وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0197 - الموت ، كيف النجاة ؟ - مركز توازن الحرارة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى :

 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكلي إلا على الله .
 وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
 وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر .
 اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
 اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .

الموت حقيقة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

(( أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب ... ))

[أخرجه البزار في مسنده]

 الموت حقيقة فكيف يغفل الناس ؟

(( وكأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق على غيرنا وجب ...))

 هذا الشرع الحنيف وجب علينا فكيف نتغافل عن تطبيقه ؟!!

(( وكأن الذي يشيع من الأموات سفرٌ عما قريبٌ إلينا راجعون ، نبوئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم كأنَّا بعدهم مخلَّدون ، قد نسينا كل واعظة ، وأمِنا كل جائحة ـ أي مصيبة ـ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، أيها الناس طوبى لمن أنفق الفضل مما اكتسب ، أيها الناس طوبى لمن جالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة ، أيها الناس طوبى لمن ذلت نفسه ، وحسنت خليقته ، وطابت سريرته ، وعزل عن الناس شره ، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه ، طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة ))

 أيها الإخوة الكرام ؛ نحن في طريقٍ نعرف نهايته ، نهايته أن نوسَّد تحت أطباق الثرى ، نهايته أن ننزل في حفرةٍ ظلماء موحشة لا ينفعنا فيها إلا العمل الصالح ، والعمل الصالح لا يكون إلا بالعلم .
 عن أنس بن مالك رضي الله عنها قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))

[ أخرجه ابن ماجه ]

 كيف النجاة ؟ كيف النجاة والنهاية مُحَتَّمة ؟ كيف النجاة والمصير معروف ؟ كيف النجاة ولابدَّ من الرحيل عن الدنيا ؟ كيف النجاة ولابدَّ من ساعةٍ ..

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء الآيات : 88 – 89 ]

 إنه معرفة الله عزَّ وجل ، إنها طلب العلم ، إنها معرفة الله عزَّ وجل .

 

طريق النجاة :

العلم :

 أيها الإخوة الأكارم ؛ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ))

 القرآن الكريم ، والنبي عليه الصلاة والتسليم أشار في آياتٍ عِدَّة ، وفي أحاديث شريفة إلى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها مَن ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم ، هذه الآيات الكريمة وتلك الأحاديث الشريفة يجب أن تكون ماثلةً في أذهان كل طالب علم .

(( إن هذا العلم دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم ))

على بصيرة :

 يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف الآية : 108 ]

 علامة المُتَّبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعو على بصيرة ..

(( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا ضال ))

 ( على بصيرة ) من معانيها أنه يعطيك الحكم ويعطيك معه الدليل ، دليلٌ من نقلٍ أو عقل أو واقع ، لابدَّ من التبيين ، لابد من التوضيح ، لابد من البُرهان ، لابد من استخدام المَنْقول ليكون حجةً للإنسان .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ علامة المُتَّبِعِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوك على بصيرة ، بوضوحٍ ما بعده وضوح ، ببرهانٍ ما بعده برهان ، بحجةٍ ما بعدها حجة ..

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾

[ سورة الأنعام الآية : 83 ]

 أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه الآية مقياسٌ دقيق لمَن يَصِحُّ أن يدعو إلى الله ، مقياسٌ دقيق في علاقة طالب العلم بالمعلِّم ..

﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾

[ سورة يوسف الآية : 108 ]

 أدعوك بالدليل العقلي ، وبالدليل النقلي ، وبالدليل الواقعي ، أجعلك تدعو لأن معك سلاحٌ ماضٍ ألا وهو الحق .

شهادة أهل العلم :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ آخر ورد في القرآن الكريم لألئك الذين يتصدَّون لتعليم الناس العلم ، هذا المقياس الثاني هو قوله تعالى :

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 18 ]

 لابدَّ من أن يشهد لك أولو العلم أن الله سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط ، لابد من أن يُشْهِدوك أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى ، لابد من أن يبيِّنوا لك كمال الله عزَّ وجل ، وكمال أنبيائه ، وعصمتهم في التبليغ ، وفي القول ، وفي العمل ، لابد من أن يبينوا أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى ، لابد من أن ينزِّهوا الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به ..

﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 18 ]

 هؤلاء الذين يُلْحِدون في أسماء الله ، هؤلاء الذين يبيِّنون نقصاً في الحكمة ، أو نقصاً في العِلم ، أو نقصاً في الرحمة ، أو نقصاً في العدالة هؤلاء ليسوا علماء ، ولا يستطيعون أن يتصدّوا لتعليم الناس .

القدوة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ ثالث جاء به القرآن الكريم ليكون بين أيدينا دليلاً على أهل الحق :

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾

[ سورة البقرة الآية : 124 ]

 لا تستطيع أن توجِّه الناس إلى الحق ما لم تكن مُطَبِّقاً له ، لغة العمل أبلغ من لغة القول ، لا تستطيع أن تكون داعياً إلى الله إلا إذا كنت قدوةً في أقوالك ، وأفعالك ، ومعتقداتك ، وسلوكك .
 يا أيها الإخوة الأكارم ..

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾

 ببعض الأوامر ـ كما جاء في بعض التفاسير ـ

﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾

 أَدَّاها أداءً كاملاً ، طبَّقها تطبيقاً تاماً ، عندئذٍ استحق هذا النبي الكريم أن يكون إماماً للناس ..

﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾

[ سورة البقرة الآية : 124 ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ سُئل الإمام الشافعي رضي الله عنه أنسأل الله التمكين أم الابتلاء ؟ فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :

(( لا تمكَّنُ قبل أن تبتلى ))

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت الآية : 2 ]

 لابدَّ من الابتلاء ، لابد من الامتحان ، لابد من أن توضع في مكانٍ، وفي موقفٍ ، وفي وقتٍ يظهر فيه الرجل على حقيقته ، إذا كان هذا من شأن عامَّة المسلمين فكيف شأن من يدعونَ إلى الله عزَّ وجل ؟! .

الصبر :

 أيها الإخوة الأكارم ؛ ولابد من الصبر على أمر الله ، لابد من التحمُّل ، لابد من تجشُّم المشقة ، لابد من توطين النفس على ما تكره ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الإنسان داعياً إليه قبل أن يمتحن صبره ، في الآية الأولى يمتحن طاعته ، وفي هذه الآية يمتحن صبره ، يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾

[ سورة السجدة الآية : 24 ]

 لما صبروا على أمره ، لما صبروا عن شهوات الدنيا ، لما صبروا على المكاره ، لما صبروا على طاعته ، لابد من الصبر .
 قال عليه الصلاة والسلام :

(( الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ))

[ الجامع الصغير عن أنس ]

 و ..

(( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان ))

[ كنز العمال عن أنس ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لابد من التبيين ، لابد من التوضيح ، لابد من ظهار كمال الله عزَّ وجل ، لابد من تعريف الناس بأسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، لابد من طاعة الله طاعةً تامة ، لأنك قدوةٌ إلى الناس ، لابد من أن تصبر على أمر الله ، وعلى حُكْم الله ، وعلى طاعة الله ، وعن شهوات الدنيا ، وعلى مصائب الدنيا .

 

الخشية :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ آخر يجب أن يكون ماثلاً في أذهاننا ، ألا وهو قوله تعالى :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية : 39 ]

 يخشونه ؛ المؤمن الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، لا يخشى الناس بل يخشى الله ، إنه إن خشي الناس ولم يخش الله ، إنه إن أراد بكلامه أن يرضي الناس على حساب إرضاء الله عزَّ وجل ، إنه إذا أراد إرضاء الناس بسخط الله ، فماذا بقي من تبليغ رسالات الله ؟! لابدَّ من أن ينطق عندئذٍ بالباطل ، لابد من أن يكتُم الحق ، لابد من أن يسكت عن الحق ، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس . كيف يرجى من إنسانٍ أن يدعو إلى الله وهو يخشى غير الله ؟

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾

[ سورة الأحزاب الآية : 39 ]

 هذه صفةٌ جامعةٌ مانعةٌ كافية لأنها وحدها تبثُّ الثقة في الناس ، لأن هذا الإنسان لا تأخذه في الله لومة لائم .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا ينبغي أن يتخذ العلم وسيلةً إلى الدنيا ، لا ينبغي أن يتخذ الدين مطيةً إلى الدنيا ، قال تعالى :

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[ سورة يس الآيات : 20-21 ]

﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾

[ سورة يونس الآية : 72 ]

 هكذا صفات الذين ينوبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العِلم ، لابد من الترَفُّع عن حطام الدنيا ، لابد من الترفع عن أموال الناس ، لابد من الزهد في الدنيا .
 جاء في الأثر أن :

(( الورع حَسَن لكن في العلماء أحسن ، وأن العدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، وأن الصبر حسن لكن الفقراء أحسن ، وأن السخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، وأن الحياء حسن لكن في النساء أحسن ، وأن الصبر حسن لكن في الشباب أحسن ))

[ الجامع الصغير عن علي ]

البيان :

 أيها الإخوة المؤمنون :

﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾

[ سورة آل عمران الآية : 187 ]

 مهمة العلماء أن يبينوا للناس ، أن يوضحوا لهم ، أن يبصِّروهم بأمر دينهم ودنياهم ، فإذا سكتوا فقد تخلوا عن أمانتهم ، وتخلوا عن مهمتهم، وتخلوا عن رسالتهم ، لابد من التوضيح ، لابد من التبيين ، لابد من أن تضع الإنسان على بيِّنةٍ من أمره ، هذه أمانة ، وتلك رسالة ، وهذه مهمة العالم في الدنيا .
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه بعض الآيات الكريمة التي تضع بين أيدينا مقاييس دقيقة لأولئك الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل ، انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

السنة النبوية :

 أما الأحاديث الشريفة المتعلِّقة بهذا الموضوع ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :

(( وقِّروا من تعلمونه العلم ))

 لماذا ؟ لأن هذا الذي يتعلَّم إذا وقَّرته ، إذا عرفت قدره ، إذا أحبك ، تعلم منك أضعاف أَضعاف ما يتعلَّمه لو كان بينك وبينه نفور .

(( تواضعوا لمن تعلمون ، وتواضعوا لمن تتعلَّمون منه ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 الذي يهمني في هذه الخطبة الشق الأول :

(( وقِّروا من تعلمونه العلم ))

 وشيءٌ آخر : يروي الإمام الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( قليلٌ من العلم خيرٌ من كثيرٍ من العبادة ))

 لأن العلم سلاحٌ خطير يوضع في يديك ، تستطيع به أن تجابه الخصوم . العلم سلاحي ـ كما قال عليه الصلاة والسلام :

(( ولعالمٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد))

 فــ

(( قليلٌ العلم خيرٌ من كثيرٍ العبادة ))

 كثير العبادة ربما افتُتن ، ربما جاءته الدنيا فانقلب على عقبيه ، ربما جاءه ضغطٌ فتخلى عن رسالته ، ربما أغرته المغريات فاتبع الشهوات . ولكن العالِم منيع الجانب ، محصنٌ بالعلم لا يستطيع أحدٌ أن ينال منه .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :

(( كفى بالمرء فقهاً إذا عبد الله ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمرو ]

 لو تعلمت علم الثقلين ، وحصَّلت العلم من كل أطرافه ، وما كنت له مطبقاً ، إن هذا هو الجهل بعينه ، إن هذا جهلٌ مركَّب ، جهلٌ رُكِّب على علم .

(( تعلموا ما شئتم فوالله لا تؤجروا بجمع العلم حتى تعملوا بما علمتم ))

[ الجامع الصغير عن أنس ]

(( كل علمٍ وبالٌ على صاحبه يوم القيامة إلا من عمل به ))

[ كنز العمال عن واثلة ]

وعالمٌ بعلـمـه لم يعمـلن  معذبٌ من قبل عباد الوثن
* * *

 روى الإمام الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

(( قليلٌ من العلم خيرٌ من كثيرٍ من العبادة ))

و ...

(( كفى بالمرء فقهاً إذا عبد الله ، وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه ))

[ الجامع الصغير عن ابن عمرو ]

 والإمام الدَيْلَمِيّ يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن :

(( العالم بغير عمل كالمصباح يحرق نفسه ويضيء للناس ))

[ كنز العمال عن جندب ]

 هذا هو الذي يعلَم ولا يعمل .
 ويقول عليه الصلاة والسلام :

((" إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالِم أن يظهر علمه))

الخلاصة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه الآيات الكريمة ، وتلك الأحاديث الشريفة إنما هي مقاييس لطيفة ، وضعت بين أيدي المؤمنين ليهتدوا بها في أمر دينهم ، لأنه عودٌ على بدء :

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))

[ الجامع الصغير عن أبي هريرة ]

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ روى ابن كثيرٍ أنه خرج ابن المبارك إلى الحج ، وقد لمح من البعد طائراً ميتاً ملقىً على مزبلة ، وسار أصحابه أمامه ، وتخلف هو وراءهم ، فلما مرَّ بالمزبلة إذ بجاريةٍ صغيرةٍ قد خرجت من دارٍ قريبة وأخذت ذلك الطائر الميت ، ثم أسرعت به إلى الدار.
 فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها ، وأخذ الطائر الميت فاستحيت أولاً ، ثم قالت : أنا وأمي هنا ، وليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار ، وليس لنا قوتٌ إلا ما يلقى على هذه المزبلة ، وكان لنا والدٌ ذو مالٍ عظيم فأخذ ماله، وقُتل لسببٍ من الأسباب ، ولم يبق عندنا شيءٌ نتبلَّغ به أو نقتات .
 سمع بهذا ابن المبارك فدمعت عيناه ، وأمر بردِّ الأحمال والمؤونة للحج ، وقال لوكيله :
 كم معك من النفقة ؟
 قال : ألف دينار .
 قال له : ابقِ لنا عشرين ديناراً تكفينا لإيابنا ، وأعط الباقي إلى هذه المرأة المصابة ، فو الله لقد أفجعتني بمصيبتها ، وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام . ثم قفل راجعاً ولم يحج ، واعتقد أن الصدقة فوق الحج المبرور والسعي المشكور .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ في أيام الضائقة ، في أيام الأزمة لابد من أن نعين بعضنا بعضا ، لابد من أن يرحم بعضنا بعضا ، لابد من أن نمد يد المساعدة ، لابد من أن نتفقَّد أقاربنا ، ومَن حولنا ، ومَن في أطراف بلدنا ، لابد من أن نعرف المحتاج دون أن نلجئه إلى أن يسألنا ، هذه مهمة المسلم ، وذلك العالم الجليل ، والعارف بالله أعطاكم قدوةً في العمل ..طبعاً هذه النفقة ، وتلك الصدقة أفضل من الحج النافلة وليس حجة الفرض .
 وقد سأل رجلٌ ذا النون المصري فقال له :
 عندي مئتا درهم أأحج بها أم أتصدق ؟
 فقال زنون : أحججت الفرض ؟ .
 قال : نعم .
 قال : إن قسَّمتها على عشرةٍ من العائلات الفقيرة ، وأعطيت كلاً منها عشرة دراهم ، كان ذلك خيراً عند الله من حجك النفل ، فإن شئت فاسمع مني ما أقول .
 ففعل الرجل وتصدق بهذا المال .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن نكون قدوةً للناس بأعمالنا قبل أن نكون لهم قدوةً بأقوالنا ، ولغة العمل أبلغ من لغة القول ..
 اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ..
 أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .

والحمد لله رب العالمين
***

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين ، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .

مركز توازن الحرارة :

 أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات الآية : 21 ]

 إن بين جنبيك جسماً يصفه العلماء فيقولون : إنه أعقد آلةٍ على وجه الأرض ، إن فيه من الآيات العظيمة ، والدلائل الحكيمة ما يعجز عن فهمها العقل البشري ـ شيءٌ طفيف ـ آيةٌ صغيرٌ طفيفة من هذه الآيات ، واجهنا قبل أيام موجةً من البرد ، كيف يواجه هذا الجسد ذو الحرارة الثابتة البرد المحيط به ؟
العلماء يقولون : إن في الإنسان مركزاً مجهولاً هو مركز توازن الحرارة ، هذا المركز يتولَّى التوفيق بين حرارة الجسم وحرارة المحيط ، إنه يعمل بكفاءةٍ عاليةٍ جداً ، إنه يعمل من دون أن تكون أنت مكلَّفاً بتسخيره، من دون أن تُشْغَل به ، إنه يعمل عملاً ذاتياً ـ على حد قول العلماء ـ ولكنه يعمل بحكمة الله ، وبعلم الله ، وبتسيير الله .
 هذا المركز في الجسد ـ مركز توازن الحرارة ـ حينما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي عن الحد المقبول ، وعن الحد الذي يتقبَّله الجسم ، الجسم له حرارةٌ ثابتة ( سبعةٌ وثلاثون ) إذا انخفض المحيط الخارجي عن هذا الحد إلى العشرين ، أو إلى العشرة ، أو إلى الصفر كيف يعمل هذا المركز ؟ .
 هذا المركز يعطي أمراً هرمونياً إلى جميع الأوعية السطحية في الإنسان كي تضيق لمعتها ، أي يضيق قطرها ، فإذا ضاقت لمعة الأوردة ، أو الأوعية السطحية ، قلَّ جريان الدم فيها ، وحينما يقل جريان الدم فيها تقل الحرارة التي تشع من هذه الأوعية ، عندئذٍ يحتفظ الجسم بحرارته الداخلية .
 لذلك إذا رأيت الإنسان وقد أصابته موجة البرد يصفرُّ لونه ، اصفرار لونه دليل أن مركز توازن الحرارة قد فعل فعله ، أعطى أمراً لجميع الأوعية السطحية بتضييق لمعتها ، وتقليل مرور الدم فيها من أجل ألا تضيع الحرارة عبر السطوح الخارجيَّة للجسم .
 شيءٌ آخر : أمرٌ آخر يصدر عن هذا المركز إلى الغدة النخامية ، والغدة النخامية ملكة الغدد في الجسم ، هذه الغدَّة تعطي أمراً آخر إلى الغدة الدرقية ؛ مركز الاستقلاب العام في الجسم ، والاستقلاب تعبيرٌ عن تحوّل الغذاء إلى طاقةٍ وحرارة ، فهذا المركز الهرموني ، الغدة الدرقية ، إذا تلقت أمراً من الغدة النخامية تصدر بدورها أمراً آخر إلى خلايا الجسم كلها كي تزيد من طاقة احتراق الأغذية ، كي تزيد الحرارة الناتجة عن هذا الاحتراق ..
 إذاً لو نظرت إلى إنسانٍ أصابته موجة بردٍ ، لرأيت هذه الغدة الدرقية التي جعلها الله تحت الحنجرة ، لرأيتها تعمل بنشاطٍ بالغٍ في أيام البرد ، من أجل أن تحث الخلايا على تحويل الغذاء إلى طاقة ، وإلى حرارة . ونحن غافلون ، ونحن لا ندري ماذا يفعل بنا .
 مركزٌ اسمه ( مركز التوازن الحراري ) يعمل بكفاءةٍ عاليةٍ جداً تحيِّر العقول .
 شيءٌ آخر : هذه الحركة الارتجافية التي تصيب مَن أصابه البرد إنها من أجل توليد الحرارة من الحركة . هذا الرَجفان من أجل أن تولَّد الحرارة من هذه الحركة الارتجافية .
 شيءٌ آخر : يعطى أمرٌ آخر إلى كل أشعار الجسم لكي تقف ، فإذا وقفت أشعار الجسم المفروض أن تحجز هواءً ساخناً أكثر من ذي قبل ، أربعة ردود فعلٍ يأخذها الجسم حينما يشعر أن المحيط الخارجي أبرد مما يجب .
 لكن إذا ارتفعت الحرارة عن الستين فإن الإنسان يموت في ساعةٍ واحدة ، وإذا ارتفعت إلى مئةٍ وسبعة وعشرين ، فإنه يموت في ثماني دقائق ، وإذا ارتفعت إلى خمسٍ وأربعين مع الرطوبة ، فإنه يموت في بضع دقائق ، إذاً ارتفاع الحرارة شيءٌ خطير .
 لهذا كان في جسم كلٍ منا أيها الإخوة أربع ملايين مكييف ، إنها الغدد العرقية ، التي تستطيع أن تفرز في اليوم الواحد عشر ليترات من العرق ، تماماً كما لو حَمَّيت قطعةً من الحديد ثم صببت عليها الماء البارد، إن هذا الماء البارد يأخذ حرارتها وينصرف .
 لذلك هذه الأجهزة ، أجهزة التكييف ، أربعة ملايين جهاز أودعها الله تحت الجلد ، طول أنابيبها يزيد عن أربعة كيلومترات في الإنسان ، من أجل أن يواجه الجسد ارتفاع الحرارة . عندما ترتفع الحرارة يتعرَّق الإنسان ، ولو جُمِعَ هذا العرق في أربعٍ وعشرين ساعة لزاد عن عشرة ليترات . هذا الماء الذي يخرج من الغدد العرقية من أجل أن يمتصَّ الحرارة الباطنية ، وتخرج معه إلى خارج الجسم .
 أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا مركزٌ في الجسد قلَّ من ينتبه إليه ـ مركز التوازن الحراري ـ من أودعه فينا ؟ لولا هذا المركز لمات الناس بمئات الملايين في أول موجة حرٍ ، أو أول موجة برد ، لكن هذا الجسد الذي خلقه الله فأبدع خَلْقَه ، وصوَّره فأحسن تصويره ، وأودع فيه من الأجهزة ما هو مثالٌ رائعٌ في الحكمة والعلم والخبرة .
 أيها الإخوة المؤمنون ... يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾

[ سورة الذاريات الآية : 21 ]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخيا ، وسائر بلاد المسلمين .
 اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
 اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
 اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاقبنا بفعل المسيئين يا أرحم الراحمين .
 اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم خذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

تحميل النص

إخفاء الصور