وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطب الإذاعية - الخطبة : 32 - يوم عرفة - الله أكبر - الأضحية ومشروعيتها.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخــطــبـة الأولــى:

 الحمد لله رب العالمين، يا رب اكتب الصحة والسلامة لحجاج بيتك الحرام، الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، جاؤوك شُعْثاً غُبْراً من كل فَجٍّ عميق، وقد خلَّفوا وراءَهم أوطانهم، وخِلانهم، وأعمالهم، وحظوظهم، لا يَحْدوهم في رحلتهم إليك إلا الطمع في مغفرتك، والرغبة في رحمتك، والفوز برضوانك، وقد أخبرهم نبيك وهو الصادق المصدوق أنهم وفدك ؛ إن دعوك أجبتهم، وإن استغفروك غفرت لهم، ووعدتهم على لسان نبيك الذي لا ينطق عن الهوى أنه:

(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))

[ متفق عليه أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

 يا رب اغفر لهم، وارحمهم، وعافهم، واعف عنهم، لقهم الأمن والبشرى، والكرامة و الزلفى، وارزقنا وإياهم حجاً مبروراً، وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً.
 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس، والشهر الحرام والهدي والقلائد، ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأن الله بكل شيء عليم.
 وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله بشّر الحجاج أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الخلق، وحبيب الحق، وعلى آله وصحبه، ومن ولاه، وارض عنا، وعنهم يا رب العالمين.
 عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير.

العبادات الشعائرية وسائل ينطلق الإنسان بها من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبيرة:

 العبادات الشعائرية ومنها الحج وسائل ينتظر أن ينعقد من خلالها اتصال بين هذا الإنسان الحادث، الفاني، المحدود، الصغير، وبين الخالق المطلق، الأزلي، الباقي، الذي خلق هذا الوجود، وعندها ينطلق الإنسان من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير، ومن حدود قوته الهزيلة إلى عظمة الطاقات الكونية، ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله.
 أيها الأخوة، هذا الاتصال لا ينعقد إلا أن يكون الإنسان ملتزماً بالمنهج التعبدي، والتعاملي، والأخلاقي فيما بينه وبين الخلق، هذا الاتصال هو جوهر الدين، فالصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين.

فوائد الاتصال بالله عز وجل:

1 ـ يطهر الإنسان من عوامل انحطاطه وشقائه:

 من ثمار هذا الاتصال أنه يطهر الإنسان من عوامل انحطاطه وشقائه، الصلاة طهور كما قال عليه الصلاة والسلام.

 

2 ـ يسعد المتصل سعادة تنبع من ذاته:

 ومن ثمار هذا الاتصال أنه يسعد المتصل سعادة تنبع من ذاته، قال أحد العارفين: "ماذا يصنع أعدائي بي، بستاني في صدري، إن حبسوني فحبسي خلوة، وإن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة".

 

 

3 ـ المتصل بالله طاهر السرير مستنير البصيرة:

 المتصل بالله طاهر السرير مستنير البصيرة، منغمس في سعادة لا تستطيع سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة أن تصرفه عنها.

 

الاتصال بالله يتفاوت نوعا وأمداً من عبادة إلى أخرى:

 هذا الاتصال يتفاوت نوعا وأمداً من عبادة إلى أخرى، ففي الصلاة يشحن المصلي شحنة روحية تطهره، وتنوره، وتسعده إلى الصلاة التي تليها، لكن فريضة الجمعة وخطبتها ينبغي أن تشحنه شحنة أكبر وأطول، ينبغي أن تشحنه إلى الجمعة التي تليها.
 أما الصيام فقد أراده الله ثلاثين يوماً يترك فيها الصائم طعامه وشرابه، لتكون الشحنة الروحية كافية لعام كامل، أما الحج فهو عبادة تؤدى في العمر مرة واحدة فرضاً، وهو عبادة شعائرية مالية بدنية، تؤدى في أوقات معلومة وأمكنة مخصوصة، لذلك تحتاج إلى تفرغ تام من تعلقات الدنيا، كالوطن، والأهل، والأولاد، والعمل، وتفريغ كامل من كل الحجب والأقنعة التي تبعد النفس عن خالقها، فلابدّ للحاج أن يخلع ثيابه التي تعبر بشكل أو بآخر عن دنياه ولابدّ أن يبتعد عن أكثر المباحات التي تشده إلى الدنيا، كل هذا من أجل أن يشحن المؤمن في الحج شحنة روحية كبيرة، تكفي لأن يلتزم بمنهج الله، وأن يقبل عليه، وأن يعمل للدار الآخرة إلى أن يلقى ربه.

الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأكبر:

 ركن الحج الأكبر هو الوقوف بعرفة، كما قال علية الصلاة والسلام:

(( الحـج عرفة ))

[ الترمذي و أبو داود عن النعمان بن بشير]

 لذلك يعد يوم عرفة، ونحن في يوم عرفة، يوم اللقاء الأكبر بين العبد المنيب المشتاق وبين ربه التواب الرحيم، فيوم عرفة يوم المعرفة، ويوم عرفة يوم المغفرة، ويوم عرفة يوم تتنزل فيه الرحمات على العباد من خالق الأرض والسماوات، ومن هنا قيل من وقف في عرفات، ولم يغلب على ظنه أن الله قد غفر له فلا حج له.

 

(( ما من أيام عند الله افضل من عشر ذي الحجة، فقال رجل هن أفضل أم من عدتهن جهاداً في سبيل الله ؟ قال: هن أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، يقول: انظروا عبادي جاءوني شعثاً غبراً ضاحين، جاؤوني من كل فج عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتيقاً من النار من يوم عرفة))

 

[المنذري رواه البزار وابن خزيمة وابن حبان واللفظ له عن جابر رضي الله عنه]

 وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن علي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تثوب فقال: يا بلال أَنصِت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( معشر الناس أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فأقرأني من ربـــي السلام وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر الحرام وضمن عنهم التبعات ))

 

[ابن المبارك عن أنس بن مالك رضي الله عنه ]

 فقـام عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله هذه لنا خاصة ؟ قال: هذه لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر رضي الله عنه، كثر خير الله وفاض.
 و:

 

(( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ماذا أراد هؤلاء))

 

[مسلم عن عائشة رضي الله عنها ]

 و:

 

((ما رئي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أغيظ فنه من يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أري من يوم بدر، قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ أما إنه رأى جبريل يزع الملائكة))

 

[رواه الإمام مالك مرسلاً والحاكم موصولاً عنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ]

 أي يقودهم.

خير الدعاء دعاء يوم عرفة:

 أيها الأخوة الكرام:

(( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير))

[أحمد والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ]

 ويروى عن حسين المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فقلت له: هذا ثناء، وليس بدعاء، فقال: أما تعرف حديث مالك بن الحارث، هو تفسيره ؟ قلت: حدِّثْـنيه أنت، فقال: حدثنا مالك بن الحارث قال يقول الله عز وجل:

 

(( إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيتــه أفضل ما أعطي السائليــن))

 قال: وهذا تفسير قول النبي، ثم قال سفيان: أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله بن جدعان يطلب نائله " أي عطاءه "، قلت: لا، قال، قال أمية:

 

 

أأذكر حاجتي أم قد كفانـي  حياؤك إن شيمتك الحيـاء
وعلمك بالحقوق و أنت ورع  لك الحسب المهذب والثناء
إذا أثنى عليك المرء يومــاً  كفاه من تعرضه الثنــاء
***

 ثم قال: يا حسين هذا مخلوق يكتفى بالثناء عليه دون مسألة فكيف بالخالق ؟

 

المؤمن الحق لا يقنط من رحمة الله:

 أيها الأخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام، قصة سيدنا يونس عليه السلام، خير ما يؤكد هذا المعنى، ما من مصيبة أشد من أن يجد الإنسان نفسه فجأة في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة أعماق البحر، وفي ظلمة الليل، وما من مصيبة انقطعت معها كل أسباب الخلاص كهذه المصيبة، فنادى يونس عليه السلام:

﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾

( سورة الأنبياء )

 فاستجبنا له، دققوا في كلمة فاستجبنا، أي أن الله جلّ جلاله عدّ ثناء يونس دعاء، ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾، انتهت القصة، ولئلا يظن قارئ القرآن أنها قصة تاريخية وقعت مرة ولن تقع مرة أخرى جعلها الله قانوناً بهذا التعقيب، جعلها الله قانوناً ساري المفعول في كل زمان ومكان، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، التعقيب:

﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

( سورة الأنبياء )

 أي مؤمن إذا دعا الله عز وجل مضطراً، فإن الله سبحانه وتعالى يجيبه، فالمؤمن الحق لا يقنط من رحمة الله، ولا ييأس من نصر الله.

 

الله أكبر أكبرُ من كل شيء يشغل الإنسان عن الخشوع لربه:

 

 

 لذلك لا يسع الحاج بعد أن أفاض من عرفات، وقد حصل له هذا اللقاء الأكبر، وأشرقت في نفسه أنواره، واصطبغت نفسه بصبغة الله، لا يسعه وقد ذكر فضل الله عليه عند المشعر الحرام، ذكره وشكره على نعمة الهدى والقرب، لا يسعه وقد عبر تعبيراً رمزياً عن عداوته الأبدية للشيطان برمي جمرة العقبة، لا يسعه بعد أن لبى دعوة ربه وحظي بقربه، ورأى طرفاً من جلال ربه وإكرامه، لا يسعه إلا أن يكبر الله على نعمة الهدى والقبول والقرب، لذلك قطع النبي صلى الله عليه وسلم التلبية بعد رمي جمرة العقبة والحلق، وبدأ بالتكبير، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، كلمة موجزة لكنها خطيرة، الله أكبر مع أخواتها، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، هي الباقيات الصالحات في قوله تعالى:

﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا(46)﴾

( سورة الكهف )

 فالمرء إذا سبّح الله حقيقة، وحمده، ووحده، وكبره، فقد عرفه، وإذا عرفه أطاعه، وإذا أطاعه استحق جنته، وما عند الله خير وأبقى من الدنيا الدنية الفانية، والله أكبر يفتتح بها الأذان، ويختم بها، ليشعر المسلم وهو يسمع الأذان، وهو منغمس في عمله وتجارته، أن ما عند الله حينما يمتثل العبد أمره بتلبية النداء أكبر من كل شيء بين يديه مهما يكن كبيراً، والله أكبر نفتتح بها صلاتنا، ونرددها في أثناء الصلوات الخمس ما يزيد عن مئتين وخمسين مرة في اليوم الواحد، وقد أصاب بعض الفقهاء حين عدّها أقربَ إلى الشرط الذي ينبغي أن يستمر طوال الصلاة منها إلى الركن الذي ينقضي بأدائه، فالمصلي ينبغي أن يلحظ في أثناء صلاته أن الله أكبر أكبرُ من كل شيء يشغله عن الخشوع لربه.
 والله أكبر نرددها عقب انتصارنا على أنفسنا، عقب عبادة الصيام في عيد الفطر السعيد، وعقب عبادة الحج في عيد الأضحى المبارك، لذلك سنّ لنا النبي صلى الله عليه وسلم التكبير في العيدين، لأنه تحقيق للعبودية لله والعودة إليه.

 

المؤمن مهما ازدادت معرفته بربه فالله أكبر مما عرف:
 أيها الأخوة الكرام، إذا رجع العبد إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، والله أكبر نرددها، ونحن نواجه أعداءنا، وبعد أن ننتصر عليهم من أجل أن نشعر أن الله أكبر من كل كبير، وأن النصر من عند الله:

﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) ﴾

( سورة آل عمران)

 والله أكبر يرددها المؤمن السالك إلى الله، فتعني عنده أنه كلما كشف له جانب من عظمة الله، جانب من قدرة الله، جانب من رحمة الله، جانب من إكرام الله، تعني عنده أن الله أكبر مما رأى.
وكما قال الإمام الشافعي: ( كلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي ).
 ومجمل القول إن المؤمن مهما ازدادت معرفته بربه فالله أكبر مما عرف، والعبرة كل العبرة لا في ترديد لفظها بل في معرفة مضمونها، ومضمون هذا الكلمة يؤكده، ويحدده سلوك المؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم قمة البشر في معرفة مضمون كلمة " الله أكبر ".

المرء إن أطاع مخلوقاً وعصى خالقه فهو ما قال الله أكبر ولا مرة:

 أرسلت قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقول له: " لقد أتيت قومك بأمر عظيم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها، إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، فلم يفلح في هذا المحاولة.
 ثم حاولت قريش عن طريق عمه أبي طالب أن تكفه عن دعوته فقال له عمه أبو طالب: " يا بن أخي أَبقِ على نفسك، وعليَّ، ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن قال قولته الشهيرة:

 

(( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))

 

[ السيرة النبوية ]

 الله أكبر قالها أصحاب رسول الله، قالوها بألسنتهم، وامتلأت بها قلوبهم، وصدقتها أعمالهم، ففعلوا وهم قلة ما نعجز عن فعل معشاره، ونحن كثرة، فالواحد ممن يقولها، ويصدقها عمله كألف، والألف ممن يقولها ولا يصدقها عمله كأف.
 سيدنا سعيد بن عامر، أرادت زوجته أن تحمله على الكف عن الإنفاق في سبيل الله، قال لها: " لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله، وما أحب أن أنحرف عن طريقهم، ولو كانت لي الدنيا وما فيها ـ وقد خشي أن تتدلل عليه بجمالها، وهو سلاح النساء ـ فقال لها: تعلمين أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أحرى وأولى من أن أضحي بهن من أجلك، قال هذا الصحابي الجليل: الله أكبر بلسانه، وامتلأ بها قلبه، وصدقها عمله.
 راعٍ من عامة المسلمين يرعى شياهاً قال له ابن عمر ممتحناً: بِعْنِي هذه الشاة، وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب، وخذ ثمنها، قال والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله ؟!.
 قال هذا الراعي، الله أكبر بلسانه، وامتلأ بها قلبه، وصدقها عمله.
 فإذا أطاع المرء مخلوقاً كائناً من كان، وعصى خالقه فهو ما قال الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما أطاع الأقوى في تصوره.
 وإذا غشّ المرء الناس ليجني المال الوفير، فهو ما قال الله أكبر ولا مرة، ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما رأى أن هذا المال أكبر عنده من طاعة الله ورسوله.
 وإذا لم يقم المرء الإسلام في بيته إرضاء لأهله ولأولاده فهو ما قال الله أكبر ولا مرة ولو ردَّدها بلسانه ألف مرة، لأنه إنما رأى أن إرضاء أهله أكبر عنده من إرضاء ربه.

 

من عرف مضمون الله أكبر تغير حاله من حال إلى حال:

 

 أيها الأخوة الكرام، كلمة الله أكبر التي سوف نرددها غداً إن شاء الله، لو عرف المسلمون مضمونها فرددوها بألسنتهم، وامتلأت بها قلوبهم، وصدقتها أعمالهم، لكانوا في حال آخر مع الله، وموقف آخر مع الخلق.
 أيها الأخوة الكرام حضوراً ومستمعين، لنردد الله أكبر بألسنتنا، ولنتعرف إلى مضمونها، ولتكن أعمالنا مصدقة لها، حتى نستحق أن يرحمنا الله، وأن ينصرنا على أعدائنا.
 اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين.

***

الخطبة الثانية:

الأضحية ومشروعيتها:

 الأضحية شعيرة من شعائر المسلمين في عيد الأضحى المبارك، ومشروعيتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ))

[ أحمد وابن ماجة عن أبي هريرة]

 وقد استنبط أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ من هذا الحديث أنها واجبة، فمثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، وقال غير الأحناف: إنها سنة مؤكدة، ولهم أدلتهم.
 فهي واجبة مرة في كل عام على المسلم الحر البالغ العاقل المقيم الموسر، فقد قال عليه الصلاة و السلام:

 

(( ما عمل ابن آدم يوم النحر عمــلاً أحب إلى الله تعال من إراقة الدم، إنها - أي الأضحية - لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافهـــا و أشعارها، وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً ))

 

[رواه ابن ماجه والترمذي عن عائشة]

 ومن حديث أنس رضي الله عنـه قال:

 

(( ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر، قال: رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده ))

 

[ البخاري عن أنس]

 وحكمتها أن المسلم الموسر يعبر بها عن شكره لله تعالى على نعمه المتعددة، منها نعمة الهدى، ومنها نعمة البقاء على قيد الحياة من عام إلى عام، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، ومنها نعمة السلامة، والصحة، ومنها نعمة التوسعة في الرزق، وهي فضلاً عن ذلك تكفير لما وقع من الذنوب، وتوسعة على أسرة المضحي، وأقربائه، وأصدقائه، وجيرانه، وفقراء المسلمين.

شروط الأضحية ووقت نحرها:

 ومن شروط وجوبها اليسار، فالموسر هو مالك نصاب الزكاة زائداً عن حاجاته الأساسية، أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأضحية أيام العيد فقط، أو هو الذي لا يحتاج إلى ثمن الأضحية خلال العام كله، على اختلاف بين المذاهب في تحديد معنى الموسر.
 وينبغي أن يكون الحيوان المضحى به سليماً من العيوب الفاحشة التي تؤدي إلى نقص في لحم الذبيحة، أو تضر بآكلها، فلا يجوز أن يضحي بالدابة البين مرضها، ولا العوراء، ولا العرجاء، ولا العجفاء، و لا الجرباء، ويستحب في الأضحية أسمنها، وأحسنها.
 وكان صلى الله عليه وسلم يضحي بالكبش الأبيض الأقرن.
 وقت نحر الأضحية بعد صلاة عيد الأضحى وحتى قبيل غروب شمس اليوم الثالث من أيام العيد، على أن أفضل الأوقات هو اليوم الأول ما بعد صلاة عيد الأضحى وحتى قبل زوال الشمس.
 ويكره تنزيهاً الذبح ليلاً، ولا تصح الأضحية إلا من النعم، من الإبل والبقر والغنم من ضأن ومعز، بشرط أن يتم الضأن ستة أشهر، وأن تتم المعز سنة كاملة عند بعض الأئمة، ويُجزئُ المسلم أن يضحي بشاة عنه، وعن أهل بيته المقيمين معه، والذين ينفق عليهم، وهم جميعاً مشتركون في الأجر، ومن مندوبات الأضحية أن يتوجه المضحي نحو القبلة، وأن يباشر الذبح بنفسه إن قدر عليه، وأن يقول:
((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك وإليك، اللهم تقبل مني ومن أهل بيتي))
 ولـه أن يوكل غيره وعندها يستحب أن يحضر أضحيته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة:
(( قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه يغفر لك عند أول قطرة من دمها))
 ويستحب أن يوزعها أثلاثاً، فيأكل هو وأهل بيته الثلث، ويهدي لأقربائه، وأصدقائه، وجيرانه الثلث، ويتصدق بالثلث الأخير على الفقراء والمسلمين، لقوله تعالى:

﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ (36) ﴾

( سورة الحج )

 قال تعالى:

 

﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)﴾

 

( سورة الحج )

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور