وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0287 - العلم5- فضل العلم في الدنيا والآخرة - خاصية التمدد.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله ، سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

بذل النفس غاية الجود :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لازلنا في موضوع العلم ، والعلم في خطَبٍ سابقة بُيِّنَتْ علاقته بالإيمان ، وعلاقته بالعمل ، وعلاقته بالعبادة ، واليوم نتحدّث عن فضل العلم في الدّنيا والآخرة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإنسان يبذلُ مالهُ ، ولكنّ بذْل المال أهْوَنُ من بذلِ النّفس ، لذلك قُدّم بذل المال على بذل النفس في القرآن الكريم في ثمانية عشر مَوضعًا ، والحقيقة الثابتة أنّ بذل النفس أقصى الجود ، ومع ذلك فقد فُضّل طلب العلم على بذْل النفس في سبيل الله تعالى ، بذْل النفس في سبيل الله تعالى جهاد ، والجهاد ذروة الإسلام ، بل هو ذروَة سنَام الإسلام ، ومع ذلك إنّما شُرع الجهاد من أجل نشْر دين الله تعالى ، فتَعَلُّم العلم ، وتعليم العلم يُحقّق الهدف الأكبر من الجهاد ، لذلك سيّدنا عبد الله بن مسعود أحدُ أوْعِيَة العلم ، وأحدُ مصابيح الهدى يقول : " والذي نفسي بيده ليوَدَّنّ رجال قُتلوا في سبيل الله شهداء أن يبعثهم الله تعالى علماء لما يروْن من مكانتهم" ، أي إذا تعلَّمت العلم ، وعلَّمْتهُ للناس ، فنَقَلْتَ الناس من الظّلمات إلى النور ، من الجهل إلى المعرفة ، من الشّقاء إلى السعادة ، من الضَّياع إلى اللُّقيَة ، من التَّشتُّت إلى التجمّع ، من التناحُر إلى المحبّة ، من الطَّمع في الدنيا إلى الزّهد فيها، إذا نقلْتهم من أُناسٍ ضائعين تائهين إلى أُناسٍ عرفوا ربّهم فسعِدوا بقُربِهِ ، فهذا أعظمُ عملٍ يقول به إنسانٌ على وجه الأرض .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الإمام الحسَن البصري رحمه الله تعالى قال : " يوزنُ مداد العلماء بدِماء الشّهداء ، فيرْجحُ مداد العلماء " ! والحسَنُ البصري أيضًا يقول في قَول آخر: " العامل في غير علمٍ كالسالك على غير طريق" ، الذي يعملُ من دون علمٍ كمن يسلكُ من غير طريق ؛ متاهات ، وحُفر ، وأكمات ، ووُحوش ، والعاملُ على غير علمٍ يُفسدُ أكثرَ ممّا يُصلح ، فاطلبوا العلم طلبًا لا يُضِرّ بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلبًا لا تضرّ بالعلم .

 

الإنسان شريفٌ لما خُلقَ له :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أُذكّركم دائمًا بأنّ الإنسان شريفٌ لما خُلقَ له ، فإذا افتخرَ بِعَظمه فالفيل أعظم منه ، وإذا افتخر بِشَجاعته فبعضُ السّباع الوحشيّة أشجعُ منه ، وإذا افتخر بِحَواسّه فالطّيور أحدّ منهُ بصرًا ، إن افْتخرَ بِشَمِّه فحاسّة الشمّ عند الكلب تزيدُ مليون ضعف عن حاسّة شمّ الإنسان ، إذا افتخر بسمعه فبعضُ الكلاب والأرانب أرهفُ سمعًا منه ، إذا افتخر بسِفادِهِ فبعضُ الطيور أشدّ سِفادًا منه ، أيّ شيءٍ يفتخرُ به الإنسان من دون العلم والعمل ، فقد جعل الله في الحيوانات مَن هو أَعظمُ منه ، فالإنسان كما قال الإمام الغزالي شريفٌ لما خُلق من أجله ، ابن آدم خلقْتُ السموات والأرض من أجلك فلا تتْعَب ، وخلقْتُكَ من أجلي فلا تلعب ، فبِحَقّي عليك لا تتشاغل بما ضمِنْتهُ لك عمّا افترضْتهُ عليك ، أنت خُلِقت من أجل أن تعرف الله ، ومن أجل أن تتقرَّب إليه ، ومن أجل أن تسْعد بقُربه إلى الأبد ، هذا ملخّص رسالتك في الحياة .
 يا أيّها الأخوة المؤمنون ؛ من يصدّق أنّ جهاد العلم يفوق جهاد السّيف والسّنان، وقد سمّاه الله في القرآن الكريم جهادًا كبيرًا ، قال تعالى :

﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾

[سورة الفرقان: 52]

 الهاء تعود على القرآن الكريم ، معرفة المنهج ، معرفة دقائقه ، معرفة حُجَجِهِ ومدلولاته ، تأويلُ آياته ، وتدبّر آياته ، وتعليم هذا المنهج للناس ، القرآن الكريم أيّها الأخوة علاقته بالإنسان علاقة وُجود ، آلةٌ معقّدةٌ جدًّا ، وهذا الكُتيّب فيه تعليمات التشغيل والصّيانة ، علاقة هذا الكُتَيّب بهذه الآلة علاقة عُضْويّة ، وعلاقة مصيريّة ، وعلاقةٌ أساسيّة ، هذا الذي يقول : أنا متخصّص في العلم ، ولا يعنيني أمْرُ الدِّين ، هذا كلامٌ مُضحك ! كمَنْ يقول : أنا آكلُ هذه الفاكهة ، ولا يعنيني الهواء !! الهواء لابدّ منه ، كُلْ ما تشاء لابدّ من التنفُّس ، فالتنفُّس قاسمٌ مشترك ، التنفّس شيءٌ أساسي في حياة كلّ إنسان .

 

تعلُّم القرآن وتعليمه والعمل به :

 أيّها الأخوة المؤمنون ؛ تعلُّم القرآن وتعليمه والعمل به هو ما سمّاه الله في القرآن الكريم الجهاد الكبير ، وقد ورد في الحديث الشريف أنّ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى ))

[ البيهقي عن جابر]

 البطولة أن تضبط الذات ، قال بعضهم في معرض الحديث عن حضارة الغربيِّين إنّها في مُجملها سَيطرةٌ على الطبيعة ؛ أي قِوَى الطبيعة ضُبِطَتْ واستْخدِمَت وسُخِّرَت ، وقال بعضهم في معرض الحديث عن حضارة المسلمين : إنّها سيْطرةٌ على الذات ، أي الإنسان كُتلةٌ من الشّهوات والنّزوات ، فهذا الذي يضبطُ نفسه ويحملُها على الطاعة ، ويحملها على طريق الاستقامة هو بطَل ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :

((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس والهوى ))

 أحدُ زعماء العالم الغربي قال كلمةً : ملَكْنا العالم ، ولمّا نمْلك أنفسنا ! هذا الإنسان الذي تملَّك نفسه ، قادها ولمْ تقُدْه ، سارَ بها إلى الحقّ ولم تسِرْ به إلى الباطل ، حملها على الطاعة ولمْ تحملْهُ على المعصيَة .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ الناس رجلان ؛ رجلٌ قادَتْهُ أهواؤُه ونزواته إلى هلاكه ، ورجلٌ قادهُ عقلهُ وقيَمُهُ إلى المكاسب .

 

الجهاد الأكبر هو طلب الحقيقة و الوصول إليها :

 شيءٌ آخر ، ربّنا سبحانه وتعالى حينما يقول :

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة العنكبوت: 69 ]

 بِرَبِّكم من دون أن ترجعوا إلى التفاسير ، ماذا تفهمون من قوله تعالى :

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة العنكبوت: 69 ]

 البحــثُ عن الحقيقة جهاد ، أنْ تبحثَ عن الحقيقة ، وأن تصلَ إليها ، وأن تقـف عند تفصيلاتها جهادٌ أكبر ، والدليل قول الله عز وجل :

﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة العنكبوت: 69 ]

 لماذا أنت في الدنيا ؟ لماذا خُلِقْتَ ؟ ما جَوهرُ الحياة ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا قبل الموت ؟ ماذا بعد الموت ؟ ماذا قبل الولادة ؟ وما جدوى الحياة ؟ قال تعالى :

﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾

[ سورة الكهف : 103-104]

 ويقول عليه الصلاة والسلام :

(( من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع))

[ الترمذي عن أنس]

 حينما يُبعثُ موظّف بِمُهِمّة ، إذا أصابهُ مكروه تُعدّ هذه الإصابة في أثناء الوظيفة ، ويستحقّ عليها تعويضًا كبيرًا ، ومعاشًا تقاعُدِيًّا يماثلُ معاشهُ إلى النهاية ؛ لأنّ هذا المُصاب أصابه وهو في أداء هذه المهمّة ، وكذلك عند الله عز وجل من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ أحدُ كبار العلماء يقول :" إنّما جُعِلَ طلب العلم في سبيل الله لأنّ به قوام الإسلام ، وجهاد الحجّة والبيان " هكذا يقول هذا العالم الكبير ، جهاد الحجّة والبيان هو جهاد الخاصّة ، من أتباع الرُّسل ، وهو جهاد الأئمّة ، وهو أفضلُ أنواع الجهاد .

 

وجوب طاعة الله و رسوله و أولي الأمر :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾

[ سورة النساء : 59]

 أطيعوا الله ورسوله الأمر واضح ، من هم أولو الأمر ؟ قال العلماء : أولو الأمر هم العلماء والأمراء معًا ، فالعلماء يقيمون الحقّ بالحجّة والبيان ، والأمراء يقيمون الحقّ بالسّيف والسّنان ، فكلمة أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم تعني هؤلاء الذين نوّر الله قلوبهم بالحقّ ، إذا سألتهم فعليك أن تُطيعهم فيما يُجيبوك عن الله ورسوله .
 قال بعض أصحاب رسول الله عليهم رضوان الله تعالى : إذا جاء الموت لطالب العلم ، وهو على هذه الحال ، مات وهو شهيد .
 وأبو الدرداء رضي الله عنه يقول : مَن رأى الغدوّ والرواح إلى العلم ليس بِجِهاد فقد نقَصَ عقلهُ ورأيُهُ .
 إلى أين يا أخانا ؟ من أين جئت ؟ من المسجد ، مَن رأى الغدوّ والرواح إلى العلم ليس بِجِهاد كان هذا نقصًا في عقله ، بل إنّ بعض المفسّرين الذين فسّروا قوله تعالى :

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[ سورة البقرة : 201]

 بعض الأئمّة ، وأظنّه بعض التابعين ، قالَت : يا أبت ما هي حسنة الدنيا ؟ قال: المرأة الصالحة ، ولكنّ المفسّرين يقولون : ربّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، حسنة الدنيا العلم والعبادة ، أن تكون عالمًا عاملاً ، أن تكون متفقّهًا في دينك ، متَّبِعًا لأمر ربّك ، هذه حسنة الدنيا ، وأما حسنة الآخرة فهي الجنّة ، أحدُ كبار العلماء يقول : هذا من أحسن التفاسير ، أجَلْ العلم والعمل من حسنات الدنيا ، والجنّة حسنةٌ من حسنات الآخرة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ سيّدنا نافع بن عبد الحارث لقيَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عسفان ، فسألهُ من استخلفت على أهل الوادي من مكّة ؟ من استخلفْت مكانك ؟ ومن الذي عيَّنتهُ ليُدِير شؤون المسلمين في غَيبتك ؟ قال عمر بن الخطاب : ابن أبْزى ، فقال سيّدنا نافع : ومن ابن أبزى ؟ قال : هو مولىً من موالينا ، أي عبدٌ من عبيد مكَّة ، فقال : اسْتخلفت عليهم مولى ؟! فقال سيّدنا عمر : إنّه قارئ لكتاب الله ، وعالمٌ بالفرائض، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول : " إنّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا، ويضعُ به آخرين " هذا هو المقياس الصحيح ؛ مقياس العلم والعمل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ كان عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه عبدًا أسودًا لامرأةٍ من مكّة ، جاء إلى مكة في أحد مواسم الحجة أمير المؤمنين وخليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك ، فجلس أمير المؤمنين ، وابناهُ إلى عطاء ، جلسوا إليه وهو يُصلّي ، فلمّا صلى انفتل إليهم قليلاً ، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحجّ حتى حوَّل جانبه نحوهم قليلاً ، ثمّ قال سليمان لابنيه : قوما ، فقاما ، فقال : يا بنيّ لا تَنِيا في طلب العلم ، أيْ لا تُقصِّرَا ، فإنِّي لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسْوَد ، أمير المؤمنين وابناه يجلسون إلى هذا العبد لِيَتعلّموا منه مناسك الحجّ ، وهو لا يبالي بهما أعرض عنهما قليلاً ، فقال : : يا بنيّ لا تَنِيا في طلب العلم ، فإنِّي لا أنسى ذُلَّنا بين يدي هذا العبد الأسْوَد .

 

أشراط الساعة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويُشرب الخمر ، ويظهر الزنا ، هذا الحديث صحيح رواه الإمام البخاري ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

((إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ، ويشرب الخمر ، ويظهر الزنا ))

[ البخاري عن أنس]

 إنّ اختلال هذه الأمــور ، إنّ رفْع العلم ، وانتشار الجهل ، وشرب الخمر ، وظهور الزنا ، مُؤذنٌ بِخَراب الدنيا ، لأنّ الخلق لن يدعهم الله هملاً ، ولا نبيَّ بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، إذًا إذا فشا الجهل ، ورُفع العلم ، وشُرِبَت الخمر ، وظهر الزنا ، كان هذا من علامات قيام الساعة . شيءٌ دقيق جدًّا ، لا عبرة بِتَقدّم العلوم الماديّة في هذا العصر. العلوم الماديّة تقدَّمَت تقدُّمًا مذهلاً ، فكيف نصف هذا العصر ؟ بأنّ العلم قد ارتفع منه ، وبأنّ الجهل قد فشا فيه ، شيءٌ فيه تناقض ! الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾

[ سورة الروم : 6-7]

 كيف لا يعلمون ويعلمون ؟! أهذا تناقضُ في القرآن الكريم ؟ لا ، العلم الذي أراده الله عز وجل هو العلم الدِّيني الذي يُعرّفك بذاتك ، يعرّفك بهُويّتك ، يعرفّك بِمَآلِكَ ، يعرّفك بهذا القرآن الكريم ، هذا العلم الذي ينفعك بعد الموت ، أما العلوم الماديّة مهما تقدَّمَتْ إنّها نوعٌ راقٍ جدًّا من أنواع الحِرَف ، تتعلّم هذا العلم فيأتيك منه رزقٌ وفير ، تتعلّم هذا العلم فتحلّ به بعض مشكلات الدنيا ، تتعلّم هذا العلم فترقى في المجتمع ، تتعلّم هذا العلم فتقبضُ منه أموالاً طائلة ، إنّ هذا العلم الذي يُعنى بالدّنيا ، ويُعنى بِتَحسين شروط الحياة فيها ، ولا يهتمّ بعلم الآخرة هو علمٌ شأنه شأن الدنيا ينتهي عند الموت ، لذلك ربّنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾

[ سورة الروم : 6-7]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى الإمام البخاريّ في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّه قال :

((إن الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً ؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا ))

[ البخاري عن ابن عمرو ]

 معنى انتزاعا أي محْوًا من الصُّدور ، من علامات الساعة أن يرفع العلم ، ويفْشُو الجهل . وقد قال عليه الصلاة والسلام :

((يا أيها الناس خذوا من العلم قبل أن يقبض العلم ، وقبل أن يرفع العلم ، قيل: يا رسول الله كيف يرفع العلم وهذا القرآن بين أظهرنا ؟ فقال : أي ثكلتك أمك ، وهذه اليهود والنصارى بين أظهرهم المصاحف لم يصبحوا يتعلقوا بحرف مما جاءتهم به أنبياؤهم ، ألا وإن من ذهاب العلم أن يذهب حملته ثلاث مرات ))

[ رواه الدارمي عن أبي أمامة ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيّدنا عمر يقول : " لمَوت ألف عابدٍ قائم النهار ، صائم الليل ، أهوَنُ من موت عالمٍ بصير بِحَلال الله وحرامه ".
 مات يا أيها الأخوة المؤمنون زيد بن ثابت ، كاتب الوحي ، وقارئ القرآن ، وعالم الأنصار ، فقال عبد الله بن عباس : " من سرَّهُ أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم ".
 سيّدنا عمر بن عبد العزيز يقول : " إنّ العلم لا يُرفع حتى يكون سرًّا " ، أيْ قاصرًا على أُناسٍ قليلين ، يجب أن يتّسع نطاق العلم ، وأن تتّسع دائرته ، وأن يكون العلم للجميع .
 لذلك يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تعلّموا العلم فإن تعلّمه لله خشية ، ومدارسته عبادة، ومذاكرتهُ تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، هكذا قال سيّدنا معاذ بن جبل .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا ، فلْنَتَّخِذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

خاصية التمدد :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى خلق الكون من عناصر بسيطة ، علماء الفيزياء والكيمياء يعرفونها ، مئة وزيادة منها تتركّب المواد ، هذه العناصر تتّفق جميعًا في قوانين ؛ إنّها بالحرارة تتحوّل من جسم صلب إلى جسم مائعٍ ، إلى جسم غازي ، وبالبرودة تنعكس الآية ، فالحرارة تزيدُ من حجم الشيء ، والبرودة تنقص من حجمه ، وهذا قانون مطرد في كلّ العناصر ، إلا أنّ لهذا القانون استثناءً واحدًا ، لولا هذا الاستثناء لما كانت حياةٌ على وجه الأرض ، ولما كنّا نحن في هذا المسجد ، ما هو هذا الاستثناء ؟ هذا الاستثناء متعلّق بالماء ، فالماء شأنه شأن كلّ العناصر ، بالحرارة يزداد حجمهُ ، وينتقل من مائعٍ إلى بخار ، وبالبرودة ينتقص حجمه وينتقل من بخارٍ إلى مائع إلى جسم صلب ، وهو الثلج ، إلا أن هذا الاستثناء في الماء سبب ما ترَون من مظاهر الحياة على وجه الأرض ، فما هو هذا الاستثناء ؟ لو جئت بِلِتر ماء ، وسخّنتهُ إلى درجة عالية ، وكان هناك أجهزة دقيقة جدًّا لِقِياس حجمه ، لا شكّ أنّه يتمدّد ، فإذا برّدته ينكمش ، إذا برّدته من الثمانين حتى السبعين ، حتى الستين ، حتى الأربعين ، حتى عشرين درجة ، حتى عشر درجات ، ينكمش ، حتى الدرجة التاسعة ، الثامنة السابعة ، السادسة ، الخامسة ، عندئذٍ تنعكسُ الآية ، بعد الدرجة زائد أربعة مئويّة يبدأ الماء بالتمدّد فيكبرُ حجمهُ ، وشيءٌ تعرفونه جميعًا املأ زجاجةً ماءً وأحكم إغلاقها ، و ضعها في الثلاجة فإذا تجاوزت الأربع درجات يزداد حجم الماء مما يؤدّي إلى انكسار الزجاجة ، وهذه آيةٌ من آيات الله الدالة على الله .

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور