وضع داكن
29-03-2024
Logo
موضوعات فقهية متفرقة - الدرس : 18 - الطهارة - الحيض - النفاس - الاستحاضة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهمّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنَّك أنت العليم الحكيم ، اللهمّ علِّمنا ما ينفعنا ، وانْفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علمًا ، وأرِنا الحقّ حقًا وارزقنا اتِّباعه ، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجْتِنابه ، واجْعلنا مِمَّن يستمعون القَوْل فيتَّبِعون أحْسَنَهُ ، وأدْخِلنا بِرَحمتِكَ في عبادك الصالحين .

الحيض و الاستحاضة :

 أيها الأخوة الأكارم ، وصلنا إلى موضوع الحيض ، فالحيض دمٌ يخرج من رحمِ بالغة لا داء بها ، ولا حبلَ ، ولم تبلغ سنَّ اليأس ، وأقلّ الحيض ثلاثة أيام ، وأوسطهُ خمسة أيام، وأكثرهُ عشرة أيام ، أما النِّفاسٌ فهو دمٌ يخرج عقب الولادة وأكثرهُ أربعون يومًا، ولا حدَّ لأقلّه .
 من عشرة أيام إذا انقطع الدّم تغتسل وتصلّي ، أكثرهُ أربعون ولا حدّ لأقلِّه، والاستحاضة دم يخرج من الرحم دون ثلاثة أيام من الحيض ، أي بعد عشرة أيام ، أو بعد الأربعين من النّفاس ، هذا الدّم تتوضَّأ المستحاضة لكلّ صلاة وتُصلّي ، لأنّ هناك فرْقًا دقيقًا بين دم الحيض وبين دم الاستحاضة ، دم الحيض الرّحم يتهيّأ لاستقبال البويضة ، فإذا جاءت البويْضة غير ملقَّحة أُصيب بِخَيبة أملٍ كبيرة ، وهذا الاستعداد الكبير لاستقبال البُوَيضة الملقَّحة هو الدّم الذي يخرج من الرحم في الحيض ؛ دمٌ أسْود ، ولكنّ دم الاستحاضة دم أحمر، الاستحاضة عرق في الرَّحم مفتوح ، دم طاهر ليس من نوع دم الحيض ، لذلك المستحاضة تتوضّأ وتصلّي لكلّ فرْض صلاة ، فأنا قصدت من كلمة طاهر أنَّه من نوع آخر، فَدَمُ الحيض شيء ودم الاستحاضة شيء آخر ، دم الحيض يتْبعُهُ انحطاط في الجسم ، لذلك الحائض لا تصلّي ، أما دم المستحاضة فهو دمٌ لا يؤثِّر على صحَّة المرأة فما دون الثلاثة أيام ، وما فوق العشرة أيام ، وبعد الأربعين ؛ هذا اسمه دم الاستحاضة ، والنبي عليه الصلاة والسلام فسَّرَهُ بأنَّه عرْق مفتوح ، طبعًا حينما يكون الدم دم حيض فهناك أخطار كبيرة من اللّقاء الزوجي ، لذلك قال الله عز وجل :

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى﴾

[ سورة البقرة: 222 ]

 كلمة أذًى نكرة ، وهذا التنكير تنكير شمول ، قرأتُ مقالةً علميّة فيها أكثر من سبعة عشر خطرًا على المرأة والرجل من اللّقاء الزوجي في أيام الحيض ؛ الإنتانات ، والعدوى ، و بعض المضاعفات ، انحلال الدم ، أشياء كثيرة ، الآن لا تحضرني المقالة بتفصيلاتها ، ولكن شيءٌ مخيف جدًّا ، رأي علمي حِيادي موضوعي ، قال تعالى :

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾

[ سورة البقرة: 222 ]

 معنى يطهرن أي حتى ينقط الدّم ، قال تعالى :

﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾

[ سورة البقرة: 222 ]

 التَّطَهُّر غير الطُّهْر ، التَّطَهُّر هو الاغتسال .

 

ما يحرم في الحيض و النفاس :

 ويحرم في الحيض والنفاس ثمانية أشياء : الصلاة ، والصوم ، وقراءة القرآن ، ومسّه إلا بغلاف ، ودخول مسجد ، ولكن هناك رأي للإمام الشافعي أنَّ المرأة الحائضة إذا كانت واثقةً ثقةً شديدة بأنَّها لا تؤذي المسجد فلها أن تحضر مجلس العلم من دون أن تصلّي ، معتادة أن تحضر مجالس العلم ، وهي واثقة أنها لن تؤذي أحدًا ، فإن كانت كذلك لابأس أن تحضر مجالس العلم من دون أن تصلّي ، وهذا رأيٌ للإمام الشافعي رضي الله عنه .
 والطواف في الحج يحرم عليها ، وكما قلت قبل قليل ربّنا عز وجل يقول:

﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ﴾

[ سورة البقرة: 222 ]

 وفي درس قادم نتابع بعض التفصيلات التي لا بدّ منها في موضوع الحيض .

* * *

العلم الدقيق هو معرفة ما يعتلّ القلب من مثبّطات وعقبات :

 والآن إلى فصْلٍ آخر من إحياء علوم الدِّين ، وما زلنا في موضوع العلم وصفات علماء الآخرة .
 يقول الإمام الغزالي رضي الله عنه : " ويجب أن يكون عالم الآخرة أكثر بحثه عن علم الأعمال "
 نحن عندنا علم الأقوال ، وعلم الأعمال ، وعندنا مفسدها ومشوِّش القلوب ، ومهوّج الوسواس ، ومثير الشرّ ، فإنّ أصل الدِّين التَّوَقِّي من الشرّ ، ولذلك قيل :

عرفت الشرّ لا للشرّ وإنما لتوقِّيه  ومن لا يعرف الشرّ من الناس يقع فيه
***

 سيّدنا عمر رضي الله عنه سئل عن رجل يعرف الخير ، فقال : ليس هذا الذي أريد، قيل فلان يعرف الشرّ ، فقال : ليس هذا الذي أريد ، فقيل له : من تريد إذًا ؟ فقال : أريد الذي يعرف الشّرين ويفرّق بينهما ، أي يختار دائمًا أهون الشَّرين ، وهذه حكمة بالغة ، فأحيانًا لا بدّ من أن تقع في شرّ والحكيم يختار أهْوَنَ الشَّرَّيْن .
 والأعمال الفعلِيَّة قريبة وأقصاها بل أعلاها المواظبة على ذِكْر الله تعالى بالقلب واللِّسان ، قال تعالى :

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[ سورة الشرح: 4]

 أي جعلنا منطقك في موضوعات ثانية .
 وإنَّما الشأن في معرفة ما يفسدها ، وما يُشوِّشها ، وهذا ممَّا تكثر شعبه ويطول تفريعهُ ، أخطر علْم أن تعرفه هو أن تعلم ما يؤذي هذا القلب ؟ ما الذي يفسد عليه إقباله على الله عز وجل ؟ ما الذي يحول بينه وبين إتقان الصلاة ؟ لمّا الإنسان يصلّي وهو غافل ، شهر شهران أو ثلاثة ، فهذا جاهل ، ولو كان فقيهًا في أمور أخرى ، هذا القلب بماذا منقطع ؟ هل معلّق بإنسان مُعْرض ؟ هل له انتقاد على أهل الحق ؟ حدث بينه وبينهم خلاف ؟ هل هو يشعر أنّه محروم من الله عز وجل ؟ أعطى زيْدًا وعُبيْدًا وحرمه ؟ لمَّا الإنسان يصلّي صلاةً شَكْليّة لا بدّ من أسباب ، هل الدنيا أكبر همِّهِ ؟ هل هناك حجابٌ بينه وبين ربّه ؟ هل جاءتْهُ خدمة طيّبة من إنسان كافر أو منافق فأحبّه وتعلّق به فانقطع عن ربّه ؟ هل بلغتْهُ قصَّة مفتراة عن أهل الحقّ فصدَّقها فكانت هذه القصّة حجابًا بينه وبين الله عز وجل ؟! إذاً من العلم الدقيق أن تعرف ماذا يعتلّ القلب من مثبّطات وعقبات ، وشدائد وصعوبات ، وأنَّ معرفة ما يفسدها وما يشوِّشُها هذا علم جليل ، لاحظوا هذه الموازنة .

 

صفات علماء الدنيا :

 وأما علماء الدنيا فإنَّهم يتَّبعون غرائب التفريعات في الحكومات والأقضيَة ، أي يتتبَّع تفريعات دقيقة جدًّا في شؤون القضاء والإفتاء وما شاكل ذلك ، يتعبون في وضْع صُوَر تنقضي الدهور ولا تقع أبدًا ، يتخيّلون حالات تنقضي السنوات و القرون والدهور ولا تقع ، ويضعون لها حكمًا وأنا في طريقي إلى تجميع هذه اللَّقطات ، سمَّاها بعض الفقهاء الأرئِيْتيَّات أرأيْت لو كان كذا وكذا؟! حالات نادرة لا يمكن أن تقع ولا بالخيال تُتَصوَّر ويوضَع لها أحكام دقيقة ، وتُرجَّح هذه الأحكام ويختلفون في هذه الأحكام ، ويكتبون الرسالات حول حججهم ، وردّ حجج خصومهم ، ويسيرون في طريق مسدود لا يفضي إلى شيء ، هذا نوع من الضَّلال أن تمضي حياتك كلّها في تفريعات لا تقع ، فالغزالي رضي الله عنه يأخذ على بعض المتفيهقين ، وتجَّار الدِّين بالدنيا ، وتجار الدنيا بالدّين ، يأخذ على هؤلاء أنَّهم يتعبون في أخذ صُوَر تنقضي الدهور ولا تقع أبدًا ، لا أنسى موقف بعض الصحابة الكرام رضي الله عنه حينما عرض عليه سؤال لحالة نادرة فقال بِبَساطة : أوَقَعَت هذه الحالة ؟ فقالوا : لا ، قال : حينما تقعُ نفتي بها ! احفظوا وقتكم ، الوقت ثمين والحياة غاليَة ، نقضي في الحياة سنوات معدودات ؛ أربعون ، خمسون ، ستُّون ، سنوات تنقضي ، خطر ببالي مرّة لو أنّ إنسان عنده مكتبة فيها خمسة آلاف كتاب فرضًا ، آداب ، تاريخ ، جغرافيا ، فلسفة ، علوم ، فنون ، قصص ، مسرحيات ، فلكلور ، كتب قديمة ، تاريخ الشعوب ، تاريخ الرومان ، الحمامات في دمشق ، الآثار الإغريقيّة ، الأوديسَّا ، الإلياذا ، شعر شكسبير المترجم ، مكتبة عامرة بالكتب الأدبيّة ، والعلميّة ، والثقافيّة ، والفلسفيّة ، والتاريخيّة ، والاجتماعيّة ، والجغرافيّة ، والرياضيات ، والفلك ، وعنده بعد عشر ساعات مادّة لصفّ التخرّج بالجامعة ، وهذه المادة لها كتاب مقرّر واحد ، وهو آخر مادّة ، فهل يأخذ أحد كتب المكتبة ؟ هل يأخذ مسرحيّة يقرؤها ؟ هل يأخذ قصّة يقرؤها أم يقرأ الكتاب المقرّر؟ إذا نجح نال الإجازة ، وإذا نال الإجازة عيّن ، وإذا عيّن تزوّج ، وإذا تزوَّج أسَّس أسرة ، فكلّ هذه الأحلام مبنيَّة على نجاحه في هذه المادَّة ، وهذه المادَّة كتابها المقرّر هو هذا الكتاب ، فهل من العقل أن يقرأ كتابًا آخر ؟ لذلك لمّا أدعو قُبَيل إلقاء الدرس :" اللهمّ إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن عين لا تدمع ، ومن علم لا ينفع ، ومن أذن لا تسمع ، ونعوذ بك من هؤلاء الأربع"
 أحيانًا الإنسان يقضي حياته كلّها بموضوع أدبي ، مثلاً درس شعر بشّار لا أعرف ماذا أقول ؟ الحياة أثمن من ذلك ، أحيانًا يختصّ مثلا بتاريخ الرومان ، يتحدَّث عن عاداتهم ، وأعيادهم ، وأفراحهم ، وعن حروبهم ، وعن تاريخهم ، عن وحشيّتهم ، وعن صراعهم ، وعن تلذّذهم بمرأة وهي تعذَّب من قبل الحيوانات المفترسة ، ماذا قدَّمْت ؟ أما حينما تقرأ القرآن فتستفيد وتحسّ بِرَاحةٍ نفسيَّة أنَّه يعرض لك طريق السَّعادة ، لذلك : " اللهمّ إنا نعوذ بك من علْم لا ينفع " فهؤلاء ماذا فعلوا ؟ هؤلاء يتعبون في وَضْع صُوَر تنقضي الدهور ولا تقع أبدًا ، وإن وقعَت فإنّما تقع لغيرهم لا لهم ، وإذا وقعت كان في القائلين بها كثرة ، ويتركون ما يلازمهم ويتكرَّر عليهم آناء الليل وأطراف النهار في خواطرهم ووساوسهم وأعمالهم ، الشيء اليومي ؛ الصلاة ، الذِّكر ، معرفة الله ، التَّفكّر ، تطهير القلب من الأمراض ، سموّ النفس ، ترفّعها عن الدَّنايا ، هذه الأشياء الخطيرة اليوميّة ، والضروريّة ، والتي لا بدّ منها ؛ تجدها مهملة والتفريعات والأرئيتيّات والحالات النادرة جدًّا جدًّا جدًّا ، والتي لا تقع في الألفي عام مرَّة ، هذه توضع لها أحكام وتناقش ، ويختلف في أحكامها وتأتي الحجج المؤيّدة والمعارضة ، وما شاكل ذلك ، هذا نوعٌ من الضَّلال فالوقت ثمين .

من باع مهمّ نفسه اللازم بِمُهمّ غيره النادر فقد أبعد عن السعادة :

 " وما أبْعَدَ عن السعادة - اسمعوا هذا الكلام الذي يُكتب بماء الذهب - من باع مهمّ نفسه اللازم بِمُهمّ غيره النادر" شيء لا يقع ، أي لو أنَّ واحدًا لا أطراف له ، لا أيدي ، ولا أرجل ، ما حكم مسِّحه على الحفّين ؟! أنا عمري ما رأيت واحداً من دون الأطراف الأربعة !! هذا أخذ حيِّزاً .
 كيف نصلّي داخل الكعبة ؟ فهل يسمح للإنسان أن يصلّي داخل الكعبة ؟ وكيف الصلاة على سطح الكعبة ؟ لماذا هل يوجد سلّماً حتى تصعدها ؟!! ما حكم الوضوء بماء الحمِّص ؟ الوضوء بماء الحمّص لم يرد ، الوضوء باللبن معروف .
 أحدهم في البيت وضع سجَّادة ، وفي داخل البيت نهر ، وضع السجادة داخل النهر فخرجت من البيت ، هل تقطع يد من أخذها ؟ هو ما سرقها ، لوحدها خرجت ! كذلك هذه حالة ، أو إنسان وضع ماءً في طست وذهب ، يمكن أن تمرّ هرّة وتبول ، هذه لها حكم ، فإن لم يلحقها الهرّ له حكم آخر ! وأنا أودّ أن أجمع هذه الحالات !! شيءٌ مضحك ، حالات لا تقع في الحياة إطلاقًا تجد كتباً ، ومجلّدات ، ومؤلّفات ، ودراسات ، هكذا النبي عليه الصلاة والسلام علَّمَ أصحابه ؟! هكذا فتح العالم بهذه المعلومات ؟!!
 " وما أبْعَدَ عن السعادة من باع مهمّ نفسه اللازم بِمُهمّ غيره النادر إيثارًا للتقرّب وقبول من الخلق على التقرّب من الله تعالى "
 طبعًا الواحد إذا أتى لك بأشياء دقيقة جدًّا ، وحجج قويّة ينتزع إعجاب الحاضرين ، ويحسّ بِمَكانته العلميّة ، ولكن هو يتقرّب لمن ؟ للخلق ! أما الحقّ فالتقرّب إليه يتمّ بالعمل الصالح ، وبالمؤاثرة ، وبالانضباط ، وبِغَضّ البصر ، وبالمجاهدة ، وبالإنفاق ، وبالصلاة المتقنة، وبالصّيام ، وبحفظ الجوارح ، هناك طريقان إما أن تستهدف التقرّب إلى الخلق ، وإما أن تستهدف التقرّب إلى الحق ، والخلق لا بدّ لهم من غرائب العلم ، أشياء ممتعة ونادرة ، تحكيها فتنتزعُ إعجاب الحاضرين ، وتحسّ بِنَشْوَة ، وهذه أشياء يتقنها علماء الدنيا ، دائمًا تجدهم يحفظون المفارقات ، النوادر ، قصص رائعة قلّما تحدث فيها عقدة وحلّ ، فيها غرابة فلمّا الإنسان يلهث وراء هذه الأشياء يكون هدفهُ التّقرّب من الخلق ، وانتزاع أعجابهم ، والاستعلاء عليهم ، أما من يتقرّب إلى الله بفهْم كتابه ، وغضّ بصره ، وقيام ليله ، وإنفاق ماله ، وإحسانه للمخلوقات ، والاشتغال بالقلب وتطهيره والسموّ به ، وخِدمة الناس ، ومعاونة المؤمنين ، وحلّ مشكلاتهم ؛ فهذا يتقرّب إلى الحقّ ، وهذا الإنسان الثاني يفتح الله على قلبه معانٍ لا تخطرُ في بال هؤلاء .
 أحدهم ذهب إلى بلد عربي - للأزهر - مدرّسٌ بالأزهر يقول : المؤمن - لا أذكر نصّ الحديث لكن مضمونه ومؤدّاه - وإن زنا ، وإن سرق ! هذا الأخ الحاضر قال : المؤمن يزني ؟! الله قال : ولا يزنون ، قال تعالى :

﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة النور: 3]

 والحديث في ذلك صريح ، فهذا المدرّس يشرح الحديث ، هذا المستمع وطالب العلم الذي ما درس إطلاقًا لا أصول ، ولا مصطلح الحديث ، ولا تفسير ، إلا أنّه بتفكير بسيط وسليم قال له : ولكنّ النبي يقول : وإن زنى وإن سرقَ في الماضي ، فضرب المدرّس جفنه وقال : والله هذا المعنى ما خطر ببالي ، ما قال : وإن يزني وإن يسرق ، طبعًا باب رحمة الله مفتوح وأبواب رحمة الله واسعة ، وأبواب التوبة مفتوحة على مصارعها ، ولا يستطيع إنسان أن يغلقها ، فهذا المدرّس له أربعون سنة وهو يدرّس ما خطر ببَاله أنّ قوله : وإن زنى وإن سرق تعني الماضي فهو فهمها بالحاضر ، مؤمن ويزني ، مؤمن ويسرق رغم أنفه ، فلمّا المؤمن يطهّر قلبه ، يخطر بباله معان لا تأتي بخواطر علماء الظاهر إطلاقًا .
 لا يعقل أنّ إنسانًا يتَّهم النبي صلى الله عليه وسلّم أنَّه ذهب إلى بيت زيْد فُتِح الباب لعب الهواء بالرداء الذي خلف الباب ، فبَدَتْ زينَب بثياب متبذِّلة ، وقعَت في نفسه ، فقال : سبحان الله ، فسمعتْه ، فقالت لِزيْد هذا ، كيف يكتب هذا الكلام في تفسيره ؟! كيف يليق بنا أن نقرأه عن رسول الله ؟ الذي قال الله تعالى بحقّه :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4 ]

 أما علماء الظاهر فيقبلون هذا ، معلومات وردتْه ، ورد عن فلان أنّ فلاناً وفلاناً أن زيدًا قال : كذا وكذا !!! أما الذي يعرف رسول الله لو قُطِّع إرْبًا وإرْبًا فلا يقبل هذا ، هو فوق ذلك ، فالقضيّة قضيّة معرفة وليس قراءة ، فالعلم في الصدور لا في السطور ، من لم يحصّل هذا العلم عن الرّجال فهو ينتقل من مُحال إلى مُحال .

 

من ابتغى الدنيا بالدّين أضلَّه الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة :

 وشرهًا في أن يسمِّيهِ أبناء الدنيا فاضلاً محقِّقًا ، عالمًا بالدقائق ، وجزاؤه من الله ألا ينتفع في الدنيا في قبول الخلق ، بل يتكبّر عليه صفْوُه بِنَوائب الزمان ، ثمّ يرِدُ القيامة مفلسًا متحسِّرًا على ما يشاهده من ربْح العاملين وفوز المقرّبين ، وذلك هو الخسران المبين .
 الإنسان يتصوّر الصحابة الكرام ، هل هكذا كانوا ؟! هكذا ضيَّعوا أوقاتهم كأن الإمام الغزالي يحضّنا على أن نكون مقلّدين لصحابة الكرام ، في جديَّتهم ، وفي فهمهم لِجَوهر الدِّين، وفي تعلّقهم بِعَظائم الأمور ، وتركهم سفاسفها ، وفي تطبيقهم لما يسمعون ، وفي اتِّجاههم إلى الله عز وجل ، وفي إخلاصهم ، وفي العزوف عن الدنيا ، وفي العزوف عن ابتغاء الدنيا بالدّين.
 على كلّ من ابتغى الدنيا بالدّين أضلَّه الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة ، ابتغوا الدنيا عن طريق الدنيا ، تريد مالاً اتَّجِر ، اعْمِل مزرعةً ، ابْحث وادرس ، وخذْ شهادات عليا، إن كنت تريد الدنيا، أما إن كنت تريد الآخرة فلها طريقها الخاص ، أما أن تبتغي الدنيا عن طريق الدين فأغلب الظنّ أنّ الله سبحانه وتعالى لا يقبل ذلك ، لذلك هذا الذي يبتغي الدنيا بالدّين يضلّه الله في الدنيا قبل الآخرة ، كي يبْعِدَ الناس أن يتَّخِذوه قدوةً .

الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء :

 ولقد كان الحسن البصري رضي الله عنه أشبهَ كلامًا بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وأقربهم هديًا من الصحابة رضي الله عنهم ، واتَّفَقَت الكلمة في حقّه على ذلك ، وكان أكثر كلامه في خواطر القلوب ، وفساد الأعمال ، ووساوس النّفوس ، والصفات الخفيّة الغامضة من شهوات النفس ، وقد قيل : يا أبا سعيد إنَّك تتكلَّم بِكَلامٍ لا يُسْمعُ من غيرك ، كلامك يجعل بالقلب سرورًا ، ويجعل القلب يذلّ ، من أين هذا الكلام ؟ ومن أين أخذْته ؟ فقال : من حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، وقيل لِحُذَيفة نراك تتكلّم بِكَلامٍ لا يُسمعُ من غيرك فمن أين أخذته ؟ فقال: من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، لقد خصَّني به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ! قال: كان الناس يسألونه عن الخير وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن أقع فيه ، وعلمت أنّ الخير لا يسبقني علمه ، كنت أسأله عن الشرّ مخافة ان أقع فيه ، وقال مرَّة : فعلمْت أنَّ من لا يعرف الشرّ لا يعرف الخير ، فالصلاة معروفة أنّها خير ، والصدقة والعمل الصالح ، ولكن لمَّا تجلس في بيت فيه امرأة أجنبيّة ؛ هذا شرّ خطير جدًّا ، هذه الزوجة أجنبيّة ، تُشْتهى من قبل الإخوة ، يحصل فساد عريض ، هذه كلّها أبواب الشيطان ، يكون بيتك غير شرعي ، وهناك اختلاط بِحَياتك ، وعناء كسب حرام بحياتك ، لذا يجب أن تعرف أبواب الشرّ كلّها ، من أين تقع المعصية ؟ من هنا أغلق الباب ، ومن هنا أغلق الباب ، فإذا غلقْت جميع الأبواب ترقى إلى الله عز وجل ، ولكنّ الناس ماذا يحصل لهم ؟ يقولون : الخير نعرفه !! طبعًا الصلاة خير ، والحجّ خير ، والعمرة خير ، والصيام خير ، والصدقة خير ، والزكاة خير ، أما أنَّه ينسى أنَّ الاختلاط شرّ كبير جدًّا فيفسد الإنسان ، والغيبة والنميمة ، هذه تقطعك عن الله عز وجل ، كسب الحرام ، تقول : أنا اشتريْت ربْع هذا البيت ، وأنا الآن آخذ أجرته ، ولكن اشترطت أن آخذ نفس المبلغ من دون زيادة ولا نقصان ، هذا ربا ! لا بدّ أن تعرف من أين يأتي الربا ، وأنواعها ، هناك ربا ظاهر، وربا خفيّ ، كلّ قرْض جرَّ نفعًا فهو ربا ، إذا الواحد أقرض الآخر وأعطاه رهنًا مقابله ، واستعمل ذاك الرهن فهذا ربا .
 وفي لفظ آخر ؛ كانوا يقولون يا رسول الله ما لمن عمل كذا وكذا ؟ يسألونه عن فضائل الأعمال ، وكنت أقول : يا رسول الله ، ما يفسد كذا وكذا ؟ فلمَّا رآني أسأله عن آفات الأعمال خصَّني بهذا العلم .
 وكان حذيفة رضي الله عنه أيضًا قد خُصَّ بعلم المنافقين ، وهو علم خطير وأُفْرِدَ بِمَعرفة علم النفاق وأشخاصه ، فقد سأله عمر وهو صادق فقال : لا ، والله ولا أزكِّي بعدك أحدًا! تصوّر سيّدنا عمر كان قلقًا ، علامة المتفوق القلق ، لأنَّه امتحان مخيف ، فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم يسألونه عن الفتن العامّة والخاصّة ، وكان يُسأل عن المنافقين فيخبر بعدد من بقي منهم ؛ بقي ثلاثون ولكن مَن هم ؟ يقول : لا أدري ! كان يعيّن عددهم ، ولا يعيّن أسماءهم .
 وكان عمر رضي الله عنه يسأله عن نفسه ؛ هل يعلم فيه شيئًا من النّفاق فبرَّأهُ من ذلك ، وكان عمر رضي الله عنه إذا دعي إلى جنازة لِيُصلِّي عليها نظر ؛ إن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك ، لأنَّ النبي الكريم مأمور ألا يصلّي على المنافقين ، لأنّ حذيفة يعرف المنافقين ، وكان يسمَّى حذيفة صاحب سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
 فالعناية بمقامات القلب وأحواله دأب علماء الآخرة ، لأنَّ القلب هو الساعي إلى قرب الله تعالى ، وقد صار هذا الفنّ غريبًا مندرسًا ، قالوا كلمة : إذا علِمَ الثقيل أنَّه ثقيل فليس بِثَقيل لأنّ من علامات الإنسان أنَّه ثقيل لا يعلم أنَّه ثقيل ! كذلك من خشي على نفسه النفاق فهو مؤمن ، من علامة الإيمان أنَّه يخشى النفاق ، أما المنافق الحقيقي فلا يخشى النفاق ، منافق ولا يحسّ أنَّه منافق . وقد قال بعض الشعراء :

الطرق شتى وطرق الحق مفردة  والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفــــــون و لا تدرى مقاصدهم   فهم على مهَل يمشون قصَّاد
و الناس في غفلة عمّا يُراد بهم  فجُلّهم عن سبيل الحـق رقَّادُ
***

طريق علماء الآخرة :

 ملخَّص الكلام أنَّه على علماء القلوب وعلماء الآخرة أن يُعْنَوا بتطهير قلوبهم ، ومجاهدة أنفسهم ، والتَّقرّب إلى ربّهم بالطاعات ، والأعمال الصالحة ، وأن يستفيدوا من كلّ دقيقة في حياتهم .
 لو أنّ إنساناً عنده بيت مكوَّن من خمس غرف وصالون ، وفيه من كلّ شيء ، وقيل له : عليك أن تغادر هذا المنزل إلى لا رجْعة ، واملأ هذه السيارة فقط ، ما الذي سيَضَعه في السيارة ؟ أثمن شيء ، وأقلّ حجم ، هل يعقل أن يضع فيها أريكة ؟! غير معقول ، يضع الأشياء الخفيفة الثمينة لأنَّه ليس معه إلا هذه السيارة ، كذلك المؤمن يصطفي ، فليس كلّ كتاب يقرؤه ، ولا كلّ صاحب يُجالسُه ، وليس كلّ نزهة يذهب إليها ، هذه فيها ذكر الله ، وتلك فيها معصية الله ، إذا استطعت أن أذكِّر بالله أذهب ، وهذا الكتاب قصّة لا فائدة منها لا أقرؤه ، علاقات غير شرعيّة وانتَهَت بِمَأساة كلّه كلام فارغ ، ومن أجمل كلمة سمعتها من أديب أنّ هذه القصّة تشبه حلّة فيها ملعقة عسل ، فمن أجل أن تدخل هذه الملعقة إلى جوفنا علينا أن نشرب كلّ هذا الماء الآسن !! كذلك أنت من أجل أن تأخذ المغزى ، وهو كمِلْعقة العسل لا بدّ أن تشرب كلّه هذه الحلّة ، وإنَّ الله يحبّ معالي الأمور ، ويكرهُ سفسافها ودنيَّها ، يقول لك : قصّة واقعيَّة ‍، ما معنى واقعيَّة ؟ تصف انحطاط الناس ، ولؤم النَّفس ، والإنسان يقرأ القصّة الواقعيّة ويشعر بانقباض نفسي لأنَّه رأى النفس البشريّة في أدنى انحطاطها ، أما إذا قرأ طريق الصحابة فيحس بارتفاع نفسي ، لأنَّه رأى النفس البشريّة في أرقى حالاتها ، فالإنسان عندما يقرأ عن الأبطال يشتهي أن يكون مثلهم ، ويجعلهم قدوة لهم ، أما إذا قرأ عن المنحطّين فقد يغرونه بالانحطاط ، وقد يجرُّونه إلى مستنقعهم الآثم .

* * *

الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود :

1 ـ إسلامه و خدمته للرسول الكريم :

 والآن إلى قصّة عن صحابيّ جليل هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
 لم يمْض غير قليل حتى أسْلم عبد الله بن مسعود ، وعرض نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليَخدمهُ .
 الإنسان أحيانًا إذا جمعه الله مع رسول أو نبيّ ، ولاحظَ أنَّه سعِدَ سعادةً أبديَّة عن طريقه ، يتمنَّى أن يقدّم له نفسه ، ليس القضيّة قضيّة تصنّع ، ولا فرْض ، ولا واجب ، لكن أنا كلّ سعادتي عن طريق هذا الرجل السعيد ، وأتمنَّى أن أقدِّم له أثْمنَ شيءٍ عندي ، فكان الصحابة الكرام الفقراء يقدِّمون خدماتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ومنذ ذلك اليوم انتقل الغلام المحظوظ عبد الله بن مسعود من رعاية الغنم إلى خدمة سيّد الخلق والأمم ، إذا الإنسان أكرمه الله بِخِدمة أهل الخلق فهذا شرف رفيع أحسن من خدمة أهل الدنيا للدنيا ، هذه أهداف خسيسة .
 لزم عبد الله بن مسعود رسول الله صلوات الله عليه ملازمة الظلّ لِصَاحبه فكان يرافقُه في حلّه وترحاله ، ويصاحبه داخل بيته وخارجه ، إذْ كان يوقظه إذا نام ، ويسترهُ إذا اغْتسلَ ، ويُلبِسُه نعليْه إذا أراد الخروج ، ويخلعهما من قدميه إذا همّ بالدخول ، ويحمل له عصاه وسواكهُ ، ويلج الحجرة بين يديه إذا أوى إلى حجرته ، علّ أن يكون فيها حشرة ، هذا تعبير عن محبَّته لله عز وجل ، بل إنّ النبي عليه الصلاة والسلام أذن له بالدخول عليه متى شاء !
 رُبِّي عبد الله بن مسعود في بيت رسول الله صلى الله عليه ، فاهْتدى بِهَديِه ، وتخلّق بِشَمائله ، وتابعهُ في كلّ خصلةٍ من خصاله ، حتى قيل عنه إنّه أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم هَدْيًا وسَمْتًا ، الهدي يعني الهدى ، وسمتًا أي أخلاقًا ، وتعلَّم ابن مسعود في مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فكان من أقرأ الصحابة للقرآن ، ومن كان قارئًا للقرآن فهنيئًا له ، وأفقههم لمعانيه ، وأعلمهم بشرْع الله ، كلّها أسماء تفضيل ، ولا أجلّ على ذلك من حكاية ذلك الرجل الذي أقبلَ على عمر بن الخطاب ، وهو واقفٌ بعرفة ، فقال له : جئتُ يا أمير المؤمنين من الكوفة وتركتُ بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهْر قلبهِ ، فغضِبَ عمر غضبًا قلَّمَا غضبَ غضبًا مثلهُ ، وانتفخَ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرّحل ، وقال : من هو وَيْحَكَ ؟ هذا الذي يملي قد يكون خطأ ، فقال : هو عبد الله بن مسعود ، فما زال عمر ينطفئ ويسرّ عنه حتى ذهب الغضب عنه ، كلّ هذا الغضب الصاعد حتى بلغ القمّة حينما علم أنّ عبد الله بن مسعود هو الذي يقرأ القرآن عن ظهر قلبٍ ، ويُمليه على الناس ، تلاشى هذا الغضب حتى عاد إلى حالته الأولى .
 ثمَّ قال : وَيْحَكَ والله ما أعلم أنَّه بقي أحد من الناس أحقّ بهذا الأمر منه ! هو وحده الذي له حق أن يفعل ذلك .
 وقال عمر رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسهر ذات ليلة عند أبي بكر ، ويتفاوضان في أمر المسلمين ، موضوع اجتماعهم أمر المسلمين ، ومساعدتهم ، وكنت معهما ، ثمّ خرج النبي عليه الصلاة والسلام ، وخرجنا معه ، فإذا رجل في المسجد يصلّي لم نتبيَّنهُ ، فوقف النبي عليه الصلاة والسلام يستمع إليه ، ثمّ قال : " من سرّه أن يسمع القرآن رطبًا كما نزل فليقرأهُ على قراءه ابن مسعود " ثمّ جلس عبد الله بن مسعود يدعو ، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام يقول له : " سَلْ تُعْطَ ، سَلْ تُعْطَ ، ثمّ أتْبَعَ عمر يقول : والله لأغْدونَّ على عبد الله بن مسعود ، ولأبشرنَّه بِتَأمين النبي عليه الصلاة والسلام ، فغَدَوْتُ عليه فبشَّرْتُهُ ، فوجدْتُ أبا بكر قد سبقني فبشَّرهُ " الشيء الذي كان يحيِّر عمر رضي الله عنه كلَّما همّ بأمر صالح يجد سيّدنا الصدّيق قد سبقهُ ، ووالله ما سابقْت أبا بكر غلى خير قطّ إلا سبقني إليه ! فسيّدنا أبو بكر ، وسيّدنا عمر سمعوا بِشارةً عن عبد الله بن مسعود فذهبوا ليُبَلِّغوهُ ، أما الناس الآن فيبلِّغون الأخبار السيّئة هكذا حكى عنك فلان !! فتقع العداوات ، أما الصحابة فكانوا يبلّغون الأخبار الطّيّبة .

2 ـ علمه :

 ولقد بلغ من علم عبد الله بن مسعود من كتاب الله أنَّه كان يقول : " والله الذي لا إله غيره ما نزلَت آيةٌ من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلَتْ وأعلم فيما نزلَت ، ولو أعلم أنّ أحدًا أعلمُ منِّي بكتاب الله تنالهُ المطيّ لأتيْتُهُ " كلّ آية أين نزلت ، وفيما نزلت ، وما معناها ، ولم يكن عبد الله بن مسعود مبالغٌ فيما قاله عن نفسه ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلقى ركبًا في سفر من أسفاره ، والليل مخيّم يحجب الرَّكب بِظَلامه ، وكان في الرَّكب عبد الله بن مسعود ، فأمر عمر رجلا أن يناديه ويقول : من أين القوم ؟ فأجابه عبد الله : من الفجّ العميق ، فقال عمر : أين تريدون ؟ فقال عبد الله : البيت العتيق ، قفال عمر : إنَّ فيهم عالمًا ، وأمر رجلاً فناداهم أيّ القرآن أعظم ؟ أيّ آية في القرآن أعظم ؟ فأجابهُ عبد الله :

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾

[ سورة البقرة: 255]

 فقال السائل : أيّ آي القرآن أحكم ؟ فقال عبد الله بن مسعود :

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾

[ سورة النحل: 90]

 فقال عمر : نادهم ؟ فقال : أيّ آي القرآن أجمع ؟ فقال عبد الله :

﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾

[سورة الزلزلة:7]

 فقال عمر : نادهم ، وأيّ الآي القرآن أخوف ؟ فقال عبد الله :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً ﴾

[سورة النساء : 123]

 فقال عمر : نادهم ، أيّ آي القرآن أرجى ؟ فقال عبد الله :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

[سورة الزمر : 53]

 

 فقال عمر نادهم - الآن كم سؤالاً سألهم ؟ السؤال الأوّل أي آي الله أعظم ؟ وثاني سؤال : أيّ آي الله أحكم ؟ وثالث سؤال : أيّ آي الله أجمع ؟ والرابع : أيّ آي الله أخوف ؟ والخامس : أيّ آي الله أرجى ؟ السؤال السابع من يتوقَّعْهُ ؟ أعظم وأخوف وأرجى وأجمع وأحكم قال : نادهم أفيكم عبد الله بن مسعود ؟ فقالوا : نعم !

3 ـ شجاعته :

 ولم يكن عبد الله بن مسعود قارئًا عالمًا زاهدًا عابدًا فحَسْب ، وإنَما كان مع ذلك قويًّا حازمًا مجاهدًا مقدامًا إذا جدّ الجدّ ، دائمًا العلماء الكبار يجمعون الشجاعة مع العلم ، وكان يُرَى ضعيفًا مستضعفًا ، فإذا جدَّ الجدّ فهو اللّيث عاديًا ، وكان أكثر دهره صامتًا فإذا تكلَّم بزّ القائلين ، فحسْبهُ أنَّه أوَّل مسلم على ظهر الأرض ظهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، فقد اجْتمعَ يومٌ أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام بمكَّة وكانوا قلَّة مستضعفين فقالوا والله ما سمعَت قريشٌ هذا القرآن يجْهر لها به قطّ ، فمن رجلٌ يسْمعهم إيَّاه ؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا أسمعهم إيَّاه ، تصوَّر أحدهم يقرأ القرآن في ذلك الوقت ؛ حياته في خطر ، فقالوا : إنَّا نخشاهم عليك ، إنَّنا نريد رجلاً له عشيرةٌ تحميه ، وتمنعهم منهم إذا أرادوه بِشَرّ ، فقال : دعوني إنّ الله سيمنعني ويَحْميني ، ثمّ غدا إلى المسجد حتى أتى مقام إبراهيم في الضحى ، وقريشٌ جلوسٌ حول الكعبة ، الله إذا أكرم أحدكم بزيارة هذه الأماكن المقدَّسة هذه الكعبة كانت الأصنام حولها ، وحدثت فيها المعارضات ، وحدث الصّلح ، و حمل النبي عليه الصلاة والسلام الحجر الأسوَد ، هذه كلّها أماكن ، والإنسان لو استعرض التاريخ لاقْشعرَّ بدنه ، لأنَّ هذا المكان مقدَّس .
 وقريش جلوس حول الكعبة ، فوقف عند المقام وقرأ : الرحمن علّم القرآن خلق الإنسان ، ومضى يقرؤُها ، فتأمَّلتْه قريش ، فقالَت قريش ماذا قال عبد الله ؟ تبًّا له إنَّه يتلو بعض ما جاء به محمَّد ، وقاموا إليه وجعلوا يضربونه ، وهو يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله له أن يبلغ ، ثمّ انصرف إلى أصحابه ، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليه ، فقال : والله ما كان أعداء الله أهْونُ في عيني منهم الآن ، وإنِّي إن شئتم لأعود لِمِثلها .

4 ـ وفاته :

 عاش عبد الله بن مسعود إلى زمن خلافة عثمان رضي الله عنه ، فلمَّا مرض مرض الموت جاءهُ عثمانُ عائدًا فقال له : ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ، فقال : ما تشتهي ؟ قال رحمة ربّي ، قال : ألا آمر لك بِعَطائك الذي امتنعتَ عنه منذ سنين ؟ قال : لا حاجة لي به ، فقال : يكون لِبَناتك من بعدك ، فقال : أتخشى على بناتي الفقر ؟ إنِّي أمرتهنّ أن يقرأن كلّ ليلة سورة الواقعة ! وإنِّي سمعتُ النبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تُصبْهُ فاقةٌ أبدًا))

[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

تعليق بسيط حول قراءة سورة الواقعة :

 لي تعليق حول هذا الحديث بعد الأذان وهو أنّ قوله صلى الله عليه وسلّم :

(( من قرأ الواقعة كلّ ليلة لم تُصبْهُ فاقةٌ أبدًا))

[البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

 هناك أشخاص يظنون أنّ هذه السورة للفقر !! وهذه السورة لهذه المشكلة ، وهذه السورة لهذا المرض ، وهذه السورة لوَجَع الرأس ، أعتقد أنّ هذا الفهم خاطىء في كتاب الله ، إلا أنَّه خطر ببالي مثلٌ الآن ، لو قلت لأحدهم : ضع البنزين في السيارة تتحرَّك ، إذا كان هناك محرّك طبعًا ، فليس أيّ بنزين يوضع في السيارة تمشي به تلك السيارة إذا كان هناك محرّك ، وكلّ الأمور منتظمة ، هنا تمشي ، فإذا الإنسان قرأ الواقعة ، وكان مؤمنًا ، وعرف أنّ الأمور بيد الله كلّها ، وعرف أنّ الناس بالنهاية من أصحاب اليمين ، ومن أصحاب الشمال ، والسابقين السابقين ، وشمّر حتى يكون مع السابقين السابقين ، وطهَّر نفسه ، فالله عز وجل لا داعي أن يفقرهُ ، فليس المقصود أن يقرأ الواقعة فقط ليصبحُ غنيًّا !! قرأها ، وفهمها ، وتمثَّلها ، وطبَّق ما فيها ، فالفقر علاج ، دوام مرّ ، فلمّا الإنسان يطهر بهذه السورة كأنّ الفقر لم يعُدْ له معنى بِحَياته ، وهذا هو المعنى العميق ، ضعْ البنزين وامْش ، هذا شرط وجود المحرّك ، وانضباط كلّ الأمور ، وتعمل بانتظام ، أما لو وضع البنزين والمحرّك لا يوجد فلن تمشي ، فالنبي الكريم ما قصد أنَّه من قرأ الواقعة حُلّت مشاكله ، لو كان الأمر كذلك لكان الأمر سهلاً تأتي مشكلة فنقرأ الواقعة ؛ حينها تنحل المشكلة !! حينها لن تجد بيتًا لا يحفظها ! عليه دَين يقرأ الواقعة !! فالنبي الكريم يقول كلامًا له معنى عميق ، إذا قرأت الواقعة ، وفهمتها ، وأنّ هناك مسؤوليّة كبيرة ، وأنّ الناس لهم مصائب ثلاثة ، وأنَّك إذا كنت هكذا أصبحت هكذا ، وإذا كنت هكذا أصبحت هكذا، وإذا كنت هكذا أصبحت هكذا ، واتَّعَظت بها ، وطبَّقت ما فيها عندئذٍ رفعَت عنك العلاجات ، هذا المقصود من قول النبي عليه الصلاة والسلام .

 

بيان لقوله تعالى : و أما بنعمة ربك فحدث :

 كلمة قصيرة حول أخٍ كريم أراد أن يبيّن لنا : وأما بنعمة ربّك فحدّث ، سمع تفسير هذه السورة في جامع الحاجبيّة ، وقلتُ أنا وقتها : إنّ الذي تُصيبهُ حالات نفسيّة طيّبة ، إذا ذكرها لإخوانه الخلَّص هذا ليس من الفخر ، ولكن من نوع التحدّث بِنِعمة الله .
 فالرجل هذا دُعِيَ إلى نزهة فيما يقول ، في ضواحي دمشق ، وقد عرف أنّها ليْسَت من مستواه ، ولا يبدو منها رضاء الله عز وجل ، ويبدو أنّ هؤلاء الذين ذهبوا إلى النزهة سيّئون وحديثهم ليس في مستواه ، فاعتذر منهم ، ورجع ، ولمَّا ذهب إلى البيت ، ونام ، رأى نفسه في المنام أنّ له قصْرًا كبيرًا جدًّا ، مطلاًّ على وِديان خضراء ، وروابي رائعة ، وأنَّه سعيد جدًّا في هذا القصر ، وأنّ الله سبحانه وتعالى كأنَّه أكرمه بهذه الرؤيا وجعلها تعويضًا له عن هذه النزهة التي لا ترضي الله عز وجل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

طريق الشرع دائماً أفضل طريق :

 دائمًا الشرع أحقّ أن يُتَّبَعَ ؛ شابّ خطبَ فتاةً منذ سنة وثلاثة أشهر ، عُقِدَ عقْدٌ غير رسمي أمام شيخ ومحام ، وحصلَت خلافات ، المُسبِّب بها الطرفان ، أدَّت أن يطلب الشاب أن تأتي إليه إن كانت تريده ، فكرِهَتْهُ الفتاة ، هل يجب أن يرمي عليها الطلاق ؟ هل تجب العِدَّة على الفتاة ؟ هل يحقّ للفتاة شيء من المهر المؤجلّ أو المعجّل ؟ هل يحقّ شيء للفتاة من المصاغ ؟ طبعًا العقد الشرعي يجب أن يكون في المحكمة ، وعقد رسمي لأنّ العقد الشرعي لا يستطيع الزوج أن ينكرهُ ، لكن هذا العقد إذا ما اعترف به الزوج ينكره ، وإذا دعي لِحَلف اليمين قد يحلف اليمين لأنّه لا توجد وثيقة ، فالقضيّة فيها مخالفة ، ولا ندخل بالتفصيلات ، ولكن الإنسان لا يتورَّط بِعَقد زواج غير شرعي ، لأنّ هذا العقد فيه خطورة على الحقوق ، فالبنت أصبحت مخطوبة ومتزوِّجة ، أو لو حصلَت خلوة بينه وبينها أصبحت زوجته ، فإذا لم يعترف هنا الطامة الكبرى ، فالإنسان لا يتسرّع فأحيانًا يأتيك خاطب مقبول ، فيقول له : نريد كتاباً خارجياً ، لماذا خارجي ؟ إذا كنت أنت واثقًا من نفسك فالكتاب الرسمي دليل حسن نيّتك إذا لا يوجد مانع يمنع عقد القران ، لا بدّ أن يكون القران في المحكمة أو القرار الرسمي الذي يسجّل في السجلات القضائيّة ، وإلا هذه العقوبة الخارجيّة لها مضاعفات ، فإذا ما اعترف الزوج مشكلة ، وإذا ما شهد الشهود مشكلة ، وإذا حلفوا اليمين ، وإن حصلت الخلوة مشكلة ، والطلاق مشكلة ، والعدّة مشكلة ، كلّها مشكلات فالإنسان يتّقي الله عز وجل ويطبّق الشرع فهو أرْيَحُ له ، وأضْمن لسعادته .

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور