وضع داكن
19-04-2024
Logo
الإيمان هو الخلق - مقومات التكليف - الندوة : 71 - الوقت ـ العلاقة بين طول العمر وصلة الرحم
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ علاء :
أيها السادة المشاهدون سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين أهلاً وسهلاً سيدي الأستاذ .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ علاء جزاك الله خيراً .

 

الوقت و أهميته :

الأستاذ علاء :
سيدي تبينا في الحلقة الماضية مسألة الوقت في حقيقته ، حقيقة الزمن ، وأيضاً مفهوم الزمن في القرآن الكريم وما جاء من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وخاصة في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري ، وتحدثنا في خصائص الزمن ، سرعة الانقضاء وفي عدم العودة إلى غير رجعه ولا يمكن أن يعوض ، متى يعرف الإنسان قيمة الوقت بعد انقضائه والكيس الذي يعرف قيمة الوقت وهو يعيشه وهو بين ظهرانيه ، وتبين خطر الوقت بالتسويف ، هذه علته ، استهلاك رخيص ، ومن عدّ غداً من أجله فقد أساء صحبة الموت .
الآن نقف عند مسألة هامة هنالك يشاع بين الناس أن الإنسان إذا وصل الرحم وإذا قدم العمل الصالح فإن عمره يطول ، ورد في الأثر استناداً إلى ذلك :

(( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))

[ متفق عليه عن أنس بن مالك]

ماذا عن هذا الموضوع هل العمر يطول ؟

عمر الإنسان لا يزيد و لا ينقص :

الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، أستاذ علاء جزاك الله خيراً ، الحقيقة العمر لا يطول ، لكل إنسان أجل لا يزيد ولا ينقص :

﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)﴾

(سورة النحل)

لا بد من توضيح هذا بمثل : دكانان يفتحان الساعة التاسعة صباحاً ويغلقان التاسعة مساءً ، بلا زيادة ولا نقصان بالدقيقة ، أي زمن أغنى من زمن بالنسبة للدكانين ؟ الغلة ، فقيمة الوقت تقاس بالغلة فقط ، إذا قلنا لإنسان أطال الله عمرك نقصد بهذا أن يرزقك الله عملاً صالحاً يغني وقتك .

 

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح :

لذلك الله عز وجل خالق السماوات والأرض أقسم بعمر النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾

( سورة الحجر )

أستاذ علاء أتفه أعمار الإنسان العمر الزمني، بل إن أعظم أعمار الإنسان عمر الأعمال الصالحة ، حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح ، فإذا دعونا الإنسان بطول الدوام في العمل التجاري نقصد بكثرة الغلة لأن الدوام محدد من التاسعة إلى التاسعة لكن نقصد بكثرة الغلال والأرباح ، فالإنسان قد يعمل عملاً صالحاً مثلاً : النبي عليه الصلاة والسلام يقول : يا علي :

(( فَوَ اللَّهِ لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ ))

[ متفق عليه عن سهل بن سعد]

و :

(( خير له مما طلعت عليه الشمس ))

[ أخرجه الطبراني عن أبي رافع ]

و :

(( خير لك من الدنيا وما فيها ))

[ تخريج أحاديث الإحياء للعراقي ]

هذا عمل عظيم .

 

بطولة الإنسان لا في مدة عمره بل في العمل الصالح الذي يحويه هذا العمر :

بعد قليل نتحدث عن الأعمال وقيمتها ، لكن العبرة أن العمر الزمني من دون عمل صالح تافه جداً ، حياة الإنسان لا معنى لها بل حياة رتيبة وهو رقم سهل جداً ، هو رقم من مليارات الأرقام التي لا تعني شيئاً ، وفي إنسان رقم صعب ، إنسان شيء مذكور ، إنسان كبير عند الله وعند الناس ، فالبطولة لا أن نفرح أن نعيش سنوات تزيد ، الإمام الشافعي عاش أقل من خمسين سنة ، النووي أقل من خمسين ، في علماء كبار عاشوا أقل من أربعين سنة وتركوا آثاراً لا تنتهي إلى يوم القيامة ، فالبطولة لا في مدة العمر بل في العمل الصالح الذي يحويه هذا العمر ، هذه النقطة الأولى ، فأي دعاء لبعضنا بعضاً بطول العمر المقصود منه الدعاء بعمل صالح ثمين جداً يغني هذا العمر ، هذا هو المعنى لكن في السنة الشريفة إشارة إلى أن طول العمر يعد عملاً طيباً :

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))

[ الترمذي عن عبد الله بن بُسر]

بل حينما سئل في رواية أخرى أي الناس أفضل ؟ قال من طال عمره ، وحسن عمله .

 

لا خسارة مع الطاعة ولا ربح مع المعصية :

إنسان يعيش عمراً مديداً أنا أذكر أحد علماء دمشق وصل إلى الثامنة والتسعين وكان منتصب القامة ، وكان حاد البصر ، وكانت أسنانه في فمه ، وكان مرهف السمع وذاكرته قوية ، أخوانه وطلابه يعجبون أشد العجب منه كان إذا رأى شاباً يقول له أنت كنت تلميذي يا بني وكان أبوك تلميذي وكان جدك تلميذي ، سئل مرة عن هذه الصحة التي منحه الله إياها ؟ قال يا بني : حفظناها في لصغر فحفظها الله علينا في الكبر .
والله التقيت مع إنسان قال لي : أنا عمري ست وتسعون سنة ، والد صديقي في العيد فجلس معي وحدثني قال لي بالتعبير العامي قال : يا عم أنا عمري ست وتسعون سنة عملنا البارحة تحليل كامل دم وبول فلم يظهر شيئاً ، كله طبيعي ، ست وتسعون سنة ، علق على هذا قال والله بكل عمري ما أكلت قرشاً حراماً ولا أعرف حرام النساء .

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ خَيْرُ النَّاسِ ؟ قَالَ : مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ ))

[ الترمذي عن عبد الله بن بُسر]

بطولة الإنسان لا في شبابه بل في خريف عمره :

العوام لهم كلمة التقوى أقوى ، طاعة الله ، والبطولة أستاذ علاء لا في شباب الإنسان ، الشباب كله في حيوية ونشاط ، في خريف العمر فبين أن يرد الإنسان إلى أرذل العمر و بين أن ينحى جانباً ؟ يهمل ، يصاب بالخرف ، يعيد القصة مئة مرة ، يصبح حشرياً عبئاً على من حوله ، لا يحتمل ، تعليقاته لاذعة جداً ، وبين أن يكون الإنسان في أعلى درجة من الفهم والحيوية والذكاء والمحبة وهو في عمر مديد ، أنا أقول يتفاوت الناس لا في شبابهم بل في خريف عمرهم وبقدر طاعة الله في الشباب يكون خريف العمر .
والله مرة زرت عالماً في حلب والله كأنه ملك في مملكة ، بالستة والتسعين حوله أولاده حوله إخوانه مشرق الوجه طليق اللسان ذاكرته قوية ، شيء رائع جداً فبطولتنا لا في شبابنا بل في خريف عمرنا ، والإنسان خريف عمره يحدده كيف أمضى شبابه فإذا أمضى شبابه في طاعة الله متعه الله بصحته ، لذلك من الدعاء الدقيق جداً : ومتعنا الله بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا .
الأستاذ علاء :
سيدي العمر لا يطول ولا يقصر وإنما يملأ بعمل غني يجعله عظيماً ، هل نستطيع التعبير أنه لا يزيد طول العمر وإنما يتسع مجاله عرضانياً بالعمل الصالح ؟
الدكتور راتب :
نعم ، في غناه بالعمل الصالح .
الأستاذ علاء :
يحضرني في هذا الموضوع من يدعو على أطفاله أو يدعو على نفسه بالموت .

من أدب الإنسان مع الله تعالى ألا يدعو على نفسه أو على غيره :

الدكتور راتب :
كلام فارغ ، لكن منهي عنه ، لا يجوز أن يدعو الإنسان على نفسه وأولاده وأهله ، يسأل الإنسان ربه العافية :

(( إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى ، لكن عافيتك أوسع لي ))

[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر ، وفي سنده ضعف ]

هذا أدب مع الله عز وجل .
الأستاذ علاء :
سيدي العمر لا يزيد ولا ينقص إنما هناك هدف ثابت ليسعى المتحرك إليه وهو الإنسان .

 

على كل إنسان أن يعيش عمراً مفعماً بالطاعات ليلقى الله و هو عنه راض :

الدكتور راتب :
كل مخلوق يموت ولا يبقَ إلا ذو العزة والجبروت .

والليل مهما طال فلا بد من طلوع الفجر
والعمر مهما طال فلا بد من نزول القبر
***
وكل ابن أنثى وإن طلت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فإذا حمــلت إلى القبور جنازة فاعلم أنك بعدها مــحمول
***

هذا المعنى أشار النبي عليه الصلاة والسلام إليه حينما قال :

(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ))

[ أخرجه الشيرازي والبيهقي ، عن سهل بن سعد البيهقي عن جابر ]

فلذلك البطولة أن أعيش عمراً مفعماً بالطاعات حتى يكون اللقاء مع الله رائعاً .
الأستاذ علاء :
سيدي من هنا العطاء العمل الخير حتى يكون خيراً هل يحكم إيقاعه الزمن ؟ يجب أن يقترن بالزمن ؟

 

الزمن وعاء العمل :

الدكتور راتب :
طبعاً يعني الزمن وعاء العمل ، ما في عمل بلا زمن ، عفواً أي حدث له مكان وله زمان ، له مكان هو مسرح الحدث وله زمان مظلة الحدث ، وأي حدث يقع في الأرض له زمان وله مكان ، فالزمن وعاء العمل من دون زمن ما في عمل ، لذلك الزمن أصبح هو حقيقة الإنسان ، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بضع منه .
ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي : يا بن آدم أنا خلق جديد ، وعلى عملك شهيد ، فتزود مني ، فإني لا أعود إلى يوم القيامة .
أستاذ علاء في دعاء للنبي الكريم حينما يستيقظ :

(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي ، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي ، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

سمح لي أن أعيش يوماً جديداً وكأنه كان في موت وأنا أعرف أناس كثيرين ناموا فلم يستيقظوا ، فالإنسان إذا فتح عينيه وصحا من نومه ووقف معنى سمح الله له أن يعيش يوماً جديداً :

(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي فِي جَسَدِي ، وَرَدَّ عَلَيَّ رُوحِي ، وَأَذِنَ لِي بِذِكْرِهِ ))

[الترمذي عن أبي هريرة ]

(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

آية بيننا وبين المنافقين شهود العشاء معاً والصبح لا يستطيعونه .
الأستاذ علاء :
سيدي هنالك عمل يقبل في زمن ولا يقبل خارج هذا الزمن .

 

إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار وإن لله عملاً بالنهار لا يقبله في الليل :

الدكتور راتب :
العبادات شيء رائع جداً ، الصلاة لها وقت فإذا دخل وقتها نصلي ولا تقبل إلا في وقتها :

﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)﴾

( سورة النساء )

الصلاة مؤقتة بمواقيت محددة ، الصيام بشهر محدد ، الحج بأيام محددة ، في صدقة الفجر ، في أعمال ، إن لله عملاً بالليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل .
حينما جاء سفير عامل عمر بن الخطاب على أذربيجان وصل المدينة في الليل ، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين فتوجه إلى المسجد ، فسمع رجلاً يبكي ويصلي ويقول ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ ولعل القصة أن سيدنا عمر كان في ظاهر المدينة يتجول فرأى قافلة أراد أن يحرسها في الليل ؛ سمع بكاء طفل فنبه أمه فبكى ثانية نبه أمه فبكى ، فغضب كان عصبي المزاج قال أرضعيه ، قالت ما شأنك بنا ، من أنت ؟ إني أفطمه ، قال ولما ؟ قالت لأن عمر لا يعطي العطاء إلا بعد الفطام (التعويض العائلي)

تروي الروايات أنه ضرب جبهته وقال ويحك يا بن الخطاب كم قتلت من أطفال المسلمين ، وصلى الفجر في أصحابه لم يفهم أصحابه قراءته من شدة بكائه ، يبدو في هذه الليلة كان يناجي ربه ويقول : ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ سأله من أنت يرحمك الله بعد أن انتهى من صلاته ؟ قال أنا عمر ، قال يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟ قال : أنا إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي .
الأستاذ علاء :
فهم لا يوجد له وعاء ليستوعبه ، فهم كبير ، فهم سبق الزمان وسبق كل أصحاب النظريات في منتهى الدقة ، في منتهى التعبير ، كيف يكون التعامل مع الزمن في فعل الخير ؟ الآن سيدي الزمن وعاء العمل كما العقل وعاء الفكر ، عند أهل الفلاسفة عندما يقولون بأن العقل هو وعاء الفكر ، هنا الزمن وعاء العمل ، هو الذي يحتوي العمل لصالحه واستغلاله ، نبسط في هذه المسألة كيف يكون الزمن وعاءً للعمل ؟

 

العلاقة الوثيقة بين العمل و الزمن :

الدكتور راتب :
كيف أستطيع أن أعمل ؟ إما في النهار أو في الليل ، الآية الكريمة : 

﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)﴾ 

( سورة يونس )

على قوم ليلاً وعلى قوم نهاراً : 

﴿ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ﴾

( سورة يونس الآية : 25 )

العمل علاقته بالوقت علاقة مهمة جداً ، لا يوجد عمل بلا وقت ، والوقت وعاء إطار ، فالإنسان ما دام معه وقت في معه أمل كبير ، العمل مرتبط بالوقت والوقت يعطي الأمل ، فما دام في بقية في حياة الإنسان فالأمر سهل جداً أن نتلافى أخطاءه لذلك ، ما أنزل الله من دواء إلا أنزل له شفاءً ، ما علاقته بالموضوع قال إلا السام أي مرض الموت ، هذا المرض ليس له شفاء أنا أسميه بوابة الخروج .

 

العاقل من استغل كل ثانية في عمره :

لذلك :

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (133)﴾

( سورة آل عمران )

صار العمل له علاقة بالوقت ، أنا إما أن أعمل ضمن إطار الوقت أو فاتني العمل وفاتني كل خير .
الأستاذ علاء :
كمن فاته أن يقدم امتحاناً في وقته فلا يستطيع أن يعود ، فات وقته .
الدكتور راتب :
لو أن طالباً ما درس ما قدم امتحاناً ، طلب من وزير التربية أن يعمل له استثناء شيء مضحك ، لذلك قال صاحب الحكم العطائية : رب عمر اتسعت آماده وقلّت أمداده ، عمر مديد بعمل تافه ، وربّ عمر قليلة آماده كثيرة أمداده ، ومن بورك له في عمره أدرك في يسير من الزمن من المِنن ما لا يدخل تحت دائرة العبارة ولا تلحقه ومضة الإشارة .
أحد العلماء جمعوا كتبه وقسموها على أيام حياته ، مؤلف في اليوم تسعين صفحة نحن لا نقدر أن نقرأها ، أحياناً الله عز وجل يضع البركة في العمر ، والبركة أنا مؤمن بها أشد الإيمان . البركة في العمر في اتساع عرضاني أما الأمد محدود .
الأستاذ علاء :
سيدي متى تستمر الحياة بعد الموت ، العمل الذي يمتد إلى ما بعد الموت كيف يكون هذا وقد انقطع عمر الإنسان عند الهدف الثابت ؟ الله جعل أجله في هذا اليوم وانتهى ، هل هناك استمرار للعمل ؟

 

العمل العظيم هو العمل الذي اتسعت رقعته فشملت أعداداً كبيرة من البشر :

الدكتور راتب :
نعم هناك أعمال تستمر بعد الموت ، بشكل مبسط جداً في إنسان ترك آثاراً طيبة جداً ، ولعلهم تركوا محاضرات وهذه تلقى في كل الإذاعات بعد موتهم ، وهناك من تركوا أشياء أخرى تلقى بعد موتهم ، فكلاهما يدفع ثمن ما بعد الموت ، لكن قبل أن نصل إلى هذا الموضوع الدقيق ، العمل يوزن ، يوزن أحياناً باتساع رقعته ، إنسان عمله معلق بأسرته فقط جيد لكن في إنسان بعائلته الكبيرة ، في إنسان بمدينته ، في إنسان ببلدته ، في إنسان بمجتمعه ، فكلما اتسعت رقعة العمل كان العمل عظيماً ، أنت تذهب إلى الصين ترى في إسلام ، تذهب إلى شمال إفريقيا ، إلى أوربا ، أمريكا ، هذا الإنسان الذي عاش ثلاث وعشرين سنة في الدعوة وانتقل إلى رحمة الله ما الآثار التي تركها النبي عليه الصلاة والسلام ؟ فكلما اتسعت رقعة العمل فشملت أعداداً كبيرة من البشر حتى دخلت فيه الأمم والشعوب كان العمل أعظم ، وكلما امتد أمد العمل حتى توارثته الأجيال عن الأجيال كان العمل عظيم .
الأستاذ علاء :
الرقعة الجغرافية ، ثم البعد الزمني .

من مقاييس قيمة العمل أن يكون واسع الرقعة ممتد الأمد عميق الأثر :

الدكتور راتب :
الآن كلما تغلغل في أعماق النفس ، مثلاً شخص أودع عند إنسان عشرين مليون قصة جاءتني على ورق ، هذا الإنسان يبدو أنه بخيل أعطى المبلغ لصديقه كي يشغله بالتجارة ومات بحادث ، ما في إيصال وما في أي إثبات من تلقاء نفسه توجه إلى الورثة وقدم لهم المبلغ ، لو ما كان إيمانه عميقاً جداً لا أحد يسأله إطلاقاً ، ليس مداناً في الأرض لكنه يخاف الواحد الديان .
سيدنا ابن عمر : بعني هذه الشاة وخذ ثمنها ؟ قال له الراعي : ليست لي ، قال : قل لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب ، يقول الراعي : ليست لي ، يقول له : خذ ثمنها ، يقول له الراعي : والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ، ولو قلت لصاحبها : ماتت ، أو أكلها الذئب لصدقني ، فإني عنده صادق أمين ، ولكن أين الله ؟
لا يكفي أن يكون الإسلام ظاهرياً ، يوجد إسلام عميق جداً ، حينما يكون العمل واسع الرقعة ممتد الأمد عميق الأثر يكون عملاً عظيماً من هنا ، هذه بعض مقاييس قيمة العمل ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كل أمته من بعده في صحيفته :

﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (120)﴾

( سورة النحل )

في قلوب الأمة بأكملها هذه اتساع الرقعة وامتداد الأثر وعمق التأثير .
الأستاذ علاء :
سيدي أن يستمر العمل لما بعد الموت .

 

على كل إنسان أما أن يؤلف الكتب أو يؤلف القلوب :

الدكتور راتب :
في أعمال تنتهي بانتهائها ، أطعمت إنساناً فشبع بعد أربع ساعات جاع مرة ثانية الإطعام انتهى ، كسوته ثوباً بعد حين بلي الثوب ، في أعمال تنتهي بوقت محدد ، لكن لو شخص ترك مؤلفاً عظيماً وطبع مئات الطبعات بعد وفاته ، مرة ألقيت خطبة استعنت بتفسير للإمام القرطبي ترك أثراً بليغاً جداً ، فأنا سبحان الله تأثرت تأثراً بالغاً ، هذا الإنسان مات قبل ألف سنة ، وأنا استعنت بكتابه لإلقاء خطبة تركت أثراً بالناس كبيراًَ ، معنى هذا أن أثره استمر ألف سنة .
لذلك إما أن تؤلف الكتب وإما أن تؤلف القلوب ، تأليف القلوب أعمق أثراً وأقصر أمداً ، بينما تأليف الكتب أقل أثراً وأطول أمدا ً، في علماء كبار من هم لولا كتبهم ؟ هم في حياتهم كان لهم أتباع لكن هؤلاء انقضوا ، الأتباع تنتهي هذه التبعية بموتهم ، أما كتبهم جعلت لهم أثراً خالداً ، إذاً الإنسان :

(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

القرب من الله لا يكون إلا بالصدقة الجارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح :

في تعليق لطيف جداً : الويل ثم الويل ثم الويل لمن ليس له عمل ينقطع ، هذا الذي له عمل ينقطع عند الموت ، أما الويل لمن ليس له عمل ، عاش على أنقاض الناس ، بنى مجده على أنقاض الناس ، بنى غناه على إفقار الناس ، كما نرى فيما يجري في العالم ، بنى أمنه على إخافة الناس ، بنى عزه على إذلال الناس

هؤلاء الذين يفعلون هذا ليس لهم عمل ينقطع لهم جرائم تنقطع لذلك النبي عليه الصلاة والسلام : مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ :

(( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ))

[ متفق عليه عن أبي قتادة]

الطغاة الذين يكيلون للشعوب يدمرون الشعوب ينهبون الثروات ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ .
هذا الذي هدم سبعين ألف بيت في غزة ولم يمت حتى الآن ، يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ .
الويل لمن ليس له عمل ينقطع ،

(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

[ صحيح عند ابن خزيمة]

صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أسس ميتماً ، أسس مستشفى ، أسس مدرسة ، ترك شيئاً ثميناً جداً ، ألّف كتباً ، عمل مدرسة حضارية تخرج الأجيال ، أسس جامعة مثلاً ، هذه الأعمال كلها حضارية يموت صاحبها والعمل مستمر هذا الذي يستمر بعد موته ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، ترك علوماً ومجلدات وأبحاثاً وانتفع الناس بها من بعده ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ .

 

الإنسان يسلم بالاستقامة لكن لا يسعد إلا بالبذل و العطاء :

مفطور على حب وجوده ، وعلى حب سلامة وجوده ، وعلى حب كمال وجوده ، وعلى حب استمرار وجوده ، حب سلامة الوجود يكون بطاعة الله وطاعة الله عز وجل سلبية يقول لك أنا ما أكذب ، ما ، ما أغتاب ، ما غش ، أنت بالاستقامة تحقق السلامة ، سلامة وجودك أساسها الاستقامة ، أما كمال الوجود بالبذل بالعطاء ، ماذا قدمت من مالك ؟ ماذا قدمت من علمك ؟ ماذا قدمت من خبرتك ؟ ماذا قدمت من جهدك ؟ أنت بالاستقامة تسلم ولكن لا تسعد إلا بالبذل والعطاء لذلك قال تعالى :

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110)﴾

( سورة الكهف )

ثلاثة وأما استمرار الوجود بتربية الأولاد ، أنت إذا ربيت ابنك على قيم فاضلة وعلم غزير وأخلاق عالية وتوفي الإنسان ابنه من بعده ، لذلك من يريد أن يستمر وجوده فليربِ أولاده :

(( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ : إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

[ صحيح عند ابن خزيمة]

بطولة الإنسان أن تستمر أعماله بعد موته :

في حديث فيه تفصيلات لطيفة ، إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ، علم علمه أو ولد صالح تركه أو مصحف ورثه أو مسجد بناه أو بيت لابن السبيل أو نهر أجراه أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته
الأستاذ علاء :
نعيد الحديث سيدي .
الدكتور راتب :

(( إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علماً علمه ونشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مسجداً بناه ، أو بيتاً لابن السبيل بناه ، أو نهراً كراه ، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ، تلحقه من بعد موته ))

[إسناده حسن لغيره ورد في صحيح ابن خزيمة في باب فضائل بناء السوق]

والبطولة بهذه الأعمال التي تبقى بعد موت الإنسان .
الأستاذ علاء :
ومن هنا تستمر الحياة بعد الموت .

 

كمال الإنسان لا يكون إلا بالعمل الصالح :

الدكتور راتب :
الإنسان يحب وجوده ، وسلامة وجوده بالاستقامة ، وكمال وجوده بالعمل الصالح ، واستمرار وجوده بصدقة جارية تستمر بعده .
الأستاذ علاء :
لذلك بهذا الفهم الدقيق للوقت والزمن ، وكيف نتعامل مع الوقت والزمن ؟ وكيف نفهم خصائص الوقت والزمن بالسرعة وعدم العودة وبآفات الزمن بالتسويف ، وأننا سوف نعمل هذا العمل غداً ، وكيف نخطط للزمن ونستثمر الزمن استثماراً إيمانياً عقلياً لكي نفوز ونسعد بهذا الفهم ؟ وبما تقدمه لنا إن شاء الله في الحلقات القادمة .
الدكتور راتب :
سوف نتحدث عن إدارة الوقت .

خاتمة وتوديع :

الأستاذ علاء :
وهو من أهم القضايا ، تتمايز الأمم والشعوب بإدارة الوقت وبفهم إدارة الوقت ، وإذا أدرنا الوقت إدارة حقيقية أدرنا مواردنا إدارة حقيقية ، وكان عيشنا على الأرض يحمل المعنى السامي ويحمل ما فيه كل القرب من الله عز وجل .
لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة على كل ما قدم وشرح ، وإن شاء الله نتمم موضوعنا في حلقات قادمة .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور