وضع داكن
28-03-2024
Logo
الفقه الحضاري - الندوة : 03 - الصبغة والفطرة - التكليف .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
 أيها الأخوة المشاهدون؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحيّيكم عبر القناة الفضائية السورية في هذا اللقاء الجديد من برنامج: "الفقه الحضاري في الإسلام" ويسرنا أن نلتقي اليوم مع سماحة الدكتور محمد راتب النابلسي، المحاضر في جامعة دمشق في كلية التربية، أهلاً ومرحباً بكم .
الأستاذ:
 أهلاً بكم أستاذ عدنان، جزاكم الله خيراً .
المذيع:
 تحدثتم في حلقتين سابقتين عن الفطرة التي فطر الناس عليها، وتحدثتم عن صفات الإنسان من حيث هذه الفطرة، فخلق الإنسان هلوعاً، ومنوعاً، وجزوعاً، إلى آخر ما يتصل بالنفس، وبيّنتم كيف تكون النفس إن تركت على هواها يمكن أن تنحرف، بالمقابل إن وضعت على جادة الإيمان يمكن أن تحلق، وبيّنتم أن الإنسان في هذا الأمر يشبه راكب دراجة يسير، فإما أن يجد أمامه طريقاً فيه ارتفاع، لكن فيه بعض الصعوبة في البداية، وفي النهاية هناك قصر منيف، وبالعكس أيضاً، هناك طريق نازل هابط، وكله زهور ورياحين، إنما في نهايته نار حارقة، وما إلى ذلك، وشبهتم أن الإنسان في حياته الدنيا رغم معرفته بأن الطريق الأسهل والرياحين إلى جانبه إن أدى إلى سوء حياة الإنسان ونهايته فإنه يفضل الطريق الصعب، وقد حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات.
 إلى جانب هذا، وتتمة لهذا الموضوع ترى موضوع النفس البشرية وطبيعة الإنسان، الفطرة الإلهية التي فطر الله الناس عليها، هل هي متناسبة مع النفس؟ كيف يكون سبيل النفس في اتخاذ طريقها؟ هل هو ما يرغبها؟ هل هو ما يبعدها؟ كيف تكون الأمور؟ ممكن أن نتابع.

تطابق أوامر الله و نواهيه مع فطرة الإنسان :

الأستاذ راتب:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً على هذه الندوات، هذا الموضوع تحكمه هذه الآية، وهي قوله تعالى:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾

[ سورة الروم: 30]

 أقم وجهك للدين، والإقامة أعلى درجة من النشاط، واقف ومهتم،

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾

 وحنيفاً أي مائلاً، وهذا يذكرنا بتعريف العبادة، إنها طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، فمن أطاع الله، ولم يحبه ما عبده، ومن أحبه، ولم يطعه ما عبده، هي طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، فحينما قال الله عز وجل:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾

 الآن في الآية ملمح رائع، أن تقيم وجهك للدين حنيفاً، هو نفسه الأصل الذي فطرت عليه النفس البشرية، لأن الإنسان مفطور على حبّ العدل، وقد أمر بالعدل، مفطور على حبّ الرحمة، وقد أمر أن يرحم من في الأرض، فكل أوامر الله عز وجل، وكل النواهي التي نهينا عنها متطابقة تطابقاً عجيباً وتاماً مع فطرة الإنسان .
الأستاذ عدنان:
 هنا دكتور، يمكن أن يسأل إنسان السؤال التالي: هل من طبيعة الإنسان هذه الأمور أم أنها تأتي من خلال التربية ومن خلال حسن التوجيه ومن خلال العقيدة؟ إذ إن الشاعر يقول:

والظلم من شيم النفوس فإن  تجد ذا عفة فلعلّةٍ لا يظلم
***

 العلةُ السببُ، قد يكون السبب ضعفاً في ذات الإنسان، قد يكون السبب خلقاً عالياً وشهامة، قد يكون عقيدة دينية تحجزه عن هذه الأمور، إنما من طبيعة الإنسان هل يستهويه الظلم مثلاً؟

 

الفرق بين الفطرة و الصبغة :

الأستاذ راتب:
 والله أنا الذي أعتقده جازماً ومتيقناً أن أصل العقيدة يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله، عندنا كتاب الله، لأنه قطعي الثبوت، ومهمتي مع كتاب الله أن أفهمه فقط، مسموح لي أن أفهمه، والحديث النبوي الشريف بعضه قطعي الثبوت، وبعضه ظني الثبوت، لي معه مهمتان، الأولى أن أتأكد من صحته، والثانية أن أفهمه كما أراده النبي وفق علم الأصول .
 النقطة الثالثة: وأيّ نص آخر من عهد سيدنا آدم إلى يوم القيامة يحتمل الخطأ والصواب، فينبغي أن نتأكد من صحة نسبته أولاً، ثم أن نفهمه كما أراده صاحبه ثانياً، ثم أن نعرضه على منهج الله، فإن وافقه فعلى العين والرأس، وإن خالفه فهم رجال، ونحن رجال، فالله عز وجل قال:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾

[ سورة الروم: 30]

 أي إن الإنسان مجبول، وبالمصطلح الحديث مبرمج، وبالتعريف الحديث مولَّف، الإنسان مفطور، ومجبول على حب الخير، ولكن هناك نقطة دقيقة جداً، ثمة فرق كبير بين أن تكون خيّراً وبين أن تحب الخير، محبة الخير شيء، وأن تكون خيّراً شيء آخر، محبة الخير فطرة، أما أن تكون خيراً فصبغة.

﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾

[سورة البقرة: 138]

 لذلك نفرق، فأي إنسان كائن من كان يحب العدل، يحبه فقط، وقد يكون ظالماً، يحب الرحمة، وقد يكون قاسياً، يحب العفة، وقد يكون متورطاً، لكن حينما يتصل بالله عز وجل، ويشتق من كمال الله عز وجل تصبح الصبغة محل الفطرة، كان يحب العدل، فأصبح عادلاً، كان يحب الرحمة فأصبح رحيماً .
 إذاً ينبغي بادئ ذي بدء أنْ نفرّق بين الفطرة والصبغة، الفطرة أن تحب الخير، أما الصبغة فأن تكون خيّراً، الصبغة متعلقة بالمؤمنين الذين تعرفوا إلى الله عز وجل، وتعرفوا إلى منهجه، وأطاعوه، فتولدت في أنفسهم أن الله يحبهم، فأقبلوا عليه، فاشتقوا من كماله، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً، الأصل أن النفوس جبلت على الفطرة، الأصل أن النفوس فطرت على الكمال، أما أن تكون كاملة أو ليست كاملة فهذا موضوع آخر.

 

تطابق النفس البشرية مع منهج الله عز وجل :

 إذاً أول نقطة في هذا اللقاء الطيب، وجزاكم الله خيراً، هي أن النفس البشرية التي فطرها الله عز وجل متطابقة تطابقاً تاماً مع منهج الله، لذلك شيء طبيعي جداً أن الإنسان لمجرد أن يستقيم على أمر الله، لمجرد أن يصطلح مع الله، لمجرد أن يتوب إلى الله، يشعر وكأن جبالاً أزيحت عن كاهله، لأنه وجد نفسه، لأنه وجد مبادئ فطرته، لأنه اصطلح مع نفسه، لأن هذه النفس أصبحت نغماً منسجماً مع الكون، كانت نغماً شاذاً، فلما اصطلحت مع الله عز وجل أصبح هناك التنسيق والانسجام.

 

ثمن الجنة هو التناقض بين خصائص طبع الإنسان والتكليف :

 لكن هناك نقطة دقيقة جداً يجب ألا تغيب عن أذهاننا أن الفطرة شيء، والطبع شيء آخر، والصبغة شيء ثالث، الطبع مرتبط بالجسم، هذا الجسم يرتاح أن ينام، وأن يبقى نائماً إلى بعد شروق الشمس، لكن التكليف يأمره أن يستيقظ، وفي هذا مشقة على الجسم، إذا استيقظ وصلى صلاة الفجر في وقتها ارتاحت نفسه، فكأن الأمر الإلهي يريح النفس، ويتعب الجسم، هذا التناقض بين خصائص طبع الإنسان والتكليف هو ثمن الجنة.

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾

[ سورة النازعات:40-41]

 الشهوات التي أودعها الله في الإنسان أودعها فيه ليتحرك فيها وفق منهج الله، وكأن الشهوة يمكن أن نصور هذا الأمر، يمكن التحرك بمئة و ثمانين درجة، في الشرع الحنيف سمح لك فرضاً بسبعين درجة، وهذا ملمح كريم في قوله تعالى:

﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾

[ سورة هود:86]

 بقي لك من المرأة زوجتك ومحارمك، بقي لك من المال المال الحلال، بقي لك من العلو في الأرض أن تعلو في العمل الصالح، لا في إيذاء الناس، فهناك دوافع.

 

الدوافع حيادية :

 الحقيقة أن الدوافع لغة حيادية، هناك دافع إلى الطعام والشراب، لكن المؤمن يأكل من الكسب الحلال، هذا الدافع له قناة نظيفة، هناك دافع إلى المرأة المؤمن يتزوج، ويغض بصره عمن لا تحل له، فهذا الدافع مقيد بمنهج الله، هناك دافع العلو في الأرض، المؤمن يتألق اسمه، ولكن من خلال عمله الصالح، ألم يقل الله عز وجل:

﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾

[ سورة الشرح: 4]

 ولكل مؤمن من هذه الآية نصيب، فالإنسان حينما يصطلح مع الله يكون خيراً في أصله، في طبعه يحبه الناس، يعلو اسمه، ما من إنسان يعبد الله عز وجل إلا ويرفعه الله عز وجل، وهذا ملمح آخر من قوله تعالى:

﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾

[ سورة البقرة: 5]

 الهدى يرفعهم، يعلي شأنهم، يعلي قدرهم، يجعلهم نجوماً متألقين، يحبهم الناس، يلهج الناس بالثناء عليهم، أما حينما يتبع الإنسان شهوته ومصلحته التي تتناقض مع منهج الله:

﴿ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾

[ سورة الأحقاف: 32]

 أي في كآبة، أو في السجن، الشرع يرفعك إلى أعلى عليين، والشهوة من دون منهج تهوي بالإنسان إلى أسفل سافلين .
 أستاذ عدنان- جزاكم الله خيراً- الشهوة حيادية، إنها سلم نرقى به، أو دركات نهوي بها، أقول: حيادية، وأعني ما أقول، فأية شهوة يمكن أن توظف في الخير، فالخير الذي يأتي منها في الدنيا وفي الآخرة، وأية شهوة يمكن أن توظف في الشر، فالشر الذي يأتي منها يشقي صاحبها في الدنيا وفي الآخرة، والشهوات قوى محركة في أصل التصميم، وليست قوى مدمرة، لذلك قال تعالى:

﴿ وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

[سورة القصص: ٥٠]

 نعود إلى الطبع والتكليف .
الأستاذ عدنان:
 من هنا قبل أن نتابع نستطيع إذاً من خلال إجابتكم الموضحة في هذه، ومن خلال فكرة الصبغة والفطرة والطبع نستطيع أن نقول: إن بيت الشعر الآنف الذكر:

والظلم من شيم النفوس فإن  تجد ذا عفة فلعلّة لا يظلم
***

 في طبيعة الإنسان من خلال البيئة التي كانت تتفاخر بالقوة، والعضلات، والبأس، والجلد، والسيطرة على الآخرين، يمكن أن تكون هذه إذاً مدعاة ليكون الإنسان حاملاً لطبيعة الظلم، إن كان ظالماً أو غير ظالم، فهي يمكن أن تدخل في طبعه، وعندما يكون قد صار على هدي الدين الحنيف، وتخلق بأخلاق الإيمان فيصطبغ الصبغة النبيلة التي أرادها الله تعالى له، فيكون مهذباً في نفسه وأخلاقه وسلوكه.

تطابق الفطرة مع المنهج الإسلامي تطابقاً تاماً :

الأستاذ راتب:
 تروي الكتب أن قاضياً نزيهاً في عهد بعض الخلفاء طرق بابه، فجاءه غلامه يقول له: إن بالباب رجلاً قدم لك هذا الطبق، فهذا القاضي يحب الرطب في بواكيره، وكان الطبق رطباً في بواكيره، فقال: صفه لي، فوصفه له، قال: رده، هذا الرجل أحد المتخاصمين عنده، فرده، بعد أيام قابل الخليفة وقال: أعفني من هذا المنصب، قال: لمَ؟ قال: كذا وكذا، جاءني رجل، ومعه طبق من الرطب، فسألت عنه فإذا هو أحد المتخاصمين، رددت الطبق، قال: في اليوم التالي، وأنا أحكم بينهما تمنيت أن يكون الحق مع الذي قدم لي الطبق، مع أني لم أقبله، فكيف لو قبلته؟
 حينما يرتقي الإنسان في سلم الإيمان يبلغ درجة من النزاهة العقل لا يصدقها، هذا هو العدل .
 ابن أبي رواحة حينما كلفه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقيّم تمر خبر، فجاءهم فأغروه بحلي نسائهم كرشوة، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ:

(( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِ خَيْبَرَ، قَالَ: فَجَمَعُوا لَهُ حَلْيًا مِنْ حَلْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: هَذَا لَكَ، وَخَفِّفْ عَنَّا، وَتَجَاوَزْ فِي الْقَسْمِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، وَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَمِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي عَلَى أَنْ أَحِيفَ عَلَيْكُمْ، فَأَمَّا مَا عَرَضْتُمْ مِنْ الرَّشْوَةِ فَإِنَّهَا سُحْتٌ، وَإِنَّا لَا نَأْكُلُهَا، فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ))

[مالك في الموطأ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ]

 أنا تأثرت في هذه القصة بمقولة قالها اليهود:

(( بِهَذَا قَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ))

 ونحن كمسلمين حينما نعطي لكل ذي حق حقه، حينما ننصف الناس من أنفسنا، حينما لا تجد في بيت ظلماً، لا بين زوج وزوجة، ولا بين أب وأولاده، ولا بين صاحب عمل وعماله، ولا بين موظف وموظفيه عندئذٍ ننتظر من الله عز وجل أن ينصرنا على أعدائنا .
 إذاً قضية الفطرة أن تحب الخير، والصبغة أن تكون خيِّراً، الفطرة متطابقة تطابقاً تاماً مع خصائص هذا المنهج، لذلك حينما تستقيم على أمر الله ترتاح، تحس براحة، لذلك قالوا: في الدنيا جنة من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة، وقالوا: المؤمن عنده شعور بالأمن لو وزع على أهل بلد لكفاهم، هذا أمن الإيمان، وهذا ينقلنا إلى قول النبي عليه الصلاة والسلام عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ ))

[البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ ]

 أنا أتمنى أن يكون فهْمُ هذه الكلمة كما يلي، آمناً لا لأنه غني، آمناً لا لأنه قوي، آمناً لأنه واثق من وعد الله.

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾

[ سورة القصص:61 ]

(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ))

 يشعر أن الله يحبه، وأنه على منهج الله سائر، وأنه موعود بالجنة، وأنه لم يؤذِ مخلوقاً كائنًا من كان، وأنه بنى حياته على العطاء، هذه قضية بالتعبير المعاصر استراتيجية.

 

الناس رجلان :

 المؤمن بنى حياته على العطاء، الطرف الآخر بنى حياته على الأخذ، فالمؤمن يسعده أن يعطي من كل ما أعطاه الله، من وقته، من ماله، من جهده، من علمه، من خبرته، يسعد بالعطاء، لأن الأنبياء جاؤوا إلى الدنيا وأعطوا كل شيء، ولم يأخذوا شيئاً، وهذا يذكرني بكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مؤلفه في المقدمة: يا من جئت الحياة فأعطيت ولم تأخذ، يا من قدست الوجود كله ورعيت قضية الإنسان، يا من زكيت سيادة العقل ونهنهت غريزة القطيع، يا من هيأك تفوقك لتكون واحداً فوق الجميع، فعشت واحداً بين الجميع، يا من كانت الرحمة مهجتك، والعدل شريعتك، والحب فطرتك، والسمو حرفتك، ومشكلات الناس عبادتك، فالأنبياء أعطوا كل شيء، ولم يأخذوا شيئاً، والطغاة أخذوا كل شيء، ولم يعطوا شيئاً، المؤمن يأخذ ويعطي، يأخذ من مجتمعه بعض ما يحتاج، ويعطيهم كل ما عنده، أساساً المؤمن حياته مبنية على العطاء، وإن أردت الدقة بالتصنيف فأنا أرى أن الناس رجلان، رجل عرف الله، وعرف منهجه، فانضبط بمنهجه، وأحسن إلى خلقه فسعد في الدنيا والآخرة، ورجل غفل عن الله، وبالتالي تفلت من منهجه، ومن لوازم التفلت من المنهج الإساءة إلى الخلق، فشقي في الدنيا والآخرة، وهذا تؤكده الآية الكريمة:

﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾

[سورة الليل5-6]

 صدق أنه مخلوق للجنة، وصدق أن الله عز وجل خلقه ليسعده .

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾

[ سورة هود:119]

 إذاً المؤمن أراد التقرب من الله عز وجل فبنى حياته على العطاء، أعطى، واتقى أن يعصي الله، وصدق بالحسنى، والحسنى هي الجنة، أنا حينما أؤمن أنني مخلوق للجنة يجب أن أدفع ثمنها في الدنيا، وهو العطاء، مطلق العطاء، والطرف الآخر:

﴿وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ﴾

[سورة الليل8-9]

 لأنه كذب أنه مخلوق للجنة، ورأى الدنيا هي كل شيء، إذاً هو أعور، رأى الدنيا، ولم ير الآخرة، دجال يكذب، يتكلم بما ليس واقعياً، وكأن هاتين الصفتين جامعتان لخصائص هذا الإنسان الشارد، أعور دجال، يرى الدنيا ولا يرى الآخرة، يرى المادة ولا يرى القيم، ثم إنه يكذب ويتكلم بخلاف الواقع .
الأستاذ عدنان:
 الحقيقة أن هذه كما بينتم صفات يمكن أن يتصف بها الإنسان عموماً، وهذه الصفات متنوعة حسب تنوع الأشخاص، من حيث عقيدتهم، من حيث أنهم يسيرون على الفطرة، أو يحاولون خلاف ذلك، وما كان لهم أن يشذوا عن الفطرة لمجرد أن الشيطان أغواهم أو زين لهم.

 

الفرق بين الطبع و التكليف :

الأستاذ راتب:
 مثلاً الإنسان فطرته تقتضي أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والتكليف يأمره أن يغض بصره، التكليف مناقض للطبع، من هذا التناقض يكون ثمن الجنة .
الأستاذ عدنان:
 يوجد حل مع هذا الأمر أن يتزوج الإنسان؟
الأستاذ راتب:
 طبعاً، الآن الإنسان يحب أن يخوض في مشكلات الناس، في فضائحهم، ويحب أن يتندر بها، وأن يتصدر المجالس ليتحدث عن زيد أو عبيد، وفلان أو علان، ولكن التكليف يأمره أن يصمت .
 من أروع ما قرأت في الغيبة أن رجلاً عاتب شخصاً على أنه اغتابه، قال له: من أنت حتى أغتابك؟ لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي، لأنهما أولى بحسناتي منك، يعلم علم اليقين نتائج الغيبة، إنها ضعف يوم القيامة أمام الله عز وجل، قال له: ومن أنت حتى أغتابك؟
 إذاً الملاحظ أنّ الطبع أنْ يميل الإنسان إلى النوم، والتكليف يأمره أن يستيقظ، والطبع أن يميل إلى أخذ المال، والتكليف يأمره أن يدفع المال، أن ينفق من ماله في سبيل الله، الطبع يقتضي أن يملأ عينيه من محاسن النساء، والتكليف يأمره أن يغض البصر، الطبع يقتضي أن تخوض في فضائح الناس، والتكليف يأمرك أن تصمت، وألا تغتاب أحداً.
 إذاً الطبع متعلق بالجسم بعض التعلق أما الفطرة فمتعلقة بالنفس، وأوضح مثل أنك لو غالبت نفسك، واستيقظت، وصليت الفجر في وقته طبعاً الجسم خلال دقائق يشعر بالرضى، كان مستلقياً دافئاً مرتاحاً، بعد أن يصلي ترتاح نفسه، حينما قام من فراشه انزعج جسمه، فلما أدى صلاة الفجر في وقتها ارتاحت نفسه.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))

[متفق عليه عن أبي هريرة ]

 أستاذ عدنان؛ الفطرة تتوافق مع منهج الله، والطبع يتناقض مع منهج الله، أما أنت حينما تصطلح مع الله عز وجل فتكون قد أرحت نفسك راحة عالية.
 أضرب مثلاً بسيطًا، هذه السيارة السياحية مصممة للطريق المعبد، فحينما تركبها على الطريق المعبد تأخذ كل ميزاتها، صوت ناعم، سرعة جيدة، كل الأمور التي صممت لها تقطف ثمارها، وهي على الطريق المعبد، لو سرت بها في طريق وعر فيه أكمات، وصخور، وحفر تتكسر، ولا تنطلق، وتنزعج، وقد تصاب بالعطب، هذه مصممة للطريق المعبد، لا ترتاح بهذه المركبة، ولا تنطلق بها، ولا تشعر بميزاتها إلا في الطريق المعبد، أما المدرعة مثلاً فمصممة للطريق الوعر، أساساً فيها جنازير.

 

التائب حبيب الله :

 أنا حينما أكتشف أنني مصمم لمنهج الله أصطلح مع الله، وأتوب إليه، فأشعر براحة.
 أستاذ عدنان، أنا لا أرى من راحة في بني البشر تفوق راحة التائب إلى الله، والله عز وجل يقول:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[ سورة الزمر: 53 ]

 التائب حبيب الله.

(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليّ صاعد، أتحبب إليهم بنعمي، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي، وهم أفقر شيء إليّ، من أقبل عليّ منهم تلقيته من بعيد، ومن أعرض عني منعم ناديته من قريب، أهل ذكري أهل مودتي، أهل شكري أهل زيادتي، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، الحسنة عندي بعشرة أمثالها وأزيد، والسيئة بمثلها وأعفو، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها ))

[البيهقي عن أبي الدرداء ]

 ورد هذا الأثر القدسي في كتاب مدارج السالكين للعالم الجليل ابن قيم الجوزية .
الأستاذ عدنان:
 بهذا أستطيع أن أقول: عندما يصل الإنسان إلى الصبغة تنحل أولاً مشاكله النفسية، ثانياً: يشعر براحة وطمأنينة لا تعادلها طمأنينة أخرى .

 

الأمن أول ثمار الإيمان :

الأستاذ راتب:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[سورة الأنعام81-82]

 دقق أستاذ عدنان، جزاك الله خيراً، لم يقل الله: أولئك الأمن لهم، لو قال الله عز وجل: أولئك الأمن لهم ولغيرهم، ولكن قال:

﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ ﴾

 وحدهم، ليس على وجه الأرض إنسان آمن حقيقة إلا المؤمن، أما الذي أشرك بالله عز وجل فيقذف الله في قلبه الخوف، وقد نستمع في الأخبار أن هناك ضحايا كثر بسبب الخوف والتدافع، خوف ما بعده خوف، لذلك الإيمان أول ثماره الأمن، الشعور بالأمن، والأمن ليس السلامة، السلامة ألا يقع مكروه، أما الأمن فألّا تتوقع المكروه، قال تعالى يتحدث عن المؤمنين:

﴿ قُل لَن يُصيبَنا إِلّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا ﴾

[سورة التوبة: ٥١]

 لم يقل: علينا، لنا، أي المستقبل كله خير، وعلامة الإيمان التفاؤل، أنت مع الله، والله بيده كل شيء، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ ويا رب ما فقد وجدك؟ وماذا وجد في فَقدك؟

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ عدنان:
 وحديثه عليه الصلاة والسلام الذي يشير إلى راحة المؤمن عندما يرضى بالله رباً، وبالدين شريعة، وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وهادياً ونبياً، يدرك أصلاً هذه الأمور، وتنضبط أمور حياته، ويسعد، ويطمئن في داخله، وهذه هي السعادة الحقيقية .
 في ختام هذا اللقاء، ولنا موعد إن شاء الله لمتابعة أمور كثيرة في هذا الإطار، في ختام هذا اللقاء كل الشكر لسماحة الدكتور محمد راتب النابلسي، الأستاذ المحاضر في كلية التربية بجامعة دمشق، والشكر أيضاً للإخوة المشاهدين، وموعدنا معكم بإذن الله في مثل هذا الوقت في الأسبوع القادم.
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور