من سيرة هذا الخليفة العظيم الراشد، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ))

[الترمذي وأبو داود وأحمد]

سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عين والياً، وأراد أن يمتحنه، قال: " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال: أقطع يده، بحسب الآية الكريمة، قال: إذاً فإن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم ـ دقق أستاذ عدنان، إشارة إلى حق العمل ـ لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفيناهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلها بالمعصية ".
نظرة بعيدة، ورأي ثاقب، أن الإنسان حينما يعمل يتألق، وحينما لا يعمل ينحرف، والحقيقة أن العالم الغربي الآن أكبر مشكلة تقلق المجتمع البطالة، وفي العالم الثالث بطالة وبطالة مقنعة، فالإنسان حينما يعمل يتألق، وحينما يعمل يؤكد ذاته، فحينما يعمل يتزوج، وحينما يتزوج يحل مشكلة فتاة، وحينما تؤسس أسرة يشعر بالمسؤولية والأهمية، أدرك هذا الخليفة العظيم أن العمل حق لكل إنسان، قال: " إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلها بالمعصية ".
الحقيقة أيضاً أنت حينما توفر للإنسان رغيف خبزه وكرامته تأخذ منه كل شيء، أنا أقول: أعطِ الإنسان رغيف خبزه، يعني أعطه حاجاته الأساسية، وأعطه كرامته، وخذ منه كل شيء، يكمل هذه القصة أو هذا التوجيه والامتحان أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه جبلة بن الأيهم مسلماً، وهو ملك الغساسنة، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه رحب به، والنبي عليه الصلاة والسلام طلب النخبة، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ، بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إِلَيْهِ عُمَرُ ))

[الترمذي، ابن ماجه، أحمد]

رحب به على أنه ملك، وأحسن وفادته، جبلة بن الأيهم في أثناء طوافه حول الكعبة بدوي من فزارة داس طرف ثوبه، فانخلع ثوبه عن كتفه، وهو ملك، ولا يزال في عزة الملك، فالتفت إلى هذا البدوي من عامة الناس، من سوقة الناس، من دهمائهم فضربه ضربةً هشمت أنفه، فما كان لهذا البدوي إلا أن يذهب على عمر ليشتكي، سيدنا عمر استدعى جبلة، وأحد الشعراء المعاصرين صاغ الحوار شعراً فقال عمر:
أصحيح ما ادعى هذا الفزاري الجريح
فقال جبلة:
لست ممن ينكر شيًّا
أنا أدبت الفتى أدركت حقي بيدي
قال عمر:
أرضِ الفتى، لابد من إرضائه
ما زال ظفرك عالقاً بدمائه
أو يهشمن الآن أنفك
يخاطب ملكاً:
وتنال ما فعلته كفك.
فقال جبلة:
كيف ذاك يا أمير المؤمنين ؟
هو سوقة، وأنا عرش وتاج
كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضاً ؟
يقول له عمر:
نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها
وأقمنا فوقها صرحاً جديداً وتساوى الناس أحراراً لدينا وعبيداً.
فقال جبلة:
كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعزّ
أنا مرتدٌ إذا أكرهتني.
فقال عمر:
عنق المرتد بالسيف تحز
عالَم نبنيه كل صدع فيه بشبا السيف يداوى
وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى.
هذا البدوي من عامة الناس، من طبقة الدهماء، من سوقة المجتمع، استطاع أن يأخذ حقه من علية القوم، إذاً كما قلت قبل قليل: حينما تعطي الإنسان رغيف خبزه، أي حاجاته الأساسية وكرامته تأخذ منه كل شيء، لذلك علق بعضهم على هذه القصة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضحى بملِك، ولم يضحِّ بمبدأ، وفي المجتمعات كلما عظم المبدأ صغر الشخص.
الأستاذ عدنان: قد يقول قائل: إنه ضحى بالكبير من أجل الإنسان الصغير، إن صح القول، ولكن هذا إنما من أجل المبدأ.
الدكتور راتب: العدل أساس المُلك، يروى أن مجموعة غلمان كانوا في طرق المدينة، فرأوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان ذا هيبة، فلما رأوه تفرقوا إلا واحداً بقي واقفاً، رابط الجأش، ولكن بأدب، فلفت نظره، قال: يا غلام لمَ لمْ تهرب مع من هرب ؟ قال: أيها الأمير، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك، هذا الطفل رسم منهجاً لأمة، لستَ ظالماً فأخشى ظلمك، ولستُ مذنباً فأخشى عقابك، والطريق يسعني ويسعك.
الأستاذ عدنان: دكتور، هنا لابد من أن أتوقف عند ناحية أتصورها هامة بالنسبة لجيل الأطفال الذين يجب أن نعودهم على الشجاعة الأدبية، وهذا المثل الذي ذكرته يوضح الشجاعة الأدبية في أجمل صورها، إذ يجب أن يكون الطفل مهيئاً لها، لا أن يكون مثلاً صفيقاً وقحاً، ولا أن يكون ضعيفاً منهزماً متراجعا.
الدكتور راتب: لذلك يعد احترام شخصية الطفل أحد مبادئ التربية الأساسية، لأن الطفل حينما يقمع، وحينما يمنع من التصرفات السليمة تضعف شخصيته، ويصاب بعقد كثيرة جداً، لذلك النبي e يقول:

(( علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف))

[رواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة]

وفي سيرته e العطرة مواقف كثيرة تؤكد احترام شخصية الطفل، كان إلى يمينه طفل صغير، فجاءت الضيافة، فبحسب السُّنة يبدأ بمن على يمين رسول الله، استأذن النبي e هذا الغلام أن يضيف من هو أكبر منه سناً، فلم يوافق، فأقر النبي عليه الصلاة والسلام موقف الغلام، وإصراره على أن يشرب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا من احترام شخصية الطفل، والحقيقة أنا أرى أن القدوة عامل أساسي جداً في التوجيه.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته، وقال: " إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله، لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني "، التعليق اللطيف فصارت القرابة من عمر مصيبة،وايم الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني، التعليق اللطيف: فصارت القرابة من عمر مصيبة.
يروى أنه رأى إبلاً سمينة فقال: " لمن هذه الإبل ؟ قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، وقد غضب، فلما جاء ابنه عبد الله، ورآه غاضباً عجب، قال: لمَن هذه الإبل ؟ قال: هي لي يا أبت، اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى المرعى لتسمن، فماذا فعلت ؟ يعني أية مخالفة ارتكبتها ؟ فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابنه: ويقول الناس: ارعوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين.
الأستاذ عدنان: ولا يسمن غيرها طبعاً.
الدكتور راتب: قال: بِعْ هذه الإبل، وخذ رأس مالك، ورد الباقي إلى بيت مال المسلمين.
الأستاذ عدنان: هذه ناحية هامة جداً.
الدكتور راتب: خذ رأس مالك، ورد الباقي إلى بيت مال المسلمين، إنها سمنت، لأنك ابني.
الأستاذ عدنان : وحق للناس إذاً أن يبتعدوا عن القرابة منه.
الدكتور راتب: هذا إدراك دقيق جداً لخطورة القدوة في المجتمع، كان إذا أراد إنفاذ أمر جمع أهله وخاصته، وقال: إني قد أمرت الناس بكذا، ونهيتهم عن كذا، والناس كالطير، إن رأوكم وقعتم وقعوا، وايم الله لا أوتين بواحد وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني.
يروى أن الذين جاؤوا، بكنوز كسرى، ووضعوا الكنوز أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عجب من أمانتهم جاؤوا بأموال طائلة، جاؤوا بمجوهرات جاؤوا بالذهب حملوه بدقة بالغة إلى المدينة، فقال عمر: سبحان الله ! فهمّ عليه سيدنا علي كرم الله وجهه، وقال: يا أمير المؤمنين، أعجبت من أمانتهم ؟ لقد عففت فعفوا، ولو وقعت لوقعوا، كان قدوة، ومن السهل جداً أن تنطق بكلام مقبول، لكن ليس من السهل أن تكون في مستوى كلامك، فعملاق الإسلام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه سِرُّ بطولته أنه طبق في حياته ما قاله للناس، عففت فعفوا، ولو وقعت لوقعوا.
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاءه رسول عامله على أذربيجان، وهذا ملمح لطيف، أن الدعوة الإسلامية في عهد عمر وصلت إلى أذربيجان، ومع هذا الرسول هدية ثمينة، وصل على المدينة في منتصف الليل، فكره أن يطرق باب عمر، فتوجه إلى المسجد، فإذا في المسجد رجل يبتهل إلى الله، ويقول: يا رب، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي، أم رددتها فأعزيها ؟ قال له بعد أن انتهى من صلاته: من أنت يرحمك الله ؟ قال: أنا عمر، قال: يا سبحان الله ؟ قال: إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، وبعد أن صلوا الفجر أخذه إلى بيته، وخيره بين أن يأكل مع فقراء المسلمين، وبين أن يأكل في بيته، فهذا الرسول بحسب المألوف أن طعام الأمير نفيس جداً، فاختار أن يأكل في بيت عمر، فقال: يا أم كلثوم، ماذا عندك من طعام ؟ قالت: والله ما عندنا إلا خبز وملح، فقال: هاته لنا، وكان فقراء المسلمين يأكلون اللحم، فأكل، وشرب، وحمد الله على أن أطعمه، وسقاه، وقال: ما خطبك ؟ قال: جئت بهذه الهدية من عاملك على أذربيجان، فتح الهدية، فإذا هي طعام نفيس، أكل لقمة، فقال: يا هذا، أيأكل عامة المسلمين هذا الطعام ؟ قال: لا، قال: إنه طعام الخاصة، يعني طعام الأغنياء، فلفظ اللقمة من فمه، وقال: لا آكل إلا مما يأكل منه فقراء المسلمين، وكأنه عنف واليه على أذربيجان، وقال: كيف يعنيك ما يعنيهم إن لم تأكل مما يأكلون ؟
الحقيقة ثمة بطولات لا يصدقها العقل، كان من الزهد بمكان.
الأستاذ عدنان: هنا نستطيع أن نعلق قائلين: ولهذا انتشر الإسلام انتشاراً سريعاً، وبشكل سلمي في هذه البقاع التي انتشر فيها ليس هنا في أذربيجان كما قلت، إنما في بقاع كثيرة من العالم، انتشر الإسلام من خلال أن رأى الناس قدوةً يمكن أن يقتدي بها، وكانوا هم المسلمين.
الدكتور راتب: سيدي، أنا كنت أقول دائماً: لو فهم الصحابة الكرام الإسلام كما نفهمه نحن والله الذي لا إله إلا هو ما خرج الإسلام من مكة، لقد وصل إلى أطراف الدنيا، وصل إلى الصين شرقاً، وإلى المغرب غرباً، لأنه مجموعة قيم مارسها الصحابة الكرام، فلفتوا أنظار الناس، سهل جداً أن تتكلم بالقيم، ولكن البطولة أن تكون في مستواها، كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحق قدوة لمن حوله، من تواضعه الشديد أنه حينما تسلم الخلافة بعد سيدنا أبي بكر رضي الله عنه نزل درجة، لم يقف على الدرجة التي وقف عليها أبو بكر، فقال: ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر، ويروي التاريخ أن عثمان لم ينزل هذه الدرجة، ومضت الأيام أحد خلفاء بني أمية سأل وزيره: لمَ لْم ينزل عثمان درجة كما فعل عمر ؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، لو فعلها لكنت في قعر بئر، فكان متواضعاً أشد التواضع.
كان يقول: كنت سيف رسول الله وخادمه، وجلواده، فكان يغمدني إذا شاء، النبي عليه الصلاة والسلام يمثل الرحمة، وسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمثل الشدة، تعلمون أن أحد من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حاطب بن بلتعة، أرسل كتاباً إلى كفار قريش يقول فيه: إن محمداً سيغزوكم، فخذوا حذركم، بلغ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، واستدعى المرأة التي معها الكتاب، وفتح الكتاب، فقرأ فيه، فاستدعى حاطب بن بلتعة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر، إنه شهد بدراً، تعال يا حاطب، لماذا فعلت ما فعلت ؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت، ولا ارتددت، ولكني لصيق في قريش، ولست من أصلابهم أردت بهذا أن أحمي مالي وأهلي، وأنا موقن أن الله سينصرك، فقال عليه الصلاة والسلام: إني صدقته فصدقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً، كان يقبل عذر المعتذر، وهذا من بطولة النبي عليه الصلاة والسلام، سيدنا عمر قال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: لا يا عمر، إنه شهد بدراً.
فكان يقول: كنت خادم رسول الله وسيفه المسلول وجلواده، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو راض، والحمد لله على هذا كثيراً، ثم كنت خادم أبي بكر وجلواده وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راض، الحمد لله لهذا كثيراً، قال: ثم آلت الأمور إلي، يعني كان عمر يمثل دور القوة، وسيدنا الصديق أو سيدنا رسول الله يمثلان دور الرحمة والعطف، الآن الأمور آلت إلى عمر، قال: أيها الناس، اعلموا أن هذه الشدة قد أضعفت، وإنما تكون على أهل البغي والعدوان، أما أهل التقوى والعفاف فسأضع خدي لهم ليطئوه بأقدامهم، بعد موت الأم يأخذ الأب دور الأب والأم معاً، ثم قال: أيها الناس، خمس خصال، خذوني بهن، لكم علي ألا آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحق، ولكم علي ألا أنفق المال إلا بحقه، ولكم علي أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، ولكم علي ألا أجمركم في البعوث، فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا، خمس خصال خذوني بهن، هذا من سياسة هذا الخليفة الراشد رحمه الله، ورضي عنه.
الحقيقة هناك ملمح اقتصادي عند هذا الخليفة الراشد رائع جداً، وكأنه سبق عصره بمئات السنين، يروى أنه زار بلدة، فإذا بالفعاليات الاقتصادية كلها بأيدي غير المسلمين، فعنفهم تعنيفاً شديداً، وقال لهم: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟ أدرك أن المنتج قوي، وأن المستهلك ضعيف، وأن القوة من الإيمان لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( المؤمن القوي خير، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ))

[مسلم]

إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون قوياً، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تكون غنياً، أما إذا كان طريق القوة أو طريق الغنى محفوفًا بالمعاصي والآثام يعد الضعف عندئذ وسام شرف، المؤمن مطلوب أن يكون قوياً، المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والمال قوة والمنصب قوة، والعلم قوة، فكان رضي الله عنه يحب أن نكون أقوياء، قال: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم، كأنه أدرك مسبقاً أن هناك معركةً طاحنة بين المنتج والمستهلك، المنتج يتمنى أن يبقى جميع الناس مستهلكين، لتروج تجارته، والمستهلك الفقير يتمنى أن يصنع حتى يكتفي ذاتياً، ويقوى، ويصدر، قال: كيف بكم إذا أصبحتم عبيداً عندهم ؟
الحقيقة، لازلنا في ومضات من مواقف هذا الخليفة الراشد، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وضع له طعام نفيس، ذبحت ناقة، وضع له أطيب ما في لحمها أمامه، فبكى، وقال: بئس الخليفة أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها، هو ينطلق من أن الخلافة تكليف لا تشريف، قال: لست خيراً من أحدكم، ولكنني أثقلكم حملاً، فلما وضع له طعام نفيس قال: بئس الخليفة أنا إذا أكلت أطيبها، وأكل الناس كراديسها.
الأستاذ عدنان: من خلال حديثكم هذا يا دكتور أستطيع أن أقول: إن هذه الشخصية نحن لا نتحدث في الحقيقة عن شخصية لمجرد أنها شخصية، إنما نتحدث عن شخصية آثرت أن يكون الإسلام العملي وتشريعاته بينة في شخصيته، ونحن إنما نتحدث عن الشخصية لتوافقها مع المنهل الشريف في الأسلوب السليم، والعمل الصحيح الذي كان على منهج رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه، من خلال هذا المنطلق، وأظن أن الوقت بقي فيه دقيقة واحدة.
الدكتور راتب: عالم أمريكي زار بلداً آخر، والتقى مع الجالية الإسلامية، فقال: في المدى المنظور أنا أستبعد أن يستطيع العالم الإسلامي أن يلحق بالغرب، ولكن العالم كله سيركع تحت أقدام المسلمين إذا أحسنوا فهم دينهم، وأحسنوا تطبيقه، وأحسنوا عرضه.
الأستاذ عدنان: إن شاء الله سيكون ذلك في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ في كلية التربية في جامعة دمشق، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت من الأسبوع القادم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور