وضع داكن
23-04-2024
Logo
الخطبة : 0275 - الصبر3- حكم الصبر - الكريات.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
الحمد لله ثم الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا ، و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، و ما توفيقي و لا اعتصامي ولا توكُّلي إلا على الله ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمداً صلَّى الله عليه وسلم رسولُ الله سِّيدُ الخلق والبشر ، ما اتَّصلت عينٌ بنظر أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذرِّيته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

الصّبر أساس الإيمان :

أيها الأخوة المؤمنون ؛

لا زلنا في موضوع الصبر ، لأنه الموضوع الذي يلي في الأهمية موضوع العبادة ، العبادة غاية وجود الإنسان على وجه الأرض ، قال تعالى :

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

 و الصبر لخَّص بــه النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان كله ، إذ أجاب حينما سئل عن الإيمان فقال : " هو الصبر . . . " إذًا موضوعٌ مهم جداً ، موضوع يلي في الأهمية موضوع العبادة .
 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ قد يتوهم الإنسان لأول مرة أن كلمة الصبر تعني أن يصبر على ابتلاء ، أو على مصيبة ، أو على مرض ، أو على فقر ألَّم بالإنسان ، هذا الفهم للصبر فهم محدود جداً ، إن الصبر بما أن النبي عليه الصلاة و السلام فسَّر به الإيمان كله ، إذًا الصبر يحتاجه الصحيح والمريض ، والغني والفقير ، والقـوي والضعيف ، ويحتاجه كل إنسان من ذكر وأنثى ، وكل مخلوق من بني البشر ، لأن الصبر أساس الإيمان .

حكم الصّبر :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ تحدثنا في خطبتين سابقتين عن الصبر ، وها أنا أتابع الحديثَ فأصل إلى موضوع حكم الصبر ، هل الصبر واجب أم الصبر مستحب ؟ هل الصبر فرض أم فضيلة ؟
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الصبر واجب بإجماع الأمة ، لأن الأمر أصلٌ في الوجوب ، كلُّ أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، الله سبحانه و تعالى يقول :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[سورة آل عمران: 200]

 فعل الأمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب ، فالصبر واجب بإجماع الأمة ، و قد أمرنا الله به في آيات كثيرة .

 

أنواع الصّبر :

 هناك شيء آخر ؛ الصبر واجب لأن الهب سبحانه و تعالى نهى عن ضدِّه ، ألا وهو الجزع ، ألا وهو النكوص ، فقال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾

[سورة الأنفال: 15]

 و التولي يوم الزحف نقيض الصبر ، و قال تعالى :

﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾

[سورة محمد: 33]

 هذا الذي يمنُّ في عطائه فقدَ الصبر ، فمنَّ وأدلَّ بماله فأبطل عمله ، فالذي يدلُّ بعمله ضعف صبره ، وقال تعالى :

﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة آل عمران : 139]

 فالخنوع و الضعف و الزلزلة النفسية نقيض الصبر ، و قال تعالى :

﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾

[ سورة الأحقاف: 35 ]

الاستعجال نقيض الصبر ، التولي يوم الزحف نقيض الصبر ، المن و الأذى نقيض الصبر ، الهوان والحزن نقيض الصبر ، الاستعجال نقيض الصبر .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الله سبحانه و تعالى أمرنا بالصبر و نهانا عن نقيضه ، إذًا هو واجب بإجماع الأمة .
 شيء آخر ؛ الله سبحانه و تعالى رتَّب على الصبر خيري الدنيا والآخرة ، لا تنال خير الدنيا إلا بالصبر ، وما من ناجح في الحياة الدنيا إلا وله مرحلة قاسية صبر بها ، فاستحق النجاح في الدنيا ، خير الدنيا وخير الآخرة أساسه الصبر ، لا تنجو من مكروه إلا بالصبر ، لا تفوز بالمحبوب إلا بالصبر .
ولكن يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ما كان الصبر عنه أو عليه واجب فالصبر في هذا المقام واجب ، و إذا كان الصبر عن المكروه أو على المكروه فالصبر مندوب ، فرقٌ بين الصبر الواجب وبين الصبر المندوب وبين الصبر المستحسن ، إن هذا يحدِّده الموضوع الذي تصبر عنه أو عليه ، الصبر عن الحرام واجب ، بل هو فريضة ، و لكن الصبر عن ترك الأولى مستحب .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله عز وجل :

﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾

[سورة النحل: 126]

 هذا من حق الإنسان ، قال تعالى :

﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾

[سورة النحل: 126]

فإذا ترفَّعت عن أن تعاقب بمثل ما عوقبت فهذا صبر ، ولكن هذا الصبر فضيلة ، وليس فريضة ، و فرق كبير بين الفريضة وبين الفضيلة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ بشكل ملخص : الصبر على الواجبات و الصبر عن المحرمات واجب ، بل هو في مستوى الفريضة ، و الصبر على المستحبات أو عن المكروهات مستحب ومندوب ، و الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين يقول : " الصبر عن المحظورات فرضٌ ، وعلى المكاره نفلٌ ، و الصبر على الأذى المحظـور محظور " ، لو أن إنساناً أراد أن يوقع بك أو بأهلك الأذى ، حيث تتأذى في دينك ، أو في عرضك ، أو في مالك ، فالصبر على هذا الأذى محظور ، هكذا يقول الإمام الغزالي في الإحياء ، و الصبر على الأذى المكروه مكروه ، هناك صبر مكروه ، وهناك صبر محرَّم ، وهناك صبر مندوب ، وهناك صبر واجب ، بل يرقى إلى مستوى الفريضة ، و لكن الشيء الدقيق هو أن الإنسان مأمور بالصبر على البلاء الذي لا يقدر على إزالته ، أما إذا قدرت على إزالة البلاء فالصبر هنا محرَّم ، ابنك - لا سمح الله و لا قدَّر - ترتفع حرارته ، الله سبحانه و تعالى خلق لكل داء دواء ، هذه مشكلة تُحل ، خذه إلى الطبيب ، أعطِه الدواء المناسب ، الشيء الذي تقدر على إزالته لا أجر لك على الصبر عليه ، لأن الإسلام دين الفطرة ، دين الحياة ، دين الواقع ، الشيء الذي بإمكانك أن تزيله يجب أن تزيله .

 

مهمة الدين صيانة الحياة و العرض و المال :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ نصُّ قول الإمام الغزالي : " كل بلاء يقدر الإنسان على دفعه فلا يُؤمر بالصبر عليه " ، ولنضرب على ذلك مثالاً من قول الله عز وجل ، من كتاب الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾

[سورة النساء: 97]

 إذا كنت في مكان يضيع فيه دينك ، ينتهك عرضك ، يسلب مالك ، قال تعالى :

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً﴾

[سورة النساء: 97-99]

 هذه حقيقة مهمة ، إنما جاء الدين لصيانة الدين ، و لصيانة الحياة ، و لصيانة العرض ، و لصيانة المال ، لذلك أقام الله حدوداً على من اعتدى على الدين والعرض والمال والحياة والعقل ، خمسة أشياء جُعلت مناط الشرع في كل حركاته و سكناته .

 

الصّبر عبادة وقربة إلى الله عز وجل :

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛

الله سبحانه و تعالى لم يكتف أن أمرنا بالصبر ، و لم يكتف بأنه أثنى على الصابرين ، و لم يكتف بأن ربط به كل خيري الدنيا و الآخرة ، و كل خير عاجل أو آجل ، و لكن أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون الباعثُ إلى الصبر باعثًا خالصاً لوجه الله عز وجل ، و الدليل قول الله عز وجل :

﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

[سورة المدثر: 7]

 اصبر لربك ، لا من أجل أن تنتزع إعجاب الآخرين ، و لا من أجل أن تكتسب مَحمَداً ، و لا من أجل أن تنال رفعةً ، و لا من أجل أن يتحدث الناس عليك ، قال تعالى :

﴿وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾

[سورة المدثر: 7]

 لا لكسب محمدة ، ولا لنيل بطولة ، إن الصبر عبادة وقربة إلى الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾

[سورة الرعد: 22]

 صبروا ابتغاء وجه ربهم . لذلك أيها الأخوة المؤمنون ، أخلاق المؤمن ربَّانية ، بمعنى أن الباعث إليها أمر الله عز وجل ، و أن الغاية منها إرضاء الله عز وجل .

 

الفرق بين الصّبر و المصابرة :

 يا أيها الأخوة الأكارم ؛ ما هي المصابرة ؟ يقول الله سبحانه و تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[سورة آل عمران: 200]

ما الفرق بين الصبر وبين المصابرة ؟ المصابرة صيغة فيها معنى المشاركة ، أي عدوُّك يصبر على الباطل ، و أنت ينبغي أن تصبر على الحق ، بل ينبغي أن تتفوق عليه في صبرك على حقِّك ، إذا كان هو يصبر على باطله ، إذا كان هو يصبر على انحرافه ، إذا كان هو يصبر على زيغه ، فينبغي أن تصبر أنت على الحق ، قال تعالى :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[سورة آل عمران: 200]

 و المصابرة ، أن تغالب عدوَّك بالصبر ، قال تعالى :

﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾

[سورة النساء: 104]

 ينبغي أن يكون صبركم على الحق أشدَّ من صبرهم على باطلهم ، و الدليل أن الله سبحانه وتعالى يقول في حق هؤلاء الكفار :

﴿إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾

[سورة الفرقان: 42]

 الكفار صبروا على أوثانهم ، صبروا على آلهتهم ، وقال تعالى :

﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾

[سورة ص: 6]

 فالصبر مع نفسك ، و المصابرة بينك و بين عدوك ، صبرك على الحق من باب أولى ، إذا كان الكافرُ الذي لا يرجو عند الله شيئاً ، و لا يعتمد على الله يصبر على باطله ، فأنت الذي تعتمد على الله ، وترجو نصره ، و تأمل في الآخرة ، أنت من باب أولى مأمور أن يكون صبرك اشدَّ من صبره .

 

الصّبر عند الصدمة الأولى :

 و لكن يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ الصبر الذي يُحمد هو الذي يكون في الوقت المناسب ، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

((مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ : اتَّقِي اللـَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيــْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى))

[البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]

 حينما يتلقى الإنسانُ نبأ سيِّئاً ، هنا تكمن معرفته بالله ، يكمن توحيده ، يكمن صبرُه، الصبر عند الصدمة الأولى ، قد يأتي الصبرُ بعد فوات الأوان ، ولكن تضعف قيمتُه ، هذا الصحابي الجليل الذي عيَّنه النبي عليه الصلاة و السلام قائداً ثالثاً في معركة مؤتة ، عيَّن النبي عليه الصلاة و السلام سيدنا زيد بن حارثة قائداً أولاً ، وعيَّن بعده سيدنا جعفر القائد الثاني، وعيَّن بعده سيدنا عبد الله بن رواحة القائد الثالث ، حمل الراية زيد فقاتل بها حتى قُتل ، ثم حملها جعفر فقاتل بها حتى قُتل ، فلما جاء دورُ عبد الله بن رواحة قال :

يا نفس إن لم تُقتلي تموتي  هذا حِمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما رضيـــــــــــتِ  وإن تولَّيتِ فقد شقيـــــــــــــتِ
***

تردَّد ، وأنشد هذين البيتين ، ثم أمسك بالراية ، وقاتل بها حتى قُتل ، استمعوا أيها الأخوة المؤمنون إلى ما قاله النبي عليه الصلاة و السلام ، قال عليه الصلاة و السلام :

(( أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قُتل ، و إني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، و سكت النبي عليه الصلاة و السلام حتى قلق أصحابُه على أخيهم عبد الله ، فقالوا : يا رسول الله ما فعل عبد الله ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : ثم أخذها أخوكم عبد الله وقاتل بها حتى قُتل و إني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه - هذا التردد -))

[مجمع الزوائد وقال : أخرجه الطبراني عن رجل من الصحابة، وانظر حلية الأولياء والسيرة النبوية وتفسير القرطبي]

 فالصبر عند الصدمة الأولى ، و لكن هناك صبراً لا قيمة له أصلاً ، قال تعالى :

﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾

[سورة إبراهيم: 21]

 ما قيمة الصبر ؟ هذا الذي كان مختاراً فأقدم على جريمة قتل ، وحوكم ، وحُكم عليه بالإعدام ، وصُدِّق الحكم ، وسيق إلى المشنقة ، سواء عليه أصبر أم لم يصبر ، أبكى أم ضحك ، أتوسَّل أم سكت ، هذا الموقف لا ينفع فيه الصبرُ .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ اعرفوا الله قبل فوات الأوان ، ما من مخلوق على وجه الأرض إلا وسيعرف الحقيقة كاملة ، ولكن بعد فوات الأوان .

 

جزء من إيمانك أن تفهم الأهداف الكبيرة التي أرادها الله من المصائب :

 أيها الأخوة الأكارم ؛ هناك موضوعات أخرى مهمة جداً متعلقة بالصبر ، بما أن النبي عليه الصلاة و السلام لخص الإيمان كله بالصبر ، فهذا موضوع دقيق ، وموضوع خطير، و موضوع يلي في الأهمية موضوع العبادة الذي أمضيتُ فيه بفضل الله عز وجل أكثر من عشرة أسابيع .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ ليس الفقيرُ وحده محتاجاً إلى الصبر ، بل ربما كان الغني أشدَّ احتياجاً إلى الصبر ، ليس الضعيف وحده هو محتاج إلى الصبر ، ربما كان القويُّ أكثر احتياجاً إليه من الضعيف ، ليس المريض وحده محتاجاً إلى الصبر ، ربما كان الصحيحُ أشدَّ احتياجاً إلى الصبر .
يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ يقول الله عز وجل يخاطب المؤمنين :

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾

[سورة البقرة: 155-157]

أيها الأخوة الأكارم ؛ جزءٌ من إيمانك أن تعرف فلسفة المصيبة ، تقع المصائب ، لا يختلف الناسُ في معرفة وقوعها أم عدم وقوعها ، تقع بشكل ظاهر ، ولكن المؤمنين يختلفون في قدرتهم على فهمها ، فمن الناس من يفهم المصيبة فهماً ينطوي على كفر بالله ، وبأسمائه الحسنى ، و من المؤمنين من يفهم المصيبة فهماً ينطوي على إيمان بوحدانية الله ، و بأسمائه الحسنى .
 فيا أيها الأخوة المؤمنون ؛ البطولة أن تعرف بالضبط ماذا تعني المصيبة ، لذلك جزء من إيمانك أن تفهم بعمق الأهداف الكبيرة التي أرادها الله من المصائب ، قال تعالى :

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 21]

 يريد الله أن ترجع إليه ، يريد الله أن تقبل عليه ، يريد الله أن تتوب له قال تعالى :

﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾

[سورة النساء: 27]

 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ موضوع سوف أعالجه إن شاء الله تعالى في الخطبة القادمة ، الصبر عن المشتهيات التي تشتهيها النفس ، و الصبر وأنت في حالة الغنى ، و أنت في حالة القوة ، و أنت في حالة الصحة ، ربما وجدتم في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى أن البطولة أن تصبر على الرخاء ، لا أن تصبر على الشدة .
 يا أيها الأخوة المؤمنون ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطَّانا إلى غيرنا ، و سيتخطَّى غيرنا إلينا ، فلنتَّخذ حذرنا ، الكيَّس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت ، و العاجز من أتبع نفسه هواها و تمنَّى على الله الأمانيَّ ، و الحمد لله رب العالمين .

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

كريات الدم الحمراء من آيات الله الدالة على عظمته :

 أيها الأخوة المؤمنون ، آيةٌ من آيات الله الدالة على عظمته مبثوثة في في نفوسنا، يقول الله عز وجل :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[سورة فصلت: 53]

من الآيات التي نراها في نفوسنا هذا الدم الذي يجري في عروقنا ، هذا السائل الأحمر الذي هو قوام حياتنا ، مؤلَّف من كريات حمراء ، وكريات بيضاء ، ومن صفائح دموية، نقف قليلاً عند الكريات الحمراء .
 الكرية الحمراء خلية ، أبعادها دقيقة ، قطرها سبعة ميكرونات ، أي إذا قسمنا الميليمتر إلى ألف قسم ، فقطر هذه الكرية يشبه رغيف الخبز ، سبعة ميكرونات ، أي سبعة أجزاء من ألف ميليمتر ، أما سماكتها فلا تزيد على ميكرونين ، و السؤال الآن : كم عدد هذه الكريات في جسم الإنسان ؟ العدد التقديري والتقريبي خمسة وثلاثون أمامها اثني عشر صفراً ، هذا رقم ، ولكن لو رصفنا هذه الكريات واحدة إلى جنب الأخرى لطوَّقت الأرض عند خطِّ الاستواء سبع مرات ، في دم كل واحد منا عدد من كريات الدم الحمراء لو رُصفت الواحدة تلو الأخرى لطوَّقت الأرض عند خط الاستواء سبع مرات ، لأنه في الميليمتر المكعب الواحد يوجد خمسة ملايين كرية حمراء ، و الشيء الذي لا يُصدَّق أن هناك أوعية شَعرية لا يزيد قطرها عن قطر كرية الدم الحمراء ، لذلك تُضطر الكريات الحمراء في هذه الأوعية الدقيقة أن تسير واحدة تلو الأخرى في نسق واحد ، و الأغرب من ذلك أن بعض الأوعية الدقيقة يضيق قطرُها عن قطر الكرية الحمراء ، فكيف تسير هذه الكرية فيها ؟ عندئذ تتطاول هذه الكرية الحمراء فتأخذ شكلاً بيضوياً من أجل أن تسير في هذا الوعاء الدقيق ، قال تعالى :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[سورة فصلت: 53]

 هذه الكرية الحمراء تعيش مئة وعشرين يوماً ، وفي هذه المئة والعشرين يوماً تقطع مئة وستين ألف رحلة من القلب إلى الأطراف ، و تقطع في هذه الرحلات ما يزيد عن ألف وخمسمائة كيلومتر ، الكرية الحمراء منذ أن تولد و حتى تموت تقطع ما يزيد على ألف وخمسمئة كيلومتر في الأوردة والشرايين ، قال تعالى :

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾

[سورة فصلت: 53]

 هناك معامل لتصنِّع كريات الدم الحمراء ، جعلها الله في نقي العظام ، هذه المعامل تطرح كل يوم ألفي مليار من الكريات الحمراء ، فإذا توقفت هذه المعامل عن التصنيع فهناك مرض خطير لا بد من أن ينتهي بصاحبه إلى الموت ، ألا وهو فقر الدم اللامصنع ، حينما تكف هذه المعامل عن تصنيع كريات الدم الحمراء يموت الإنسان ، حينما تطبخ اللحم ، و مع اللحم العظم ، و حينما تدقُّ العظم لتأخذ هذا الشيء الطيب في داخله . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور