وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0216 - الإيمان والإستقامة - مرض نقص الألياف .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر . وأشهد أنَّ سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلَّم ، رسول الله سيِّد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ أو سمعت أذنٌ بخبر . اللهمَّ صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريَّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين.
 اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

شروط صحة الرّجاء :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول في أواخر سورة الكهف :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 نقف عند كلمة الرجاء ، هل في العالم الإسلامي كلِّه مسلمٌ واحد لا يرجو أن يدخل الجنة ؟ هل في العالم الإسلامي كلِّه مسلمٌ واحد لا يرجو أن يكون ناجياً ؟ فالرجاء موجودٌ وحقيقةٌ واقعةٌ عند كل مسلم ، ولكن ما لهؤلاء القوم لا يحملون أنفسهم على طاعات الله ؟ ما لهؤلاء القوم لا يجتنبون المعاصي ؟ العلماء يقولون : إن الرجاء لا يكون صحيحاً إلا إذا توافَرت فيه ثلاثة أعمال ، ثلاثة مشاعر ، ثلاثة مواقف ؛ الشعور الأول : أن تحب ما ترجو ، فإن لم تحب ما ترجو لا تسعى إليه ، والشعور الثاني : أن تخاف فوت ما ترجو ، فإن لم تخف لا تسعى إليه ، والعمل الثالث : أن تسعى في تحصيل ما ترجو ، لابدَّ مِن شوقٍ ، ولابدَّ من خوفٍ، ولابدَّ من سعيٍ ، فإن لم تتوافر هذه الشروط الثلاثة فهذا ليس برجاء إنما هو تمنّ ، والله سبحانه وتعالى يقول :

﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَاب﴾

[ سورة النساء : 123]

 الأمر عند الله ليس بالتمنّي ، كلٌ يتمنى ولكن الأمر عند الله بالرجاء ، والرجاء ما سبقته خشيةٌ ، وشوقٌ ، وما تبعه عمل ، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام قال :

(( يا رب أيُّ عبادك أحبُّ إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال : يا داود أحب عبادي إليّ تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء ، أحبني وأحب مَن أحبني وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب مَن أحبكم ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟! قال : ذكِّرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ))

[من الدر المنثور عن ابن عباس ]

 الآلاء مِن أجل أن تعظِّمه ، والنعماء مِن أجل أن تحبه ، والبلاء مِن أجل أن تخافه. . لا يكمل إيمان العبد حتى يجتمع في قلبه خشيةٌ ، وحبٌ ، وخوف . .
 فأنبياء الله سبحانه وتعالى كانوا يدعونه رهباً ورغباً ، اجتمع في قلوبهم الخشية والمحبة ، الخوف والرجاء .

 

فحوى رسالات السماء كلّها أنه لا إله إلا الله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه الآية الأخيرة من سورة الكهف وهي قوله تعالى :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 ماذا يوحى إليه ؟ إن القرآن كلَّه قد طواه الله عزَّ وجل في هذه الآية :

﴿يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾

[ سورة الزخرف : 84 ]

 ما مِن واحدٍ يشكُّ في أن للسماء إلهاً عظيماً ، مبدعاً ، مسيطراً ، مهيمناً ، مقتدراً ، ولكنه يدَّعي أن في الأرض آلهةً كثيرين ، هذا هو الشرك بعينه ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ﴾

[ سورة الزخرف : 84 ]

 إله السماء هو إله الأرض . .

﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾

[ سورة هود : 123 ]

 في اللحظة التي تظن فيها أن زيداً أو عُبيداً ، أو أن فلاناً أو علاناً بيده أمرك ، بيده نفعك ، بيده ضرُّك فهذا هو الشرك بعينه ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾

[ سورة الشعراء : 213]

 رسالات الأنبياء جميعاً ، دعوات الرسل كلهم ، فحوى رسالات السماء كلها أنه لا إله إلا الله ، إذا آمنت أنه لا إله إلا الله لا تخشى إلى الله ، ولا ترجو إلا الله ، ولا تخاف إلا من الله ، ولا تسعى لغير الله ، ولا تخاف لومة لائم .

 

العمل الصالح وسيلة من كان يرجو لقاء ربه :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 هذا هو الجانب العَقيدي في الإسلام ، هذا هو الجانب العقائدي في الإسلام ، العقيدة أنه لا إله إلا الله ، أما العمل :

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 آمنت بهذه الحقيقة ، فما موقفك إذاً ؟ ماذا تعمل ؟ ما الذي عليك أن تفعل ؟ هل يكتفي أن تقول : لا إله إلا الله ؟ هل يكفي أن تقول : لا معبود بحق إلا الله ؟ هل يكفي أن تقول : لا مسيّر إلا الله ؟ لا ، لابدَّ مِن أن تأخذ موقفاً ، لابدَّ مِن أن تفعل ، لابدَّ مِن ألا تفعل الذي نهاك الله عنه ، لابدَّ مِن أن تصل ، لابدَّ مِن أن تقطع ، لابدَّ مِن أن تعطي ، لابدَّ مِن أن تمنع ، لابدَّ مِن حركة ، لابدَّ مِن موقف ، لابدَّ مِن خطٍ تسير عليه ، لابدَّ مِن هدفٍ تصبو إليه ، لابدَّ مِن وسيلةٍ تتخذها مشروعةً لتحقيق ذلك الهدف .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

أفعال المؤمن كلّها مبنية على إيمانه بالله سبحانه وتعالى :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ بعض العلماء يقولون : إن تعامل الإنسان مع المحيط يتمّ وفق القانون التالي : إدراكٌ ، فانفعالٌ ، فسلوك . لا يكون الانفعال إلا إذا صح الإدراك ، ولا يكون السلوك إلا إذا كان هناك انفعال ، يضربون على هذه القاعدة ، أو على هذا القانون مثالاً واضحاً ؛ لو أن الإنسان رأى أفعى في بيته ، أو في غرفته ، إن لم ينفعل فإنه لم يُدْرِك خطرها ، علامة إدراك خطرها ، علامة إدراكه الصحيح ؛ الانفعال ، الخوف ، فالطفل الصغير الصغير لا يخاف الأفعى ، لأنه لا يعرف ما هي ، ولا يعرف خطرها ، ولا يعرف نتائج لدغها ، لكن الذي أصبح راشداً ، قرأ عنها ، أو سمع عن شكلها ، أو رأى صورتها ، أو سمع عنها قصصاً ، إن مُجْمَل هذه المعلومات تشكل عنده مفهوماً ، مفهوم الأفعى ، فإذا وقعت عينه عليها تسرَّب إلى قلبه الخوف ، الخوف علامة صحة الإدراك ، فإن كان قد انفعل ، فلابدَّ مِن أن يتحرك ، إما أن يتجه لقتلها ، أو أن يهرب منها ـ على حسب الحال ـ إدراكٌ ، فانفعالٌ ، فسلوك . وكذلك الرجاء ؛ إذا علمت أنه لا إله إلا الله ، ماذا صنعت في حقه ؟ ما الموقف الذي وقفته ؟ ماذا فعلت ؟ ماذا لم تفعل ؟ مَن أعطيت ومن منعت ؟ من خاصمت ومن صادقت ؟ يجب أن تكون أفعال المؤمن كلّها مبنيةً على إيمانه بالله سبحانه وتعالى . . " لا يكمل الإيمان في قلب عبدٍ حتى يحب لله ، ويبغض لله ، ويعطي لله ، ويمنع لله " .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ السائر على الطريق إذا كان يرجو أن يصل إلى هدفه ، يرجو الوصول ، ويخاف فوت الموعد تراه يسرع ، علامة الرجاء والخوف السرعة ، ونحن على طريق الآخرة ، إذا كان الهدف واضحاً ، وخوف النار واضح ، ورجاء الجنة واضح ، فلابدَّ مِن أن نُسْرِعَ الخُطا .
جاء في جامع الترمذي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه :

(( من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المَنْزِل ، ألا وإن سلعة الله غالية ، ألا وإن سلعة الله الجنة ))

[جامع الترمذي]

 من خاف أدلج - أي أسرع - ومن أسرع وصل ، ألا وإن سلعة الله غالية ، ألا وإن سلعة الله الجنة .

 

المفارقة الحادة بين خوف المحسن و اطمئنان المسيء :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾

[ سورة المؤمنون : 57-61]

 ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾

[ سورة آل عمران : 132]

 في آيةٍ أخرى يقول :

﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾

[ سورة المطففين : 26]

﴿لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ﴾

[ سورة الصافات : 61]

﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾

[ سورة يونس : 58 ]

 لو أنك تبتغي السفر إلى مدينة ، وفي هذه المدينة موعدٌ خطير فيه قبض مبلغٍ كبير، أو فيه تحقيق هدفٍ كبير ، وأنت على هذا الطريق هل تلتفت يمنةً أو شمالاً ؟ هل تلتفت إلى بعض الفروع ؟ هل تقف كي تُنْعِم النظر بالمناظر ؟ لا والله ، ما دمت على موعد ، وما دام الهدف واضحاً ، وما دام اللقاء مهماً وخطيراً فلابدَّ مِن أن تُسرع .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عن هذه الآية :

﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾

[ سورة المؤمنون : 57-61]

 سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ، قالت له : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :

((لا يا بنة الصديق . ولكنهم الذين يصومون ، ويصلون ، ويتصدَّقون ، ويخافون ألا يتقبَّل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات))

 الشيء الغريب أن الله سبحانه وتعالى وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووقف أهل الشقاء بالإساءة مع الأمن ، المحسن يخاف ، والمسيء مطمئن ، ما هذه المفارقة الحادة ؟ كيف يكون لهذا المحسن أن يخاف ، وكيف يكون لهذا المسيء أن يطمئن ؟
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ المحسن يعرف الله حق المعرفة ، ويعرف أن الإخلاص له ثمين ، وأن الله يعرف السّرّ وأخفى ، وأن الله مُطّلعٌ على قلبه ، وأن العمل لا يتقبل إلا إذا كان خالصاً لله عزَّ وجل ، إنه رأى أن الله سبحانه وتعالى سخَّر له الكون بكل ما فيه ، فكيف عليه أن يفعل ؟ كيف عليه أن تكون استجابته ؟ كيف ينبغي أن تكون طاعته ؟ كيف ينبغي أن يكون حِرْصه ؟ كيف ينبغي أن يكون عمله ؟ لذلك مهما فعل مِن إحسان ، ومهما قدّم مِن أفعالٍ طيبة إنه يرى نفسه مقصراً ، يخشى أن يكون في نيّته بعض الخلل ، يخشى أن يكون في استقامته بعض الزلل ، لذلك هو يخاف لشدة المعرفة . وأما الجاهل فهو مع الإساءة لا يخاف ، لذلك كما جاء في بعض الأحاديث القدسية :

(( لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين ، إن أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي ، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم أجمع عبادي))

[ من مجمع الزوائد ]

 إما أن تخاف الله في الدنيا لوقتٍ محدود ، وبعدها يأتي الأمن إلى يوم الدين ، وإلى الأبد ؛ إلى أبد الآبدين ، وإما أن تطمئن في هذه الدنيا المحدودة ، ويأتي بعدها الخوف إلى أبد الآبدين .

 

نماذج من الصحابة الكرام عن ارتباط الإيمان بالخوف عندهم :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ نماذج من الصحابة الكرام ؛ سيدنا أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه قال عنه عليه الصلاة والسلام :

(( ما ساءني قط ))

 قال عنه عليه الصلاة والسلام :

(( ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر ))

[ من مختصر تفسير ابن كثير ]

(( ما طلعت شمسٌ ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر))

[ من كنز العمال عن أبي الدرداء ]

 ومع ذلك ؛ كان أبو بكرٍ رضي الله عنه يقول : " وددت أني شعرةٌ في جنب عبدٍ مؤمن " . كان يمسك بلسانه ويقول : " هذا الذي أوردني الموارد " . كان يبكي كثيراً ويقول : " ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا " . وكان إذا قام إلى الصلاة كأنه عودٌ من خشية الله .
 مرَّةً رأى طائراً قد اصطاده أصحابه ، فقال : " ما صيد ما صيد إلا بما ضيع مِن التسبيح " . مع علو مقامه ، ومع رفعة شأنه ، ومع سَبْقِهِ في الإسلام ، ومع أنه بنصِّ الحديث الشريف مِن المبشَّرين بالجنة ، وهو أعلى المؤمنين إيماناً هذه خشيته ، وهذا خوفه ، وهذا قلقه .
 سيدنا عمر رضي الله عن عمر قرأ سورة الطور ، فلما وصل إلى قوله تعالى :

﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾

[ سورة الطور : 7]

 بكى ، واشتدَّ بكاؤه ، حتى عاده إخوانه .
 وسيدنا عمر رضي الله عن عمر قال لابنه : " ضع خدي على الأرض عساه أن يرحمني الله ، ويل أمي إن لم يغفر لي " . وكان في وجه عمر رضي الله عنه خطّان أسودان مِن شدة البكاء . قال له ابن عباسٍ رضي الله عنهما : " يا أمير المؤمنين لقد مصَّر الله بك الأمصار ، وفتح بك الفتوح ، وفعل وفعل " . فقال عمر : " وددت أن أنجو لا أجر ولا وزر " ، هكذا كان عمر ، فالخوف حالةٌ صحيَّة ، أن تخاف مِن الله كي تطمئن يوم الدين .
 سيدنا عثمان ؛ رضي الله عن عثمان وقف على القبر يبكي ويقول : " لو أنني وقفت بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيها أطير " .
 سيدنا علي بن أبي طالب ؛ رضي الله عنه يشتد خوفه ، وبكاؤه مِن اثنتين ؛ من طول الأمل ، واتباع الهوى ، فكان يقول : " أما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق ، ألا وإن الدنيا قد ولَّت مدبرة ، وأن الآخرة قد أقبلت مُقْبلة ، ولكل واحدةٍ منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل .
 سيدنا أبو الدرداء ؛ رضي الله عنه كان يقول : " إن أشدّ ما أخاف على نفسي يوم القيامة أن يقال : يا أبا الدرداء قد علمت ، فكيف عملت ؟ " . ما عملك بعدما عملت ؟ .
 وقد قرأ تميم الداري سورة الجاثية ، فوصل إلى قوله تعالى :

﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾

[ سورة الجاثية : 21]

 فظلَّ يبكي ، ويبكي ، ويتلوها ويعيدها حتى انفجر الفجر .
 إبراهيم التميمي كان يقول : " ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذَّباً " . أي أن هذه المسافة بين القول والعمل خطيرةٌ جداً ، لا تبلغ حقيقة الإيمان إلا إذا توافق القول مع العمل .
 ابن أبي مليكة قال : " أدركت ثلاثين مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ، وما منهم أحدٌ يقول إنه على إيمان" .
 المنافق لا يعرف أنه منافق ، ولكن المؤمن كثيراً ما يتهم نفسه بالنفاق . ففي اللحظة التي تطمئن فيها في الدنيا ، فهذا الاطمئنان حالةٌ مَرَضِيّة ، يجب أن تعرف مقام الله عزَّ وجل ، ويجب أن تَشُكَّ في نفسك مِن أجل أن تبقى ساعياً مجتهداً ، وإلا إذا قعد الإنسان واكتفى بدرجته فهو في تناقص .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ سيدنا عمر بن الخطاب - عملاق الإسلام - يقول لحذيفة بن اليمان : " أنشدك الله هل سَمَّاني رسول الله في المنافقين ؟ " فقال : " لا والله ولا أزكي بعدك أحداً " .
 فهذه الأقوال ، وهذه الأخبار عن أصحاب رسول الله ، وعن التابعين مؤدَّاها ؛ أنهم كانوا مع استقامتهم ، ومع أعمالهم الطيّبة ، ومع علوّ قدرهم ، ومع شدَّة إيمانهم كانوا يخافون ، فما لهؤلاء القوم يقترفون المعاصي ، ويأكلون المال الحرام ، ويزيغون عن طريق الحق ، ويفعلون ما نهى الله عنه وهم مطمئنون ، إنه اطمئنان البُلْه لا اطمئنان الأذكياء .

 

طلب الجنة مِن غير عمل ذنبٌ مِن الذنوب :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ عودٌ على بَدْء إن كنت ترجو الله عزَّ وجل فمعنى ذلك أنه لابدَّ مِن أن تشتاق إليه ، ولابدَّ مِن أن تخاف ألا تصل إليه ، ولابدَّ مِن أن تسعى سعياً جاهداً لبلوغ الجنة .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 طلب الجنة مِن غير عمل ذنبٌ مِن الذنوب ، ذنبٌ كبير أن تطلب الجنة من غير عمل .

 

العمل الصالح مطية الإنسان إلى الله عزَّ وجل :

 عودٌ على بَدْء أيها الأخوة الأكارم ، آخر آية من سورة الكهف يلخِّص الله فيها العقيدة والعمل فيقول :

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 تعليقٌ طفيف ؛ العمل الصالح مطيتك إلى الله عزَّ وجل ، إذا كانت المعاصي والمخالفات عقبات في طريقك إلى الله ، فإن التوبة النصوح إزالةٌ لهذه العقبات ، عندها يصبح الطريق سالماً وآمناً . لكن لابدَّ مِن التحرك ، لابدَّ مِن التحرك على هذا الطريق ، إن العمل الصالح هو الذي ينقلك مِن مرحلةٍ إلى مرحلة . .

﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحا﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 لكن . .

﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 لا يبنى العمل الصالح إلا على استقامة ، فمَن عَبَدَ غير الله ، مَن أشرك بالله و لو كان عمله صالحاً إنه لا يتقبَّل منه ، إذاً :

﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾

[ سورة الكهف : 110 ]

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطَّى غيرنا إلينا فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

مرض نقص الألياف :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قبل أن أنتقل إلى الموضوع العلمي ، لابد مِن كلماتٍ ثلاث ، هي ملخّص الخطبة ، الأولى ؛ الإيمان بأنه لا إله إلا الله ، والاستقامة على أمره ، والعمل الصالح تقرُّباً إليه ، هذا ملخص الخطبة ، الجانب الاعتقادي ، هو أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله ، والجانب السلوكي ، هو أن تستقيم على أمره أولاً ، وأن تعمل الصالحات ثانياً .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هناك منعطفاتٌ خطيرةٌ في تاريخ العلوم الغذائية ، الانعطاف الأول : اكتشاف الجراثيم ، التي يتلوّث بها الطعام ، والتي تسبب كثيراً من الأمراض، والانعطاف الثاني : هو الكشف عن بعض المخاطر إذا أسرف الإنسان في تناول بعض الأطعمة ، منعطفٌ آخر ، في تاريخ الصحة والغذاء ، كما أن هناك أمراضاً كثيرة تتسبب من نقص المواد الغذائية ، هذه أشياء تعرفونها ولكن الشيء الخطير الذي اكتشف حديثاً هو مرض العصر الذي هو مرض نقص الألياف ، فطبيعة العصر الحديث تقدِّم غذاءً مصفَّى ، فالسكر أبيضٌ ناعم ، والدقيق أبيضٌ ليس فيه شوائب ، والفواكه نشرب عصيرها ، وكلُّ شيءٍ نُزِعَ مِنه تفله إن صحَّ التعبير أو الألياف التي خلقها الله فيه .
 ما كان أحدٌ يظنُّ أن لهذه الألياف التي هي قوام الفاكهة ، أو هذه القشور التي تحيط بحبّة القمح ، أو هذه الألياف التي هي في بعض المواد السكرية ، إننا ننزعها ونعدُّها مِن الأشياء التي لا جدوى منها ، نشرب عصيراً صافياً ، ونأكل خبزاً أبيضاً ، ونستعمل السكر النقي، إن هذا الغذاء المصفَّى ، الذي هو مِن بِدَعِ العصر الحديث وراء كثيرٍ من الأمراض .
 كان العلماء يظنون أن هذه الألياف هي عنصرٌ زائدٌ عن الحاجة ، وأن دورها في الهضم يتميَّز بالسلبيّة ، لذلك عرَّفوها بقدر ما وسعهم الإدراك ، فقالوا : إنها جزءٌ من الطعام الذي يعبر القناة الهضمية ، مِن دون أن يُهْضَم ، بل وجدوها عبئاً على جهاز الهضم ، لذلك عمدوا على تنقية الطعام منها ، فقدَّموا لنا ما يسمَّى بالأطعمة النقية .

أخطار الغذاء النّقي :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ إن أول أخطار هذا الغذاء النقي هو الإمساك ، لأن حجم هذه الألياف يسهِّل عمل الأمعاء ، إن حركة الأمعاء حينما تتحرك كي تهضم الطعام ، تحتاج إلى كتلةٍ من الألياف ، تثير جدران الأمعاء ، فلو اختفت هذه الألياف ، وبقي الطعام كلّه سائلاً وخالياً من هذه الألياف المفيدة ، فإن حالة الإمساك هي من أولى أخطار هذا الطعام النّقيّ .
 شيءٌ آخر ، قال العلماء : إن هذه المواد السيللوزية - الألياف - تعمل على امتصاص الماء ، والاحتفاظ به ، كيّ يُصبح الهضم سهلاً ليناً ، فكأنما هي مليَّنات .
 الشيء الثالث : أن هذه الألياف السيللوزية تعمل على امتصاص مادة الكوليسترول - الدهنيات - إن تواجد الكوليسترول في الدم ، أو تَرَسُّبَّه على جدران الأوعية ، يسبب أخطر أمراض العصر ، إنه الذبحة الصدرية ، إن أخطر أمراض العصر هو تضيق الشرايين ، بل إن بعض العلماء يقول : إن عمر الإنسان مِن عمر شرايينه ، فحينما تضيق لمعتها ، وحينما تترسّب المواد الدهنية فيها ، عندئذٍ يتعب القلب ، إن هذه الألياف التي نطرحها ، نشرب كأس العصير ، ونقذف بهذه الألياف علفاً للحيوانات ، إن الإنسان في أشدِّ الحاجة إليها ، لأنها تمتص المواد الدسمة ، وتعدِّل نسبة الدهون في الدم .
 شيءٌ آخر هو أن إفراز بعض العصارات ، كالصفراء مثلاً ، إفرازاً مستمراً ، مِن دون وجود هذه الألياف ، إنه يسبب بعض الأمراض الخبيثة في الكولون ، إن وجود هذه الألياف يمتصّ المواد الدهنية ، وبعض مُفرزات الغُدَد ، ويسهَّل حركة الأمعاء ، حتى إن بعضهم يقول : إن تكوّن الحَصَيات ، وارتفاع الكوليسترول في الدم ، وترسّبه في جدران الشرايين ، وسرطان القولون ، وبعض أمراض القلب والأوعية ، والإمساك ، وبعض أمراض الدوالي ، وبعض أمراض الحجاب الحاجز ، والتهاب الزائدة ، إنَّ سبب معظم هذه الأمراض هو بسبب فقدان الألياف مِن أطعمتنا .
 لذلك عودةٌ إلى ما خططه الله سبحانه وتعالى ، كل الشيء الذي خلقه كما خلقه، مِن دون إجراء تعديلٍ عليه ، لا تتبع الأساليب الحديثة في تناول الطعام ، كل الطعام كما أراده الله أن يؤكل .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يَعُدُّ العلماء هذا الكشف انعطافاً رابعاً خطيراً في طريق الصحة والغذاء . اجعل طعامك كما كان مِن دون أن تنقيّه ، مِن دون أن تطرح منه هذه الألياف ، التي كان يظنُّ أنه لا جدوى منها ، أن جهاز الهضم لا يهضمها ، إنما هي عبءٌ عليه ، لا ، ليس كذلك .
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ مطلوبٌ منا أن نفقه حكمة ربنا في خلق كل شيء ، ولا ينبغي أن نغيَّر خلق الله ، لا ينبغي أن نعدِّله .
 في خطبةٍ سابقة بيَّنت لكم أن في قشرة القمح ستة معادن ، وستة فيتامينات ، وأشياء كثيرة نطرحها جانباً ، ونطعمها للدواب أعلافاً ، ونأكل هذا النشاء الصِرْف ، الذي هو عبءٌ على جهاز الهضم ، بدل أن يكون في خدمته .

الدعاء :

 اللهمَّ اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَّنا فيمن توليت ، وبارِك اللهمَّ لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرَّ ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك .
 اللهمَّ أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا .
 اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا. اللهم استر عيوبنا ، واغفر ذنوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

تحميل النص

إخفاء الصور