وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 0215 - ما الذي يجعل العمل صالحاً ؟ - وجعلنا من الماء كل شيءٍ حي .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:

  الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر. وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذن بخبر . اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممــــن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإيمان هو سبب للعمل الصالح :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تعقيباً على موضوع الخطبة الماضية ، حيث أن العمل الصالح هو سبب سعادة الإنسان ، إن كان العمل الصالح صالحاً للعرض على الله عز وجل ، كان هذا العمل سبب سعادة الإنسان ، وإن كان العمل سيئاً كان العمل سبباً لشقاء الإنسان.
 السؤال : ما الذي يجعل عمل الإنسان صالحاً ؟ وما الذي يجعل عمل الإنسان سيئاً ؟ لماذا هذا يستقيم وهذا ينحرف ؟ لماذا هذا يخلص وهذا يخون ؟ لماذا هذا الإنسان يقف عند حدود الله وهذا يعتدي على أموال الناس وعلى أعراضهم ؟ لماذا هذا الإنسان يضبط لسانه وهذا يطلقه في الكذب والغيبة والنميمة ؟ لماذا كان العمل الصالح صالحاً ولماذا كان العمل الطالح سيئاً ؟ ما الذي يحدد العامل الفعال في جعل العمل صالحاً أو جعله طالحاً ؟ مئة آية في كتاب الله سبحانه وتعالى تبين هذه الحقيقة الذي آمنوا وعملوا الصالحات . مئة آية أو تزيد ، قرن الله سبحانه وتعالى العمل الصالح بالإيمان ؛ بمعنى أن الإيمان هو سبب للعمل الصالح ، والإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام :

((ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وأقر به اللسان ، وصدقه العمل))

[الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال كبير]

 كيف تستقر هذه الحقيقة في القلوب ؟ ما منبع الحقيقة ؟ من أين نستقي الحقيقة ؟ من أين نأخذها ؟ ما مصادرها ؟ أين مظانها ؟

 

الكون والقرآن والحوادث مصدر دقيق لمعرفة الحقيقة :

 الحقيقة أيها الأخوة المؤمنون ، يمكن أن نأخذها من كتاب لا ريب فيه ، من كتاب لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ، ولا من خلفه ، من كتاب هو كلام الله سبحانه وتعالى ، من كتاب هو دستور الإنسان ، من كتاب هو تعليمات من عند الصانع ، من عند الخالق ، تعليمات قطعية الثبوت ، قطعية الدلالة ، أو يمكن أن تأخذ هذه الحقائق من تأملك في آيات الله في الكون ، الآيات التي بثها الله سبحانه وتعالى في الكون دالة على وجود الله ، ودالة على أسمائه الحسنى ، ودالة على عظمته ، وأما المصدر الثالث للحقيقة التي هي أساس العلم ، الذي هو أساس العمل ، الذي هو أساس السعادة ، والشقاء ، مجموعة مقدماتٍ تترابط بمجموعة نتائج ، السعادة والشقاء الأبديان منوطان بالعمل في الدنيا فإن كان صالحاً أسعد صاحبه ، وإن كان سيئاً أشقى صاحبه ، والعمل الصالح يحتاج إلى إيمان ، والإيمان حالةٌ من اليقين ، حالة تستقر فيها الحقائق في النفس ، ما وقر بالقلب ، وأقر به اللسان ، وصدقه العمل ، ولكن هذا الإيمان من أين نأخذه ؟ من أين نستقيه ؟ المصدر الأول هو كتاب الله ، والمصدر الثاني لمن يقرأ كتاب الله ؛ الكون :

﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون ﴾

[سورة يوسف:105]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾

[ سورة الطارق : 5 ]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ﴾

[ سورة عبس : 24]

﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾

[سورة الذاريات : 20]

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات:21]

 وأما المصدر الثالث الذي هو موضوع هذه الخطبة فهو الحوادث.
 الكون مصدر ، والقرآن مصدر ، والحوادث مصدر دقيق ، دقيق واضح ، واضح لمعرفة الحقيقة ، يؤكد هذا المصدر قول الله سبحانه وتعالى :

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾

[سورة الفيل: 1-5]

الحقائق الأساسية من خلال معاملة الله لخلقه :

 سأل بعض طالبي العلم : كيف يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام :

﴿أَلَمْ تَر﴾

  مع أن النبي ولد بعد حادثة الفيل بخمسين يوماً ، كان جنيناً في بطن أمه، فكيف يخاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله :

﴿أَلَمْ تَر﴾

  استنبط العلماء من هذه الآية أن هذا كان من الأخبار المتواترة ، ومعنى التواتر : أن ينقل جمعٌ غفيرٌ من الثقاة العدول عن الثقاة العدول خبراً واحداً ، هذا الخبر يصبح بمرتبة اليقين ، والقرآن الكريم يعبر عن العلم بالرؤيا ، وعلماء النحو يقولون : هناك رؤية بالبصر ، وهناك رؤيا بالبصيرة ، رؤية البصر ، تنصب مفعولاً به واحداً تقول : رأيْتُ الشمسَ ، ورؤيا البصيرة ، تنصب مفعولين به ، رأيت العلمَ نافعاً ، فنافعاً مفعول به ثان ، إذاً رأى يعبر عنها القرآن الكريم بالرؤية القلبية ؛ أي بالعلم ، إذاً حصل للنبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم علمٌ يقينيٌّ بوقوع حادثة الفيل :

﴿أَلَمْ تَر﴾

  وقد قيل : إن أناساً كثيرين ، كانوا من المعمرين ، وقد شهدوا حادثة الفيل بأعينهم ، وقد أدركوا بعثة النبي عليه الصلاة والسلام ، فلو لم تكن الآية صادقةٌ مئةً في المئة لتكلم هؤلاء ، وانتقدوا ، وكذَّبوا ، وردُّوا :

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾

  شيءٌ دقيق ، هو أن للقرآن خصوصاً ، وعموماً ، فخصوص هذه الآية متعلقة بأصحاب الفيل ، وعموم هذه الآية متعلقةٌ بكل إنسانٍ إلى يوم القيامة.
 فانظر أيها الأخ المؤمن ، انظر لمن كسب المال الحرام ، ما مصيره ؟ انظر إلى من اعتدى على حقوق العباد ، ما مصيره ؟ انظر لمن ظلم زوجته في البيت ، كيف أن حياته تشحن بالشقاء ، والتعاسة.

﴿أَلَمْ تَرَ﴾

  عموم هذه الآية عمومها يعنينا جميعاً ، تتبع حالة الناس ، قال تعالى:

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾

[سورة الأنعام: 11]

 وفي أية أخرى :

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾

[سورة النمل: 69]

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾

  هذه للعقوبات التي تأتي عقب المخالفات ، وآية:

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ﴾

[سورة الأنعام: 11]

 هذه الآية للعقوبات التي تتراخى عن الذنوب ، قد يأكل الإنسان مالاً حراماً ، ويعيش عشر سنين متمتعاً بهذا المال ، ثم تأتي ضربة قاضية تمحق له هذا المال ، هذه القصة محمولة على قوله تعالى :

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا ﴾

[سورة الأنعام: 11]

 وقد يحلف الإنسان يميناً غموساً ، فما إن يغادر قاعة المحكمة حتى يقع على الأرض مشلولاً ، هذه القصة تحمل على قوله تعالى :

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ﴾

[سورة النمل: 69]

 أيها الأخوة الأكارم ؛ ليس المقصود من حادثة الفيل أنها وقعت والتاريخ ذكرها ، والناس يعرفونها ، ولا شيء يدعو إلى الشك فيها ، ولكن المقصود أن يتوجه الإنسان ليستنبط الحقائق الأساسية من خلال معاملة الله لخلقه ، هذا الشاب الذي نشأ في طاعة الله ، كيف أن الله سبحانه وتعالى يوفقه ، يرفعه من مرتبة إلى مرتبة ، كيف أن الله سبحانه وتعالى يصلح باله، كيف أن الله سبحانه وتعالى يبارك له في وقته ، يبارك له في زوجته ، يبارك له في أولاده، يبارك له في عمله ، في تجارته ، كيف أنه يعيش محمود السيرة ، ذائع الصيت ، له سمعة عطرة ، هذا الذي ينشأ في طاعة الله ، هذا مصيره ، وهذا الذي ينشأ في معصية الله تتبعوا أحواله ، كيف أن الحياة تصبح عنده جحيماً لا يطاق ، كيف أن الله سبحانه وتعالى يشتت شمله، يبعثر أمره ، يجعله في ضيقٍ لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ]

 فليس المقصود من هذه السورة حادثة الفيل ، إنما المقصود كل إنسانٍ في كل زمان ومكان ، قال تعالى :

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾

[سورة النمل: 69]

 هذا الذي أكل مالاً حراماً ، هذا الذي اعتدى على أعراض الناس ، هذا الذي بنى مجده على أنقاض الآخرين ، هذا الذي بنى غناه على فقرهم ، هذا الذي بنى حياته على موتهم، كيف أن الله سبحانه وتعالى له بالمرصاد ، وكيف أن الذي استقام على أمر الله سعد في الدنيا والآخرة ، يمكن أن تستنبط الحقائق لا من القرآن فحسب ، لا من الكون فحسب ، بل من الحوادث التي تجري كل يوم تحت سمع الإنسان وبصره :

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴾

.

 

قصة أصحاب الفيل دليل على عدالة الله و تصرفه و تسييره :

 بعض العلماء قالوا : لمَ لم يقل الله عز وجل ألم تر ما فعل ربك بأصحاب الفيل ؟ أي ألم تر فعل الله بأصحاب الفيل ، ولكن الآية تقول :

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾

 أصحاب الفيل دليل على عدالة الله ، وعلى تصرفه ، وعلى تسييره ، وعلى أنه بالمرصاد ، ودليل آخر على الكيفية التي تمت بها هذه الحادثة ؛ أي سبب ضعيفٌ جداً :

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾

  الإنسان قد يكيد ، والكيد هو التدبير في الخفاء ، وليس في العلانية ، وغالباً الضعيف هو الذي يدبر في الخفاء ، والله سبحانه وتعالى مطلعٌ عليه ، ولأن الله مطلع على هذا التدبير ، أصبح هذا التدبير لا قيمة له ، لأنه قوة التدبير في خفائه فإذا كان مكشوفاً بطل مفعوله ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾

[سورة الأنفال: 36]

 وقال تعالى :

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾

[سورة الطارق: 15-17]

 الله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا ، الله سبحانه وتعالى ينصر المؤمن على عدوه ، قال تعالى :

﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُم﴾

[سورة آل عمران:160]

 المؤمن الحق كما قال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه الكريم :

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾

[ سورة الطور: 48 ]

 إنك برعايتنا ، إنك بحفظنا ، إنك بتدبيرنا ، إنهم يكيدون كيداً لك . يردُّ كيدهم .

 

أيّ عمل على وجه الأرض لا يتحقق إلا بتوفيق الله :

 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ هذه السورة القصيرة ، على قصرها فيها حكم بليغة ، الإنسان إذا عرف أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء ، وإليه مصير كل شيء ، وما من شيء يقع إلا بإذنه، ومن بعد علمه ، عندئذٍ يجعل همومه هماً واحداً ، هو أن يرضي خالقه ، من جعل الهموم هماً واحداً ، كفاه الله الهموم كلها ، اعمل لوجهٍ واحد يكفك الوجوه كلها :

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾

[سورة الفيل : 2]

 ماذا حقق أبرهة الأشرم حينما توجه بجيشٍ عظيم من اليمن إلى مكة المكرمة ليهدم الكعبة ؟ هذا الكيد هل حققه ؟ لذلك في القرآن الكريم آية واحدة لا مثيل لها تتحدث عن التوفيق، وليس في القرآن آية أخرى في معناها ، وهي قوله تعالى :

﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾

[سورة هود: 88]

 أي عمل على وجه الأرض لا يتحقق إلا بتوفيق الله ، أي عمل صغير كان أم كبير، جليل كان أم حقير ، مادي كان أم معنوي ، أي عمل لا يتحقق إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى :

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾

 ضاع جهدهم هباءً منثوراً ، ضاع مالهم هباء منثوراً، فلذلك إذا حرم الإنسان التوفيق في الدنيا ، تضيع أوقاته سدى ، وتضيع جهوده سدى ، ويضيع عمره سدى ، ويأتي يوم القيامة ، وقد خسر كل شيء ، وذلك هو الخسران المبين :

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾

  بين أن تفعل فعلاً يرضى الله عنه ، فينقلك به من حالٍ إلى حال ، ومن مرتبةٍ إلى مرتبة ، ومن مكانةٍ إلى مكانة ، ومن قربٍ إلى قرب ، وبين أن تفعل فعلاً لا يرضي الله عز وجل ، تهدر به وقتك ، وتهدر به مالك ، وتهدر به صحتك ، ثم يأتي يوم القيامة صاحب هذا العمل صفر اليدين لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾

  قال العلماء : الطير الأبابيل أضعف أنواع الطير ، جيش عظيم ، فيه فيلٌ كبير ، فيه عددٌ كثير ، يأتي طير ضعيف يرمي عليه حجارة من سجيل ، فيجعله كعصف مأكول ، ما العصف المأكول ؟ الطعام المأكول ، الروث الذي تبعثر في الأرض ، أي شبه هذا الجيش العظيم ، الذي أتى ليعتدي على الكعبة المشرفة ، شُبه بطعام مأكولٍ أصبح روثاً مبعثراً ، وفي بعض التفاسير أنه قمحٌ ، أُكِل القمح ، بقي التِّبن ، وما قيمة التبن المبعثر؟ إن ضعف هذا الجيش بعد أن أصابه الطير الأبابيل هو كالتبن تذروه الرياح.

 

السعيد من اتَّعظ بغيره والشقي دائماً لا يتعظ إلا بنفسه :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ المقولة الثابتة أن السعيد من اتَّعظ بغيره ، والشقي دائماً لا يتعظ إلا بنفسه ، تتبَّع الزاني ، كيف يشقى في زواجه .

((تزوجوا ولا تطلقوا ، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات))

[الطبراني في الكبير عن أبي موسى]

 هذا الذي له تجارب قبل الزواج ، كيف أن زواجه يصبح قطعة من الجحيم ، تتبع الذي كسب المال الحرام كيف أن المال ينفق على صحته ، ويتلف ، ويؤخذ منه قهراً ، قال عليه الصلاة والسلام :

((من أصاب مالاً في نهاوش ، أذهبه الله في نهابر))

[ القضاعي عن أبي سلمى الحمصي مرفوعا ]

 حديثٌ يبدو لكم غريباً ، المهاوش؛ أي أخذ مالاً بالاحتيال - من أصاب مالاً في مهاوش ، أتلفه الله في نهابر - يؤخذ منه نهباً ، هو حصله احتيالاً ، يؤخذ منه نهباً ، أما الذي حصَّل المال وفق قواعد الشرع ، ووفق الحلال ، والحرام ، فإن هذا المال يبارك الله به ، فيه يتقوَّى به على طاعة الله ، يعطيه الله بهذا المال صحةً ، وقوةً ، ومن كل ما تشتهيه النفس ، وما تلذُّ الأعين.

 

من طبق أمر الله سبحانه وتعالى وفقه الله في عمله :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الذي أريد أن المؤمن إذا قرأ القرآن لا ينبغي أن يبقى عند خصوص السبب ، خصوص الحدث ، ينبغي أن ينتقل إلى عموم السبب ، فكل إنسان من معاملة الله تستطيع أن تستنبط القواعد الأساسية في تعامل الله مع عباده ، أي إنسان ، من أخلص في عمله ، درَّ عليه هذا العمل ربحاً وفيراً ، من غشَّ في عمله ، شكا الفقر والفاقة ، خلافاً لما يبدو لبعض الناس ، في أن من يغشّ يربح الكثير على المدى القصير ، لكن بعدئذٍ يدمر تدميراً كاملاً ، لذلك الإنسان في عمله إذا طبق أمر الله سبحانه وتعالى وفقه الله في عمله، في زواجه ، في كل منحى من مناحي حياته ، لقول الله عز وجل :

﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾

[سورة الإسراء :9]

 إذاً هذه السورة القصيرة :

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾

  يمكن أن تطبق في حالات كثيرة ، أي إنسان أقرب الناس إليك إذا حاد عن طريق الحق ، إذا غشَّ في بيعه وشرائه ، إذا أكل مالاً حراماً ، إذا رمى بالقرآن خلف ظهره ، إذا لم يعبأ بأوامر الله عز وجل ، إنه سوف يشقى في الحياة الدنيا ، ألم يجعل كيده في تضليل ؟ لا يوفق تضيع أمواله ، وتضيع أوقاته ، وتضيع جهوده ، ويضيع عمره سدى ، أما إذا أخذ أمر الله عز وجل ونفذَّه ، فإن الله سبحانه وتعالى يبارك له في كل شيء ، في عمره ، وفي ماله ، وفي أهله ، وفي عمله ، وفي كل شيء.

 

دفاع الله عز وجل عن المؤمنين :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ الشيء الآخر :

﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ﴾

  وقول الله عز وجل :

﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً﴾

[سورة الطارق: 15-16]

 وقوله :

﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾

[ سورة الحج : 38]

 لو كاد لك عدوك أيها الأخ الكريم ، فإن الله سبحانه وتعالى يدافع عنك ، هكذا يقول الله عز وجل :

﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 160]

 وكفاك نصراً على عدوك أنه في معصية الله.
 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قصار السور في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم فيها حقائق أساسية في معرفة الله عز وجل ، وفي أسمائه الحسنى ، وفي صفاته الفضلى ، وفي طريقة تعامله مع العباد ، فمن قرأ هذه السورة في الصلاة فعليه أن يجعلها واسعة المعنى ، شاملة المدلول ، بحيث تتجاوز خصوص مناسبتها إلى عموم سببها.
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

و جعلنا من الماء كلّ شيء حيّ :

 أيها الأخوة الكرام ؛ يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :

﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾

[ سورة الأنبياء : 30]

 الحياة على وجه الأرض ، حياة الإنسان ، وحياة الحيوان ، وحياة النبات ، قوامها الماء ، فالماء هو الوسيط الوحيد ، الذي يحمل الأملاح والمواد الغذائية ، منحلةً فيه إلى الكائن الحي ، ولولا الماء لما كان على وجه الأرض حياة.
 ولكن من منا يصدق أنني وقفت عند رقمٍ أذهلني ، أنه في كل ثانيةٍ حصراً ، في كل ثانيةٍ تمضي يهطل من السماء إلى الأرض على مستوى الكرة الأرضية ستة عشر مليون طن من الماء :

﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾

[ سورة الأنبياء : 30]

 من أجل قوام الحياة ، تسقط في كل ثانيةٍ ستة عشر مليوناً من الأطنان من الماء ، تسقط من السماء إلى الأرض ، ولكن هذا السقوط يتبدَّى فيه اسم اللطيف ، لو أن هذا الماء هوى على الأرض بشكلٍ متصل ، مجمَّع ، لأتلف كلَّ شيء ، ولحطَّم كل شيء ، ولأنهى الحياة، ولكنه ينزل على شكل قطراتٍ صغيرةٍ فيها لطفٌ ، وفيها رحمةٌ ، وفيها حكمة.
 رقم ثالث قرأته هذا الأسبوع ، ترك في نفسي أثراً بليغاً ، هو أن المناطق الرعوية ، في بلدنا الحبيب ، بفضل الأمطار الغزيرة ، التي انهمرت هذا العام ، أنبتت هذه المناطق من العشب الرعوي الذي تأكله الماشية ما لو أردنا أن نستورده لكلَّف عشرة آلاف مليون ليرة ، عشرة مليارات ليرة ثمن العشب الذي ترعاه الماشية ، لو أننا أردنا أن نستورد أعلافاً لإطعام المواشي في بادية الشام لكان ثمن هذه الأعلاف يزيد عن عشرة آلاف مليون ليرة ، بالأمطارٍ الغزيرة التي تفضَّل الله بها علينا هذا العام ، وفَّرت علينا دفع هذه المبالغ الطائلة ثمناً للأعلاف .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حينما يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾

[ سورة الذاريات : 22]

 إن الطعام الذي نأكله ما كان ليكون لولا تلك الأمطار التي تنزل من السماء .
 حدثني أحد الأخوة الأكارم ، أن هناك محصولاً من الفواكه والثمار في هذا العام ، ما لا يمكن تصوُّره . قلت : سبحان الله ! الله سبحانه وتعالى هو المسعِّر ، تتضاعف الكميات بأمطارٍ غزيرة ، فتصبح وفيرة ، فتهبط الأسعار.
 أيها الأخوة المؤمنون ؛

﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾

[ سورة الذاريات : 22]

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾

[ سورة الحجر : 21]

 إن الله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ، فمن ستة عشر مليون طن من الماء ، في الثانية الواحدة ، إلى أمطارٍ وفَّرت عشرة آلاف مليون من الليرات ثمناً للأعلاف ، هذه الأرقام لها دلالاتٍ عند المؤمنين ، هذا عطاؤنا :

﴿كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾

[ سورة الإسراء : 20]

﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾

[ سورة عبس : 24-32]

الدعاء :

اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك .

 

تحميل النص

إخفاء الصور