وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0283 - العلم2- علاقة العلم بالإيمان - الطائر المخلوق العجيب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا برُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ، ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

علاقة العلم بالإيمان :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ لازلنا في موضوع العلم ، وموضوع العلم من أهم الموضوعات التي يجبُ أن يتّجه إليها المسلم .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ في الدّيانات المنحرفة ، أو الدّيانات غير السماويّة لا علاقة للإيمان بالعلم ، بل إنّ الإيمان والعلم في مثل هذه الديانات متناقضان ، فالإيمان فوق العقل ، يقولون : آمِنْ ثمّ اعْلم ! اِعْتقِد وأنت أعمى ، أغمِض عينيك واتَّبِعني ، لكنّ الإسلام أيها الأخوة لا يعرف هذا التناقض بين العلم والإيمان ، العلم والإيمان أخوان ، أحدهما يدْعم الآخر ، لماذا ؟ لأنّ حقائق العلم هي استقراء لِقَوانين الكون ، من الذي قنَّنها ؟ الله سبحانه وتعالى ، وحقائق الدِّين نقْلٌ صحيح عن الله عز وجل ، من جاء بها ؟ نبيّه عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان هذا الكون خلقه ، وهذا الكلام كلامهُ ، أيُعْقلُ أن يكون هناك تناقضٌ بين العلم والدّين ؟
 أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾

[سورة يوسف : 108]

 علامة أهل الحقّ أنّهم يدعون إلى الله على بصيرة ، لأنّهم متبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلّم :

((قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ))

[ ابن ماجه عن العرباض ]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ من هنا يرفض الإسلام التقليد في العقيدة أشدّ الرّفض ، منهم من يعدّ المقلّد في العقيدة فاسقًا ، ومنهم من لا يقبلُ عقيدة المقلّد في الأصل ، لأنّ الدِّين الصحيح يجبُ أن يُبنى على يقين قاطع ، ولا يقين في التقليد .

 

رفض الإسلام التبعية و التقليد في العقيدة والعمل :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه وتعالى يصفُ أولئك الذين اتّبعوا آباءهم من دون علمٍ ، ومن دون تبصّر ، وصفهم بأنّهم قومٌ لا يفقهون ، حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا ، الإسلام مرَّةً ثانية يرفض أشدّ الرّفض أن تبنى عقيدة المسلم على التقليد ، تقليد الآباء ، تقليد الكبراء ، بل إنّ الإسلام أيّها الأخوة يرفض ثانيةً أشدّ الرّفض التبَعِيَّة ، لأنّ التبعيّة تتناقض مع العلم ، والتقليد يتناقض مع العلم ، والإسلام يبنى على العلم ، قال تعالى :

﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾

[سورة الأحزاب: 67]

 هذا موقفهم يوم القيامة .
 شيءٌ آخر ، يقول النبي عليه الصلاة والسلام : " لا يكن أحدكم إمّعة " من هو الإمّعة ؟ الذي يقول : أنا مع الناس ؛ إن أحسنوا أحسنْت ، وإن أساؤوا أسأتُ ! ليس هذا بِمُسلم، لو أنّ الناس جميعًا أساؤوا يجبُ أن تُحسن لأنّ إحسانك ينطلقُ من عقيدة صحيحة ، لو أنّ الناس جميعًا أساؤوا يجبُ أن تحسن وحدك ، هذا الذي يقول : أنا مع الناس ، إن أحسن الناس أحسنت ، وإن أساؤوا أسأت ، هذا ليس مسلمًا صحيحًا ، لذلك أن يقول الإنسان الناس كلّهم هكذا ، أنا معهم ، هكذا التيار العام ، الناس كلّهم فعلوا كذا ، الناس كلّهم يتعاملون بهذه الطريقة، ما ذنبي أنا وحدي ؟ هذا كلامٌ مرفوض ، لأنّ الإسلام يرفضُ أشدّ الرّفْض التبعيّة في الاعتقاد والعمل ، ويرفض أشدّ الرّفض التقليد في العقيدة والعمل .

 

رفض بناء العقيدة على الظن :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ شيءٌ ثالث ، الإسلام يرفض أشدّ الرّفض أن تبني عقيدتك على الظنّ ، قال :

زعم الطبيب والمنجّم كلاهمـــا  لا تبعث الأموات قلت إليكــــــــما
إن صحّ قولكما فلسْتُ بِخاسرٍ  أو صحّ قولي فالخسار عليكما
***

 ربّنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾

[سورة الحجرات : 15]

 هذا رَيب ، يجبُ أن تؤمن إيمانًا قطعيًّا يقينيًّا ، كما لو أنّك ترى الشمس في رابعة النهار ، هذا هو الإيمان ، المؤمن يطمئنّ قلبه بالإيمان ، ألا بذِكر الله تطمئنّ القلوب ، فالظنّ أيّها الأخوة اعتقادٌ ليس يقينيًّا ، تقول : هكذا أرى ، ولكن قد يكون الشيء الذي أعتقده في وَضْعٍ آخر ! ليس هذا هو الإيمان ، وليس هذا هو اليقين ، ماذا قال الله عن هؤلاء ؟ قال الله عز وجل:

﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾

[سورة النجم : 28]

 قال تعالى :

﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾

[سورة النجم : 23]

 وكأنّ في هاتين الكلمتين الموجَزَتَين ، كأنّ في هاتين الكلمتين وصفًا دقيقًا لما هم عليه البشر في عصور التخلّف الدِّيني ، يتَّبعون الظنّ ، ويتّبعون الهوى ، هواهم يقودهم إلى المهالك ، والظنّ يقودهم إلى المهالك ، وإنّ هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمّن يأخذ دينه ، ابن عمر دينك دينك ، إنّه لحْمك ودمك ، خُذْ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ، الوَهْم مرفوض ، والشكّ مرفوض ، والظنّ مرفوض ، ولا يُقبل في عقيدة الإنسان إلا اليقين القطعيّ .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه وتعالى يأبى إلا أن يكون إيمان المؤمن مبنيًا على البرهان ، على البرهان القطعي ، قال تعالى :

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾

[سورة محمد : 19]

 قال تعالى :

﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾

[سورة البقرة : 111]

 قال تعالى :

﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 117]

 آيات أفلا يعقلون ، أفلا يتفكّرون ، أفلا ينظرون لا تُعدّ ولا تحصى ، لذلك قال بعضهم : العقل أداة معرفة الله عز وجل ، والدّين بالنّقل ، والعقل لِفَهم النّقل .

 

التفكير فريضة إسلاميّة وهو عبادة من أرقى العبادات :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾

[سورة سبأ : 46]

 أي هذه الدعوة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلّم تفكروا فيها ، تأملوا فيها، قلّبوها على وُجوهها ، دقّقوا فيها ، محّصوا فيها ، تبيّنوها ، أما أن نفهم الأُمور هكذا ، هذا ليس من شأن المسلم ، وليس من شأن المؤمن ، قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾

[سورة سبأ : 46]

 أما أن يكون الإنسان في الحياة مستهلكًا ، تستهلكه الحياة والمشاغل ، يفعل أعمالاً لا يدري ماذا يفعل ، لماذا هو في هذا المكان ؟ لماذا هو في هذا الحفل ؟ لماذا هو مع فلان ؟ لماذا يقول هذا الكلام ؟ هذا ليس من شأن المؤمن العاقل ، الذي يأبى أن يكون تبعًا لأحدٍ ، ويأبى أن يكون إمّعة ، ويأبى أن يعيش على هامش الحياة ، قال تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾

[سورة سبأ : 46]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما دام الله سبحانه وتعالى يَدعونا إلى التفكّر فلأنّ الحق لا يخشى البحث ، اِبْحَث ما شئت ، لن تصل إلا إلى الحق ، الذي جاء به القرآن الكريم، الحق لا يخشى البحث ، والحق لا يقوم على الكذب ، والحق لا يقوم على المبالغة ، والحق لا يقوم على طمس الحقائق ، لذلك عدَّ بعضهم التفكير فريضة إسلاميّة ، بل عدَّ بعضهم التفكير عبادةً من أرقى العبادات .

 

قيام العقيدة على العلم لا على التسليم الأعمى :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ العقيدة يجب أن تقوم على العلم ، لا على التسليم الأعمى ، الدليل قوله تعالى :

﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾

[سورة محمد : 19]

 واعلموا أن الله شديد العقاب ، وأنّه غفور رحيم ، واعلموا أنّ الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ، واعلموا أنّ الله غفور حليم ، قال تعالى :

﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾

[سورة الطلاق: 12]

 لا لِتقولوا ، لا لِتُقلّدوا ، لا تتّبعوا ، لِتَعلموا .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ لذلك لمْ يخش القرآن الكريم عواقب النّظر ، والتفكّر ، والعلم ، لماذا ؟ لأنّ القرآن الكريم كلام الله عز وجل ، وكلامه حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الحق لا ينقض الحقّ ، واليقين لا يعارض اليقين ، وصحيح المنقول لا يمكن أن يعارض صريح المعقول ، والمعقول غير الصحيح قد يناقض المنقول الصحيح ، والمنقول غير الصحيح قد يناقض المعقول .

 

الدين و العلم أخوان متعاونان :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يظنّ ، أو قد يُظَنّ ما ليس من الدِّين دينًا ، وقد يُظَنّ ما ليس من العِلْم علمًا ، ليس كلّ أفهام أهل الدِّين دينًا ، وليْسَت كلّ نظريات أهل العلم علمًا ، تطابق عجيب ، وتطابق تامّ ، مئة بالمئة بين الحقائق القطعية في العلم ، وبين الحقائق التي جاء بها الدِّين ، هذا الذي يقول : العلم شيء ، والدِّين شيء ، هو إنسانٌ جاهل ، هذا الذي يقيم ازدواجيّة في الحياة ، هذا ما يقوله الدِّين ، وهذا ما يقوله العلم ، كلامٌ لا معنى له ، العلم مجموعةٌ من القواعد ، من العلاقات الثابتة بين الأشياء - هذا تعريف القانون - المقطوع بصحّتها ، التي يؤكّدها ، والتي عليها دليل ، العلم إدراك الشيء على ما هو عليه بدليل ، والدّين كذلك ، الدِّين جاء من عند الله مقنّن قوانين الكون ، خالق الكون هو الذي أنزل هذا الكتاب ، لذلك لا يمكن أن يتناقض صريح المعقول مع صحيح المنقول ، مستحيل ‍ ، ولكن كما قلت قبل قليل : ليس كلّ أفهام أهل الدِّين دينًا ، هناك الانحرافات ، وهناك الخزعبلات ، وهناك الأوهام ، وهناك الأحاديث الموضوعة ، والأحاديث الضعيفة ، ليس كلّ أفهام أهل الدِّين دينًا ، وليست كلّ نظريّات أهل العلم علمًا ، الدِّين الحقّ لا يناقض العلم الصحيح .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس هناك تناقض بين العلم والدِّين ، العلم في خِدمة الدِّين، والدِّين يُفسحُ مجالاً للعلم ، إنَّهما أخوان متعاونان .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ بل غير ذلك ، القرآن يعدّ العلم سبيلاً إلى الإيمان ، ودليلاً عليه ، قال تعالى :

﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾

[سورة الحج : 54]

 متى آمنوا به ؟ بعد أن علموا أنّه الحقّ من ربّهم ، قال تعالى :

﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾

[سورة الحج : 54]

 إخبات القلب خشوعه ، فتُؤمن فتخشَع ، تفكّر فتؤمن فترضى ، تفكّر فتؤمن فتسعد ، قال تعالى :

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾

[سورة الروم : 56]

العلم الحقّ هو العلم الذي يهدي إلى الإيمان :

 ولكن أيّها الأخوة الأكارم ؛ هناك علمٌ بالله ، وهناك علمٌ بأمره ، وهناك علمٌ بِخَلقه، هناك علم الحقيقة ، وهناك علم الشريعة ، وهناك علم الخليقة ، أما العلم الذي تعارف الناس عليه اليوم فعلمُ الخليقة ، العلم بِمَخلوقات الله عز وجل ، هذا العلم يُعينُ الإنسان على الحياة ، يُيَسّر له سبلها ، يختصرُ له الزمان ، ويطوي له المكان ، يقرّب له البعيد ، يليّن له الحديد ، لكنّ هذا العلم المادّي ، العلم بالخليقة ، العلم بالحوادث ، بالظواهر الماديّة ، لكنّ هذا العلم وحدهُ - دقّقوا فيما أقول - لا يستطيعُ إسعاد البشر ، كما لا يمكن وحدهُ أن يضبط سيْر البشر ، لا يُسعد البشر ، ولا يستطيع أن يضبط سُلوكهم ، ولا يستطيع هذا العلم المادّي أن يقاوِمَ أنانيّة الإنسان ، ونزعات نفسه الأمارة بالسوء ، لهذا كان لا بدّ للإنسان من العلم بالله ، والعلم بأمره ، لا بدّ من أن يعرف الله ، ولا بدّ من أن يعرف أمره ، لا بدّ من العلم بالله وبأمره ، ولا بدّ من علم الحقيقة ، وعلم الشريعة ، علمُ الحقيقة أصلٌ في معرفة الله تعالى ، وعلم الشريعة أصلٌ في عبادته ، العلم بالله ، والعلم بأمره ، أُسّ الفضائل ، أساس الفضائل ، لِجام الرذائل ، قِوام الضمائر ، سنَد العزائم في الشدائد ، بلْسَمُ الصّبر عند المصائب ، عماد الرّضا والقناعة ، نور الأمل في الصّدور ، سكَن النّفس إذا أوْحشتْها الحياة ، عزاء القلوب إذا نزل الموت ، أو قربَتْ أيّامه ، العروة الوثقى بين الإنسانيّة وبين مُثلها ، هذا هو العلم بالله ، وهذا هو العلم بأمره ، قد تنالُ أعلى الدرجات العلميّة من العلم المادّي ، وتبقى النفس هي هيَ ، لا تسمو ، أما إذا عرفت الله تعالى وعرفْتَ أمرهُ فعبدتهُ تسْمو نفسك .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ العلم الحقّ هو الذي يهدي إلى الإيمان ، العلم إذا وصلَ بك إلى الإيمان فهو علمٌ صحيح ؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى جعَلَ العقل ميزانًا ، وجعل الشّرع ميزانًا على الميزان ، فإذا أعْملت عقلك ، وانتهى عقلك إلى أن تؤمن بالله ، فميزانك صحيح ، لأنّ ميزانك طابق ميزان الشريعة ، فكلّ من ألقى من يده لحظةً ميزان الشريعة هلَكَ، قال :

أحبابنا اختاروا المحبّة مذهبًا  وما خالفوا في مذهب الحبّ شرعنا
***

 فالعلم الحقّ هو الذي يهدي إلى الإيمان ، والإيمان الحقّ هو الذي يفسحُ مجالاً في العلم ، إنّهما شريكان متفاهمان ، وأخوان متعاوِنان .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذا هو العلم الذي يريده الإنسان ، علمٌ في ظلّ الإيمان، علمٌ في خدمة المثل العليا ، والدليل على ذلك قوله تعالى :

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾

[سورة العلق: 1]

 أوّل آيةٍ نزلت في القرآن الكريم ، القراءة عنوان العلم ، القراءة مفتاح العلم ، القراءة مصباح العلم ، الأمرُ اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، ليسَت القراءة مطلقةً :

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾

[سورة العلق: 1]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((المؤمنُ القويّ خير من المؤمن الضعيف . . .))

[ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 القوّة أضافها النبي إلى المؤمن ، فإن كانت مطلقةً فهي شرّ خطير ، وشرّ مستطير ، من يلجمها ؟ من يضبطها ؟
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حينما يستخدم العقل لِصُنْع شيءٍ يُدَمِّر الإنسان ، يدمّر إنسانيّته ، يدمّر أخلاقه ، يدمّر وُجودهُ ، أهذا هو العلم ؟ يجبُ أن يكون العلم في خدمة الإيمان، النبي عليه الصلاة والسلام دعا ربّه فقال :

((اللهمّ إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع ، ومن قلب لا يخشع ، ومن عين لا تدمع، ومن أذن لا تسمع ، وأعوذ بك من هؤلاء الأربع ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ]

قيمة العلم هي القيمة التي اعتمدها القرآن للترجيح بين البشر :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أحد العلماء ألّف كتابًا ، يظنّه كتابًا عظيمًا ، قال : ألَّفْتهُ وأُعْجبتُ فيه ، فبينما أنا ذات يومٍ أنظرُ فيه مستحسِنًا ، إذْ دخل عليّ شاب - هذه اللّقطة من أجل أن تتأكد من أنّ فوق كلّ ذي علمٍ عليم - عليه ثيابٌ رثّة فسلَّم عليّ وقال : يا أبا عبد الله ، المعرفة حقٌّ للحقّ على الخلق أم حقّ للخلق على الحقّ ؟! فقلتُ له : حق للخلق على الحق ، فقال : هو أولى أن يكشفها لِمُستحقّها ، فقلت : إذًا حقّ للحق على الخلق ، فقال: هو أعدل من أن يظلمهم ، فقال : هذا الشاب ألجمني وأوقعني في حَيرة ! أي العلم له بداية ولكن ليس له نهاية ، والعلم هو الذي يرفع الإنسان وحده ، القيمة المرجّحة الوحيدة التي اعتمدها القرآن للترجيح بين خلقه هي العلم فقط ، هناك قِيَم تواضع الناس على أنّها أساس التفاضل ؛ المال ، الذكاء ، القوّة، الوسامة ، الصحّة ، هذه القيَم تعارف الناس على أنّها قيمُ التفاضل بين الخلق ، ولكنّ القرآن الكريم لمْ يعتمد إلا قيمةً واحدة ليس غير ؛ إنّها قيمة العلم ، قال تعالى :

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

[ سورة الزمر: 9 ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتْبعَ نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

الطير في السماء آيةٌ دالة على عظمة الله سبحانه :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ أُذكّركم بما قلته في الخطبة الثانية في الأسبوع الماضي من أنّ الله سبحانه وتعالى قال :

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ﴾

[سورة الملك : 19]

 فالطير في السماء آيةٌ دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى ، والقرآن الكريم يأمرنا أن نفكّر في هذه الآية ، وقد حدّثتكم في المرة الماضية عن ريش الطائر ، وكيف أنّ هذا الرّيش يُعدّ معجزة ، وهو أساس طيران الطائر ، واليوم أُضيف إلى ذلك أنّ هذا الطائر الذي يطيرُ ساعات طويلة ، بعض الطيور تطيرُ ستًّا وثمانين ساعة من دون توقّف ، هذا الجُهد العالي يحتاج إلى تدريبٍ فعّال ، الطائر لا يتعرّق ، يبذل جهدًا عاليًا في الطيران ، هذا الجهد العالي يحتاج إلى تبريد ، لذلك الله سبحانه وتعالى خصَّ الطائر برِئَتين صغيرتين ، لكنّ معهما أكياساً هوائيّة موزَّعة في كلّ جسم الطائر ، بل إنّ أكياس الهواء تتخلخلُ في عِظامه ، بل إنّ أكياس الهواء تصل إلى أظلافه ، من أجل تبريد فعال لهذا الجهد العالي ، هذا ممَّا خصّ الله به الطائر.
 شيءٌ آخر ، هذا الطائر أين رزقهُ ؟ رزقه في الأرض ، فهو يطيرُ في أعالي الجوّ ، فإذا كان بصرهُ ضعيفًا لا بدّ من أن ينزل إلى الأرض ، إما أن يرى رزقهُ ، وإما ألا يراه فيعود للطيران ثانيةً ، إذًا هو بحاجةٍ إلى بصر حادّ ، وهو في أعالي الجوّ يرى رزقهُ على الأرض ، لذلك من الشيء الذي يلفت النّظر أنّ الطيور أقوى قدرةً على الإبصار من الإنسان ، إنّ الطيور تملكُ عيونًا حادّة ، فاعليّة رؤيتها تزيدُ عن فاعليّة رؤية الإنسان ثماني مرّات ، فبعضُ أنواع الطيور يرى الجيفة على ارتفاع ألفي متر ، يراها واضحةً ، بعض أنواع الطيور يرى البيضة على الأشجار تحت الأوراق ، بعض أنواع الطيور يرى السمكة في الماء ، وهو في أعالي الجوّ ؛ الغطاسّ .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور