وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0198 - أولياء الله والحياء - حاسة الشم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

  الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكلي إلا على الله .
 وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر .
 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
 اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .
 اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

أولياء الله .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : مَن أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ؟ من هم يا رسول الله ؟ صفهم لنا ، ما صفاتهم ؟ ما علاماتهم ؟ ما خصائصهم ؟ مَن هم أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ؟ .

علامات أولياء الله :

العلامة الأولى : الاهتمام بآجل الدنيا .

 فقال عليه الصلاة والسلام :

(( الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ))

 الناس في ظاهر الدنيا ؛ في الأموال ، والأولاد ، والبيوت ، والبساتين ، والدرجات ، وأولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون نظروا إلى باطن الدنيا ، إلى ساعة الفراق ، إلى ساعة الرحيل ، إلى يوم ..

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 88-89 ]

 حينما نظر الناس إلى ظاهر الدنيا ، نظر أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون إلى باطنها .
 واهتموا بآجل الدنيا حينما اهتم الناس بعاجلها ، اهتموا بمرحلة نهاية العمر ، اهتموا بساعة الفراق ، اهتموا بآجل الدنيا ، بينما اهتم الناس بعاجلها ، البطولة أن تدرك خريف العمر ، والله سبحانه وتعالى راضٍ عنك .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يهتم أصحاب الدنيا بعاجلها ، ويهتم أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون بآجلها ..

(( فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، وتركوا منها ما علموا أن سيتركهم، فما عرض لهم من نائلها عارضٌ إلا رفضوه ، ولا خادعهم من رفعتها خادعٌ إلا وضعوه ، وخَلِقَت الدنيا عندهم ـ أي بليت ـ فما يجددونها ، وخربت بينهم فما يعمرونها ، وماتت في صدورهم فما يحيونها، يبنون آخرتهم ويبغونها ، فيشترون بها ما يبقى لهم ، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلَّت بهم المَثُلات ، لا يرون أماناً دون ما يرجون ، ولا خوفاً دون ما يحذرون ))

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه علامة أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون .

 

العلامة الثانية : الحياء .

 يا أيها الإخوة المؤمنون ؛ علامةٌ ثانية ، هي موضوع الخطبة إنها ( الحياء ) فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول :

(( إن لكل دينٍ خلقاً ، وخُلُق الإسلام الحياء ))

[ الموطأ عن يزيد بن طلحة ]

 فهذا الذي لا يستحي ، ولا يخشى ، ولا يخاف ، ولا يخاف على سمعته ، هذا الوقح ، هذا المتمرِّد ، هذا العاتي ، هذا ليس من المسلمين في شيء ، خُلُقُ الإسلام الحياء .

(( إن لكل دينٍ خلقاً ، وخُلُق الإسلام الحياء ))

 شيءٌ آخر هو ؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يصفه أصحابه :

(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها ، وكان إذا كره شيئاً عرفناه من وجهه ))

 كان عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا في الحياء ، كان أسوةً لنا ، كان مُعَلِّماً لنا ، كان إماماً لنا ، كان يستحي ، بل كان أشد حياءً من العذراء في خدرها .
 شيءٌ ثالث يا إخوة الإيمان ، يقول عليه الصلاة والسلام :

(( الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً ، فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 إذا رفع الحياء رفع الإيمان ، إذا كان الإيمان فثمَّ الحياء ، الحياء والإيمان مقترنان ، يتواجدان معاً ويغيبان معاً ، فالحياء من علامة الإيمان ، هذا الذي لا يستحي ، هذا الذي لا يخشى أن يقول عنه الناس كذا وكذا ، هذا الذي لا يحفظ غيبته ، هذا الذي لا يعرف قدره ، ولا يقف عنده ، هذا ليس من أولي الإيمان ، لأن النبي العدنان يربط الحياء بالإيمان ، فحيثما رفع أحدهما رفع الآخر .
 فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا مؤشِّر ، إن كنت تستحي فاحمد الله عزَّ وجل على أن الإيمان في قلبك ، لأن علامة الإيمان الحياء ، وإن كان الرجل لا يستحي فهذه بادرةٌ خطيرة ، ومؤشرٌ خطير ، عليه أن يسعى ليكون مؤمناً صادقاً ، وعندها يكون الحياء دليلاً على إيمانه .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ النبي عليه الصلاة والسلام يبيِّن حقيقةً نفسية ؛ إذ أن الإنسان إذا تحلل من خُلُقٍ كريم جرَّه هذا التحلل إلى التحلل من خلقٍ كريمٍ آخر ، وهكذا يهوي في دركات الانحطاط حتى يصل إلى الهلاك ، هذه الحقيقة هو أن الإنسان لا يبقى على حالةٍ واحدة ؛ إما أن يرقى في درجات المقرَّبين ، وإما أن يهوي في دركات الهالكين ، أما أن يبقى طوال حياته في مرتبةٍ واحدة ، فليس هذا من طبيعة النفس في شيء ، هذه الحقيقة النفسية وصفها النبي عليه الصلاة والسلام فقال :

(( إن الله عزَّ وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 لا يستحي ، يأخذ ما ليس له ولا يستحي ، يعتدي على أعراض الناس ولا يستحي ، يخون أخاه ولا يستحي ، يتمرْكَز حول ذاته ولا يستحي ، يستعلي ولا يستحي ، يعتدي ولا يستحي .

(( إن الله عزَّ وجل إذا أراد أن يهلك عبداً نزع منه الحياء ، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً مُمْقِتا ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 يكره الناس ويكرهونه ، يبغضهم ويبغضونه ، يتجافى عنهم ويتجافون عنه ، إذا نزع الحياء ، لم تلقه إلا مقيتاً ممقتا ، أي بغيضاً مبغضاً .
 فإذا لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة ، علام يكون أميناً ؟ إنه لا يستحي ، ولا يخشى ، لا يخشى ربه ، ولا يخشى سمعته ، ولا يخشى الناس .

(( إذا نزع الحياء منه صار مقيتاً ممقتا ، فإذا صار مقيتاً ممقتا نزعت منه الأمانة ، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مَخونا ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 يخون الناس ويخوِّن الناس ، يتِّهم الناس بما في نفسه ، يسيء إلى الناس ويسوؤه الناس .

(( فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائناً مخونا ، فإذا لم تلقه إلا خائناً مخونا نزعت منه الرحمة ، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما مُلْعنا ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 القلب القاسي بعيدٌ من الله عزَّ وجل ..

﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الزمر الآية : 22 ]

(( فإذا لم تلقه إلا رجيماً ملعنا نزعت منه رِبْقة الإسلام ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 أي أنه خرج من الدين ، خرج من الإسلام ، استدرجه الشيطان ، بدأ بعدم الاستحياء وانتهى بالخروج من الدين ، من هنا قال عليه أتم الصلاة والتسليم :

(( الحياء والإيمان قُرِنا جميعاً ، فإذا رُفِعَ أحدهما رفع الآخر ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمر ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يا أحباب رسول الله ، أحياناً للحياء مواضع يستحبُّ فيها ، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهِّر فمه من الفحش ، وأن ينزِّه لسانه من العَيْب ، وأن يخجل من ذكر العورات ، فإنه من سوء الأدب أن تثلث الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئٍ بمواقعها وآثارها .
 قال عليه الصلاة والسلام هذا الذي يسمي العورات بأسمائها ، هذا الذي يمزح مزاحاً رخيصاً ، هذا الذي يمزح مزاحاً يحمِّر الوجوه ، هذا الذي يتكلم الكلام البذيء ، هذا الذي يلقي الطُرَفَ المحرجة هذا لا يستحي ، ومادام لا يستحي فليس من المؤمنين في شيء ، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة ، والبذاء من النفاق ، والنفاق في النار ))

 الكلام البذيء ، المزاح البذيء ، التعليق البذيء ، الطُرَف البذيئة على لسانه ، كلها تدور على ذكر العورات ، وعلى ذكر الموبقات ، وعلى ذكر الفواحش ، وعلى رواية القصص التافهة ، وعلى إثارة المشاعر الرخيصة ، هذا ليس مؤمناً ورب الكعبة .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ شيءٌ آخر في الحياء : المؤمن يخشى على سمعته من أن تُلَطَّخ ، يخشى على اسمه من أن يُدَنَّس ، يخشى على مكانته من أن تجرح ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :

(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدَّثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوَّته ، وحرمت غيبته ))

 وقال عليه الصلاة والسلام :

(( من عمل عملاً في السر يستحيي منه في العلانية ، فليس لنفسه عنده قدر ))

[ من شرح الجامع الصغير ]

 نفسه لا قيمة لها ، حينما يعمل عملاً بالسر يستحي منه في العلانية فهذا لا قدر لنفسه عنده ، إنه يحتقر نفسه ، إنه منهارٌ أمام نفسه ، من لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا ، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ جاء في الأثر أن :

(( ما أحببت أن تسمعه بأذنيك فأته ، وما كرهت أن تسمعه أذناك فاجتنبه ))

 هل تحب الصدق ؟ كن صادقاً ، هل تكره الخيانة ؟ إياك والخيانة ، الشيء الذي تحبه ، تحب أن تسمعه افعله ، والشيء الذي تكره أن تسمعه فلا تفعله .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ ما كان الفُحش في شيءٍ إلا شانه ، وما كان الحياء في شيءٍ إلا زانه ، ولو كان الحياء رجلاً لكان رجلاً صالحاً ، ولو كان الفحش رجلاً لكان رجلاً سيئاً .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ حديثٌ خطير ، حديثٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، يقول هذا النبي الكريم عليه أتم الصلاة والتسليم :

(( استحيوا من الله حق الحياء ))

[أخرجه الترمذي ]

 قلنا : يا رسول الله إنا نستحيي من الله ، والحمد لله .
 قال :

(( ليس ذلك الاستحياء من الله حق الحياء ))

[أخرجه الترمذي ]

 فقالوا : وما حق الحياء ؟!
 قال عليه الصلاة والسلام :

(( أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا ، وآثر الآخرة على الأولى ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ))

[أخرجه الترمذي ]

 هل تستحي من الله في عينيك ؟ هل تنظر بهما إلى عورات المسلمين ؟ هل تنظر إلى بيتٍ فتح بابه ؟ هل تنظر إلى نافذة جارك لعلك ترى منها شيئاً يعجبك ؟ هل تستحي بعينيك ؟ وهل تستحي بأذنيك ؟ وهل تستحي في مشيك ؟ وهل تستحي بيديك ؟ .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ أن تحفظ الرأس وما وعى ، والبطن وما حوى ، وأن تذكر الموت والبلى ، فإذا فعلت ذلك فقد استحيت من الله حق الحياء .
 يقول عليه الصلاة والسلام :

(( الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبةٌ من الإيمان ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 وقد جاء في الأثر أن :

(( استحيي من الله كما تستحيي من أولي الهيبة من قومك ))

 وجاء في الحديث القدسي ـ دققوا أيها الإخوةـ :

(( إن الله حييٌ كريم ـ إن الله جلَّ في علاه حيي كريم ـ يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه ثم يردهما صفراً خائبتين ، فاتقوا الله عباد الله فيما تدعون ))

[ سنن الترمذي عن سلمان الفارسي ]

 إن دعوته ولم يجبك فإنه يستحي منك ، فاتقِ الله فيما تدعو ، سل من خير الدنيا والآخرة ، اطلب من الله الهدى ، اطلب من الله السداد ، والرشاد .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ جاء في بعض الأقوال المأثورة أن : الحياء خيرٌ كله .
 وقال عليه الصلاة والسلام :

(( إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء ))

[ الأذكار النووية عن أبي مسعود البدري ]

* * * * *

سفانة بنت حاتم الطائي .

 سفَّانة بنت حاتم الطائي ، وقعت أسيرةً في يدي بعض سرايا رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فلما تفقَّد عليه الصلاة والسلام الأسرى وقفت وكانت أديبةً قالت :
 يا محمد ، يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي الأعداء ، ولا تشمت بي أحياء العرب فافعل ، فإن أبي كان سيد قومه ؛ يفك العاني ، ويعفو عن الجاني ، ويحفظ الجار ، ويحمي الذمار ، ويفرِّج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويفشي السلام ، ويحمل الكَل ، ويعين على نوائب الدهر ، وما أتاه أحدٌ من حاجةٍ فرده خائباً ، يا رسول الله أنا بنت حاتم طي .
 فقال عليه الصلاة والسلام :

(( يا جارية هذه صفات المؤمن حقاً ، لو كان أبوك إسلامياً لترحَّمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ))

[ من تخريج أحاديث الإحياء ]

 ثم قال عليه الصلاة والسلام :

(( ارحموا عزيز قومٍ ذل ، وغنيٍ افتقر ، وعالمٍ ضاع بين الجهال ))

 وامتن عليها ، وأطلق سراحها ، وأطلق مَن كان معها إكراماً لها ، فاستأذنته بالدعاء ، فأذن لها ، وقال لأصحابه :

(( اسمعوا وعوا ))

 قالت سَفَّانة :
 أصاب الله ببرك مواقعه .. ولا جعل لك إلى لئيمٍ حاجة .. ولا سَلَب نعمةً عن كريم قومٍ إلا جعلك سبباً في ردها عليهم .
 فلما أطلقها رجعت إلى أخيها عدي بن حاتم بدومة الجندل فقالت له :
 يا أخي ائتي هذا الرجل إنه يحب الفقير ، ويفك الأسير ، ويرحم الصغير ، ويعرف قدر الكبير ، وما رأيت أجود ولا أكرم منه ، فإن يكن نبياً فللسابق فضله ، وإن يكن مالكاً فلن تزال في عزِّ ملكه .
 وقد جاءه عدي بن حاتم وله قصةٌ طويلةٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .

* * * * *

 هكذا كانت أخلاق النبي . الإسلام مبادئ ، والإسلام قيماً أخلاقية قبل أن تكون عباداتٍ تؤدَّى

(( بني الإسلام على خمس ))

 هذه الخمس دعائم وليست هي الإسلام ، الإسلام أن تحب الفقير ، وأن تفك الأسير ، وأن ترحم الصغير ، وأن تعرف قدر الكبير ، وأن تكون جواداً وكريماً .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم ، واعلموا أن مَلَكَ الموت قد تخطّانا إلى غيرنا وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخُلُق العظيم ، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين .

حاسة الشم .

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ في خَلق الإنسان ، وخَلق الحيوان ، آياتٌ ، قد لا يصدِّقها العقل ، أودع ربنا سبحانه وتعالى في بعض الحيوانات ، ومنها الكلاب ، حاسةً تفوق قدرتها حاسة الإنسان بمليون ضعف ، أي أن هذا الحيوان ، الذي سخَّره الله لنا ، أودع فيه حاسةً الشم ، بدرجة تفوق حاسة الإنسان بمليون ضعف .
 فيا أيها الإخوة المؤمنون ؛ يمكن أن تضع ، بضع غرامات من مادةٍ مخدِّرة ، في علبةٍ محكمة الإغلاق ، وهذه المادة ، في ورقٍ كتيم، والعلبة محكمة ، والعلبة ضمن علبة ، والعلبتان ضمن صندوق ، وأن تأتي بمئة صندوقٍ متشابهة ، وأن ترسل كلباً ، أعطاه الله هذه القدرة ، فإذا هو يهتدي إلى هذه المادة ، من بين مئة صندوقٍ ، وتسأل : كيف تنفذ الرائحة، وكيف تصل إلى أنف هذا الحيوان ؟!! شيءٌ لا يصدَّق .
 أثبت العلم الحديث ، أن لكل إنسانٍ على وجه الأرض ، رائحةً خاصَّة ، ولا يتشابه اثنان في رائحة ، بل إن لكل من التوأمين ، الذين ولدا من بويضةٍ واحدة ، لكلٍ منهما رائحةً خاصة ، فيكفي أن تقرِّب إلى أنف هذا الحيوان ، شيئاً من رائحة عَرَق هذا الإنسان ، وأن يكون هذا الإنسان بين مئات الألوف من البشر ، حتى يهتدي هذا الحيوان إليه ، شيء لا يصدق .
 أيها الإخوة الأكارم ؛ تحتل خلايا الشم في الإنسان مساحة لا تزيد عن خمس سنتيمترات مربعة ، بينما تحتل خلايا الشم في هذا الحيوان ، مساحةٌ تزيد عن مئةٍ وخمسين سنتيمتر مربع ، هناك ما يزيد عن خمسة ملايين خلية لتحسس الروائح ، بينما في هذا الحيوان ما يزيد عن مئةٍ وخمسين مليون خلية ، تتحسس هذه الروائح .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ تفوق حاسة الشم لدى هذا الحيوان ، حاسَّة الإنسان بمليون مرة ، لذلك مهما احتال مهربو المخدرات ، ومهما خبَّؤوها في حرزٍ حريز ، تستطيع هذه الحيوانات التي سخرَّها الله لنا ، أن تكتشف هذه المادة ، التي تقضي على سعادة الأُسر ، ما هذا الحيوان ؟ مليون ضعف .
يرى الصقر بعينيه بدرجةٍ ، تفوق رؤية الإنسان بثمانية أضعاف ، ويستطيع الحيوان المدرَّب على تتبع الروائح ، أن يشمَّ رائحة إنسانٍ ، من بين مئة ألف إنسان ، بشرط أن يعطى بادئً ذي بدء ، شيئاً ذا دلالة طفيفةً من رائحته .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مَن يصدِّق أنَّ ذاكرة هذا الحيوان ، يمكن أن تستوعب ملايين الروائح ، ذاكرة تستوعب ملايين الروائح ، فإذا دُرِّب على كشف روائح معينة ، فأية رائحةٍ مدرجةٍ في ذاكرته يكتشفها .
 شيءٌ آخر : إنك إذا وضعت ملعقةً من الشاي ، ملعقة ملحٍ ، في خمسين لتراً من الماء في وعاء ، ووعاءٌ آخر ، فيه خمسون لتر من الماء العذب ، إن هذا الحيوان عن طريق الشم فقط ، يعرف الماء المالح من الماء العذب ، ملعقةٌ واحدة ، ملعقة شاي ، املأها ملحاً ، وضعها في خمسين لتر ، وضع هذا الماء في الوعاء ، وفي وعاءٍ آخر خمسون لتراً من الماء العذب ، يعرف هذا الحيوان عن طريق الشم الماء المالح من الماء العذب .
 شيءٌ آخر : لو وضعت ملعقة خلٍ في خمسة آلاف لترٍ ، أي خمسة طن ، وفي خمسة آلاف لتر ماء عذب ، يهتدي هذا الحيوان ، إلى الماء الذي فيه ملعقة الخل ، ما هذه الحاسة ؟ .
 تستخدم بعض الدول هذا الحيوان ، لكشف تسرُّب الغاز في الأنابيب التي دفنت تحت الأرض ، إنه يتَّبع هذا الأنبوب ، ففي أي مكانٍ َّالغاز منه إنه يعوي ، ويصيح ليشير إلى مكان تسرُّب الغاز .
 سخر الله سبحانه وتعالى لنا هذا ، فماذا فعلنا ؟ هل شكرناه على هذا الكون العظيم ؟ هل شكرناه على هذه المخلوقات التي سُخِّرت من أجلنا؟

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ﴾

[ سورة البقرة الآية : 29 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا .
 اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا مولانا رب العالمين .
 اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تؤاخذنا بفعل المُسيئين يا رب العالمين .
 اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
 اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور