وضع داكن
23-04-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 19 - آداب الكسب والمعاش - آداب التعامل في الأسواق.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

آداب الكسب و المعاش :

1 ـ على التاجر أن يبدأ تجارته بنوايا طيبة :

 أيها الأخوة الأكارم . . . في الدرس الماضي بيَّنت لكم بعض فقرات من آداب الكسب والمعاش للإمام أبي حامد الغزالي ، وكيف أن التاجر يجب أن يبدأ تجارته بنوايا طيِّبة ، من هذه النوايا أن يقصد الكَفَّ عن السؤال - عن سؤال الناس - من هذه النوايا أن يكفَّ عن التطلٌّع لما عند الناس ، من هذه النوايا أن يقصد خدمة المسلمين ، من هذه النوايا أن يقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و أن يبني علاقاته مع الناس على الإحسان وعلى العدل ، وأن يذكر الله سبحانه وتعالى في تجارته ، إذا فعل ذلك كانت هذه التجارة جُزءاً من عمله الصالح .

2 ـ أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات :

 البند الثاني أن يقصد القيام في صنعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات لأن الصناعات والتجارات لو تركت بطلت المعايش وهلك أكثر الخلق .

3 ـ ألا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة :

 وصلنا إلى البند الثالث وهو ألا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة ، شيءٌ مهم جداً ، عليه إقبال شديد ، عليه ضغط ، بضاعته رائجة ، محلِّه في مكان حسَّاس ، انشغاله في البيع والشراء ، أو انشغاله في المكاسب الدنيويَّة أخَّرته عن المكاسب الأخرويَّة ، إذا فعل ذلك فقد وقع في فخِّ الشيطان . .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾

[ سورة المنافقون : 9]

 فألا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة ، للآخرة سوق وللدنيا سوق ، وأسواق الآخرة المساجد ، المساجد أسواق الآخرة ، بها تتعرَّف إلى الله سبحانه وتعالى ، وبها يزداد علمك ، وتزداد رؤيتك وضوحاً ، ويزداد قربك ، لذلك من علامات المؤمن أنه لا تشغله الدنيا عن الآخرة ربنا عزَّ وجل قال :

﴿رِجَالٌ﴾

[ سورة النور: 37 ]

 كلمة رجالٌ لا تعني ذكراً بل تعني بطلاً ، ثلاثةٌ أنا فيهنَّ رجل وفيما سوى ذلك فأنا واحدٌ من الناس : " ما سمعت حديثاً من رسول إلا علمت أنه حقٌّ من الله تعالى ، ولا صلَّيت صلاةً فشغلّت نفسي بغيرها حتَّى أقضيها ، ولا سرت في جنازةٍ فحدَّثت نفسي بغير ما تقول حتَّى انصرف منها " ربنا عزَّ وجل قال :

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ﴾

[ سورة النور: 37 ]

 لا تلهيهم ، للتجارة وقتٌ وللعبادة وقتٌ ، وإن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، وإن لله عملاً في النهار لا يقبله في الليل . .

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾

[ سورة النور: 36 ]

على الإنسان أن يجعل الفترة الأولى صباحاً للآخرة :

 يقول الإمام الغزالي : ينبغي أن يجعل الرجلُ أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته . . الفترة الأولى صباحاً هذه للآخرة . . فيلازم المسجد ويواظب على الأوراد . وكان عمر رضي الله عنه يقول للتجَّار: " اجعلوا أوَّل نهاركم لآخرتكم وما بعده لدنياكم "
 و كان صالحو السلف يجعلون أول النهار وآخره للآخرة ، أوله وآخره للآخرة ، وما بين الأول والآخر للدنيا ، وفي الخبر أن الملائكة إذا صعدت بصحيفة العبد وفيها في أول النهار وفي آخره ذِكْر الله كفَّر الله عنه ما بينهما ، أول النهار وآخره فيه ذِكْرُ الله كفَّر الله عنه ما بينهما . . " يا بن آدم لا تعجز عن ركعتين أول النهار أكفِك النهار كلَّه " أنت في النهار كلُّه في حفظ الله ، أنت في ذمَّة الله ، أنت تحت مظلَّة الله ، أنت في توفيق الله ما دمت قد بدأت نهارك بذِكْرِ الله .
 ثم مهما سمع الأذان في وسط النهار للأولى والعصر ، للظهر والعصر فينبغي ألا يعرج على شغلٍ ، وينزعج عن مكانه ويدع كل ما كان فيه ، فما يفوته من فضيلة التكبيرة الأولى مع الإمام في أول الوقت لا توازيها الدنيا وما فيها ، هكذا قال أحد التابعين : مضى عليه أربعون عاماً ما فاتته التكبيرة الأولى في المسجد مع الإمام:

﴿رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة النور: 37 ]

 وكان السلف الصالح يبتدرون عند الأذان ، ويخلون الأسواق للصبيان وأهل الذمَّة ، وقت الصلاة السوق فارغ ، لا أحد في متجره ، وكانوا يستأجرون بالقراريط لحفظ الحوانيت في أوقات الصلوات ، إنهم كانوا حدَّادين وخرازين ، وكان أحدهم إذا رفع المطرقة وأذَّن المؤذِّن لا يهوي بها ، وإذا أدخل الإبرة في الثوب وأذَّن المؤذِّن لا يخرجُها ، هكذا كان السلف الصالح . هذه من باب التأكيد عن ألا يتلهَّى الإنسان بالدنيا عن الآخرة .

4 ـ أن يلازم ذِكر الله سبحانه وتعالى في السوق :

 الشيء الرابع : ألا يقتصر على هذا بل يلازم ذِكر الله سبحانه وتعالى في السوق ، فإذا الإنسان كان في السوق في محلِّه التجاري ، في عمله ، في وظيفته وذكر الله عزَّ وجل ، ذكر آية لشخص ، شرح له حديثاً ، ذكر نعمة الله سبحانه وتعالى ، قال : سبحان الله ، سمع قصَّة فيها موعظة قال : لا حول ولا قوَّة إلا بالله ، فالإنسان ما دام وهو في مكان عمله يجب أن يذكر الله سبحانه وتعالى لقوله تعالى :

﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾

[ سورة المعارج: 23 ]

 كيف يداوم على صلاته ؟ هناك خمس صلوات ، هذه الآية حُمِلَت على أن قلبهم ملتفتٌ إلى الله سبحانه وتعالى طوال نهارهم ، فهذا المؤمن وهو في السوق يشتغل بذكر الله سبحانه وتعالى .

 

ذكر الله أوسع عبادة على الإطلاق :

 بالمناسبة : أوسع عبادة كلمة ذِكْرُ الله ، فإذا ذكرت آيةً كونيَّةً فقد ذكرت الله ، إذا ذكرت آيةٌ قرآنيَّةً فقد ذكرت الله ، إذا ذكرت حديثاً شريفاً فقد ذكرت الله ، إذا ذكرت حكماً فقهياً فقد ذكرت الله ، إذا ذكرت دقَّة خلق ربك فقد ذكرت الله ، إذا أمرت بالمعروف فقد ذكرت الله ، إذا نهيت عن المنكر فقد ذكرت الله ، إذا رويت قصَّةً فيها موعظةٌ فقد ذكرت الله ، إذا ذكرت نعمةً فقد ذكرت الله ، إذا قلت : الحمد لله الأمطار بدأت تنهمر ، هذا ذكر لله ، إذا قلت : الله سبحانه وتعالى وفَّقني إلى كذا وكذا ذكرت الله . .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب : 41]

 برئ من النفاق من أكثر من ذكر الله :

((ذاكر اللهِ في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين وكالحي بين الأموات ))

[ إحياء علوم الدين عن ابن مسعود]

 فأحياناً تجد تجَّاراً في السوق حديثهم فقط متعلِّق بحرفتهم ، بمصلحتهم ، بالأسعار ، فلان ربح ، فلان باع ، فلان خسر ، فلان حمل حملاً فوق طاقته ، فلان نفض من حمله ، فلان جاء لعنده موظَّفو التموين ، فلان سلَّم محلَّه ، فلان اشترى محلاً ، هذا حديث التجَّار ، أما حديث النساء فلانة تزوجت ، فلانة تطلقت ، فلانة اشترت بيتاً ، فلانة طلَّقها زوجها ، فلانة في خصومة ، جاءها ولد متوف ، هذا كلَّه حديث النساء ، أما المؤمن فهذه كلُّها سفاسف .

(( إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفسافها ))

[ أخرجه الطبراني عن حسين بن علي ]

 كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ذكر الله وما والاه ، الصامت في سلام ، والمتكلِّم إمَّا له أوعليه ، فهذا اللسان فيه بابٌ كبير للعمل الصالح وللعمل السيِّئ . .

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾

[ سورة إبراهيم : 24-25]

 يمكن أن تشرح آية لأخ ، صديق ، جار ، يتأثَّر فيها ، على شهر شهرين ثلاثة كلَّما التقيت معه حدِّثه شيئاً عن آيات الله ، شيئاً عن آيات القرآن الكريم ، شيئاً عن الصحابة ، شيئاً عن رسول الله ، وبعد هذا حمله الشوق أن يقول لك : أين تذهب أنت ؟ دلَّني على شيخك ، خذني معك إلى مجلس العلم ، تأتي به إلى مجلس العلم ، ما هي إلا أشهر حتَّى يصبح من المؤمنين الصادقين الصالحين ، هذا إنسان ، الآن تزوج امرأة مؤمنة ، أنجب أولاداً طاهرين ، ساهم في هداية إخوته ، وأخواته ، وجيرانه ، أنت في زمانك تكلمت بكلمة ، الله سبحانه وتعالى يطلعك على نتائجها يوم القيامة فإذا أمَّةٌ قد اهتدت بهذه الكلمة ، يوم القيامة أمَّة . .

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ﴾

[ سورة إبراهيم : 24]

 معنى أصلها ثابتٌ أي أنها مبنيَّةٌ على حقائق وليس على أباطيل ، مبنيَّة على وقائع لا على أوهام ، مبنية على مبادئ ثابتة لا على نظريات متبدِّلة ، الباطل من صفاته أنه زاهق . .

﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾

[ سورة الإسراء : 81]

 الحق من صفاته أنه ثابت ، الحق هو هو لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ، فالحق كالسحاب يسير في السماء ، وما ضرَّ السحاب نبح الكلاب ، الذين يقاتلون الحق كنبح الكلاب والسحاب سحاب وهو هو في عليائه ، وهو هو في حركته وفي تقدُّمه ، لا يستطيع أحدٌ أن يقف في وجه الحق لأن الله هو الحق ، هو الحق المبين .

فوائد ذكر الله عز وجل في السوق :

 أحدهم رأى الآخر يصلي فقال له : لمن تصلي ألا تكف عن ذلك ؟ هل أنت متأكد ومصدِّق أن هناك إلهاً موجوداً ؟ هذا المصلي عابد وليس عارفاً لم يستطع أن يرد عليه ، قال له: شكوتك إلى الله ، فقال له : إذا الله موجود فأنا أتحدَّاه ، وإذا كان موجوداً يثبت وجوده ، فما مضى ساعة حتى فقد هذا المتكلِّم بصره ، الله أثبت له وجوده وأعطاه مهلة أن يتوب ، المؤمن مسددٌ رشيد ، مثل الفريقين كالأعمى والأصم ، والسميع والبصير هل يستويان ؟ أعمى وأصم ، سميع وبصير ، المؤمن سميع وبصير ، الكافر أعمى وأصم :

(( ذاكر الله في الغافلين كالشجرة الخضراء في وسط الهشيم ))

[ أخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر]

 حشائش يابسة ، وشجرة نضرة وارفة الظلال ، متألِّقة ، صدقاً أحياناً تصافح مؤمناً تشعر أنه كتلة حياة ، كتلة وفاء ، كتلة إخلاص ، كتلة اندفاع ، كتلة محبَّة لله عزَّ وجل ، جاهز للعمل الصالح ، جاهز للنصيحة وخدمة الناس ، عنده غنى بقلبه ، لو لم يكن في يديه إلا دُرَيْهِمَات لملأ الناس غنىً ، إن الغنى غنى النفس ، عنده توكُّل . . قال الإمام الشافعي : " لو أن السماء من نحاس ، والأرض من رصاص ، وأهل مِصْرَ كلُّهم عيالي ما شكوت همَّاً لأحد ، لأن الله هو الرزَّاق ذو القوَّة المتين " وقال عليه الصلاة والسلام :

((مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ ))

[ الترمذي عن عمر بن الخطاب ]

 لا إله إلا الله أي لا رازق إلا الله ، لا ينبغي أن تحلف كذباً ، لا ينبغي أن تُدَلِّس ، لا ينبغي أن تَغُش ، لا ينبغي أن تكتم عيباً ، لا ينبغي ألا تنصح المسلمين ، لا إله إلا الله ، لا رازق إلا الله .
 وقال الحسن رضي الله عنه: " ذاكر الله في السوق يجيء يوم القيامة له ضوءٌ كضوء القمر ، وبرهانٌ كبرهان الشمس ، ومن استغفر الله في السوق غفر له بعدد أهله "
 إذا كان محلِّه في مكان مزدحم له مغفرة كبيرة ، سيدنا عمر كان إذا دخل السوق قال: " اللهمَّ إني أعوذ بك من الكفر والفسوق ، ومن شرِّ ما أحاطت به السوقُ ، اللهمَّ إني أعوذ بك من يمينٍ فاجرة وصفقةٍ خاسرة "
 إذا إنسان غير موفَّق الله سبحانه وتعالى يريه أن هذه البضاعة ممتازة ، وسوف يربح منها أرباحاً طائلة ، فإذا اشتراها نفر الناس منها ، وبقيت في مستودعه لا تباع ولا تشترى، عندئذٍ ربنا عزَّ وجل قال :

﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾

[ سورة التوبة: 24 ]

 فأصعب شيءٍ في حياة التاجر أن يدخل إلى دكَّانه أو إلى مستودعه فيرى البضاعة قد مضى عليها سنوات ولا يسأله عنها أحد . .

﴿وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا﴾

[ سورة التوبة: 24 ]

 المؤمن الله عزَّ وجل يلهمه البضاعة الرائجة ، والبضاعة غير الرائجة يصرفها عنه، لا يوجد هنا ذكاء بينهما ، تجد تاجراً عريقاً بالتجارة ، له أربعون سنة بالتجارة ، يشتري صفقة فيفلِّس منها ، فسيدنا عمر كان يقول : " اللهمَّ إني أعوذ بك من أن أصيب يميناً فاجرة أو صفقةً خاسرة "

 

تجارة السلف الصالح لطلب الكفاية لا للتنعُّم في الدنيا :

 قال : كنّا يوماً عند الجُنَيْد رضي الله عنه ، فجرى ذكر أناسٍ يجلسون في المساجد يتشبَّهون بالصوفيَّة ، ويُقَصِّرون عما يجب عليهم من حقِّ الجلوس ، ويعيبون من يدخل السوق . جالس في المسجد لأنه ولي ، هذا الذي ذهب إلى السوق محباً للدنيا ، هكذا يقولون . . سمع ذلك الجنيد رضي الله عنه فقال: كم ممن هو في السوق حُكْمُهُ أن يدخل المسجد ويأخذ بأذن بعض من فيه فيخرجه ويجلس مكانه ، وإني لأعرف رجلاً يدخل السوق ورده كل يومٍ ثلاثمئة ركعة .
 أي له أوراد ، وله أحوال ، وله مواجد ، وله حالات قرب ، فما كل من دخل السوق يسمَّى محبَّاً للدنيا ، إذا كانت نواياه السبع أن يكفُّ عن السؤال ، أن يكفي أهله ، أن يكفّ عن التطلُّع لما عند الناس ، أن يستعين بالمال على أمر دينه ، أن يذكر الله في السوق ، أن يتعامل مع الناس بالعدل والإحسان ، أن يأمر بالمعروف ، أن ينهى عن المنكر ، أن يخدم المسلمين ، هذه هي النوايا على ما أظن سبع أو ثماني ، إذا كانت هذه نواياه من دخول السوق فأنعم وأكرم، وربَّما سبق العُبَّاد لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

(( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقيين والشهداء ))

[الدارمي عن أبي سعيد ]

 أنا أقول لكم هذا الكلام : التاجر الذي يخشى الله سبحانه وتعالى ، يخشى الله ولا يخشى أحداً إلا الله ، عنده هذه البضاعة اشتراها بعشرة ربحه فيها ليرتان صارت اثني عشر ، جاءه شخص بحاجة ماسَّة لها ، لو طلب خمسين سيدفع له ثمنها ، قال له : اثنا عشر ، هذا التاجر لا يمكن أن يخوِّفه الله من جهة ثانية ، لا يمكن أن يخوِّفه الله عزَّ وجل من جهة أرضيَّة، تجده لا يخاف ، أما إذا جاءه شخص بحاجة فاستغلَّ حاجته أبشع استغلال وضاعف السعر ، في اليوم الثاني له حساب ، يأتي له شخص يجعله يرجف ، طبعاً أنت لم تخف الله عزَّ وجل بينك وبينه فخوَّفك من عباده ، من خاف الله خافه كل شيء ، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء .
 قال لي أحدهم : أنا أرجف رجفاً ما هذه الحياة ؟ عند جاري أتى الموظفون وأنا كلي أرجف ، والله أنا لم أفعل شيئاً ، وكلها بضاعتي ، قلت له : عند الله حساب جار ، يجمع الله البيت والمحل ، البيت هل فيه معاص ؟ فسكت ، من وإلى ، في البيت يوجد حساب وهنا يوجد حساب ، هو عنده البضاعة صحيحة ، وسعرها قانوني ، ووفق الأصول ، لكن الله عنده حساب في البيت ، فإذا لم يكن في البيت غلط وهنا لا يوجد غلط لا تخف . .

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء : 147]

 هو عندما كان فيه خشية من الله عزَّ وجل ما كان فيه شيء ، عندما فجر الناس ، سأقول لكم كلمات : المؤمن إذا قرأ كلام الله عزَّ وجل وأخذه مأخذاً جديَّاً ، ربنا عزَّ وجل قال: ولن هذه لن لنفي المستقبل ، أداة التحدي . .

﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 141 ]

 هذا كلام رب ، خالق الكون ، أنت كن مع الله وانظر ، كن مع الله تر الله معك ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟! ما معك أحد ، يخيفك من أحقر خلقه ، وإذا كنت معه خافك كل شيء .
 هكذا كانت تجارة السلف الصالح ، يتَّجرون لطلب الكفاية لا للتنعُّم في الدنيا ، فإن من طلب الدنيا للاستعانة بها على الآخرة كيف يخزيه الله سبحانه وتعالى ؟ طلب الدنيا للاستعانة بها على الآخرة .

5 ـ ألا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة :

 الآن البند الخامس : فيما يدعو لشفقة التاجر على دينه وهو في السوق ألا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة ، وذلك بأن يكون أول داخلٍ وآخر خارجٍ ، الآن من نعم الله أنه يوجد تحديد للدوام ، لكن قبل التحديد تجد السوق للساعة الحادية عشرة ، الثانية عشرة ، والنساء في البيت وحدهن ، كل زوجة لها حق ، لا يجعل واحداً يتأخَّر عنه ، يظل بالسوق لآخر الوقت ، أول إنسان يفتح ، قال : هذا مكروه ، عن عمرو بن العاص يقول: " لا تكن أول داخلٍ في السوق ولا آخر خارجٍ منها ، فإن بها باض الشيطان وفرَّخ "
 الذي يدخل أول واحد ويخرج آخر واحد ، إبليس يقول لزبانيَّته : سر بكتائبك فأت أصحاب الأسواق ، زيِّن لهم الكذبَ والحَلْفَ والخديعة والمكر والخيانة ، وكن مع أول داخلٍ وآخر خارجٍ ، وفي الخبر: شرُّ البقاع الأسواق ، وشرُّ أهلها أولهم دخولاً وآخرهم خروجاً .

6 ـ ألا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتقي مواقع الشُبُهات :

 البند السادس : ألا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتقي مواقع الشُبُهات ، عندنا حرام وعندنا شبهات ، إذا الإنسان ترك الحرام لابأس به ، لكن هناك شيئاً آخر وهو ترك الشبهات ، ومظان الريب ، ولا ينظر إلى الفتاوى ، يا أخي توجد فتوى أن البيع ولو مع الدين لا شيء عليه ، فلان وفلان أنت أفهم منهم ؟ لا ، لست أفهم منهم ، قال : المؤمن الصادق لا يقبل الفتاوى التي نُقِلَت إليه التي فيها إباحة لبعض المنهيات ، فأنا كلَّما سألني إنسان شيئاً أقول له: تريد الفتوى أم التقوى ؟ الفتوى موجودة ، أي معصية لها فتوى ، إنسان ضيع خمسين ليرة ذهباً ، فدعا الله : يا رب أدعو ألا يجدها شيخ ، قال له : لماذا ؟ قال له : سيؤول فتوى ويأخذها ، الفتوى موجودة أما التقوى فهذه غير سهلة ، فأي معصية تريد أن تقترفها توجد لها فتوى ، لكن إذا كنت تريد التقوى ، تريد مرضاة الله ، استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك .
 قال لي رجل : إذا الإنسان باع بالتقسيط ورفع الثمن لا شيء عليه ، قلت له : كيف ذلك ؟ قال: أتريد أن نأخذ الثمن متأخِّراً بلا فائدة ؟ قلت : حينما يبيع الشيء لأجل يكتبه ديناً ، وكل قرضٍ جرَّ نفعاً فهو ربا ، ولا بيع بعقدين ، ومن باع بعقدين فله أوكسهما أو يكون الربا ، قال : لا بشرط ألا تبيع نقداً أو تقسيطاً ، إذا بعت تقسيطاً فقط ، يجوز أن تبيع بالتقسيط وبسعر مرتفع ، قلت له : محلان تجاريان إلى جانب بعضهما بعضاً ، يبيعان أدوات كهربائيَّة ، البضاعة واحدة ، الأول يبيع نقداً والثاني يبيع تقسيطاً ، حسب رأي هذا الإنسان العمل شرعي ، هذا يبيع تقسيطاً فقط ، هذا البرَّاد ثمنه ألف ومئتان لستة أشهر ، كل شهر مئتا ليرة ، المحل الثاني يبيع البرَّاد بألف ليرة نقداً ، حسب توجيه هذا الرجل البيع في الحالتين شرعي ، قلت له:
 لو جاء إنسان إلى الذي يبيع تقسيطاً وأخذ ثلاجةً ، وسُجِّل في الدفتر ديناً لستة أشهر على أن يُسدَّد كل شهرين مئتي ليرة ، إنسان آخر ذهب إلى البنك ، واستقرض ألف ليرة بفائدة مئتين لستة أشهر ، وذهب إلى المحل الثاني الذي يبيع نقداً واشترى هذه الثلاجة ، أي فرقٍ بين الرجلين ؟ أبداً لا فرق بينهما إطلاقاً ، إلا أن الثاني ذهب إلى المصرف وأخذ الألف بفائدة ، ودفع الألف للبائع الذي يبيع نقداً ، وسجَّل المصرف عليه مئتي ليرة لستَّة أشهر ، والأول دفع الزيادة لصاحب المَتْجَر ، فبقي شخص يقول لك : توجد فتوى ؟ أنا سمعت فتوى من رجل له مكانته وعالِم جليل فانتهى الأمر ، لكن ما هو دليله على شرعية هذا العمل ؟ لأنه إذا سيق الإنسان للحساب يجب أن يبيِّن له الدليل ، كل قرضٍ جرَّ نفعاً فهو ربا .

(( مَنْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ فَلَهُ أَوْكَسُهُمَا أَوِ الرِّبَا ))

[الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

 الإمام الغزالي يقول: ألا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتقي مواقع الشبهات، ومظان الرِيَب ، ولا ينظر إلى الفتاوى .

 

من يعرف الله لا يقبل شيئاً لا يليق بكماله :

 مرَّة أحدهم أحضر لي فتوى وقال لي : تفضل هذه الفتوى بتوقيع رجل مكانته كبيرة جداً ، ومأخوذة عن حاشية ابن عابدين ، أن الإنسان يستطيع أن يضع أمواله في دولة أجنبيَّة ويأخذ فائدتها ، قلت له : هذا الذي ينقل ماله من بلد المسلمين إلى بلد الكافرين ليقوِّيهم ويضعف المسلمين أليس له عند الله حساب ؟ ابن عابدين حينما قال في حاشيته : لك أن تأخذ أموال الكفَّار يعني بهذا أن تأخذها في حالة الحرب ، دون أن تضع مالك عندهم وتأخذ عليها الفائدة ، القضيَّة أعقد من هذا ، الفتوى صحيحة ولكن لها ظروفاً معيَّنة ، لها ملابسات ، في حالة الحرب لا في حالة السلم ، هناك تمثيل دبلوماسي وهناك سفارات أين حالة الحرب هذه ؟ وكذلك نقل الأموال من بلد مسلم إلى بلد غير مسلم هذا يضعف المسلمين ، يفقدهم السيولة النقديَّة ، إذاً كل فتوى لها ملابسات ولها ظروف ، أنا لا أكذِّب الفتوى لا والله حاشا لله ولكن أقول : هذه الفتوى التي تأخذها أنت لها ملابسات ولها ظروف قد لا تنطبق عليكَ أنت ، فإذا أردت الفتوى فالفتوى موجودة ، لكنك يجب أن تأخذ التقوى ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

((استفت قلبك وإن أفتاك المفتون وأفتوك))

[أحمد عن وابصة بن معبد]

 إنسان قال لي : إذا طالب ذهب إلى أوروبا ومضطر أن يتزوَّج ، له أن يتزوَّج زواجاً مؤقَّتاً ستَّة سنوات فترة الدراسة ، وقبل سنتين يطلِّق ، قلت له : من أين جئت بهذا ؟ قال : في المذهب الفلاني . . سمَّى لي اسم الكتاب . . موجود ، قلت له : ربنا عزَّ وجل قال :

﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ﴾

[ سورة النساء : 21 ]

 أغلظ ميثاق بين الزوجين ، من منكم يرضى أن يزوِّج ابنته زواجاً لأجل ؟ لا أحد يرضى ولو كان موجوداً في كتاب معتمد من الأئمَّة الأربعة ، يمكن المذهب المالكي ، المهم التقوى لا الفتوى ، قد تكون الفتوى لها ملابسات ، لها ظروف ، مدسوسة عن الإمام المالكي رضي الله عنه لا تعرف ، لأن الشيخ  قالوا عنه أشياء غير مقبولة ، فالإمام الشعراني أنكرها قلبه ، هذا كلام خِلاف القرآن ، ذهب إلى مكَّة المكرَّمة وعرض الأمر على أحد علمائها الكبار ، قال : دخل إلى غرفته فعاد ومعه نسخةٌ من الكتاب بخطِّ يدِّ الشيخ ، ففتح الكتاب فلم يجد فيها شيئاً مما أنكره قلبه ، إذاً مدسوسةٌ عليه ، قال : وقد دسُّوا على الإمام أحمد بن حنبل عقائد زائغة دسُّوها تحت وسادته قُبَيْل وفاته ، ولقد دسوا على الإمام الغزالي في الإحياء . . والنص عندي . . ولقد دسوا على الفيروزبادي ونسبوا له كتاباً في التهجُّم على أبي حنيفة ، قال: ودسوا عليَّ أنا كتاباً راج في مصر وقد نُسِبَ إليّ وأنا بريء منه ، النص هذا خطير جداً ، بمعنى أنه لو بَلَغَك عن عالمٍ جليل كلامٌ لا يتناسب مع كمال الله سبحانه وتعالى ، ولا مع كمال أنبيائه ورسله ، القضيَّة سهلة ، ما أسهل الدسَّ على العلماء .
 فهناك تفسير شهير جداً وجدت في سطرين كلاماً يلفت النظر ، أن هذا الذي كُتِبَ عليه أن يكون شقياً من الأزل قال : هذا محض العدل لأن الله سبحانه وتعالى يتصرَّف في ملكه ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل ، قلت : لو تزوَّج الإنسان امرأةً ليس لها أب ، وليس لها أخ ، ولا أخت ، ولا قريب ، ولا أحد ، مقطوعة ، وظلمها ظلماً شديداً ، لم يطعمها ، وسَخَّرها لخدمة أُناسٍ كثيرين ، وأهانها ، وضربها ، فهل نقول : هذا محض العدل والإحسان وأنه لا أحد يحاسب الزوج عنها ؟ هل ينقلب الظُلم إلى عدلٍ لمجرَّد أن أحداً لن يحاسبك على هذا الشيء ؟ لا ، هذا السطر لابدَّ أنه مدسوسٌ على هذا المُفَسِّر الجليل .
 النبي عليه الصلاة والسلام يمشي في الطريق يرى باباً مفتوحاً ، ينظر في الباب ، فيرى امرأةً تغتسل غايةً في الجمال ، وقع حُسنها في قلبه يقول : سبحان الله ، تسمعه فتقول لزوجها ، تأتي الآيات تأمر زوجها أن يطلِّقها ليأخذها النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا إذا وجدته في الكتاب لا أتهم صاحب الكتاب بل أقول : هذا مدسوسٌ عليه ، الأنبياء فوق هذا المستوى ، فوق هذا بكثير .
 سيدنا سليمان بَلَغَهُ أن للسيدة بلقيس أرجلاً كأرجل الحمار ، وأن شعراً كثيفاً في أرجلها فبدافع حبِّ الفضول صنع لها بهواً فخماً من زجاجٍ صافٍ ، وأجرى تحته الماء . .

﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا﴾

[ سورة النمل: 44 ]

 هكذا التفسير ؟! معاذ الله أن يكون سليمان عليه السلام بهذا المستوى ، لا ، لكن الهداية لا تكون إلا بشيئين : بوجود تفكيرٍ سليم ووجود خضوع ، فهذه ملكة وهو ملك ، كيف تخضع له ؟ لابدَّ من أن يُحَجِّمها ، امتحن ذكاءها بنقل عرشها ، فلما طرح عليها السؤال : أهكذا عرشك ؟ كانت ذكيَّةً جداً ، أجابت إجابةً دُبلوماسية قالت : كأنه هو ، فلو أنه هو ، قالت : كأنه هو ، ولو لم يكن هو ، قالت : كأنه هو أي ليس هو ، فالجواب دقيق جداً ، شرطان : أول شرط أن تكون مفكِّرةً وها هي تثبت أنها مفكِّرة ، بقي خضوعها ، ملكة وهو ملك ، ندٌ لند ، حينما دخلت قصره المنيف ، وظنَّت الماء يجري في بهو القصر كشفت عن ساقيها فقيل لها: لا إنه صرٌ ممرَّدٌ من قوارير ، فإذا واحد له مكانة كبيرة جلس ليأكل فأوقع الصحن على ثيابه ، يخجل، يتحجَّم ، فسيدنا سليمان أراد أن يخضعها ، أن يجعل بينه وبينها مسافةً ، فإذا وجدت في بعض الكتب أنه أراد أن يكتشف ما إذا كان في ساقيها شعرٌ أو لا ، لا ، فهذا لا يليق بالأنبياء أن يفعلوه ، إذا أراد أن يكتشف ما إذا كان ساقاها ساقي حمار ، لا الملكة لا تكون كذلك .
 على كل أضرب لكم مثلاً : أحد سكَّان دمشق دخل إلى مكتبةٍ فإذا فيها كتابٌ عن دمشق قَلَّبَ صفحاته فأعجبه فاشتراه ، جاء للبيت قرأ عن سكَّان دمشق ، عن تضاريس دمشق ، عن غوطتها ، عن بردى ، عن نشاط أهلها ، عن تاريخهم ، كيف أنها أقدم مدينة ، عن آثارها، عن قصورها ، عن بساتينها ، عن عادات أهلها ، عن تقاليدها كلُّه صحيح ، وهو من الشام ، في نهاية الكتاب قرأ كلمتين : وتقع دمشق على البحر المتوسِّط شمال بيروت ، هو من دمشق ويسكن الشام فهل عنده إمكانيَّة أن يصدِّق هذا الكلام ؟ هذا كتاب مهم ، معناها نحن نعيش على البحر ، لا ليس هكذا ، إحساسك بالواقع أقوى من الكتاب ، إحساسك بالواقع أقوى من الكتاب بكثير ، راكب سيَّارة وهي واقفة ، و عندك على وقوفها مليون دليل ، نظرت فرأيت الإبرة على الثمانين فقلت : معنى هذا أننا نسير ، لا هذه لها تفسير ثان ، معنى هذا أن العدَّاد معطَّل، الكبل مقطوع وواقف على الثمانين ، وقوفك أقوى من العدَّاد ، فعندما يعرف الإنسان الله سبحانه وتعالى لا يقبل شيئاً لا يليق بكماله . .

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾

[ سورة الأعراف: 180 ]

 فمن يصدِّق أن الشام تقع على البحر ؟ إنسان ما رأى الشام ، إنسان يقرأ كتاباً مترجماً عن الشام وهو يسكن في ألاسكا ، بأستراليا ، يقول لك : معنى هذا أن الشام بين طرابلس وبين بيروت ، هنا الشام ، باعتبار هو قرأ هكذا في الكتاب ، أما ابن الشام فلا يقول هذا الكلام و لا يقبله .
 فيجب أن تبلغ معرفتك بالله عزَّ وجل درجة أن لا ترضى عنه النقص ، لا ترضى لأسمائه إلا أن تكون حسنى ، فاسم القابض من أسمائه الحسنى ، الضار من أسمائه الحسنى لكنه يضرُّ لينفع ، ويقبض ليبسط ، ويمنع ليعطي . .
إن هذه الدنيا دار التواءٍ لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عُقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي وييبتلي ليجزي ، هكذا ، فالإنسان إذا أقبل على الله سبحانه وتعالى وذاق من رحمته لا يقبل تفسيراً يتنافى مع رحمته ، لا يُسأل عما يفعل لفرط عدالته لأن عدله يسكت الألسنة .

على الإنسان أن يستفتي قلبه و يسأل عن كل سلعة رابه أمرها :

 قال : ولا ينظر إلى الفتاوى بل يستفتي قلبه ، فإذا وجد فيه حزازةً اجتنبه ، نفسه ضاقت فتركه ، وإذا حُمِلَت إليه سلعةٌ رابه أمرها سأل عنها ، أخي أنا قال لي اشتر فاشتريت ، هو قال لك : اشتر هذه الكأس وثمنها ليرتان قال لك : تأخذها بنصف ليرة ، أين أنت جالس ؟ معنى هذا أن هذه الكأس مسروقة ، أخي أنا بعتها بيعاً حلالاً ، عرض عليّ كأساً بنصف وأنا لي مصلحة أن آخذها بنصف ، لا معنى هذا أنك لست ورعاً ، سعرها ليرتان ، إن باعك إياها بليرتين إلا ربع فلابأس ، مئة وتسعون معقول ، مئة وثمانون معقول ، ليرتان وربع معقولة ، لكن نصف ليرة غير معقولة . قال : وإذا حُمِلَت إليه سلعةٌ رابه أمرها سأل عنها حتَّى يعرف وإلا أكل شبهةً ، وقد حُمِلَ إلى النبي عليه الصلاة والسلام لبنٌ فقال : من أين لكم هذا ؟ قالوا: من الشاة ؟ قال: ومن أين لكم هذه الشاة ؟ قيل: من موضع كذا ، فشرب منه ، حلال ، وقال : إنَّا معاشر الأنبياء أُمِرْنا ألا نأكل إلا طيِّباً ولا نعمل إلا صالحاً ، وقال عليه الصلاة والسلام :

(( وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين ))

[ مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 وقال :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾

[ سورة البقرة: 172 ]

 قال : النبي الكريم سأل عن أصل الشيء وأصل أصله ، فقط ، أما عن أصل أصل أصله فما سأل لأن هذا الشيء متعذَّر . التاجر عليه أن ينظر إلى من يعامله فإن كان منسوباً إلى ظلمٍ ، أو خيانةٍ ، أو سرقةٍ ، أو ربا فلا يعامله .
قال : دخل سفيان على المهدي فقال : يا سفيان أعطني الدواة حتَّى أكتب ، فقال: أخبرني عن أي شيءٍ تكتب ؟ . . إذا ناوله الدواة صار مسؤولاً فصار شريكه في الإثم . . عن أي شيءٍ تكتب ؟ فإن كان حقَّاً أعطيتك ، بعض الأمراء طلب من بعض العلماء أن يناوله شيئاً ليختم به الكتاب فقال: ناولني الكتاب حتَّى أقرأ ما فيه ، الختم فقط قال: ناولني الكتاب حتَّى أقرأ ما فيه .

الناس قسمان :

 قال : وبالجملة ينبغي أن ينقسم الناس عنده إلى من يُعَامَل ومن لا يُعَامَل ، وليكن من يعامله أقل ممن لا يعامله في هذا الزمن ، قال بعضهم : أتى على الناس زمانٌ كان الرجل يدخل في السوق ويقول: من ترون أعامل من الناس ؟ فيقال له : عامل من شئت ، كلُّه طيِّب، كلُّه فالح ، كله ورع ، كله مستقيم ، كله محسن ، عامل من شئت ، قال: ثمَّ أتى زمانٌ آخر كانوا يقولون : عامل من شئت في هذا السوق كلِّه إلا فلاناً وفلاناً ، هذان مشكوك في أمرهما ، قال: ثمَّ أتى زمانٌ آخر فكان يقال : لا تعامل أحداً إلا فلاناً وفلاناً ، لا يتعاملوا ، قال: ونخشى أن يقال لا تعامل أحداً أبداً .
 أول أمر عامل من شئت ، رقم اثنين عامل من شئت إلا فلاناً وفلاناً ، رقم ثلاثة لا تعامل إلا فلاناً وفلاناً ، وقد يأتي زمان يقال للرجل : لا تعامل أحداً ، قال عليه الصلاة والسلام:

(( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَن))

[ البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ]

 إنه في آخر الزمان من لم يأكل الربا أصابه غباره ، العلاقات كلُّها ربويَّة ، مهمَّا احتاط الإنسان يصيبه غبار الربا .

7 ـ أن يراقب جميع مجاري معاملاته مع كل واحدٍ من معامليه :

 البند السابع والأخير في الأشياء التي يحترز بها التاجر على دينه أن يراقب جميع مجاري معاملاته مع كل واحدٍ من معامليه ، قال : فإنه مراقبٌ ومحاسب ، فليعدَّ الجواب ليوم الحساب والعقاب في كل فعلةٍ وقولةٍ لماذا قالها ؟ ولماذا فعلها ؟ ولأجل ماذا ؟ قال : فإنه يقال: إنه يوقف التاجر يوم القيامة مع كل رجلٍ باعه في الدنيا ، إذا عندك بيع في اليوم حوالي خمسين أو ستين زبوناً على أربعين سنة أعانك الله ، واحد واحد ، قلت له : هذه البضاعة لا يوجد منها وهي يوجد منها لكي يشتري على الفور ، إذا قلت له : هذه البضاعة أصليَّة و كانت ليست كذلك تعال إلى الحساب ، وبعدها أتى الزبون الرابع أنت قلت له : إن هذه البضاعة تصنيع محلي وهي فيها عيب وأنت لم تظهره ، أبداً ، كم زبون بعت في حياتك ؟ يُحْشَر الأغنيار أربع فرقٍ يوم القيامة : فريقٌ جمع المال من حرامٍ وأنفقه في حرام ، أهون حساب حسابه . . يقال : خذوه إلى النار ، لا يوجد ازدحام ، ولا طوابير ، على الفور خذوه إلى النار ، وفريقٌ جمع المال من حرامٍ . . عنده ملهى . . وأنفقه في حلال فيقال : خذوه إلى النار . . حسابه سريع . . وفريقٌ جمع المال من حلالٍ . . تجارة شرعيَّة . . وأنفقه في حرام . . على المعاصي . . فيقال: خذوه إلى النار ، وفريقٌ جمع المال من حلالٍ وأنفقه في حلال فيقال : قفوه فاسألوه ، هذا سيحاسب ، حلال بحلال قفوه فاسألوه ؛ هل قصَّر في حقِّ جيرانه ؟ هل قصَّر في حق من حوله؟ هل قال جيرانه : يا رب لقد أغنيته من بيننا فقصَّر في حقِّنا ؟ هل ترك فرض صلاةٍ ؟ هل سها على عباد الله ؟ عنده ملايين الأسئلة ، النبي الكريم من بلاغته المعجزة قال: فتركته يُسْأل ويُسْأل .
 عمله طويل لا ينتهي بيومين أو ثلاثة .
 يروون قصّة وهي كطرفة أن أحد الأثرياء ترك أموالاً طائلة ، على فراش الموت طلب أن ينزلوا معه واحداً على القبر لعله يستأنس به عند الحساب ، فرأوا إنساناً فقيراً إلى درجة متناهية يعمل حَطَّاباً ليس عليه إلا خرقتين . .

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ))

[ الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

 قميصان داخليان لا يوجد غيرهم ، فأغروه بمبلغ كبير ، هذا لم يسمع بهذا المبلغ في حياته فرضي ، طبعاً اتفقوا مع الحفَّار أن هناك شيئاً خاصاً هو أن ننزل إنساناً وغداً صباحاً تخرجه من القبر ، قال لهم: موافق ، كذلك أعطوا للحفار مبلغاً لكي يرضى ، لأن هذه فيها مسؤوليَّة ، أنزَّله ، بعدما نزل هذا الحطَّاب جاء الملكان ، قال أحدهما للآخر : هنا في القبر اثنان ، فلمَّا جاء الملكان اضطرب هذا الحي فحرَّك رجله ، فقال : أحدهم حي ، هيا نبدأ به ، أجلسوه وسألوه : من أين هذا الثوب ؟ قال لهم هذا دفعه إليَّ فلان ، من أين هذا البنطال ؟ من فلان ، هذا الحَبل الذي تحزم به خصرك من أين جئت به ؟ قال: هذا وجدته في بستان مُعَلَّقاً على شجرة فأخذته ، قال: هل أخذته من صاحبه ؟ قال: لا ، قال: هل أعلمت صاحبه ؟ قال: لا ، قال : هل دخلت إلى البستان بإذن صاحبه ؟ قال : لا ، فقال : اضربوه على هذا الحبل الذي أخذه من دون إذن صاحبه ودخل البستان من غير إذن صاحبه ، ففي اليوم الثاني صار يصيح من شدَّة الألم ويقول : أعان الله والدكم ، أي على حبل واحد ، القضيَّة ليست سهلة ، إذا الإنسان عرف دقَّة الحساب خشي الله سبحانه وتعالى . .

(( ترك دانقٍ من حرام خيرٌ من ثمانين حجةً بعد حجةِ الإسلام ))

[ ورد في الأثر]

 دانقٍ من حرام ، فآخر شيء أن يراقب جميع مجاري معاملته مع كل واحدٍ من معامليه فإنه مراقبٌ ومحاسب ، فليُعدَّ الجواب ليوم الحساب ، يقول لك : الآن لبسناها له ، بعد أن عملت حادثاً وقلبت قلبتين ودهَّناها لم يعرفها ، بعناها ليلاً ، ألبسته إياها ؟‍ أعانك الله في كل فعلةٍ وقولةٍ .
 قال لي أحدهم : والله يا أستاذ أخذنا مئتي بيضة فكانوا فاسدين فبعناهم في سوق الجمعة يوم الجمعة و لحقَّنا حالنا ، ما هذا الكلام ؟ هو خضري اشترى بيضاً ليتاجر به فوجد أن البيض كله فاسد ، قال لي: لحَّقنا حالنا وبعناهم في سوق الجمعة ، أنت مسلم ، فأرة وقعت في الزيت ما أحد رآها ، الزيت صار نجساً ، هناك أخطاء كبيرة جداً .
 إذاً لأجل هذا يقال : يوقف التاجر يوم القيامة مع كل رجلٍ باعه شيئاً وقفةً ، ويحاسب عن كل واحدٍ محاسبةً ، على عدد من عامله ، قال بعضهم : " رأيت بعض التُجَّار في النوم فقلت : ماذا فعل الله بك ؟ قال: نشر عليَّ خمسين ألف صحيفة ، عنده مجلَّد ضخم ، عدد صفحاته خمسون ألفاً ، هذا دفتر حسابه ، فقال: هذه كلُّها ذنوب ؟ قال : لا هذه كلُّها معاملات الناس بعدد كل إنسانٍ عاملته في الدنيا ، لكل إنسان صحيفة مفردة فيما بيني وبينه . لذلك ما على المكتسب في عمله إلا العدل والإحسان والشفقة على الدين ، فإن اقتصر على العدل كان من الصالحين ، وإن أضاف إليه الإحسان كان من المُقَرَّبين ، وإن راعى في ذلك وظائف الدين كان من الصديقين والله أعلم . فالقضيَّة ليست سلهة . .

فما حبُّنا سهلٌ وكل من ادعى  سهولته قلنا له : قد جهلتنا
***

 الدين يبدو في المعاملات ، أتعرفه ؟ قال : نعم ، قال : هل جاورته؟ قال : لا ، هل سافرت معه ؟ قال : لا ، هل عاملته بالدرهم والدينار ؟ قال : لا ، قال : أنت لا تعرفه ائتني بمن يعرفه .

 

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور