- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (003) سورة آل عمران
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين:
يها الإخوة الكرام ؛ في سورة آل عمران الآية الخامسة والثلاثون وهي قوله تعالى:
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)﴾
الحقيقة أنّ دخول الجنة بالعمل مبدئياً، لقوله تعالى:
﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب أحد أصحابه، يقول له كما ورد:
((يا بشر لا صدقة ولا جهاد، فبمَ تلقى الله إذاً ؟))
لا بد للإنسان من عمل يلقى الله به، فكل إنسان أكرمه الله عز وجل بعمل، فهذا يتقن الطب، وهذا يتقن المحاماة، وهذا مهندس، وهذا تاجر، وهذا موظف، وهذا له صنعةٌ يرتزق منها، فعملك الذي تتقنه يمكن أن يكون عملاً يدخلك الجنة، فلذلك القرآن الكريم ليس كتاب تاريخ، فامرأة عمران ماذا تملك ؟ لا تملك شيئًا، إلا أنها حامل، قال تعالى:
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾
خالصاً لك يا رب، فكان الذي جاءت به ليس ذكراً لكنه أنثى، ولدت السيدة مريم، والسيدة مريم جاءت بنبيٍّ عظيم، وهو سيدنا عيسى، والأمر الدقيق أن كل مسلمٍ وكل مؤمنٍ لا بد له من عمل يلقى الله به، من هم أسعد الناس، هم الذين جعلوا من مهنهم ومن شرفهم ومن دَوْرهم الاجتماعي، أب، أم، زوجة، أبن، من مهنهم وحرفهم ومن دورهم الاجتماعي، جعلوا أعمالاً تؤهِّلهم للعرض على الله عز وجل، فكان السلف الصالح إذا فتح أحدُهم دكانه، نوي خدمة المسلمين، فالمحامي المؤمن لا يتسلم قضية إلا فيها رضي الله عز وجل، يقسم أن يدافع عن الحق وعن المظلومين، فأصبحت حرفة هذا المحامي عملاً يدخل به الجنة، فمَن نفَّس عن مؤمن كربة مِن كُرَب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والطبيب إذا نوى أن يستخدم علمه في تخفيف آلام الناس، فكان علمه واختصاصه وحرفته عملاً يدخل به الجنة، فما مِن عمل في الأرض يستعصي على أن يكون في سبيل الله، إذا كان في الأصل مشروعاً، فمَن هو السعيد ؟ هو الذي يوظف أعماله كلها ؛ اختصاصه، خبرته، ماله، مكانته الاجتماعية في سبيل الله، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
فلما ترعى الأمُّ أولادَها تقرباً إلى الله، فإنّ دورها الاجتماعي عملاً يصبح يدخلها الجنة، ولما يكون الأب أبًا مثاليًا، ويربِّي أولاده تربية صالحة، فدوره الاجتماعي صار عملاً يدخله الجنة، والابن إذا برَّ والديه فدوره الاجتماعي صار عملاً يدخله الجنة، وكذلك الخياط، والمحامي، والمهندس، والمدرس، والطبيب، والتاجر، والموظف، وأصحاب الصنعات كلها إذا كانت أعمالهم مشروعة، وسلكوا فيها أساليب وطرق مشروعة، فلا كذب، ولا غش، ولا تدليس، ولا احتيال، ولا احتكار، ولا إيهام ولا غبن، ولا استغلال، فإذا برئ العمل الذي هو في الأصل مشروع، برئ من أساليب غير مشروعة، كان عمله هذا فلاحًا له، شيء آخر ؛ فلو ابتغى بالعمل خدمة نفسه وأهله، وابتغى به خدمة المسلمين، ولم يشغله عن فريضة، ولا عن واجب، ولا عن طاعة، و لاعن طلب علم فقد انقلب عملك إلى عملٍ صالحٍ تلقى الله به، وهذا معنى الآية الكريمة:
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾
قبل أيام سمعت قصة ؛ واللهِ تأثرتُ لها أشد التأثر، بضع نسوة من المؤمنات الصالحات التقيات، بدأن يطبخن طبخات نفيسة، ويبعنها لأسر غنية، وخصصن ريع هذا العمل أجرًا للعمليات الجراحية، أو أيّ أعمال صالحة، فماذا تملك امرأة عادية، تملك أن تتقن طبخة جيدا، إذاً يطبخن الطبخات المناسبة لبعض الأسر توصية، ويأخذن ريع هذا العمل، ويعملن به أعمالاً صالحة، كأنْ يسددن نفقات عمليات جراحية لبعض المرضى.
إنّ أبواب الأعمال الصالحة مفتحة على مصاريعها، فإذا كنتَ تملك أنْ تخدم الناس خدمة، فافعل ولا تقصِّر، بلِّغْ ولو آية، أمَا تملك إذا كنت محاميًا أن تتسلم قضية لإنسان فقير مظلوم دون مقابل ؟ أما تملك إذا كنت طبيبًا تعالج مريضًا من دون مقابل ؟ أما تملك إذا كنت صيدليًّا أنْ تقدِّم الدواءَ مجانًا لإنسان فقير إذا تأكدت من فقره؟.
من هو الشقي ؟ الذي حرم نفسه الأعمال الصالحة، ما من واحد له حرفة إلا وبقدر أنْ تجعل جزءًا منها لله، لوجه الله، هذه المرأة ماذا تملك ؟ تملك شيئًا طبخته، وأخذت أجرة، وقدمتها مساعدات لإنسان يعاني من مرض قلبي، أو إنسان يعاني من فشل كلوي، وهناك عمليات مصيرية في الحياة، الإنسان يربي أولاده، ويمكن للعمّة أنْ تربي أولاد أخيها، فنحن نريد أعمالاً صالحة نلقى الله بها، فالسيدة امرأة عمران:
﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً﴾
فإخواننا طلاب الجامعة ؛ ينبغي لهم أن يوظفوا علمهم لخدمة المسلمين، يغادر بعضهم إلى أمريكا فيشتري سيارة رخيصة، وفيلا فخمة تقسيطًا، يوظف كل علمه للكفار، الذين يكيدون للمسلمين، كيف يلقى الله ؟ فالطبيب يجب أن يوظف علمه للمسلمين، والمهندس يجب أن يوظف علمه للمسلمين، والمدرس ينبغي أن يعلَّم أبناء المسلمين، والتاجر ينبغي أن يجلب السلع ليوفرها للناس ويرخصها، قال النبي الكريم: والمحتكر ملعون، والموظف كما تعلم لا يكفيه راتبُه فساعِدْه، وهذا بحث ثانٍ، وأمامك مواطن له حاجة، فإذا خدمته وخفّفت عنه الأعباء، ويسّرت له الأمر وأرشدته، وطيبت خاطره، فهذا العمل الصالح،ينفع المواطنين، وهذا المواطن له عندك حاجة، فما مِن عمل مهني، وما من عمل حرفي، إلا ويوظف في خدمة الحق، فالتاجر مثلاً: التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين يوم القيامة، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا اؤتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان لهم لم يعسروا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، سبع صفات للتاجر، فليعمل خيرًا إذًا، فنحن ما دمنا أحياء وقلبنا ينبض، نحن في فرصة لا تعوض أبداً، ولا بد من اقتناصها.
تطالعك بالطرقات نعوات: فلان.. وفلان.. وفلان.. وفلان..أربعة بنعوة واحدة، ثلاثة بنعوة واحدة، اثنان بنعوة واحدة، في سنِّ 30، أو 40، أو 31 أو 48 أو 58، فالمغادرة سريعة.
لا بد أن توظف عملك للآخرة، من هم أشقى الناس ؟ الذين عملوا عمل الآخرة من أجل الدنيا، وهذا خسار و بوار.
من هم أسعد الناس ؟ الذين وظفوا أعمالهم الدنيوية من أجل الآخرة، فكل أخ كريم له اختصاص، له حرفة، أو دكان، أو تجارة، أو صناعه، أو زراعة، محاماة، أو كان طبيبا، أو مدرسًا، أو مهندسًا، أو موظفًا، حتى ولو كان يعمل في مهنٍ قد لا تُعدُّ عند الناس عظيمة، رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
هذه امرأة عمران قدوة لنا:
﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾
مَنْ خَيرٌ.
﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)﴾
اسمعوا الجواب :
﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾
إذا قلت: يا رب دراستي الجامعية أقدِّمها نذرًا لخدمة عبادك، يا رب حرفتي من أجلك لخدمة عبادك.
إخوانا الكرام ؛ هذه حقيقة أطرحها وهي الله ملخص خبرات طويلة، أيُّ إنسان صاحب حرفة، إذا وضع المادة هدفه سقط وافتقر، وإذا وضع مصلحة المسلمين غايته وهمَّه والمادة وراء ظهره، اغتنى، وجاءته الدنيا والآخرة، فلا تكن ماديًا، كن في خدمة الخلق، وتأتيك الدنيا وهي راغمة، من أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأتِه من الدنيا إلا ما قدر له، ومن أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة.
راجعوا حسابتكم، فأي شغل تشتغله يمكن أن توظفه للآخرة، كأن تضع اللقمة في فم زوجتك، فهي لك صدقة، والله لو أخذت أولادك إلى نزهة عمل صالح، واللهِ لو دعوت ناسًا إلى طعام في سبيل الله فهو عمل صالح.
أخ مؤمن جاء مسافرًا، دعوته إلى الغداء عندك، واللهِ هذا من الأعمال الصالحة، وإطعام الطعام حضَّ عليه الإسلام، والمؤمن ما عنده شيء خاص، فسهراته، ولقاءاته، ونزهاته، وأولاده، وأسرته، وإخوانه، وتدريسه، وحرفته، كلها في سبيل الله، وآيات كثيرة تؤكد هذا، اقرؤوا آخر التوبة.
" ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم به عمل صالح "
وكذلك حركاتك، وسكناتك، وعطاؤك، ومنعك، وغضبك إنْ كان لله، ورضاك إنْ كان عما يرضي الله في سجل عملك الصالح.
لكن العبرة أن تؤمن أولاً، فإذا آمنت انقلبت المباحات إلى عبادات، وإن لم تؤمن كانت العبادات نفاقاً، يا رب علَّمتُ القرآن في سبيلك، فيقول: علَّمتَ القرآن ليقال عنك عالم، وقد قيل خذوه إلى النار، يقول: يا رب قاتلت في سبيلك، فيقول: كذبت قاتلت ليقال عنك شجاع، وقد قيل خذوه إلى النار.
من هم إذاً أشقى الناس ؟ الذين عملوا أعمالاً تبدو أنها أعمال الآخرة، لكنهم عملوها للدنيا.
إذا أُعطِيَ شخصٌ شيكًا بمئة مليون، واعتبره ورقة بيضاء، وكتب عليه، كمسودة، رقم هاتف، ثمّ شقه وألقاه، فحينما يكتشف أن هذا شيك بمئة مليون، ماذا تتوقع أن يصيبه ؟ هذا الذي يستخدم الدين من أجل الدنيا، يستخدم الدين لمصالحه الشخصية، ثم يفاجأ أن استغلال الدين سبب تعاسته الأبدية، وقد ضيع سعادته الأبدية.
فلذلك أندم الناس عالمٌ دخل الناس بعلمه الجنة، ودخل هو بعلمه النار، وأندم الناس غنيٌ دخل ورثته بماله الجنة، ترك أموالاً طائلة، فتزوج الشباب وكانوا مؤمنين، وتاجروا وربحوا ودخلوا الجنة، بينما هو جمعه من حرام ودخل بماله النار لذلك: اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدًا سواك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، أعوذ بك أن يكون أحدٌ أسعد بما علمتني مني، أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك.
هذه الدنيا - دققوا في هذا التشبيه - كمجموعة كراسٍ للمشاهدين ومسرح، فإذا كنت مستقيمًا فلك محل مع المشاهدين، تستريح وتسمع وترى، وإن لم تستقم تُجَرُّ إلى المسرح، وتلقى النصيب الأوفى من الأذى، وتصبح قصة للناس، فلاتجعلني عبرة لأحد من خلقك.
فإذا استقام الإنسانُ صار متفرجًا، وإذا لم يستقم صار هو القصة، ويتندر الناسُ به.
أما إذا لم يستقم يُجَرُّ إلى المسرح ليأكل لكمات، ولكمات، ليصبح قصة يتندر الناسُ بها.
أما إذا كنتَ مستقيمًا فلك محل مع المشاهدين، تشاهد وتتعظ دون أن تكون أنت قصةً للتهكُّم و التندُّر.