- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (003) سورة آل عمران
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الآية التاسعة والخمسون بعد المئة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
أيها الإخوة الكرام ؛ إنَّ الرحمة في قلب الإنسان مؤشر على اتصاله بالله عز وجل، فأبعدُ قلب عن الله عز وجل هو القلب القاسي.
لذلك ورد في الحديث القدسي:
((إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ))
الراحمون يرحمهم الله، أبعد القلوب عن الله القلب القاسي، فإذا كان للرحمة مؤشر، وللإيمان مؤشر، وللاتصال بالله مؤشر، فهذه المؤشرات تتحرك معاً.
يعني حجم إيمانك بحجم اتصالك بالله، وبحجم رحمة الخلق في قلبك، فلما يقسو قلبُ الإنسان على عبادِ الله، يوقع فيهم الأذى.
صدقوني... لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجه ولا زكاته، لأنه بعيد عن الله عز وجل، وهذه العبادات أساس القرب، إما أنها طريق إلى القرب، أو إن القرب من خلالها يظهر، ومن كان قاسياً في معاملته مع عباد الله عز وجل، فهذا دليلُ بُعدِهِ عن الله عز وجل هذه نقطة، أما النقطة الثانية كما قال عليه الصلاة والسلام:
((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ))
فلْنُبلِّغ هذه الآية:
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
ولو كان الإنسان فظاً غليظ القلب، وكان متمكناً من علمه، متبحراً في ثقافته، لكنه فظٌ غليظ القلب، فإنّ الناس يجفونه، ويصدُّون عنه.
فما قولك أن النبي عليه الصلاة والسلام، ومَن هو النبي ؟ إنّه سيد الخلق، حبيب الحق، سيد ولد آدم، المعصوم، الموحى إليه، المؤيد بالمعجزات، كل هذه الميزات لو كان فظًّا غليظ القلب مع كل هذه الميزات لانفض الناس من حوله.
فكيف إذًا بإنسان لا معجزة معه، ولا وحي، ولا هو معصوم، ولا سيد الخلق ولا حبيب الحق، بل هو واحد من عامة المؤمنين.
فإذا كان في دعوته قاسياً فظاً غليظاً هل تقبل دعوته ؟ فمعنى الآية دقيق، يعني: أنت أيها النبي، أنت على ما أنت عليه من تفوقٍ، من عصمةٍ، من تأييدٍ بالمعجزات، من إكرامٍ بالوحي، أنت بكل هذه الميزات !!! ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك.
فكيف بالذي ليس متفوقاً، وليس مؤيداً بالمعجزات، ولا يوحى إليه، ولا سيد الخلق، ولا حبيب الحق، فكيف تكون فظا غليظ القلب.
تروي كتب التاريخ، أنَ رجلاً دخل على بعض الخلفاء، فقال: إنني سأعظك وأغلُظ عليك، وكان هذا الخليفة فقيهاً، فقال: ولِمَ الغلظة يا أخي، لقد أرسل الله من هو خيرٌ منك إلى من هو أشرُّ مني ؛ أرسل موسى وهارون إلى فرعون، فقال:
﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)﴾
لذلك من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف، فلن تستطيع أن تفتح عقول الناس، قبل أن تفتح قلوبهم بالإحسان، لذلك قالوا: الإحسان قبل البيان، لا تستطيع أن تقنع الناس بالحق إلا إذا كنت على الحق، والقدوة قبل الدعوة، هناك قواعد، القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، لن تستطيع أن تكون مؤثراً بالآخرين إلا إذا كنت محسنًا إليهم.
فلذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
((بعثت بمداراة الناس))
هذه الباء في اللغة من معانيها الاستعانة، يعني أنا أستعين على هدايتهم بمدارتهم.
وقد يسأل سائل: ما لفرق بين المداراة والمداهنة ؟ ثمَّةَ فرقٌ كبير، فما أبعد المداراة عن المداهنة.
المداراة بذل الدنيا من أجل الدين، تنفق شيئًا من وقتك، وخبرتك، وراحتك، ومن مالك في سبيل أن تؤلف قلب أخيك، هذه مداراة، ولكن المداهنة أن تنفق من دينك من أجل الدنيا.
﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)﴾
المداهنة خطيرة، والمداهن منافق، لا يصلي لئلا يظن أنه به دين، هذا بذل من دينه من أجل حسن علاقته بزيد، فهذه مداهنة، فالمداهنة بذل الدين من أجل الدنيا، أما المداراة فبذلُ الدنيا من أجل الدين فلذلك:
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بيته لف ثوبه حتى لا يزعج أحدًا، للثوب عند المشي حفيف، فهل يعقل أن حفيف الثوب يوقظ الأهل ؟ من شدة رقته، ومن شدة رحمته، وشدة عنايته بأهله، فكان إذا دخل بيته لف ثوبه، وكان إذا رأى صبياً سلَّم عليه، وكان الحسن والحسين يركبان على ظهره في البيت فيقول: نعم الجمل جملكما، ونعم الحملانِ أنتما، لماذا وصل إلى ما وصل إليه، بأخلاقه العالية:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
(إنك لعلى)، ما قال الله سبحانه: إنك ذو خلق عظيم، لأنّ ثمة فرقًا كبيرًا بين أن يقول: إنك ذو خلق، وإنك لعلى خلق.
فإذا وقع الإنسان في صراع، يقول: جاهدتُ نفسي جهادًا كبيرًا، حتى ضبطت أعصابي، إذاً أنت ذو خلق، أما النبي فعلى خلق، و(على)تفيد الاستعلاء، فهو متمكن، فمهما استُفِزَّ فلا شيء في الأرض يخرجه عن خلقه العظيم، إنّه متمكن من خلقه.
إخواننا الكرام ؛ الإيمانُ حسنُ الخلق، فإذا ألغيت الخلق، ألغيت الإيمان، وألغيت الدين، ولم يبق إلا شيئان، لن يبقى من الدين إذا ألغيت الخلق إلا طقوس لا معنى لها، وثقافات لا تنفع ولا تجدي، معلومات وطقوس من دون أخلاق نعم.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
فالآية دقيقة، يجب أن تستشير، لأنه من استشار الرجال استعار عقولهم، فأنت تستعير مثلاً خبرة خمسين سنة بسؤال.
من هو الذكي العاقل الموفق ؟ هو الذي يستشير، والنبي عليه الصلاة والسلام جاءه صحابي جليل، قال له: هل هذا الموقع في بدر، وحيٌ من الله أم الرأي والمشورة ؟ فإذا كان وحيًا، فلا اعتراض، فقال له: بل الرأي والمشورة فقال الصحابي: يا رسول الله هذا ليس بموقع، قال له: أين الموقع إذًا، قال له هناك، وأشار إليه بكل بساطة، بكل طيب نفس، وقف قدوة لكل مَن يأتي بعده من العلماء والأمراء، فأمر الجيش أن يستقر في المكان الذي أشار إليه الصحابي، إذاً لقد مارس المشورة.
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
فمن خصائص المؤمن، أنه يشاور، لكنْ من يستشير، الاستخارة لله، وتعلمون الاستخارة، يعني قبل أن تقدم على أمر مباح، من زواج، من شركة، من سفر، تستخير الله عز وجل، بأن تصلي ركعتين، وتدعو بدعاء معروف، إن كان في هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري فيسره لي، وإذا كان خلاف ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه فلا أتعلق به، واقدر لي الخير حيث كان، هذه هي الاستخارة، أما الاستشارة لأولي الخبرة من المؤمنين، فعوِّد نفسك، بكل عملك، بتجارتك، بصناعتك، بزراعتك، أنْ تبحثَ عن إنسان تثق بعلمه، وبخبرته، وبورعه، لتستشيره، فأنت إذا استشرته فقد استعرت خبرة خمسين عامًا بسؤال واحد.
لذلك يا أخي، القرآن الكريم يحضُّ على المشورة:
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
إذا كان النبي المعصوم، المؤيد بالوحي، وبالمعجزات، مأموٌر أن يشاور أصحابه، فالمؤمنون من بابٍ أولى، فنحن إذاً من باب أولى أن نستشير، وما مِن إنسان يقع في شر عمله إلا وقد انفرد برأيه، استشِرْ يا أخي إن كنت تاجرًا، فابحثْ عن تاجر تثق في علمه، ودينه، وفهمه، وخبرته فاسألْه عما أنت مقبِل عليه، وإذا كنت بالصناعة فاسأل صناعيًّا مؤمنًا، وإذا كنت بالزراعة فاسأل زراعيًّا مؤمنًا، وإن كنت بالوظيفة فاسأل موظفًا مؤمنًا، فاستشر، فمن استشار الرجال استعار عقولهم.
﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾
والتوكل أيها الإخوة بالقلب لا بالجوارح، فعليك أن تسعى بجوارحك، قال أحد العلماء الكبار: السعي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، والتوكل حالة النبي، فله حال وله سلوك، فالسعي سنته، والتوكل حاله.