وضع داكن
29-03-2024
Logo
الخطبة : 0759 - محاسبة النفس .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

محاسبة النفس والتدقيق في بواعثها وأهدافها :

 أيها الأخوة المؤمنون ؛ كَمُّ المعلومات التي بين أيدي المسلمين كبير جداً ، أما حجم التطبيق فهو قليل جداً ، لابد من حركة لا إلى مزيد من المعلومات ، بل إلى مزيد من العمل ، لابد من محاسبة النفس حساباً دقيقاً ، لابد من مجاهدة النفس والهوى ، الله عز وجل نوه إلى نموذج من البشر يعاتبون أنفسهم عتاباً شديداً ، ويلومون أنفسهم لوماً مستمراً ، هذا النموذج هم ذوو النفوس اللوامة ، قال تعالى :

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾

[ سورة القيامة : 1ـ2]

 فمحاسبة النفس ، والتدقيق في بواعثها وأهدافها ، ومطابقة أعمالها لسنة نبيها هذا محور هذه الخطبة إن شاء الله تعالى .
 أيها الأخوة الكرام ؛ اللوَّامة من اللوم ، وقد سئل ابن عباس ما اللوَّامة ؟ فقال : " النفس اللؤوم" .
 وقال مجاهد : "هي التي تندم على ما فات ، وتلوم عليه " ، ولابد من وقفة متأنية مع النفس ، لابد من ساعة تخلو فيها بنفسك ، تدقق في عملك ، تحلل نواياك ، تلجأ إلى الله عز وجل ، تطلب منه المساعدة ، هي التي تندم على ما فات ، وتلوم عليه .
 وقال عكرمة : " النفس اللوَّامة تلوم على الخير والشر " ، كيف تلوم على الخير ؟ تلوم المحسنَ نفسُه ، ألا يكون ازداد إحساناً ، وتلوم المسيءَ نفسُه ألا يكون رجع عن إساءته .
 وقال الحسن : " إنَّ المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها- أي يتهمها بالتقصير- في كل ما يفعل ، فيندم ويلوم نفسه ، وإن الفاجر ليمضي قُدماً لا يعاتب نفسه . "

 

أنواع النفس :

 أيها الأخوة الكرام ؛ كما تعلمون النفوس ثلاثة ؛ نفس مطمئنة :

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾

[ سورة الفجر : 27 ـ 28]

 هي النفس التي عرفت ربها ، واستقامت على أمره ، وبذلت الغالي والرخيص في سبيل مرضاته ، فاطمأنت بذكره ، وألقى فيها السكينة فسعدت بها ، هذه النفس المطمئنة .
 وأما النفس الأمارة بالسوء فهي نفس كل عاص ومجرم ، نفس الفجرة والكافرين ، تأمرهم بالسوء، وتبحث عن السوء ، وتحض على السوء ، وتشجع على السوء ، وتثني على السوء ، إنها النفس الأمارة بالسوء .
 ولكن النفس اللوَّامة بين بينَ ، تفعل الخير وتقصر في فعله أحياناً ، تستقيم على أمر الله وتزل قدمها أحياناً ، إنها في محاسبة دقيقة ، إنها في تبصر دقيق في جميع أحوالها مع ربها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ النفس قد تكون أمارة ، وقد تكون لوامة ، وقد تكون مطمئنة والشيء الجديد هو أنها قد تكون في حالةٍ لوامة ، وفي حالة مطمئنة ، وفي حالة أمارة بالسوء ، أي أن المؤمن يتقلب في اليوم الواحد بأحوال كثيرة بأربعين حالاً ، بينما المنافق يستقر أربعين عاماً في حال واحدة ، فهذا التقلب من جهةِ خوفِ العبدِ ربَّه ، من جهةِ التدقيقِ في نواياه ، من جهةِ الشكِّ في حسنِ هدفه ، هذا الذي يبعث على التقلب والتلون .

 

الحضّ على محاسبة النفس :

 أيها الأخوة الكرام ؛ العبرة بعد اللوم المحاسبة ، فيجب أن نحاسب أنفسنا ، ويجب أن نخالف أهواءنا ، وهلاك القلب من إهمال محاسبة النفس ، وهلاك القلب من موافقتها في هواها ، شيئان مهلكان؛ ألاَّ تحاسب نفسك ، وأن تتابعها على هواها ، وفي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

[ الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ]

 قال علماء التفسير ، تفسير الحديث دان نفسه أي : حاسبها حساباً شديداً .
 وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ :

((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ))

[الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ]

 أيها الأخوة الكرام ؛ الحض على محاسبة النفس محور هذه الخطبة ، دقق في كل كلمة تقولها ، في كل عطاء تعطيه ، في كل منع تمنعه ، في كل غضب تغضبه ، في كل رضا ترضاه ، في كل صلة تصلها ، في كل قطيعة تقطعها ، ماذا أردت بهذا ؟ حاسب نفسك، تبطَّن أهدافك ، تأمل بواعثك .
 أيها الأخوة الكرام ؛ ذكر الإمام الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ قال : " لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ، يخاطبها ماذا أردت بهذا العمل ؟ ولماذا تأكلين ؟ ولماذا تشربين ؟ أما الفاجر فيمضي قدماً لا يحاسب نفسه" . وقال قتادة في قوله تعالى :

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾

[ سورة الكهف : 28]

 أيْ أضاع نفسه وغبنها ، ومع ذلك تراه حافظاً لماله ، مضيعاً لدينه ، فبالنسبة للقضية المتعلقة بالمال تجده يقظًا جداً ، دقيقًا جداً ، يحاسب حساباً عسيراً ، أما في القضية المتعلقة بالدين فهو لا يدقق ، ولا يبحث ، ولا يسأل ، ولا يتحرك ، هذا معنى قوله تعالى : "وكان أمره فرطاً" . وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ‏ : " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظاً من نفسه ، وكانت محاسبته من همته" .
 عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((‏إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه ))

[ السيوطي في الجامع الصغير عن أم سلمة]

 وهذا جوهر النفس اللوَّامة ، وقال أحد العلماء : لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه . ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك . وقال بعضهم : إن التقي أشدّ محاسبةً لنفسه من سلطان عاصٍ ، ومن شريك شحيح .
و :

(( إن في حكمة آل داود عبرة للعاقل اللبيب ألا يشغل نفسه إلا في أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يلقى فيها إخوانه الذين ينصحونه في نفسه ويخبرونه بعيوبه ، وساعة يخلو بين نفسه وبين ربها فيما يحل ويجمل ، فإن في هذه الساعة عوناً على هذه الساعات واستجمام القلوب بفضل بلغة ، وينبغي للعاقل اللبيب أن يكون مالكاً للسانه ، وعارفاً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه))

[ الديلمي عن ابن مسعود]

 وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول : ذق يا حنيف ما حملك على مَا صنعت يوم كذا ؟ .

 

محاسبة النفس لأن الغفلة من أشدّ الأشياء المهلكة لها :

 أيها الأخوة الكرام ؛ أتمنى على الله أن أكون وإياكم من هؤلاء الذين يحاسبون أنفسهم كل يوم ، وكل ساعة ، ويتأملون ، ويدققون ، ويعرضون أعمالهم على الكتاب والسنة ، ويتفحصون نواياهم ، أما هذا الذي يغدو ويروح هكذا بلا حساب ، ولا تأمل ، ولا تدقيق ، ولا بحث ، ولا تقييم ، فإنه غافل عن الله ، والغفلة من أشدّ الأشياء المهلكة للنفس .
 كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله : حاسب نفسك في الرخاء قبل الشدة ، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة ، ومن أَلْهَتْهُ حياتُه وشَغَلَتْهُ أهواؤُه عاد أمره إلى الندامة والخسارة .
 وقال الإمام الحسن : " المؤمن قوَّامٌ على نفْسه ، يحاسب نفسَه لله ، وإنّما خفَّ الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسَهم في الدنيا ، وإنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة " ماذا يقول الناس اليوم بلغتهم الدارجة ؟ لا تدقق ، الله غفور رحيم ، نحن عبيد إحسان لسنا عبيد امتحان ، هذا كلام الجهل ، هذا كلام الشيطان ، هذا كلام من غفل عن ذكر الله عز وجل .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه ، فقد يرى شيئاً جميلاً ، يرى مغنماً قريباً ، يرى شيئاً بين يديه ، تتوق نفسه إليه ، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات هيهاتَ ، حيل بيني وبينك ، شهوة لا ترضي الله تتوق نفسه إليها ، ولكن خوف الله عز وجل يغلب عليه ، لكن الطمع بالآخرة يغلب عليه ، لكن مراقبة الله عز وجل تغلب عليه ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت هذا ، مالي ولهذا ، والله لا أعود إلى هذا أبداً ، إن اشتهى شيئاً لا يرضي الله عزفت نفسه عليه طمعاً بما عند الله ، وإن بدر منه شيء لا يرضي الله استغفر الله وتاب إلى الله ورجع إليه ، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا ، يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل ، يعلم أنه مأخوذ عليه ، في سمعه ، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في كل ذلك .

﴿كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 36]

 قال مالك بن دينار : رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً . هذه البطولة ، أن تملك نفسك ولا تملكك ، أن تقود هواك ولا يقودك ، أن تحتكم إلى القيم لا أن تسخر منها .

 

حفظ الجوارح السبع حفظ لرأس مال المؤمن :

 أيها الأخوة الكرام ؛ تشبيه أورده بعض العلماء كما أنه لا يتم المقصود من الشركة إلا بالربح ، ولا يكون هذا الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك ، ثم بمطابقة ما يعمل على الشرط ، ثم بالإشراف عليه ، ثم بمحاسبته ، ثم بمنعه من الخيانة ، كذلك النفس ينبغي أن تشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبع التي في حفظها حفظ لرأس مال المؤمن ، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال كيف يربح ؟ هذه الجوارح السبع التي هي رأس مالك هي : العين، والأذن ، والفم ، واللسان ، والفرج ، واليد ، والرجل . هي مراكز العصب والنجاة ، هذه الجوارح السبع رأس مال المؤمن إما أن تعصمه إذا اقترف فيها المعاصي ، وإما أن ينجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إن حفظها بحفظ الله عز وجل ، حفظُها أساس كل خير ، إهمالُها أساس كل شر ، إليكم الآيات التي تومئ إلى هذه الجوارح ، أيها الأخوة؛ قال تعالى :

﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾

[ سورة النور : 30 ]

﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾

[ سورة الإسراء : 36 ـ 37 ]

﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾

[ سورة الإسراء : 53 ]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾

[ سورة الأحزاب : 70]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾

[ سورة الحشر : 18 ]

من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :

 لعل آخر آية هي محور الخطبة من القرآن :

﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾

[ سورة الحشر : 18 ]

 أيها الأخوة الكرام؛ إنْ شارطَ العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ، والإشراف عليها ، ومراقبتها ، فلا يهملها ، إنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولابد ، فإن تمادى في الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب برأس ماله كله ، فمتى أحس المؤمن بالنقصان انتقل إلى المحاسبة فحينئذٍ تتبين له حقيقة الربح والخسارة ، فإذا أحس بالخسارة، وتيقنها استدرك منها ما يستدرك الشريك من شريكه من الرجوع عليه بما مضى والقيام بالحفظ والمراقبة فيما سيكون .
 أيها الأخوة الكرام؛ كلما اجتهد العبد اليوم استراح غداً ، كلما حاسبت نفسك وجوارحك حساباً عسيراً كان حسابك يوم القيامة يسيراً ، كلما أتعبتها في طاعة الله سعدت بقرب الله عز وجل ، ما هو الربح أيها الأخوة ؟ إن حاسبت نفسك حساباً عسيراً ، ما هو الربح ؟ أن تسكن الفردوس ، أن تنظر إلى وجه الله جل جلاله ، وما هي الخسارة ؟ دخول النار ، والحجاب عن رب العالمين ، فإذا تيقنت هذا هَانَ عليك الحساب اليوم .
 أيها الأخوة الكرام ؛ مشكلة المشكلات أن الناس اليوم يوازنون بين دنيا ودنيا ، و ينبغي أن تكون الموازنة بين الدنيا والآخرة ، كما ينبغي للمؤمن ألا يغفل عن محاسبة نفسه ، عليه أن يضيق عليها في حركاتها ، وسكناتها ، وخطراتها ، وخطواتها ، وكل نَفَسٍ من أنفاسها . قال تعالى :

﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾

[ سورة آل عمران : 30 ]

كيفية محاسبة النفس :

 أيها الأخوة الكرام ؛ كلام دقيق جداً كيف أحاسب نفسي ؟ هناك محاسبتان للنفس محاسبة قبل العمل ، ومحاسبة بعد العمل ، أرجو أن تكون هذه الفقرة واضحة جداً لأنها أخطر ما في الخطبة .
 رحم الله عبداً وقف عند همِّه ، فإذا كان لله مضى ، وإذا كان لغيره تأخر .
 أي أنّ النفس إذا تحركت لعمل ، كأنْ تنطلق النفس إلى زيارة ، إلى نزهة ، إلى وليمة ، إلى لقاء ، إلى متابعة ، إلى أي عمل تختاره ، إذا تحركت النفس إلى عمل من الأعمال ، وهمَّ به العبد ، تنبّهت النفسُ لتحاسب ، فمَن هي النفس اللوامة ؟ .
 وقفت أولاً ونظرت ، أول شيء : هل هذا العمل مقدور عليه أم غير مقدور عليه؟ هذا التفكير علمي ، هل باستطاعتي أن أفعله أو ليس لي ذلك ؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه توفيراً للوقت والجهد ، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ، ونظر ، هل فعله خير له من تركه أم تركه خير له من فعله ؟ فإذا كان الثاني تركه ولم يقدم عليه ، وإذا كان الأول وقف وقفة ثالثة ، هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟ فإذا كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه ، لئلا تعتاد النفس الشرك ، ويخف عليها العمل لغير الله ، فبقدر ما يخفُّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى ، حتى يصير أثقل شيء عليها ، وإذا كان الأول لوجه الله وقف وقفة رابعة ، ونظر هل هو مُعان عليه ؟ هل له أعوان يساعدونه وينصرونه ؟ إذا كان هذا العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم يكن له أعوانٌ أمسك عنه كما أمسك النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجد معاناً عليه فليقدم عليه فإنه منصور ، ولا يفوِّتُ النجاحَ إلا من فوّتَ هذه الخصلة من الخصال .
 كلام دقيق أيها الأخوة ، أعيده ثانية؛ ما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً عليه ، هذه أول مرحلة ، ولا كل ما يكون مقدوراً عليه يكون فعله خيراً له من تركه ، ولا كل ما يكون فعله خيراً من تركه يفعله لله ، ولا كل ما يفعله لله يكون معاناً عليه ، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه ، هكذا المحاسبة ، وهذا معنى النفس اللوامة ، هذا الذي يتأمل وقّاف يتبصر .

﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾

[ سورة الفرقان : 63 ]

 قبل أن يفعل ، قبل أن يعقد هذا العقد ، قبل أن يمضي هذه الشركة ، قبل أن يسافر ، قبل أن يتزوج ، قبل أن يطلِّق ، قبل أن يغضب ، قبل أن يرضى ، يمشي بهذا المنهج، هل هذا العمل مقدور عليه ؟ إن كان لا يدعه ، وإن كان نعم يُقبِل عليه ، هل هو خير لي أم ليس كذلك ؟ هو خير ، فهل أبتغي به وجه الله ؟ أبتغي به وجه الله ، هل أنا مُعان عليه ؟ لا، إذًا أدعُه ، وإن كنتُ مُعانًا عليه فإذًا أمضي به .

 

حقُّ الله تعالى يتلخّص في ستة أمور :

 أيها الأخوة الكرام ؛ محاسبة النفس على طاعةٍ قصرت بها في حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ، هذا بعد الفعل ، أما قبل الفعل أنفعل هذا ؟ ثم لا بد من التروي ، لكن بعد الفعل نحاسبها على شيئين ، على طاعة قصّر فيها العبد في حق الله تعالى فلم يوقعها على الوجه الذي ينبغي ، وحقُّ الله تعالى يتلخّص في ستة أمور؛ الإخلاص في العمل ، والنصيحة لله ، ومتابعة رسول الله ، وشهود مشهد الإحسان فيه ، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه ، بعد ذلك كله يحاسب نفسه ، وهل في هذه المحاسبة من خير ؟ كل الخير في هذه المحاسبة ، أو أن يحاسب نفسه على أمر مباح ، أو معتاد ، لمَ فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحاً ؟ أم أراد به الدنيا وعاجلها فيكون خاسراً ؟ دققوا في هذه الكلمة أيها الأخوة ؛ عاداتُ المؤمن عباداتٌ ، وعباداتُ المنافق سيئاتٌ ، عاداتُ المؤمن عباداتٌ ، لأنه يبتغي بها وجه الله عز وجل .

تركُ المحاسبة والاستغفار يؤول بالنفس إلى الهلاك :

 هناك علماء كبار حاسبوا أنفسهم حساباً عسيراً ، فكان حسابهم يوم القيامة يسيراً ، رجاءً ورحمةً من الله عز وجل ، أما تركُ المحاسبة والاستغفار ، وتسهيل الأمور وتمشيتها ، فإنَّ هذا يؤول إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور ، يغمض عينيه عن العواقب ، ويمشَّي الحال ، ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه ، والنظر في العاقبة ، فإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب ، وأَنِس بها ، وعسُر عليه فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن الحِمية أسهل من الفطام .

فلا تَرُمْ بالمعاصي كسرَ شهوتها  إن الطعامَ يقوِّي شهوةَ النهم
***

 احفظ هذه القاعدة : الحِمْية أهون من الفطام ، الحِمية بيدك ، أما الفطام فليس بيدك ، قد تستطيع أن تفطم نفسك ، وقد لا تستطيع . رجل اسمه توبة بن الصمَّة ، كان محاسباً لنفسه ، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألف يوم فصرخ يا ويلتي ، ألقى ربي بواحد وعشرين ألف ذنب ، كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب ؟ ثم خر مغشياً عليه .
 المؤمن يوم القيامة لا يندم إلا على ساعة مضت لم يذكر الله فيها ، المؤمن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض ، فإذا تذكر فيها نقصاً تداركه ، ثم يحاسبها على المناهي ، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار ، والحسنات هي الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإذا كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله ، ثم يحاسبها بما تكلم به ، أو مشت إليه رجلاه ، أو بطشَتْهُ يداه ، أو سمعَتْهُ أذناه ، ماذا أردت بهذا ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟ ويعلم أنه لابد لكل حركة وكلمة من سؤالين : لمَ فعلته ؟ وكيف فعلته ؟ فالأول سؤال عن الإخلاص ، والثاني سؤال عن المتابعة ، قال تعالى :

﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة الحجر : 92 ـ 93]

 وقال تعالى :

﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾

[ سورة الأعراف : 6]

 وقال تعالى :

﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾

[ سورة الأحزاب : 8 ]

 فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين ؟
 أيها الأخوة الكرام ؛ هذا غيض من فيض في أمر المحاسبة ، كل هذا الكلام شرح لقوله تعالى :

﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾

[ سورة القيامة : 1ـ2]

 أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .

 

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

التفكر في الموت :

 أيها الأخوة الكرام ؛ قد يشعر المرء من نفسه رعونة وتمرداً ، واتِّباعاً للشهوة ، وإيثاراً للدنيا ، فماذا يفعل ؟ العلاج كما وصفه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارق ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، ماذا يمنع أن تفكر كل يوم بالموت ، لا بمعنى أن تقف ولا تعمل ، لا ، بل إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ، لا أقصد من التفكر في الموت أن تدع العمل ، ولكن أن تنضبط بمنهج الله عز وجل ، أن تأخذ ما لك وأن تدع ما ليس لك ، أن تقول قولاً سديداً ، أن تركز على الدار الآخرة ، أن تنقل اهتماماتك إلى الدار الآخرة ، أن تؤمن أن العاقبة للمتقين ، أن تعمل للآخرة ، فيا أيها الأخوة التفكر في الموت موعظة وأي موعظة ، إن الإنسان بلحظة واحدة يخسر كل شيء جمعه في الدنيا ويؤول إلى غيره ، وإنّ هذه الساعة لابد من أن يدركها كل إنسان كائنًا مَن كان ، فالعاقل والذكي والفالح والمتفوق هو الذي يعد لهذه الساعة عدتها .
 أيها الأخوة الكرام ؛ إذا رأى الإنسان من نفسه رعونة ، أو تمرداً ، أو تعلقاً بالدنيا ، أو إصراراً عليها من غير الوجه الصحيح ، بغير منهج الله عز وجل فعليه بتذكر الموت ، ماذا يمنع أن تتبع جنازةً? وأن ترى لحظة الدفن المؤثرة ؟ ماذا يمنع أن تفكر فيم سيكون ؟ ماذا يمنع أن يكون هذا اللقاء الرباني ماثلاً أمامك كل لحظة ؟ واعلموا أنّ الأمر جد ، والسفر قريب، وفي الطريق عقبة كؤود لا يجتازها إلا المخفون ، والبحر عميق ، شمروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن السفر قريب ، وتزودوا فإن السفر بعيد ، وخففوا أثقالكم ، فإن في الطريق عقبة كؤود لا يجتازها إلا المخفون .
 يا أبا ذر جهز السفينة فإن البحر عميق ، وأخلص النية ، فإن الناقد بصير .
 أيها الأخوة الكرام ؛ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ، نحن في دار العمل ، نحن في دار التوبة ، نحن في دار الصلح مع الله ، نحن في دار لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم جئت الله تائباً غفرها لك ولا يبالي ، هكذا قال الله عز وجل :

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[ سورة الزمر : 53 ]

 عود على بدء :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾

[ سورة الحشر : 18 ]

 ماذا هيَّأتَ ليوم القيامة ؟ ماذا هيَّأتَ ليوم تمثُل فيه بين يدي الله عز وجل ؟

 

الدعاء :

 أيها الأخوة الكرام إني داعٍ فأمِّنوا : اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنّا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنا ، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، ‏اللَّهُمّ لاَ تُؤْمِنَّا مَكْرَكَ‏ ، ولا تهتك عنّا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم صُن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونُبتلَى بحمد مَن أعطى وذم من منع وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور