- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠31برنامج الإيمان هو الخلق - قناة سوريا الفضائية
تقديم وترحيب :
الأستاذ علاء :
أيها السادة المشاهدون ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم الإيمان هو الخلق ، ويسعدنا أن نكون بمعية الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق .
أهلاً وسهلاً سيدي الدكتور .
الدكتور راتب :
أهلا بكم أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، توقفنا في حلقات سابقة عند مقوم هام من مقومات التكليف ؛ ألا وهو الاختيار ، وأفردنا له الكثير من الحلقات ، وتشعبت موضوعات هامة عن الاختيار ، وقلنا : إن الاختيار يثمِّن العمل ، واللهُ عز وجل أوجد الاختيار لأنه يتَّسق وعدله ، ويتسق والثواب والعقاب ، وأيضاً أن الإنسان مخير فيما كلف به ، من هذا الموضوع تبينا أن هنالك ثلاثة أنواع من الإضلال ، الله عز وجل يترك الإنسان في محض اختياره فيما كلف به ، ولكن هناك الإضلال الجزائي ، والإضلال الحُكمي ، وهنالك الإضلال عن الشركاء .
سيدي الكريم ، الإضلال عن الشركاء كما تبينا معًا يفضي إلى مسألة واحدة ؛ وهي التوحيد ، وأن يكون الإنسان موحداًَ متجهاً بكليته إلى الباري عز وجل ، ماذا عن حقيقة التوحيد ؟
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
التوحيد :
التوحيد فحوى رسالات الأنبياء جميعا :
أستاذ علاء ، جزاك الله خيراً ، الإنسان أحياناً كما أنه يميل إلى التفاصيل والأفكار التفصيلية والتشعبات ، في حين آخر يميل إلى ضغط الحقائق بكلمات ، فإذا أرادنا أن نضغط فحوى رسالات السماء مجتمعة فلا نستطيع أن نفعل هذا كما جاء في القرآن الكريم .
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
الرسالات السماوية مجتمعة ، دين الله ، وحي السماء إلى الأرض ، خطاب السماء إلى الأرض مضغوط بكلمتين : توحيد وعبادة ، التوحيد بالتعبير المعاصر منطلقات نظرية ، والعبادة تطبيقات عملية ، التوحيد اعتقاد ، والعبادة سلوك ، التوحيد الجانب العقلي من الدين ، والعبادة الجانب السلوكي من الدين ، الدين إيمان وعمل ، وفي أكثر من مئتي آية صيغة : الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فهي منطلق نظري ، وتطبيق عملي .
فلذلك هذه الآية :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
هذه الخلاصة .
الأنبياء بشرٌ تجري عليهم خصائص البشر :
للتقريب :
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾
وتجري عليه كل خصائص البشر ، وانتصر على بشريته ، إذاً هو سيد البشر .
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾
الآن سيضغط القرآن كله بكلمتين :
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
القرآن بأكمله 600 صفحة ، 30 جزءًا مضغوط بكلمتين :
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾
﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
توحيد وعبادة .
حتى إنهم قالوا : " التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل " .
حينما تأتي حركتك في الدنيا مطابقة لمنهج الله فقد حققت الهدف من وجودك ، والإله العظيم الذي خلق الإنسان خلقه ليعبده .
حقيقة العبادة :
لكن يفهم الناس أحياناً بسذاجة أن العبادة صلاة ، العبادة أنت أمام منهج تفصيلي أقولها كثيراً : يبدأ من فراش الزوجية ، وينتهي بالعلاقات الدولية ، إنه منهج كامل ، في طعامك ، في شرابك ، في زواجك ، في تربية أولادك ، في كسب مالك ، في أفراحك ، لا سمح الله في الأتراح ، في السفر ، في الحرب ، في السلم ، منهج تفصيلي .
بين العبادة الشعائرية والعبادة التعاملية :
نحن مضطرون إلى أن نفرق بين عبادتين ، بين عبادة شعائرية ، وبين عبادة تعاملية ، والحقيقة المُرة التي هي أفضل ألف مَرة من الوهم المريح ، أن العبادات الشعائرية ومنها الصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، لا تقبل ، ولا تصح ، إلا إذا صحت العبادات التعاملية ، فلما غفل المسلمون كونِ الدين عبادات تعاملية أصبح الدين أجوفَ ، أصبح الدين إطاراً ، أصبح الدين ثقافة ، أصبح الدين فلكلوراً ، أصبح الدين تراثاً ، الدين منهج ، منهج تفصيلي ، تعليمات الصانع ، لأن الإنسان أعقد آلة في الكون ، تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز ، ولهذه الآلة بالغة التعقيد ، بالغة النفع ، غالية الثمن كتيب فيه تعليمات التشغيل والصيانة ، إنه القرآن الكريم .
إن الإنسان أحياناً يحب التفاصيل ، لكن أحياناً يحب الموجز ، موجز الأديان كلها توحيد وعبادة ، موجز القرآن كله :
﴿ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾
فاعبدوه ، التوحيد والعبادة ، التوحيد : حينما تشعر أن مصيرك ، وأن رزقك ، وأن صحتك ، وأن حياتك ، وأن دخلك ، وأن سعادتك بيد جهة أرضية ، إذا توهمت ذلك دون أن تشعر تتوجه إلى هذه الجهة الأرضية ، من دون أن تعطيها اسم العبادة ، تخاف منه ، تعصي الإله من أجله ، ترتكب الموبقات إرضاءً له ، تتكلم كلاماً لست قانعاً به إرضاءً له .
من مفهومات التوحيد في نفس الداعية :
لذلك هناك آية دقيقة جداً يصف الله الدعاة إلى الله ، قال :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾
هؤلاء الدعاة لهم مئات الصفات ، هم حتماً صادقون ، أمناء ، رحماء ، صفاتهم كثيرة ، هي صفات المؤمنين ، لكن الله أغفلها كلها ، وأبقى صفة واحدة ، قال :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾
﴿ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
فلو أن هذا الداعية خشي غير الله لسكت عن الحق خوفاً ممن خشيه ، وتكلم بالباطل إرضاءً لمن خشيه ، ولانتهت دعوته ، ولا داعي أبداً أن نذكر بقية الصفات .
علماء البلاغة قالوا : هذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطا وجوديا ، بمعنى أنه إذا أُلغِيت الصفة ألغي الموصوف ، كأن تقول : الطائرة كبيرة والباخرة كبيرة ، طائرة غالية الثمن ، واليخت غالي الثمن ، أما إذا قلت : طائرة تطير ، فإذا ألغي طيرانها ألغيت هويتها .
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾
الأستاذ علاء :
هنا مفهوم توحيدي ؟ وهو جليٌّ .
الدكتور راتب :
توحيد القصد والجهة من تمام التوحيد :
ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، فحينما أتوهم أن رزقي بيد زيد ، وأن منصبي بيد عبيد ، وأن راحتي النفسية بيد فلان ، وأن مكانتي الاجتماعية بيد فلان ، أنا مضطر أن أعبد آلة كثيرة ، أنا سأتوزع ، سأتمزق ، إذا جاءت التعليمات مضادة ، ماذا أفعل ؟ مَن أرضي ؟
إنّ المؤمن استراح من كل هذه المشكلات ، يعبد رباً واحداً ، ويرضي إلهاً واحداً ، هو يعتمد على إله واحد ، ويلجأ إلى إله واحد ، ويتوكل على إله واحد ، وكل عمله من أجل إرضاء هذا الله الواحد ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
الأستاذ علاء :
هذه الخلاصة ، وهذا كل ما جاء به الأنبياء ، وما جاءت به الشرائع ، أدت إلى هذا المعنى ، وإلى هذا المنتهى الذي هو الإخلاص لله في العبودية ، وألا نشرك به أحدا ، ومتى تحققت هذه القضية فقد تحقق الدين .
الدكتور راتب :
هذا هو الدين ، فحينما ترى أن رزقك بيد فلان دون أن تشعر تحاول أن ترضيه بأي ثمن ، لأن الإنسان حريص حرصاً لا حدود له على حياته ، وعلى رزقه ، فإذا أسْلَمَنا الله إلى غيره كيف يأمرنا أن نعبده ؟ إذا أسْلَمنا الله إلى عدو لئيم كيف يأمرنا أن نعبده ؟
التوحيد هو العلاج الوحيد للإحباط :
الذي أقوله : علاج حالات الإحباط عند بعض المسلمين الآن هو التوحيد ، لأن ضعيف الإيمان يتوهم أن أمرنا بيد جهة قوية بعيدة عنا ، تخطط لتدميرنا ، لإفقارنا ، لإضلالنا ، لإفسادنا ، لإذلالنا ، لإبادتنا ، وهي قوية جداً ، معها أسلحة فتاكة ، والإعلام بيدها ، والأموال بيدها ، والثروات بيدها ، والتحالفات بيدها ، وكأن حرباً عالمية ثالثة معلنة على الإسلام ، فالمسلم إذا كان ضعيف الإيمان يشعر بالإحباط .
لذلك أنا أقول : أخطر شيء في حياة المسلمين أن يُهزَموا من الداخل ، لأن الهزيمة من الخارج ليست مشكلة كبيرة ، وما مِن إنسان إلا وله ساعة هكذا وساعة هكذا .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، تفضلت في مسألة هامة جداً ؛ أن الله عز وجل الهدف من نزول الدين أن نوحده ، وألاّ نشرك به أحدا ، من هنا جاءت الدروس ، النبي عليه الصلاة والسلام من ولادته وحتى وفاته كان موحِّداً ، والله عز وجل في البدايات قطع له الأسباب حتى يتوجه إلى الله وحده ، من وفاة والده ، ثم والدته ، ثم جده ، ثم عمه ... إلى أن توكل التوكل الصحيح على الله عز وجل ، من هنا نفهم الهجرة ، ونفهم النبي عليه الصلاة والسلام كيف انتقل إلى المدينة المنورة ، ثم أخذ بالأسباب ، وقلت لنا : أن نأخذ بالأسباب ، وكأنها كل شيء ، ثم نتوكل على الله ، وكأنها ليست بشيء ، هنا يتحقق التوحيد في هذه القضية ؟
الدكتور راتب :
معاني التوحيد :
الحقيقة أن التوحيد له معنيان :
المعنى الأول : الله فعَّالٌ لِما يريد :
أن الله وحده هو الفعّال .
المعنى الثاني : الأخذُ بالأسباب لا يتناقض مع التوحيد :
أن الله جعل لكل شيء سببا ، فحين آخذ بالأسباب هذا لا يتناقض مع التوحيد .
حينما أرى أن الأمر بيد فلان فقد أشركت ، أما حين أرى أن الأمر بيد الله ، وقد أمرني أن آخذ بالأسباب فاتصلت بفلان ، وعرضت عليه مشكلتي ، ووعدني بحلها ، أنا بقيت موحِّداً ، لأني أرى أن العطاء بيد الله .
بشكل آخر ، لا رافع ، ولا خافض ، ولا معطي ، ولا مانع ، ولا معز ، ولا مذل ، ولا رازق ، ولا مقتر إلا الله ، يد الله وحدها تعمل ، ولو أن الله أسْلَمنا إلى غيره فأنا أتساءل : كيف يأمرنا أن نعبده ؟ لذلك طمأننا فقال :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
الأمر معرَّفٌ بأل التي تعريف الاستغراق ، كل له توكيد :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
الآن :
﴿ فَاعْبُدْهُ ﴾
ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك ، يعني أنا موجود يا عبدي ، أنا معك .
قصص القرآن مغزاها التوحيد :
﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ﴾
فرعون الجبار ، الطاغية ، قتل إنسان أهون عنده من قتل ذبابة .
﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾
في القرآن قصص تلفت النظر :
1 – سيدنا موسى وفرعون :
شرذمة قليلة من أتباع سيدنا موسى خائفة ، مضطهدة ، مهانة ، ملاحقة ، فرعون وراءها ، بجنوده ، بجبروته ، بأسلحته ، بكبريائه ، ببطشه ، بقسوته .
﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك .
2 – سيدنا يونس في بطن الحوت :
سيدنا يونس ، إنسان يجد نفسه فجأة في بطن حوت ، الحوت وزنه 150 طنًّا ، خمسون طنًّا من اللحم ، وخمسون طنا من الدهن ، وخمسون طنًّا من العظم ، تسعون برميلا من الزيت ، وجبته المتواضعة 4 أطنان ، الإنسان كله مئة كيلو ، ويستطيع أن يقف في فم الحوت ، يقف على قدميه ، نبي كريم وجد نفسه فجأة في بطن حوت ، هذه المصيبة احتمال النجاة منها كم ؟ صفر ، لا أمل إطلاقاً في الأرض .
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾
لي تعليق طريف : من الجيد أن تحت البحر تغطية ، لو كان معه خلوي لم تكن هناك تغطية .
أي مصيبة تنزل بالإنسان فلن تكون بمستوى أن يجد نفسه في بطن حوت .
الأستاذ علاء :
سيدي ، وهذا ما عرفناه عندما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام ، ودخل الغار ، وقال سيدنا أبو بكر : لقد رأونا .
الدكتور راتب :
3 – سيدنا النبي مع أبي بكر في الغار :
قال : ألم تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴾
الأستاذ علاء :
ما هذا التوكل الحقيقي والتوحيد ! والثقة بالله عز وجل ؟!
الدكتور راتب :
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
مثلاً : قال الله عزوجل :
﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾
تروي كتب السيرة والتاريخ أن فرعون رأى في المنام أن طفلاً سوف يقضي على ملكه ، فأمر بقتل كل أبناء بني إسرائيل ، وأية قابلة لا تبلِّغ عن مولود ذكر تُقتل مكانه .
﴿ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ﴾
أما الطفل الذي سيقضي على ملكه فقد رباه في قصره .
﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
أنا أقول دائماً : زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
هذه وعود خالق السماوات والأرض ، وعلى الطرف الآخر أن يعبده .
﴿ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾
فإذا أخل الفريق الثاني بما يترتب عليه من عبادة وتوحيد فالفريق الأول ، وهو الذات الإلهية في حِلٍّ من وعوده .
التوحيد أن تعتقد أن الأمر كله بيد الله :
إذاً : التوحيد هو الدين ، التوحيد هو الإيمان ، التوحيد ألاَّ ترى مع الله أحدا ، التوحيد أن تعتقد اعتقاداً جازماً أن أمرك كله بيد الله ، وأنه عليك أن ترضي جهة واحدة ، ألغي النفاق ، ألغي الخوف ، ألغي بذلُ ماء الوجه .
إذا دخلت إلى دائرة فيها أربعة طوابق ، ولتكن الهجرة والجوازات ، وأنت تحب أن تسافر إلى بلد معين ، أنبأك أحدهم أن إشارة المغادرة لهذا البلد بيد المدير العام وحده ، وليس في كل هذه الدائرة موظف من صلاحيته أن يوقع لك على هذه الزيارة ، فهل تبذل ماء وجهك أمام شرطي ؟ أو أمام معاون مدير ؟ أبداً ، لا داعي لذلك ، تذهب إلى المدير العام ، هذا هو التوحيد .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، كما تفضلت التوحيد اعتقاد ، والعبادة سلوك ، نرجع قليلاً لو سمحت إلى العبادة السلوكية ، ومررت على العبادات إن صح التعبير الشعائرية ، وأن الشعائرية مرهونة بالتعاملية ، ولا قيمة لها ما لم تكن مرهونة ، ومقرونة بالتعاملية ، وأن يتحقق التعامل الصحيح لكي تُقبَل ، مِن هنا نقول :
(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً ))
نفصل في هذه القضية ، يظن الكثير من الناس أنه تعامل ، وغش ، أكل على فلان ماله ، استطاع أن يؤثر بالسوء بوظيفة فلان ، بسمعة فلان ، وأن الله غفور رحيم .
الدكتور راتب :
لا تصحّ العبادة الشعائرية إلا بصحة العبادة التعاملية :
أستاذ علاء ، الدين توقيفي ، ولا يجرؤ أحد على وجه الأرض أن يقول في الدين برأيه ، أنا أعطيك الأدلة على أن العبادات الشعائرية لا تصح إلا بصحة العبادات التعاملية .
1 – الصلاة :
نبدأ بالصلاة ، سأل النبي أصحابه :
(( أتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ ؟ قالوا : المفْلسُ فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفْلسَ مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شَتَمَ هذا ، وقذفَ هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيُعطَى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن فَنيَتْ حَسَناتُهُ قبل أن يُقْضى ما عليه ، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه ، ثم يُطْرَحُ في النار ))
هذه الصلاة .
2 – الصيام :
(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ ))
(( رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ))
3 – الحجُّ :
(( من حج بمال حرام ، ووضع رجله في الركاب ، وقال لبيك اللهم لبيك ، ينادى : أن لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ))
4 – الزكاة :
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾
ماذا بقي ؟ هذه الصلاة ، والصوم ، والحج ، والزكاة ، إن لم تصح العبادات التعاملية لم تصح العبادات الشعائرية .
هذا هو الإسلام :
الضابط في هذا أن سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن هذا الدين العظيم :
(( أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ...))
هذا هو الدين ، الدين قيم أخلاقية ، لذلك حينما قالوا :
(( بُنِي الإسلامُ على خَمْسٍ ))
الإسلام غير هذه الأركان الخمسة :
(( بُنِي الإسلامُ على خَمْسٍ ))
هذه أركان الإسلام ، أما الإسلام فهو مجموعة قيم أخلاقية ، الإيمان هو الخلق ، ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ، هذا محور هذه اللقاءات الطيبة إن شاء الله .
التوحيد يفضي إلى الأخلاق الحسنة :
التوحيد يفضي إلى الخُلق ، لذلك عندنا علائق رائعة جداً بين العقيدة وبين الخلق ، فحينما أرى أن أمري بيد الله لا أنافق ، ولا أبذل ماء وجهي ، ولا أرتكب معصية من أجل الرزق ، التوحيد يشفي الإنسان من آلاف الأمراض ، أنا اعتدت أن مشكلات العالم الإسلامي أراها ترجع إلى مرض واحد ، هو مرض الإعراض عن الله ، وضعف التوحيد وكل ما نعانيه من مشكلات هي أعراض لمرض واحد ، هو الإعراض عن الله ، أعرضنا عن الله ، تعلقنا بالدنيا ، تنافسنا عليها ، غششنا ، فعلنا كل الموبقات .
الأستاذ علاء :
سيدي الكريم ، كنا نود أن نتحدث عن مسألتين : الأولى هي لوازم التوحيد ، ثم ثمار التوحيد ، كما تفضلت بأن التوحيد يفضي إلى كذا ، يفضي إلى الاستقامة ، ولكن الوقت أدركنا ، اليوم ماذا أعددت لنا سيدي في الفرقة العلمية ؟
الدكتور راتب :
الموضوع العلمي : الدُّلفين :
لا زلنا في موضوع الدُّلفين ، فقرة أخيرة عن الدلفين :
1 – تقليد الإنسان في صناعاته البحرية الدلفين :
إذا أراد مهندس ما تصميم مركبة بحرية قوية تتحمل الظروف الصعبة ، فعليه أن يأخذ بالحسبان قوة احتكاك هذه المركبة في الماء .
ترى أن العالم الآن يقلِّد خَلْق الله ، الآن السفن العملاقة والغواصات سوف تأخذ من الدلفين بعض خصائص جلده ، فكلما عمل على تخفيف الاحتكاك كلما كانت المركبة أقوى وأسرع ، لذلك عليه أن يختار التصميم المناسب الذي يخفف الاحتكاك إلى أدنى درجة ، ويعطيها القوة ، من المعلوم أن قسماً كبيراً من طاقات المحرك يضيع بلا جدوى من جراء عائق الاحتكاك ، الاحتكاك يستهلك كبيرة طاقة جديدة ، وكلما قلَّلنا من الاحتكاك أسرعت السفينة والمركبة ، والسيارة إذا ضغطت عجلاتها بالهواء قلَّت مساحة الاحتكاك مع الزفت ، فيقلُّ مصروفها ، وكلما كانت العجلة بأوسع مساحة مع الأرض يكون الاستهلاكُ أكبرَ .
تعالوا معنا لنرى كيف تواجه الدلافين هذه المشكلة ، هل معقول من الإنسان العملاق الذي حصّل علوماً شتى ، يرجع لتقليد مخلوق خلقه الله منذ ملايين السنين ؟!
2 – سباحة الدلفين السريعة ومشكلة الاحتكاك :
تحب الدلافين السباحة السريعة ، السباحة السريعة تواجه بقوة احتكاك كبيرة ، ولكن لا توجد أية مشكلة بالنسبة للدلافين من جراء هذا الاحتكاك ، لأن الله تعالى الذي أبدع خلقه هيأ لها جميع الأسباب التي تيسر لها تحركاتها ونشاطاتها ، كيف ؟
3 – جلدُ الدلفين يخفِّف قوة الاحتكاك في الماء :
جلود الدلافين وبنية أجسامها خُلقت بتصميم عجيب ، يخفف من قوة الاحتكاك إلى أدنى حد ، لنرى معاً هذا التصميم الرائع عن قرب ، الله تعالى زود الدلفين بجلد مطاطي خاص ، يا تُرى ما فائدته ؟
مِن جراء السباحة تتكون لدية طبقة مائية تسمى طبقة حد الاحتكاك ، هذه الطبقة تقابل مِن قِبل هذه الجنود المطاطية بحركة معاكسة ، تقاوم الاحتكاك ، فينتج عن ذلك سباحة سريعة ، ومريحة جداً للدلفين ، هذا التصميم الإلهي للدلفين ألهم ودلَّ أهل العلم على إنجاز هندسي كبير .
إن مهندسي الغواصات الألمان بعد أن درسوا هذا التصميم في جلد الدلفين أنجزوا بعد أبحاث دامت أربع سنوات ، صنع غطاء يتميز بخصائص قريبة من جلد الدلفين ، وضعت للغواصات طبقة بخصائص تشابه جلد الدلفين المطاطي ، والغواصات التي استخدمت هذه التقنية اكتسبت سرعة قدرت بضعفين ونصف ، ارتفعت سرعتها بعد هذا الغطاء على جدران الغواصات الذي يشبه جلد الدلفين .
احذروا تغيير خَلْقِ اللهَ :
إن خلق الله عز وجل كماله كمال مطلق ، وأنا أقول دائماً : أي تعديل للتصميم الإلهي نحو الأسوأ ، ومن تعديل ومن خصائص آخر الزمان قوله تعالى :
﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾
لذلك الأمراض تنتشر ، وتتفاقم بسبب أن طعامنا على غير ما صمم الله ، طعامنا ، وشرابنا ، وسكنانا ، وعلاقتنا ، وتلوث البيئة ، استخدام الأسمدة الكيماوية ، استخدام الهرمونات للدجاج ، هي كلها تسبب أمراضا خبيثة وبيلة ، ارتفعت هذه النسب إلى عشرة أضعاف .
قطعاً تصميم جلد الدلفين تصميم رائع ، هكذا يدل هذا الجلد على هذه الروعة ، ويدل على عظمة الخالق الذي وضع تصميماً في أحد مخلوقاته ، فكانت حقيقة علمية جديدة أبدعها الخالق من ملايين السنين ، واكتشفها الإنسان الآن .
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ
إن هذا التصميم الذي رأيناه في الدلفين نموذج من خلق الرحمن ، الذي لا تفاوت فيه ، فكل كائن في الطبيعة جُهز بصفات مدهشة يراها الذين يتفكرون بخلق الله تعالى وفي صنعة الرائعة ، حيث قال الله تعالى :
﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾
أستاذ علاء ، الكون مائدة ، الكون معرض ، لذلك قالوا : " الكون قرآن صامت ، والقرآن كون ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي " .
﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾
خاتمة وتوديع :
الأستاذ علاء :
كنا نود أن نستمر في الحديث ، والوقت أدركنا ، أعزائي المشاهدين نشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين بدمشق .
إلى اللقاء في حلقة قادمة إن شاء الله .