- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
الأستاذ علاء :
تقديم وترحيب :
الإيمان هو الخلق ، يسعدنا أن نكون بمعية فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً وسهلاً سيدي الأستاذ .
مقدمة تذكيرية :
سيدي ، بدأنا بالمقوم الأخير لمقومات تكليف الإنسان التي بسطها الله أمام هذا الإنسان العظيم ، الذي وجد على رأس ، وعلى قمة المخلوقات ، لأنه أعطاه العقل والتفكير والإدراك ، وأعطاه ما يختار ، أنْ يقدم أو يحجم ، وتحدثنا عن الكون والعقل والفطرة والشهوة والاختيار ثم الشرع ، وتوقفنا في الحلقة الماضية عند الوقت ، وتبينا بأن الوقت هو الإنسان ، أو رأس مال الإنسان ، فإن ذهب هذا الوقت ذهب الإنسان ، ذهب دون أن يستغله في العمل الصالح ، فقد خسر وقد ضاع ، وأرشدنا إلى ذلك أن الله عز وجل أقسم بالعصر ، وهنالك ربط بين القسم والمقسَم له ، لأن الله قد أقسم به ، وبيَّن المقسوم له ، وهو الإنسان :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
ثم الله عز وجل جاء بأداة الاستثناء ليدلَّنا على كيفية تلافي الخسران ، وتبيّنا هذا في الحلقة الماضية ، وأنهيناها عند قول الإمام الشافعي : " ونفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر " ، وقبلها يقول : " الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك " ، وتحدثت أن الخسران عندما نستهلك الوقت استهلاكاً هدراً ، ولا نستثمره استثماراً ، وأنه عندما نفتح قناة المياه لتجرف التربة ، وكي تهدر دنمًا فهذا لا طائل له ، وكمن يسقي بالتنقيط ، الذي يستفيد من كل قطرة ونقطة ماء .
الدكتور راتب :
هذا رائع جداً .
الأستاذ علاء :
نكمل ، كيف يرمم الإنسان هذا الخسران ؟
الدكتور راتب :
لله عمل في الليل لا يقبله في النهار ، وعمل في النهار لا يقبله في الليل :
ذكرت سابقاً أن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، وأن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل ، وذكرت أن هذا الخليفة العظيم سيدنا عمر حينما جاء سفيرُ عاملِه على أذربيجان ، ووصل المدينة ليلاً ، وكره أن يطرق باب أمير المؤمنين ، ودخل إلى المسجد ، فسمع إنساناً يصلي ويبكي ويقول : يا رب ، هل قبِلتَ توبتي فأهنِّئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ فقال هذا السفير : مَن أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا عمر ، قال : أمير المؤمنين !؟ يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟ فقال : << أنا إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي >> .
أركان النجاة :
أكاد أقول : هناك مصطلح اسمه عبادة الوقت ، ثم بينا في لقاء سابق أن هذه الخسارة محققة ، لأن مضي الزمن يستهلك الإنسان ، فهو بضعة أيام ، هو زمن ، أو رأس ماله هو الزمن ، أو أثمن شيء يملكه هو الزمن ، لكن رحمة الله في ( إِلاَّ )، ما جاء بعده عَنْوَنَا له بأركان النجاة ، فلا بد من أن تبحث عن الحق أولاً ، ولا بد من أن تعمل وفق الحق ثانيًا ، ولا بد من أن تدعو إليه ثالثًا ، ولا بد من أن تصبر رابعًا على البحث عنها ، والعمل وفقها ، والدعوة إليها ، هذه أركان نجاة الإنسان ، أركان سعادته ، أركان سلامته ، أركان فوزه ، أركان تفوقه ، أركان فلاحه ، أركان الجنة .
البند الأول : الإيمان بالله :
إذاً : نبحث عن الحقيقة ، لذلك ورد :
(( لا بورك لي بطلوع شمس يوم لم أزدد فيه علماً يقربني إلى الله . و لا بورك لي بطلوع شمس لم أزدد فيه من الله قرباً ))
ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان ، والمغبون من تساوى يوماه ، فكأنه شريط متحرك ، والإنسان إن لم يكن على هذا الشريط فكلُّ مَن على الشريط يسبقه ، تصور الزمن كحركة شريط ، في بعض المطارات الدولية في غير الدرج المتحرك شريط متحرك أفقي ، الإنسان يقف على هذا الشريط فهو يمشي ، أما الواقف خارج الشريط فيسبقه كل مَن على الشريط ، لذلك المغبون من تساوى يوماه ، ومن لم يكن في زيادة ، ومن لم يكن على الشريط فهو في خسارة محققة ، إذاً الوقت شيء دقيق جداً .
النقطة الأولى : على الإنسان أن يؤمن بسر وجوده ، وغاية وجوده ، يؤمن بربه ، بربه الخالق المربي المسير الموجود الواحد الكامل ، صاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى ، ويؤمن بهذا الكتاب الذي أنزله على نبيه ، ودليل أنه كتاب الله إعجازه ، وتحقق الوعد والوعيد ، وأن يؤمن من خلال هذا الكتاب بهذا الإنسان الذي جاء به ، وقد بين ما في هذا الكتاب بأحاديث كثيرة ، فالإيمان بالله خالقاً ومربياً ومسيراً ، والإيمان بكتابه وبرسوله يمكن لعقل الإنسان أن يصل إلى حقيقة قطعية في هذا ، فالإنسان في شأن دنياه يبذل الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، ويفكر ، ويدقق ، ويتأمل ، ويسأل ، ويستقصي أفلا ينبغي لحياة أبدية سرمدية أن نعدّ لها ؟
فلذلك البند الثاني من بنود النجاة أن أعمل وفق إيماني .
الأستاذ علاء :
سيدي ، هل أستطيع ، وهو من عمل القلب والفؤاد والعقل ، والإيمان أن أتوقف عند هذا ، وألا يكون له مرتسم عملي على الأرض ؟
الدكتور راتب :
البند الثاني : العمل الصالح :
لا قيمة لذلك أبداً .
للتقريب : إنسان معه مرض جلدي ، علاجه الوحيد أن يتعرض لضوء الشمس ، لكنه جلس في غرفة قميئة مظلمة ، وقال : يا لها من شمس ساطعة ، إنها شمس تشفيني ، إنها شمس ما أعظمها من شمس ، لو حدّث الناس عشرات المرات وعشرات الأيام عن عظمة الشمس ، ولم يتعرض لأشعتها يبقى مريضاً ، لذلك الذي آمن ، ولم يتحرك فما قدم شيئاً ، لأنه أقر بحقيقة ثابتة بديهية ، ماذا ينفعه إيمانه .
هذا هو إيمان إبليس :
ألم يقل إبليس :
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
ألم يقل :
﴿ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ ﴾
هذا إيمان إبليسي لا يقدم ولا يؤخر ، لذلك :
وعالمٌ بـعلمه لـم يعملنْ معذَّب من قبْل عباد الوثن
* * *
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾
الأستاذ علاء :
لذلك سيدي :
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
الدكتور راتب :
الإسلام حُسنُ المعاملة تجاهَ الخَلق :
أستاذ علاء ، المؤمن كائن متحرك ، وليس هناك كائن سكوني ، ولا كائن سلبي ، ولا متقوقع ، ولا منسحب ، بل إن المؤمن إيجابي ، المؤمن فاعل ، وليس منفعلا ، المؤمن له دور ، يحمل همَّ الأمة ، يقدِّم شيئًا لأمته يبتغي به وجه الله ، يتقرب إلى الله بخدمة الناس .
(( الخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ))
ما إن تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن حتى تعبر عن ذاتها بحركة نحو خدمة الخلق ، أنا لا أصدق إيمان سلبي ، إعجاب سلبي ، يا أخي الدين عظيم ، ما أعظم هذا الدين ، هو وحي السماء ، هو بشارة الأنبياء ، هذا كلام لا يقدم ولا يؤخر ، ماذا قدمت لله يوم القيامة ؟ هل نصحت مَن حولك ؟ هل استقمت في بيعك وشرائك ؟ هل أخلصت لمرضاك أم أوهمتهم ، وابتززت أموالهم ؟ هل أخلصت لموكلك أم أوهمته أن الدعوى سوف تربح ؟ هل سحبت الحديد بعد أن جاء الكشف على البناء ثم انهار البناء ؟ هل حككت صلاحية الدواء من أجل أن تبيعه ، وقد انتهت صلاحيته ؟ الدين بالعمل ، في المسجد تتلقى التعليمات ، وتقبض الثمن ، الدين بدكانك ، بمكتبك ، بعيادتك ، بمكتبك الهندسي ، بالسوبر ماركت ، بضاعة منتهية المفعول ، تحك الصلاحية أحياناً ، والله :
(( ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ))
والله لا أتألّى على الله ، لكن هذا الذي يغش الناس ، يعطيهم أسوء بضاعة بأغلى سعر ، يوهمهم بأوهام كثيرة ، والله هذا ألغى صلاته وصيامه وحجه وزكاته .
(( ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا ، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : هِيَ فِي الْجَنَّةِ ))
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا ، فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا ، وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ، حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا ))
أستاذ علاء : تعليق : فما قولك بما فوق الهرة ؟ بمن يقتل شعباً بأكمله .
قتل امرئ في بلدة جريمة لا تغتفر وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
***
لذلك هؤلاء الذين يكيلون بألف مكيال ومكيال :
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
الله عز وجل عدله مطلق ، وأيُّ إنسان يظلم الآخرين سوف يحاسب حساباً عسيراً ، البند الثاني من أركان النجاة أن أعمل وفق إيماني ، أن أترجم إيماني إلى عمل ، أن ينقلب الإيمان إلى سلوك ، أن يكون هناك التزام لأن العبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية .
الأستاذ علاء :
سيدي هنا الله عز وجل جاء بصالحات لتقيد العمل ؟
الدكتور راتب :
العمل الصالح ما كان خالصًا ووفق السنة :
لذلك متى يكون العمل صالحاً ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة ، لذلك :
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ ﴾
قد يكون صالحاً عند الناس ، وليس كذلك عند الله ، قد يكون صالحاً في توهمك ، وهو عند الله ليس بصالح ، البطولة أن تأتي مقاييسك في العمل الصالح وفق مقاييس الله عز وجل .
الأستاذ علاء :
من هنا فاستبقوا الخيرات ، كل خير هو عمل صالح .
الدكتور راتب :
وعلة وجودنا العمل الصالح الدليل ، الإنسان حينما يأتيه ملَكُ الموت على أي شيء يندم ؟
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
لذلك علة وجودنا العمل الصالح ، العمل الصالح ثمن الجنة .
الأستاذ علاء :
أعيدوني إلى الوقت .
الدكتور راتب :
العمل الصالح له أهداف وغايات :
إلى الوقت الذي أضعته .
أستاذ علاء ، العمل الصالح ليس فلتة عارضة ، ولا نزوة طارئة ، ولا حادثة منقطعة ، إنما ينبعث عن دوافع ، ويتحرك إلى أهداف ، ويتعاون عليه المؤمنون ، هو ليس انكماشاً ، ولا سلبية ، ولا انزواءً ، ولا تقوقعاً ، بل هو حركة خيرة نظيفة ، وعمل إيجابي هادف ، وعمارة متوازنة للأرض ، وبناء شامخ للأجيال يتجه إلى الله ، ويليق بمنهج الله ، هذا البند الثاني من أبواب النجاة ، الإيمان والعمل الصالح .
الأستاذ علاء :
﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
العمل الصالح الذي يرضاه ربنا والمرتبط بفهمنا الإيماني .
الدكتور راتب :
حجمنا عند الله بحجم عملنا الصالح :
حجمنا عند الله بحجم عملنا الصالح ، الدليل :
﴿ و لِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾
مَن أنت ؟ حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، لذلك :
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً (120)﴾
له أعمال جليلة انتفعت بها أمة ، فكان في قلب أمة .
العلمُ والعمل الصالح مقياسان شرعيان لا ثالث لهما:
البطولة أن تأتي مقاييسي وفق مقاييس القرآن ، القرآن اعتمد قيمتين للترجيح بين البشر ، اعتمد قيمة العلم ، واعتمد قيمة العمل ، وكلُّ القيم التي نعتمدها نحن أهملها القرآن ، نحن نعظم الأغنياء والأقوياء ، مَن لهم شكل وسيم جداً ، نعظم الأذكياء ، لكن القرآن أكد على قيمتين ، قال :
﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
قال تعالى :
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾
اعتمد قيمة العلم ، واعتمد قيمة العمل ، فأية أمة لا تعتمد هاتين القيمتين حصراً فليست على الطريق الصحيح ، لأن حجم الإنسان بعلمه وعمله معاً .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم الآن ، قبل أن أنتقل التواصي بالحق ، من هنا قسم المفسرون أو العلماء حتى الصحابة الكرام في الدرجات لمن سبق ، ثم كان له فيما بعد تأخر في الوقت قسموهم إلى درجات في المرتبة ؟
الدكتور راتب :
ليس أجرُ اللاحقِ كأجر السابق في الإسلام :
طبعاً الذين بدؤوا حياتهم بالإيمان بالله هؤلاء السابقون ، هؤلاء آمنوا في وقت عسير ، آمنوا والناس جميعاً ضدهم ، آمنوا وليس هناك أي مكسب من الإيمان ، آمنوا والإيمان كله تبعات ، كله متاعب ، فلذلك ليسوا سواء ، من آمن قبل الفتح وبعد الفتح ، قبل الفتح شيء ، وبعد الفتح شيء ، قبل الفتح متاعب ومغارم ، وبعد الفتح مكاسب ، فالذين سارعوا إلى الإيمان في وقت الشدة وفي الوقت العصيب هؤلاء لهم ميزان آخر .
الأستاذ علاء :
الذين استجابوا لله وللرسول في ساعة العسرة لهم المكانة الكبيرة ، المقصود فيهم الأنصار ، لأنك تحدثت عن مسألة الرتب .
الدكتور راتب :
البند الثالث : التواصي بالحق :
أستاذ علاء ، الإنسان اجتماعي ، وبطولته أن يصلح نفسه أولاً ، حينما يؤمن وحينما يعمل الصالحات ، وقد ينجو بهما ، لكن بطولته الكبيرة أن يصلح غيره ، من هنا جاء :
﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقَّ ﴾
أزلية معركة الحق والباطل :
الحق دائرة والباطل دوائر ، إذا كان تواصٍ بالحق فإن دوائر الحق تنمو ، وتضيق دوائر الباطل ، فإذا سكتنا عن التواصي بالحق فإن دوائر الباطل تنمو ، وتضيق دائرة الحق ، فمعركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية ، لأن الله عز وجل كان من الممكن أن يجعل الطرف الآخر في كوكب آخر ، أو الطرف الآخر في قارة أخرى ، أو الطرف الآخر في حقبة أخرى ، ولكن شاءت حكمته أن نكون معاً في كل مكان ، وفي كل زمان ، ومن لوازم هذه المعية أن هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل ، لأن الحق لا يقوى إلا بالتحدي ، ولأن أهل الحق لا يستحقون الجنة إلا بالعمل والتضحية .
فلذلك التواصي بالحق مكلِف ، وأحيانا يكون السكوت عند بعض الناس أكثر راحة وأولى ، فحينما يجاهر الإنسان بالحق يكون بطلاً .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، نلاحظ هذا الفعل تواصوا ، تفاعلوا .
الدكتور راتب :
المشاركة في التواصي بالحق :
فيه مشاركة ، كلٌّ منا يوصي الآخر ، لذلك حياة المؤمنين حياة سعيدة جداً ، من يأخذ بيد أخيه ، وأخوه يأخذ بيده ، ينصح أخاه ، وأخوه ينصحه ، يرشد أخاه ، وأخوه يرشده ، هذا هو التواصي ، فلذلك :
(( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ، قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))
ما لم تنصح فقد وضعت إيمانك في وضع حرج جداً ، لو قال لك إنسان يشتري من عندك قماشاً : بالله عليك انصحني بلون رائج ، لكنك نصحتَه بلون كاسد عندك ، فقد خنت الأمانة ، وكفى بها خيانة أن تحدث أخاك بحديث هو لك به مصدِّق ، وأنت له به كاذب ، وحينما ينتفي الكذب والخيانة من حياتنا نكون في حال خير من هذا الحال ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ ))
فإذا كذب ، أو خان فقد انتهى إيمانه ، وليس فيه ذرة إيمان ، فالتواصي بالحق من أجل إصلاح الآخرين .
الأستاذ علاء :
سيدي التواصي بالحق هل هو يختص بفئة من الأمة أم ماذا ؟
الدكتور راتب :
التواصي بالحق فرضُ عين على المسلم في حدوده :
فرض عين على كل مؤمن الدليل ، التواصي بالحق أحد أركان النجاة لكل مؤمن ، وليس عندنا مؤمن صامت ، ولا مؤمن سكوني ، ولا مؤمن إعجابه سلبي ، ولا مؤمن لا يتحرك لا يهمه أحد ، هذا ليس مؤمناً ، لذلك التواصي بالحق بهذه الآية دليل قطعي على أن الدعوة إلى الله فرض عين على كل مؤمن ، ولكن في حدود ما يعلم ، ومع من يعرف ، أما في دعوة إلى الله احترافية :
﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾
هذه دعوة احترافية تحتاج إلى تفرغ ، وإلى تعمق ، وإلى علم ، وإلى القدرة على رد كل الشبهات ، والإتيان بكل البراهين والأدلة ، هذا فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الكل ، أما الدليل الآخر أن الدعوة إلى الله فرض عين قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( بلغوا عني ولو آية ))
سمعت خطبة تأثرت بها ، ثم جلست مع أهلك حدِّثهم عنها بوعي .
الأستاذ علاء :
ما ينقلها بمفاهيم خاطئة أحياناً ، يدقق كثيراً في مفاهيم سمعها الإنسان ، تأخذ وتعطي معه ، يقول : سمعتها من الخطيب ، تسأل الخطيب يقول : ما تكلمت بهذا الكلام .
الدكتور راتب :
هذه مشكلة الأتباع ، إذاً التواصي بالحق له دليلان ، الحديث :
(( بلغوا عني ولو آية ))
وهذه الآية :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي (108)﴾
فالذي لا يدعو إلى الله لا يتبع النبي ، والذي لا يتبع النبي لا يحب الله :
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي (31)﴾
إذاً : الدعوة إلى الله فرض عين وفرض كفاية ، فرض عين لآحاد المؤمنين في حدود ما يعلمون ، ومع من يعرفون :
(( بلغوا عني ولو آية ))
أركان النجاة الأربعة مجتمعة ، ليس معنى أركان النجاة إذا قمت بواحد منها اكتفيت ، لا هذه أربعة مجتمعة ، يجب أن تبحث عن الحقيقة ، وأن تتحرك وفقها ، وأن تدعو إليها ، وأن تصبر على أشياء ثلاثة على البحث عنها ، والعمل بها ، والدعوة إليها .
الأستاذ علاء :
تواصوا بالصبر ، والصبر له علاقة بالحق .
الدكتور راتب :
البند الرابع : التواصي بالصبر :
أن يصبر الإنسان على البحث عن الحقيقة ، والعمل بها ، والدعوة إليها .
آخر بند يغطي البنود الثلاثة لأركان النجاة أستاذ علاء هذه السورة ، ولو لم يكن في كتاب الله عز وجل إلا هذه السورة لكفت ، هذه السورة كان أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا يتفرقون إلا على هذه السورة .
الأستاذ علاء :
سيدي ، الإيمان ، وبعد الإيمان العمل وفق الإيمان .
الدكتور راتب :
ثم الدعوة إلى ما آمنت به كفرض عين :
(( بلغوا عني ولو آية ))
ثم الصبر على الإيمان ، والعمل والدعوة ، والإنسان إذا ما دعا في سلام ، إذا دعا في متاعب أحياناً فهذه ثمن الجنة ، الأبطال عاشوا متاعب كثيرة جداً ، والذين قلبوا وجه التاريخ ما كان طريقهم مفروشاً بالورود ، بل كان مفروشاً بالمتاعب ، فلذلك طريق القمة متعب جداً .
الأستاذ علاء :
قالوا لعمه أبي طالب : إن كان يريد مالاً جعلناه أغنى واحد فينا .
الأستاذ راتب :
مالاً جعلناك أغنى واحد فينا ، تريد امرأة جميلة زوجناك أجمل فتياتنا ، تريد جاهاً وليناك علينا :
(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يمين والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
الأستاذ علاء :
سيدي لذلك نعود ، ونؤكد أن الله عز وجل حينما أقسم بالعصر أقسم بشيء عظيم ، وأقسم بعمر النبي عليه الصلاة والسلام ، هنا أريد أن أركز عليها .
الأستاذ راتب :
الله عزوجل يقسم بعمر النبي عليه الصلاة والسلام :
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
تصور أستاذ علاء خالق السماوات والأرض يقسم بزمن إنسانٍ خلَقَه ، لأنه استغل هذا الزمن ثانية ثانيةً .
يقولون : المؤمن يوم القيامة لو دخل الجنة لا يندم على شيء إلا على ساعة مضت لم يذكر الله فيها ، مع أنه نجا ودخل الجنة ، لذلك كان بعض الصالحين يحفر قبرا في صحن داره ، ويجلس فيه كل يوم خميس ، يتلو قوله تعالى :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
يخاطب نفسه : قومي لقد أرجعناك ، فالإنسان إذا فكر في النهاية حقق الغاية .
الأستاذ علاء :
لذلك علينا أن ننتبه إلى الوقت على أنه هو الإنسان ، وهو الحياة ، وهو الفرصة التي تمشي على خط وعلى محور موجه لا تعود إلى الوراء أبداً ، والإنسان بوقته أو عمره لا يكون إلا في الدار الآخرة يقفان وجهاً لوجه ، ويتحاسبان أمام رب العزة ، فإما يكون قد استغل هذا الوقت بالعمل الصالح ، وإما يكون قد أضاعه فلا فائدة للعمل .
الدكتور راتب :
﴿ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ (104)﴾
كل واحد منا الوقت مع الجميع بالتساوي ، فالواحد بالوقت أدار الوقت إدارة صحيحة ، عرف سر وجوده ، وغاية وجوده ، آمن بربه ، وعمل صالحاً ، دعا إلى الله ، صبر على كل أولئك ، فرجا من الله ما لا يرجوه غيره ، لذلك الشعور بالخسارة كبير جداً .
الأستاذ علاء :
نسأل الله أن يجعلنا من الذي يفهم الآية خير فهمٍ لنرمم ذلك الخسران .
لا يسعني في نهاية هذه الحلقة إلا أن أشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة على كل ما قدم ، وشرحت ، وإنشاء الله نتمم موضوعنا في حلقات قادمة .