- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (003) سورة آل عمران
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
ففي سورة آل عمران أيها الإخوة، آية تعد مقياساً لكل مؤمن ؛ هذه الآية هي الآية الواحدة والثلاثون وهي قوله تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
قال العلماء: لما كثر مدَّعو المحبة لله عز وجل جعل الله سبحانه دليلاً على صدق المحبة أو عدمه، آية في كتابه الكريم، فالمحبة شعورٌ داخلي يستطيع أن يدَّعيها كل إنسان، ولو كان أبعد الناس عن الله عز وجل، يقول لك: أنا أحب الله، فالحب يُدَّعى، لكن الله سبحانه وتعالى طالب المؤمنين بالدليل، فحبك لله عز وجل له دليل، ودليله طاعة رسول الله:
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
فالإنسان أيها الإخوة لئلا يقع في وهمٍ مهلك، لئلا يتوهم أنه على حق وهو على باطل، لئلا يتوهم أنه محب وهو ليس بمحب، جعل الله هذه الآية دليلاً على محبته للمؤمنين.
﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾
ويبدو أنَّ هذا المرض يصيب أهل الكتاب أيضاً.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
هذه دعوى.
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
فرد الله عليهم:
﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
فلو أنّ الله قَبِل دعواهم وأقرهم على ادِّعائهم، لمّا عذَّبهم، وما دام يعذبهم فهم كاذبون في دعواهم، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الإمام الشافعي حقيقةً ثابتة، وهي أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحبابه، بل يبتليهم ويمتحنهم، ولكن لا تستقر حياتهم إلا على الإكرام.
وهنا محل الإشارة إلى أن حياة المؤمن تمر بأطوار ثلاثة ؛ فتمر في طورٍ يعالجه الله، ويؤدِّبه إلى أن يحمله على طاعته، وهذا الطور الأول، يعالجه ويضيق عليه ويشدد عليه ويؤدبه بشتى الوسائل النفسية والمادية إلى أن يحمله على طاعته.
إذًا هذا طور التأديب، فإذا حمله على طاعته دخل في طورٍ آخر ؛ طور الابتلاء:
﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾
فإذا نجح في الابتلاء دخل في طورٍ ثالث ؛ وهو التكريم، لذلك اليهود والنصارى قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال تعالى:
﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
فإذا رأيت أن المسلمين ليسوا على ما يتمنون، وحالهم لا ترضي، وليسوا كما قال الله عز وجل، فلم يُستخلَفوا في الأرض، ولم يمكِّن الله لهم دينهم الذي ارتض لهم، ولم يبدلهم بعد خوفهم أمناً، هذه وعود الله عز وجل:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾
إخوتنا الكرام ؛ أي وعد في القرآن الكريم، إنْ رأيته غير محقق، ينبغي أن تشك في الطرف الثاني، لأن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)﴾
وقال:
﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾
إنّ الله وعد المؤمنين بالنصر فقال:
﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾
وقال:
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾
وعد المؤمنين أن يدافع عنهم فقال الله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾
ووَعَد المؤمنين أن لن يجعل للكافرين عليهم سلطانا:
﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)﴾
هذه وعود خالق الكون، فإن رأيت وعود الله ليست محققه في عالم المسلمين، فماذا تظهر ؟ أتقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى لا يفي بوعده ؟ هذا كلام فيه كفر، حاشا لله عز وجل، يجب أن نشك في إيماننا، وفي طاعتنا لله، وفي استقامتنا، إن الله سبحانه وتعالى يقول في آيةٍ أخرى:
﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
هؤلاء أهل الكتاب لو أن الله أقرهم على دعواهم لمَّا عذبهم.
﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
على كلٍ هناك نقطة دقيقة، الإنسان يحيا ضمن مجتمع، والمجتمع فاسد منحرف، يأكل الربا، يرتكب الفواحش، يقلد الغربيين، ولو دخلوا حجر ضبٍ خَرِبٍ لدخلتموه، فإذا كان الإنسان في بمجتمع منحرف، في مجتمع الدنيا كلها همُّه ومبلغ علمه، في مجتمعٍ لا يبالي أأكل حراماً أم حلالاً، مجتمع لا يبالي أكان على منهج الله أم على منهج الشيطان، فإذا كان المؤمن في هذا المجتمع، واصطلح مع الله وحده، واستقام إلى الله استقامةً تامة، فهل تظن أن الله يعذبه مع المجموع.
قال تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
لا تنسوا هذه القصة التي أوردها القرآن الكريم، سيدنا يونس حينما كان في بطن الحوت، ما من مصيبةٍ أشد على الإنسان من أن يجد نفسه فجأةً في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة الليل، في ظلماتٍ ثلاث، الأمل في النجاة ضئيل، في بطن حوت وزنه مئة وخمسون طنًا، والإنسان كله لقمة صغيرة، فالتقمه الحوت لقمة واحدة، والحوت كما تعلمون أيها الإخوة ؛ حيوان ثديّ، يعني تُرضِع أُنثاه، كل رضعة ثلاثمئة كيلو، ثلاث رضعات في اليوم تعني طنًا، والحوت مئة وخمسون طنًا كمّا بيَّنا، وفيه تسعون برميلاً من الزيت يُعرَف بزيت الحوت، وفيه خمسون طنًا من اللحم، وخمسون طنًّا من الدُّهن، هذا الحوت إذا دخل إنسان إلى بطنه، فالوجبة المعتدلة وهي تسكيت لجوعه أربعة أطنان، هذا هو الحوت إذًا، وقد وجد سيدنا يونس نفسه ببطن الحوت فجأة، في ظلمة بطن الحوت وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، أنت الآن، اركب بالبحر بين طرطوس وأرواد بالليل، تشعر بوحشة كبيرة، فإذا غرق الإنسان بالليل، ودخل في بطن الحوت:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ﴾
في ثلاث ظلمات:
﴿ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾
القصة انتهت، استمع إلى القانون بعدها، إنّه القانون الإلهي الثابت أبدًا، قال:
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
يعني أي مؤمن، وفي أي مكان، وزمان، بعد ألف سنة، بعد آلاف السنين، في آسيا أو إفريقيا، أو أمريكا أو ألاسكا، بالقطب الشمالي والجنوبي، في البحر، والجو، والبر، طائرة تحلق على ارتفاع ثلاثةٍ وأربعين ألف قدم فوق جبال الألب، احترقت وانشطرت وسقطت، ومات جميع ركابها إلا راكباً واحدًا، فقد كان مقعد هذا الراكب مكان انشطار الطائرة، فوقع، ونزل على غابةٍ من الأرز مغطاةٍ بخمسة أمتار من الثلوج، هذه الخمسة الأمتار امتصت الصدمة، كما امتصتها ليونة الأغصان أيضاً، فنزل واقفًا، وحيثما كنتَ ؛ في الجو أو البحر أو البر أو برأس جبل.
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
وكل إنسان يُحاسب عن عمله، فإذا تبتَ توبة عامة، فالفرج عام، وإذا تبتَ توبة خاصة فالفرج خاص، والمؤمن له معاملة خاصة.
قال:
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)﴾
ثم الآية التالية تقول:
﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)﴾
يعني أنّ الله عز وجل قَبْلَ أن يدمِّر هذه البلدة، أخرج منها المؤمنين، فالمؤمن إذا صار في هدى جماعي، فهذا أنعم وأكرم، فيصير في فرج جماعي، وإذا لقيت الناس حولك غير مستقيمين فلا تقل: أنا مثل هؤلاء الناس، هذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال:
(( لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا))
والقول الدارِج الآن: أخي أنا مثل الناس، حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس، أهذه آية أم حديث ؟ هي كلام فارغ، فالإنسان إذا استطاع أنْ يهدي من حوله، فهذا واللهِ شيء جميل، وإذا استطاع فليصطلح مع الله وحده، وله معاملة خاصة وحده.
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾
فهذه الآية مقياس دقيق:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾
وقال تعالى:
﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
تعامل مع الله مباشرةً، تعامل مع الله بصدق وإخلاص، وأقم أمر الله، يعزك الله:
كن مع الله ترَ الله معك و اترك الذل وحاذي طمعك
وإذا أعطاك من يمنعـه ثم من يعطي إذا ما منـعك
***
أطع أمرنا نرفع لأجلك حـجبنا فإنا منحنا بالرضى من أحبنـا
و لذ بحمانا و احتمِ بجنابـــنا نحمك مما فيه أشرار خلقــنا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شاغــلٌ وأخلص لنا تلق المسرة والهنـا
و سلم إلينا الأمر في كل ما يكن فما القرب ولإبعاد إلى بأمـرنا
ينادى له بالكون أنا نحبــــه فيسمع من في الكون أمر محبنا
***
والذي لم يذق طعم القرب لم يذق من الدنيا شيئاً، قال: بعض العارفين مساكين أهل الدنيا، دخلوا إلى الدنيا، وخرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، إنها ساعات القرب من الله، والثمن كامِنٌ بنفس كل واحد منكم، الثمن طاعة الله، قال الله تعالى:
﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)﴾
راجعوا حساباتكم، راجعوا حسابات قيودكم، بيوتكم فيها مخالفات، فيها معاصٍ، حسابات أعمالكم، حسابات جوارحكم، هي كلها حسابات، فإذا أقمت الإسلام في كيانك، وفي بيتك، وفي عملك، غيَّر الله نمط حياتك، فالله عز وجل قال:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾