وضع داكن
24-04-2024
Logo
الخطبة : 0276 - الصبر4- أصول الدين .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

طلب العلم فريضة على كل مسلم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ تشتد الحاجة إلى الحديث عن أصول الدين حينما يكثر الحديث عن فروع الدين ، لو أن إنساناً دخل مدينة فاستقر في بيت في أحد أحيائها ، إنه لا يدري أين هو من هذه المدينة ، هل في شرقها أم في غربها أم في شمالها أم في جنوبها ؟ هل هو في أحيائها الراقية أم في أحيائها الفقيرة ؟ لكنه إذا صعد إلى قمة جبل ، وألقى على هذه المدينة نظرة فاحصة فعرف أطرافها ، وحدودها ، وأحياءها ، ومداخلها ، ومخارجها ، عندئذ إذا عاد إلى بيته يعرف أين هو من المدينة ، فمن حين إلى آخر لابد من عودة إلى الأصول ، لابد من عودة إلى أساس الدين .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ طلب العلم فريضة على كل مسلم ، كيف أن استنشاق الهواء ضرورة ، و كيف أن شرب الماء ضرورة لبقاء الحياة ، و كيف أن تناول الغذاء ضرورة لبقاء الحياة ، كذلك طلب العلم فريضة على كل مسلم .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم لم يقرَّ من القيم التي يتفاضل بها الناسُ عادة كالغنى و الفقر ، و القوة و الضعف ، و الصحة و المرض ، و الوسامة و الدمامة ، و الذكاء و الغباء ، لم يقر من هذه القيم إلا قيمة واحدة ، ألا وهي العلم و العمل به ، إن هذه القيمة جعلها الله قيمة وحيدة مرجِّحة بين خلقه فقال تعالى :

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾

[سورة الزمر : 9]

 هذان الرجلان الذي يعلم أحدهما و الثاني لا يعلم لا يستوون عند الله ، أما في القيم الأخرى فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ مِنْهُمْ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ ))

[الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

(( يا محمد - هكذا قال جبريل عليه السلام- أتحب أن تكون نبياً ملِكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوما فأذكره ، وأشبع يوما فأشكره ))

[ورد في الأثر]

استقامة العقيدة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ طلب العلم فريضة ، و لكن النبي عليه الصلاة و السلام فيما رواه الإمام أحمد في مسنده يقول :

(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))

[أحمد عن مالك بن أنس]

 وفي حديث آخر رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب به ابن عمر:

(( يا بن عمر دينَكَ دينَك ، إنه لحمــك و دمك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ))

[ العلل لابن أبي حاتم ]

 الاستقامة أيها الأخوة إذا أُطلقت انصرفت إلى استقامة العقيدة ، يجب أن تعتقد عقيدة موافقة للآيات الكريمة المحكمة ذات الدلالة القطعية ، وللأحاديث الصحيحة ، فإذا لم توافق عقيدتُك هذا النصوص المحكمة ، فهذا الإنسان في ضلال مبين ، استقامة العقيدة أن تكون تصوّراتك عن الكون ، وعن الحياة ، وعن الإنسان ، وعما يجوز ، وعما لا يجوز وفق نصوص القرآن والسنة ، و أما استقامة العلم فلا بد لها من شرطين اثنين ، الأول أن يكون العملُ خالصاً لوجه الله عز وجل ، تبتغي به وجه الله الكريم ، و الثاني أن يكون صواباً ، ومعنى صواب العمل أن يكون مطابقاً للسنة النبوية ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ، خذ عن الذين استقامت عقيدتهم ، واستقام سلوكهم ، ولا تأخذ عن الذين مالوا ، إن هذا العلم دين فلينظر أحدكم عمن يأخذ دينه .

 

تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف و تكريم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ قد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم ، و كرَّمه أعظم تكريم ، حمَّله الأمانة التي أشفقت من حملها السموات و الأرض ، رُكِّب الملك من عقل بلا شهوة ، ورُكب الحيوان مـن شهوة بلا عقل ، و رُكب الإنسان من كليهما ، فإن سما عقلُه على شهوته أصبح فوق الملائكة ، و إن سمت شهوته على عقله أصبح دون الإنسان ، دون الحيوان، قال تعالى :

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[سورة الشمس: 9-10]

 إنها نفسك التي بين جنبيك ، إنها الأمانة التي أوكلها الله إليك ، قال تعالى :

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[سورة الشمس: 9-10]

 ولكن الله سبحانه وتعالى حينما حمَّل الإنسان الأمانة أعطاه مقوِّماتها ، و من مقومات الأمانة هذا الكون بسمواته وأرضه ، الذي ينطق بوحدانية الله ، الذي ينطق بعظمة الله، الذي ينطق برحمة الله :

وفي كل شيءٍ له آيةٌ  تدل على أنه واحـد
***

 هذا الكون سخَّره الله لك أيها الإنسان ، و الدليل قوله تعالى :

﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾

[سورة الجاثية: 13]

 تسخير تكريم ، قال تعالى :

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء: 70 ]

 و تسخير تعريف ، قال تعالى :

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة يونس: 101 ]

 فما ينبغي أن يكون ردُّ فعلك ؟ إنه الإيمان و الشكر ، قال تعالى :

﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾

[ سورة النساء: 147]

مقوِّمات حمل الأمانة :

1 ـ الكون :

 وهل تعلم أيها الأخ الكريم ماذا تعني كلمة الكون ؟ إن الضوء كما تعلم يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية ، أي أن الضوء يقطع المسافة بيننا و بين القمر في ثانية واحدة ، لذلك يقولون : بُعدُ القمر عن الأرض ثانية ضوئية ، أي ثلاثمئة ألف كيلومتر، و بين الأرض و الشمس ثماني دقائق ، و قطر المجموعة الشمسية ثلاث عشرة ساعة ، و أقرب نجم ملتهِب إلى الأرض يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، أي ما يحتاج الوصول إليه بسيارة إلى ما يقارب خمسين مليون عاماً ، هذا أقرب نجم ملتهب ، و هناك نجم القطب الذي يبعد عنا أربعة آلاف سنة ضوئية ، وهنا المرأة المسلسلة التي تبعد عنا مليون سنة ضوئية ، و هناك مجرة تبعد عنا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية ، قال تعالى :

﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[ سورة يونس: 101 ]

فالكون من أول مقوِّمات حمل الأمانة .

2 ـ العقل :

 و لكن ما قيمة الكون إن لم يُمنح الإنسان عقلاً يفهم الكون به ؟ قال تعالى :

﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾

[سورة الرحمن: 7]

 الميزان هو العقل ، إنك إذا فكَّرت في خلق السموات والأرض عرفت أن له خالقاً عظيماً ، و مربّياً حكيماً ، و مسيِّراً قديراً ، عرفت أسماء الله الحسنى ، و صفاته الفضلى إذا فكرت في خلق السموات والأرض ، قال تعالى :

﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾

[سورة آل عمران: 190-191]

3 ـ الشرع :

 و منَّ الله علينا بنعمة الشرع ، ذلك المنهج الدقيق ، ذلك الصراط المستقيم ، ذلك المنهج القويم الذي إن سرتَ عليه أيها الإنسان سعدت في الدنيا والآخرة ، قال تعالى :

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[سورة البقرة: 38]

 و قال تعالى :

﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾

[سورة طه: 123]

 لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، هكـذا أيها الأخوة المؤمنون ؛ أنت بالكون تعرفه، و بالشرع تعبده ، و معرفة الله و توحيده و عبادته فحوى رسالات الأنبياء جميعاً ، قال تعالى :

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾

[ سورة الأنبياء: 25 ]

 هذه فحوى رسالات الأنبياء جميعاً .

4 ـ الشهوات :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ من مقومات حمل الأمانة أن الله سبحانه و تعالى زيَّن للإنسان الشهوات ، أودع فيه الشهوات ، ليرقى بها إلى رب الأرض و السموات ، أودع فيه الشهوات لتكون ثمناً لجنات القربات ، أودع فيه الشهوات ليرقى بها صابراً إذا تركها مخافة الله ، قال تعالى :

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾

[سورة النازعات: 40-41]

 و ليرقى بها شاكراً إذا أخذها من الطريق الصحيح ، إن الشهوات التي أودعها الله في الإنسان أودعها فيه من أجل أن يرقى إلى الواحد الديَّان ، إنها كالوقود السائل إذا وُضعت في المستودعات المحكمة ، و سارت في الأنابيب المحكمة ، ووصلت إلى الأجهزة المحكمة ، وانفجرت في المكان الصحيح ولَّدت حركة نافعة ، و إذا خرجت من مستودعاتها انطلقت من مساراتها ، و أصابها شرر أحرقت المركبة كلها ، فالشهوة إما قوة دافعة ، وإما قوة مدمِّرة ، إن الله سبحانه و تعالى أودع في الإنسان حبَّ المرأة و حب المال وحب العلو في الأرض ، هذه الشهوات إذا سار بها في القنوات الصحيحة كانت سلَّماً له إلى الجنة ، كيف تتقرب من الله إذا كنت لا تحب شيئاً ولا تكره شيئاً ؟ إذا أحببت المال و أنفقته في طاعة الله تقربت إلى الله ، إذا أحببت المال وامتنعت عن المال الحرام ، تقربت إلى الله ، إذا أحببت المرأة وغضضت بصرك عن محارم الله تقربت إلى الله ، إذا أحببت المرأة و غضضت بصرك و تزوجت وفق السنة الصحيحة تقربت إلى الله ، فالشهوات التي أودعها الله في الإنسان ليرقى بها إليه شاكراً أو صابراً ، إنها قوة محركة إلى الله عز وجل ، فإذا خرجت عن مسارها ، فإذا أسيء استعمالُها أصبحت قوة مدمِّرة ، هذا مقوِّم ثالث من مقومات حمل الأمانة.

5 ـ حرية الاختيار :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ و ما قيمة عمل الإنسان إن كان مجبوراً عليه ؟ لو أن الله سبحانه و تعالى أجبر عباده على الطاعة لبطل الثوابُ ، و لو أنه أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو أنه تركهم هملاً لكان عجزا في القدرة ، لو أن الله عز وجل أجبر عباده على شيء ما لبطل الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، والجنة والنار ، والمسؤولية والجزاء ، والأمانة والتكليف ، ولكان إرسال الأنبيــاء لعباً ، وإنزال الكتب عبثاً ، و لأُلغي كلُّ شيء ، أعطاك حرية الاختيار ليُثمَّن عملك ، ليكون عملك ثميناً ، وأعطاك حرية الاختيار في دائرة التكليف فقط ، أنت في دوائر كثيرة مسيَّر ، و لكنك في دائرة التكليف أنت مخيَّر ، أعطاك حرية الاختيار في دائرة التكليف ليثمن عملك ويصح كسبُك ، و ليكون الثواب و العقاب عادلاً ، والوعد و الوعيد فاعلا .

6 ـ الفطرة :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ قال تعالى :

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾

[ سورة البقرة: 148 ]

 مقوِّم آخر من مقومات حمل الأمانة ، إنها الفطرة التي فطرك الله عليها ، قال تعالى :

﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾

[ سورة الروم: 30]

 إنها فطرة نقية ، إنها فطرة سليمة ، قال عليه الصلاة و السلام عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ))

[البخاري عن أبي هريرة]

 إنها محبة الخير ، إنها محبة الإحسان ، إنها الإيمان بالله ، قال تعالى :

﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾

[سورة الحجرات: 7]

 هذه الفطرة دفعة أولية ليعينك بها على معرفته ، فالكون و العقل و الشرع و الشهوة و حرية الاختيار في دائرة التكليف فقط ، والفطرة السليمة ، هذه كلها من مقومات التكليف ، فإلى متى يكون الإنسان سادراً في غفلته ؟

إلى متى و أنت باللذات مشغول  وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤولُ
***

 وقال الشاعر :

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنـــــــــــا  فإنا منحنا بالرضا من أحــبنــــــــــا
و لذ بحمانا و احتم بجنابـــنـــــــــــا  لنحميك مما فيه أشرار خــلقنــــــــا
وعن ذكرنا لا يشغلنك شـاغــــــــــل  وأخلص لنا تلق المسرة والهنــــــــا
وسلم إلينا الأمر في كل ما يكــن  فما القرب و الإبعاد إلا بأمرنــــــــــا
فلو شاهدت عيناك من حـسننـــــا  الذي رأوه لما وليت عنا لـغيرنــــــــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنــا  خلعت عنك ثياب العجب و جئتنــا
ولو ذقت من طعم المحـبـــــة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحـبنــــــا
***

 إني و الإنس والجن في نبــأ عظيم ، أخلق و يعبد غيري ، و أرزق و يشكر سواي، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي ، و أنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي ، وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل مودتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، و إن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب و المعايب ، الحسنة عندي بعشرة أمثالها و أزيد ، و السيئة بمثلها وأعفو ، وأنا أرأف بعبدي من الأم بولدها .

 

من عرف هدفه صحّ عمله :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ فكرة أخرى أصولية ، متى يصح العمل ؟ إن صح عملك سعدت في الدنيا و الآخرة ، و إن ساء عمل الإنسان شقي في الدنيا و الآخرة ، متى يصح العمل ؟ الجواب : إذا عُرف الهدف ، يصح العلم إذا عرف الهدف ، لماذا أنت هنا في هذه المدينة ؟ إن كنت سائحاً فأين المتاحف و الآثار ؟ يأتي عملك موافقاً لسبب وجودك ، وإن كنت تاجراً فأين المعامل و المصانع ؟ و إن كنت طالباً فأين المعاهد و الجامعات ؟ تتحرك حركة صحيحة إذا عرفت الهدف ، و أنت في الدنيا أيها الأخ الكريم متى يصح عملك ؟ إذا عرفت علة وجودك ، سبب وجودك ، الهدف من وجودك ، لماذا جاء الله بك إلى الدنيا ؟ لماذا جعلك في الأرض ؟ معرفة الهدف شيء عظيم ، شيء خطير ، شيء مصيري ، لماذا أنا هنا ؟ قد يسعى الإنسان لجمع المال ، يكتشف في خريف العمر و بعد فوات الأوان أن المال شيء و لكنه ليس كل شيء ، جوهر الحياة ضَّيعه ، قد يسعى الإنسان لاقتناص اللذات ، بعد فاوت الأوان وفي خريف العمر يكتشف حقيقة خطيرة ، أن الشهوة شيء ، لكنها ليست كل شيء ، عندئذ يحبط عمله .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الآن متى صح العمل ؟ إذا عُرف الهدف ، و متى يسعد الإنسان ؟ إذا جاء عمله مطابقاً لهدفه ، كنت قد ضربت مثلاً في مجلس آخر أن الطالب الذي يعلِّق آمالاً عريضة على نجاحه في امتحان معيَّن إذا ذهب إلى نزهة ممتعة جداً و مع أصدقاء يحبهم مع أكل أطيب الطعام ، ومتَّع عينيه بأجمل المناظر ، لماذا يشعر بانقباض دائم وهو في النزهة ؟ لأن هذه النزهة تتناقض مع هدفه الكبير وهو نجاحه في الامتحان ، فإذا قبع في بيت مظلم ، وقرأ كتاباً ، وتعمَّق في فهمه ، ولخصه ، وشعر أنه أنجز شيئاً مهماً ، لماذا يشعر بالارتياح ؟ لأن هذه الحركة تطابقت مع الهدف ، يصح العمل إذا عرفت الهدف ، و تسعد إذا جاء العلم مطابقاً للهدف .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه بعض الأفكار المتعلقة بأصول الدين ، فإذا عرفتها عرفت أشياء كثيرة ، تأتي الفروع تطبِّقها بشكل طبيعي من دون جهد ، النبي عليه الصلاة و السلام بقي في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً ، وهو يدعو قومه إلى معرفة الله ، أصل الدين معرفته .
 أيها الأخوة الأكارم ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، و سيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها ، و تمنَّى على الله الأمانيَّ ، و الحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم . العلم ما عُمل به ، فإن لم يُعمل به كان الجهلُ أفضل منه .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ هذه الكلمات النيرات التي تسمعونها يوم الجمعة لا بد أن تترجم إلى عمل ، لا بد أن تترجم إلى واقع ، لأن هذا العلم ربما كان حجة على الإنسان، حجة عليه ، كأن الله سبحانه و تعالى يقول : لقد سمعت الحق ، فلمَ لم تأخذ منه موقفاً ؟ لكنك إذا طبَّقت ما سمعت تشعر بسعادة لا توصف ، السعادة الحقيقية لا تمسك بها إلا إذا طبَّقت ما سمعت ، جئتك لتعلمني من غرائب العلـم ، فقال عليه الصلاة و السلام : وما صنعت في أصل العلم ؟ قال : و ما أصل العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ فاستحيا هذا الأعرابي و قال : ما شاء الله ، أي عرفته ، فما كان منه صلى الله عليــه و سلم إلا أن قال له : إذا كنت قد عرفت الرب فماذا صنعت في حقه ؟
 سؤال دقيق ، ماذا صنعت في حقه ؟ ما الذي فعلته من أجل الله ؟ ما الذي أعطيت ؟ ما الذي منعت ؟ من وصلت ؟ من قطعت ؟ من صادقت ؟ من عاديت ؟ أي موقف وقفت ؟ ماذا فعلت لأجل الله ؟ فماذا صنعت في حقه ؟ ثم ثنى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هل عرفت الموت ؟ قال : ما شاء الله ، قال : فماذا أعددت له ؟ أي ماذا أعدَّ أحدنا لساعة اللقاء مع الله عز وجل ، ما فعلت ؟ ما النفقة التي أنفقتهـا في سبيل الله تبتغي بها وجه الله ؟ فلذلك الاستماع سهل ، و لكن التطبيق صعب ، المحك هو التطبيق ، يمكن أن تستمع إلى أعلى محاضرة ، و تبقى أنت أنتَ ، والمحاضر في مكانه ، و ربما كان المبلَّغ أوعى من السامع ، لذلك الدعاء الشريف ، الدعاء الذي يدعوه بعض العلماء : " اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاك ألتمس به أحدًا سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك " شيء خطير ، أندم الناس يوم القيامة عالم دخل الناسُ بعلمه الجنة ، و دخل هو بعلمه النار ، أندم الناس يوم القيامة غنيٌّ دخل ورثته بماله الجنة ، ودخل هو بماله النار ، شيء خطير ، ماذا فعلت ؟ هذا الذي تعلمته ماذا صنعت به ؟ ماذا فعلت فيه ؟ لذلك يقول عليه الصلاة و السلام :

((اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))

[ابن ماجه وأحمد والدارمي عَنْ ثَوْبَانَ]

 قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ﴾

[سورة فصلت: 30-32]

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولَنا فيمن تولَيت ، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، ولا تهلكنا بالسنين ، ولا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور