- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى :
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ، ولا اعتصامي ، ولا توكلي إلا على الله .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيّته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر .
وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر .
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومَن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين .
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم ، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر ، والطف بنا فيما جرت به المقادير إنك على كل شيءٍ قدير .
الموت حقيقة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
(( أيها الناس كأن الموت فيها على غيرنا كتب ... ))
الموت حقيقة فكيف يغفل الناس ؟
(( وكأن الموت فيها على غيرنا كتب ، وكأن الحق على غيرنا وجب ...))
هذا الشرع الحنيف وجب علينا فكيف نتغافل عن تطبيقه ؟!!
(( وكأن الذي يشيع من الأموات سفرٌ عما قريبٌ إلينا راجعون ، نبوئهم أجداثهم ، ونأكل تراثهم كأنَّا بعدهم مخلَّدون ، قد نسينا كل واعظة ، وأمِنا كل جائحة ـ أي مصيبة ـ طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، أيها الناس طوبى لمن أنفق الفضل مما اكتسب ، أيها الناس طوبى لمن جالس أهل الفقه والحكمة وخالط أهل الذل والمسكنة ، أيها الناس طوبى لمن ذلت نفسه ، وحسنت خليقته ، وطابت سريرته ، وعزل عن الناس شره ، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من كلامه ، طوبى لمن وسعته السنة ولم تستهوه البدعة ))
أيها الإخوة الكرام ؛ نحن في طريقٍ نعرف نهايته ، نهايته أن نوسَّد تحت أطباق الثرى ، نهايته أن ننزل في حفرةٍ ظلماء موحشة لا ينفعنا فيها إلا العمل الصالح ، والعمل الصالح لا يكون إلا بالعلم .
عن أنس بن مالك رضي الله عنها قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
كيف النجاة ؟ كيف النجاة والنهاية مُحَتَّمة ؟ كيف النجاة والمصير معروف ؟ كيف النجاة ولابدَّ من الرحيل عن الدنيا ؟ كيف النجاة ولابدَّ من ساعةٍ ..
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾
إنه معرفة الله عزَّ وجل ، إنها طلب العلم ، إنها معرفة الله عزَّ وجل .
طريق النجاة :
العلم :
أيها الإخوة الأكارم ؛ روى الإمام أحمد في مسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم ))
القرآن الكريم ، والنبي عليه الصلاة والتسليم أشار في آياتٍ عِدَّة ، وفي أحاديث شريفة إلى الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها مَن ينوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العلم ، هذه الآيات الكريمة وتلك الأحاديث الشريفة يجب أن تكون ماثلةً في أذهان كل طالب علم .
(( إن هذا العلم دين فانظروا عَمَّن تأخذون دينكم ))
على بصيرة :
يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾
علامة المُتَّبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعو على بصيرة ..
(( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا ضال ))
( على بصيرة ) من معانيها أنه يعطيك الحكم ويعطيك معه الدليل ، دليلٌ من نقلٍ أو عقل أو واقع ، لابدَّ من التبيين ، لابد من التوضيح ، لابد من البُرهان ، لابد من استخدام المَنْقول ليكون حجةً للإنسان .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ علامة المُتَّبِعِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدعوك على بصيرة ، بوضوحٍ ما بعده وضوح ، ببرهانٍ ما بعده برهان ، بحجةٍ ما بعدها حجة ..
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه الآية مقياسٌ دقيق لمَن يَصِحُّ أن يدعو إلى الله ، مقياسٌ دقيق في علاقة طالب العلم بالمعلِّم ..
﴿ أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾
أدعوك بالدليل العقلي ، وبالدليل النقلي ، وبالدليل الواقعي ، أجعلك تدعو لأن معك سلاحٌ ماضٍ ألا وهو الحق .
شهادة أهل العلم :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ آخر ورد في القرآن الكريم لألئك الذين يتصدَّون لتعليم الناس العلم ، هذا المقياس الثاني هو قوله تعالى :
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ﴾
لابدَّ من أن يشهد لك أولو العلم أن الله سبحانه وتعالى قائمٌ بالقسط ، لابد من أن يُشْهِدوك أسماءه الحسنى وصفاته الفضلى ، لابد من أن يبيِّنوا لك كمال الله عزَّ وجل ، وكمال أنبيائه ، وعصمتهم في التبليغ ، وفي القول ، وفي العمل ، لابد من أن يبينوا أن الله سبحانه وتعالى له الأسماء الحسنى ، لابد من أن ينزِّهوا الله سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق به ..
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ ﴾
هؤلاء الذين يُلْحِدون في أسماء الله ، هؤلاء الذين يبيِّنون نقصاً في الحكمة ، أو نقصاً في العِلم ، أو نقصاً في الرحمة ، أو نقصاً في العدالة هؤلاء ليسوا علماء ، ولا يستطيعون أن يتصدّوا لتعليم الناس .
القدوة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ ثالث جاء به القرآن الكريم ليكون بين أيدينا دليلاً على أهل الحق :
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾
لا تستطيع أن توجِّه الناس إلى الحق ما لم تكن مُطَبِّقاً له ، لغة العمل أبلغ من لغة القول ، لا تستطيع أن تكون داعياً إلى الله إلا إذا كنت قدوةً في أقوالك ، وأفعالك ، ومعتقداتك ، وسلوكك .
يا أيها الإخوة الأكارم ..
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾
ببعض الأوامر ـ كما جاء في بعض التفاسير ـ
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾
أَدَّاها أداءً كاملاً ، طبَّقها تطبيقاً تاماً ، عندئذٍ استحق هذا النبي الكريم أن يكون إماماً للناس ..
﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ﴾
أيها الإخوة المؤمنون ؛ سُئل الإمام الشافعي رضي الله عنه أنسأل الله التمكين أم الابتلاء ؟ فقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى :
(( لا تمكَّنُ قبل أن تبتلى ))
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
لابدَّ من الابتلاء ، لابد من الامتحان ، لابد من أن توضع في مكانٍ، وفي موقفٍ ، وفي وقتٍ يظهر فيه الرجل على حقيقته ، إذا كان هذا من شأن عامَّة المسلمين فكيف شأن من يدعونَ إلى الله عزَّ وجل ؟! .
الصبر :
أيها الإخوة الأكارم ؛ ولابد من الصبر على أمر الله ، لابد من التحمُّل ، لابد من تجشُّم المشقة ، لابد من توطين النفس على ما تكره ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الإنسان داعياً إليه قبل أن يمتحن صبره ، في الآية الأولى يمتحن طاعته ، وفي هذه الآية يمتحن صبره ، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾
لما صبروا على أمره ، لما صبروا عن شهوات الدنيا ، لما صبروا على المكاره ، لما صبروا على طاعته ، لابد من الصبر .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( الإيمان نصفان نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ ))
و ..
(( الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ لابد من التبيين ، لابد من التوضيح ، لابد من ظهار كمال الله عزَّ وجل ، لابد من تعريف الناس بأسمائه الحسنى ، وصفاته الفضلى ، لابد من طاعة الله طاعةً تامة ، لأنك قدوةٌ إلى الناس ، لابد من أن تصبر على أمر الله ، وعلى حُكْم الله ، وعلى طاعة الله ، وعن شهوات الدنيا ، وعلى مصائب الدنيا .
الخشية :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مقياسٌ آخر يجب أن يكون ماثلاً في أذهاننا ، ألا وهو قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
يخشونه ؛ المؤمن الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، لا يخشى الناس بل يخشى الله ، إنه إن خشي الناس ولم يخش الله ، إنه إن أراد بكلامه أن يرضي الناس على حساب إرضاء الله عزَّ وجل ، إنه إذا أراد إرضاء الناس بسخط الله ، فماذا بقي من تبليغ رسالات الله ؟! لابدَّ من أن ينطق عندئذٍ بالباطل ، لابد من أن يكتُم الحق ، لابد من أن يسكت عن الحق ، والساكت عن الحق شيطانٌ أخرس . كيف يرجى من إنسانٍ أن يدعو إلى الله وهو يخشى غير الله ؟
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
هذه صفةٌ جامعةٌ مانعةٌ كافية لأنها وحدها تبثُّ الثقة في الناس ، لأن هذا الإنسان لا تأخذه في الله لومة لائم .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ لا ينبغي أن يتخذ العلم وسيلةً إلى الدنيا ، لا ينبغي أن يتخذ الدين مطيةً إلى الدنيا ، قال تعالى :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ﴾
هكذا صفات الذين ينوبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبلاغ العِلم ، لابد من الترَفُّع عن حطام الدنيا ، لابد من الترفع عن أموال الناس ، لابد من الزهد في الدنيا .
جاء في الأثر أن :
(( الورع حَسَن لكن في العلماء أحسن ، وأن العدل حسن لكن في الأمراء أحسن ، وأن الصبر حسن لكن الفقراء أحسن ، وأن السخاء حسن لكن في الأغنياء أحسن ، وأن الحياء حسن لكن في النساء أحسن ، وأن الصبر حسن لكن في الشباب أحسن ))
البيان :
أيها الإخوة المؤمنون :
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾
مهمة العلماء أن يبينوا للناس ، أن يوضحوا لهم ، أن يبصِّروهم بأمر دينهم ودنياهم ، فإذا سكتوا فقد تخلوا عن أمانتهم ، وتخلوا عن مهمتهم، وتخلوا عن رسالتهم ، لابد من التوضيح ، لابد من التبيين ، لابد من أن تضع الإنسان على بيِّنةٍ من أمره ، هذه أمانة ، وتلك رسالة ، وهذه مهمة العالم في الدنيا .
أيها الإخوة الأكارم ؛ هذه بعض الآيات الكريمة التي تضع بين أيدينا مقاييس دقيقة لأولئك الذين يدعون إلى الله عزَّ وجل ، انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام :
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))
السنة النبوية :
أما الأحاديث الشريفة المتعلِّقة بهذا الموضوع ، فقد قال عليه الصلاة والسلام :
(( وقِّروا من تعلمونه العلم ))
لماذا ؟ لأن هذا الذي يتعلَّم إذا وقَّرته ، إذا عرفت قدره ، إذا أحبك ، تعلم منك أضعاف أَضعاف ما يتعلَّمه لو كان بينك وبينه نفور .
(( تواضعوا لمن تعلمون ، وتواضعوا لمن تتعلَّمون منه ))
الذي يهمني في هذه الخطبة الشق الأول :
(( وقِّروا من تعلمونه العلم ))
وشيءٌ آخر : يروي الإمام الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( قليلٌ من العلم خيرٌ من كثيرٍ من العبادة ))
لأن العلم سلاحٌ خطير يوضع في يديك ، تستطيع به أن تجابه الخصوم . العلم سلاحي ـ كما قال عليه الصلاة والسلام :
(( ولعالمٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد))
فــ
(( قليلٌ العلم خيرٌ من كثيرٍ العبادة ))
كثير العبادة ربما افتُتن ، ربما جاءته الدنيا فانقلب على عقبيه ، ربما جاءه ضغطٌ فتخلى عن رسالته ، ربما أغرته المغريات فاتبع الشهوات . ولكن العالِم منيع الجانب ، محصنٌ بالعلم لا يستطيع أحدٌ أن ينال منه .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يقول عليه الصلاة والسلام :
(( كفى بالمرء فقهاً إذا عبد الله ))
لو تعلمت علم الثقلين ، وحصَّلت العلم من كل أطرافه ، وما كنت له مطبقاً ، إن هذا هو الجهل بعينه ، إن هذا جهلٌ مركَّب ، جهلٌ رُكِّب على علم .
(( تعلموا ما شئتم فوالله لا تؤجروا بجمع العلم حتى تعملوا بما علمتم ))
(( كل علمٍ وبالٌ على صاحبه يوم القيامة إلا من عمل به ))
وعالمٌ بعلـمـه لم يعمـلن معذبٌ من قبل عباد الوثن
* * *
روى الإمام الطبراني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( قليلٌ من العلم خيرٌ من كثيرٍ من العبادة ))
و ...
(( كفى بالمرء فقهاً إذا عبد الله ، وكفى بالمرء جهلاً إذا أعجب برأيه ))
والإمام الدَيْلَمِيّ يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن :
(( العالم بغير عمل كالمصباح يحرق نفسه ويضيء للناس ))
هذا هو الذي يعلَم ولا يعمل .
ويقول عليه الصلاة والسلام :
((" إذا ظهرت البدع في أمتي فعلى العالِم أن يظهر علمه))
الخلاصة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذه الآيات الكريمة ، وتلك الأحاديث الشريفة إنما هي مقاييس لطيفة ، وضعت بين أيدي المؤمنين ليهتدوا بها في أمر دينهم ، لأنه عودٌ على بدء :
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))
أيها الإخوة المؤمنون ؛ روى ابن كثيرٍ أنه خرج ابن المبارك إلى الحج ، وقد لمح من البعد طائراً ميتاً ملقىً على مزبلة ، وسار أصحابه أمامه ، وتخلف هو وراءهم ، فلما مرَّ بالمزبلة إذ بجاريةٍ صغيرةٍ قد خرجت من دارٍ قريبة وأخذت ذلك الطائر الميت ، ثم أسرعت به إلى الدار.
فجاء ابن المبارك وسألها عن أمرها ، وأخذ الطائر الميت فاستحيت أولاً ، ثم قالت : أنا وأمي هنا ، وليس لنا شيءٌ إلا هذا الإزار ، وليس لنا قوتٌ إلا ما يلقى على هذه المزبلة ، وكان لنا والدٌ ذو مالٍ عظيم فأخذ ماله، وقُتل لسببٍ من الأسباب ، ولم يبق عندنا شيءٌ نتبلَّغ به أو نقتات .
سمع بهذا ابن المبارك فدمعت عيناه ، وأمر بردِّ الأحمال والمؤونة للحج ، وقال لوكيله :
كم معك من النفقة ؟
قال : ألف دينار .
قال له : ابقِ لنا عشرين ديناراً تكفينا لإيابنا ، وأعط الباقي إلى هذه المرأة المصابة ، فو الله لقد أفجعتني بمصيبتها ، وإن هذا أفضل عند الله من حجنا هذا العام . ثم قفل راجعاً ولم يحج ، واعتقد أن الصدقة فوق الحج المبرور والسعي المشكور .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ في أيام الضائقة ، في أيام الأزمة لابد من أن نعين بعضنا بعضا ، لابد من أن يرحم بعضنا بعضا ، لابد من أن نمد يد المساعدة ، لابد من أن نتفقَّد أقاربنا ، ومَن حولنا ، ومَن في أطراف بلدنا ، لابد من أن نعرف المحتاج دون أن نلجئه إلى أن يسألنا ، هذه مهمة المسلم ، وذلك العالم الجليل ، والعارف بالله أعطاكم قدوةً في العمل ..طبعاً هذه النفقة ، وتلك الصدقة أفضل من الحج النافلة وليس حجة الفرض .
وقد سأل رجلٌ ذا النون المصري فقال له :
عندي مئتا درهم أأحج بها أم أتصدق ؟
فقال زنون : أحججت الفرض ؟ .
قال : نعم .
قال : إن قسَّمتها على عشرةٍ من العائلات الفقيرة ، وأعطيت كلاً منها عشرة دراهم ، كان ذلك خيراً عند الله من حجك النفل ، فإن شئت فاسمع مني ما أقول .
ففعل الرجل وتصدق بهذا المال .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ يجب أن نكون قدوةً للناس بأعمالنا قبل أن نكون لهم قدوةً بأقوالنا ، ولغة العمل أبلغ من لغة القول ..
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ..
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وصلوا ما بينكم وبين ربكم تسعدوا ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني .
والحمد لله رب العالمين
***
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين ، اللهم صلٍ وسلم وبارك على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
مركز توازن الحرارة :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
إن بين جنبيك جسماً يصفه العلماء فيقولون : إنه أعقد آلةٍ على وجه الأرض ، إن فيه من الآيات العظيمة ، والدلائل الحكيمة ما يعجز عن فهمها العقل البشري ـ شيءٌ طفيف ـ آيةٌ صغيرٌ طفيفة من هذه الآيات ، واجهنا قبل أيام موجةً من البرد ، كيف يواجه هذا الجسد ذو الحرارة الثابتة البرد المحيط به ؟
العلماء يقولون : إن في الإنسان مركزاً مجهولاً هو مركز توازن الحرارة ، هذا المركز يتولَّى التوفيق بين حرارة الجسم وحرارة المحيط ، إنه يعمل بكفاءةٍ عاليةٍ جداً ، إنه يعمل من دون أن تكون أنت مكلَّفاً بتسخيره، من دون أن تُشْغَل به ، إنه يعمل عملاً ذاتياً ـ على حد قول العلماء ـ ولكنه يعمل بحكمة الله ، وبعلم الله ، وبتسيير الله .
هذا المركز في الجسد ـ مركز توازن الحرارة ـ حينما تنخفض الحرارة في المحيط الخارجي عن الحد المقبول ، وعن الحد الذي يتقبَّله الجسم ، الجسم له حرارةٌ ثابتة ( سبعةٌ وثلاثون ) إذا انخفض المحيط الخارجي عن هذا الحد إلى العشرين ، أو إلى العشرة ، أو إلى الصفر كيف يعمل هذا المركز ؟ .
هذا المركز يعطي أمراً هرمونياً إلى جميع الأوعية السطحية في الإنسان كي تضيق لمعتها ، أي يضيق قطرها ، فإذا ضاقت لمعة الأوردة ، أو الأوعية السطحية ، قلَّ جريان الدم فيها ، وحينما يقل جريان الدم فيها تقل الحرارة التي تشع من هذه الأوعية ، عندئذٍ يحتفظ الجسم بحرارته الداخلية .
لذلك إذا رأيت الإنسان وقد أصابته موجة البرد يصفرُّ لونه ، اصفرار لونه دليل أن مركز توازن الحرارة قد فعل فعله ، أعطى أمراً لجميع الأوعية السطحية بتضييق لمعتها ، وتقليل مرور الدم فيها من أجل ألا تضيع الحرارة عبر السطوح الخارجيَّة للجسم .
شيءٌ آخر : أمرٌ آخر يصدر عن هذا المركز إلى الغدة النخامية ، والغدة النخامية ملكة الغدد في الجسم ، هذه الغدَّة تعطي أمراً آخر إلى الغدة الدرقية ؛ مركز الاستقلاب العام في الجسم ، والاستقلاب تعبيرٌ عن تحوّل الغذاء إلى طاقةٍ وحرارة ، فهذا المركز الهرموني ، الغدة الدرقية ، إذا تلقت أمراً من الغدة النخامية تصدر بدورها أمراً آخر إلى خلايا الجسم كلها كي تزيد من طاقة احتراق الأغذية ، كي تزيد الحرارة الناتجة عن هذا الاحتراق ..
إذاً لو نظرت إلى إنسانٍ أصابته موجة بردٍ ، لرأيت هذه الغدة الدرقية التي جعلها الله تحت الحنجرة ، لرأيتها تعمل بنشاطٍ بالغٍ في أيام البرد ، من أجل أن تحث الخلايا على تحويل الغذاء إلى طاقة ، وإلى حرارة . ونحن غافلون ، ونحن لا ندري ماذا يفعل بنا .
مركزٌ اسمه ( مركز التوازن الحراري ) يعمل بكفاءةٍ عاليةٍ جداً تحيِّر العقول .
شيءٌ آخر : هذه الحركة الارتجافية التي تصيب مَن أصابه البرد إنها من أجل توليد الحرارة من الحركة . هذا الرَجفان من أجل أن تولَّد الحرارة من هذه الحركة الارتجافية .
شيءٌ آخر : يعطى أمرٌ آخر إلى كل أشعار الجسم لكي تقف ، فإذا وقفت أشعار الجسم المفروض أن تحجز هواءً ساخناً أكثر من ذي قبل ، أربعة ردود فعلٍ يأخذها الجسم حينما يشعر أن المحيط الخارجي أبرد مما يجب .
لكن إذا ارتفعت الحرارة عن الستين فإن الإنسان يموت في ساعةٍ واحدة ، وإذا ارتفعت إلى مئةٍ وسبعة وعشرين ، فإنه يموت في ثماني دقائق ، وإذا ارتفعت إلى خمسٍ وأربعين مع الرطوبة ، فإنه يموت في بضع دقائق ، إذاً ارتفاع الحرارة شيءٌ خطير .
لهذا كان في جسم كلٍ منا أيها الإخوة أربع ملايين مكييف ، إنها الغدد العرقية ، التي تستطيع أن تفرز في اليوم الواحد عشر ليترات من العرق ، تماماً كما لو حَمَّيت قطعةً من الحديد ثم صببت عليها الماء البارد، إن هذا الماء البارد يأخذ حرارتها وينصرف .
لذلك هذه الأجهزة ، أجهزة التكييف ، أربعة ملايين جهاز أودعها الله تحت الجلد ، طول أنابيبها يزيد عن أربعة كيلومترات في الإنسان ، من أجل أن يواجه الجسد ارتفاع الحرارة . عندما ترتفع الحرارة يتعرَّق الإنسان ، ولو جُمِعَ هذا العرق في أربعٍ وعشرين ساعة لزاد عن عشرة ليترات . هذا الماء الذي يخرج من الغدد العرقية من أجل أن يمتصَّ الحرارة الباطنية ، وتخرج معه إلى خارج الجسم .
أيها الإخوة المؤمنون ؛ هذا مركزٌ في الجسد قلَّ من ينتبه إليه ـ مركز التوازن الحراري ـ من أودعه فينا ؟ لولا هذا المركز لمات الناس بمئات الملايين في أول موجة حرٍ ، أو أول موجة برد ، لكن هذا الجسد الذي خلقه الله فأبدع خَلْقَه ، وصوَّره فأحسن تصويره ، وأودع فيه من الأجهزة ما هو مثالٌ رائعٌ في الحكمة والعلم والخبرة .
أيها الإخوة المؤمنون ... يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك .
اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا ، اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخيا ، وسائر بلاد المسلمين .
اللهم اغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، واقبل توبتنا ، وفكَّ أسرنا ، وأحسن خلاصنا ، وبلغنا مما يرضيك آمالنا ، واختم بالصالحات أعمالنا .
اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك ، ومن الخوف إلا منك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء ، مولانا رب العالمين .
اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاقبنا بفعل المسيئين يا أرحم الراحمين .
اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، اللهم خذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنه على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .