- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ، ونستعين به ونسترشده ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقراراً بربوبيته ، وإرغاماً لمن جحد به وكفر ، وأشهد أن سيدنا محمدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله سيد الخلق والبشر ، ما اتصلت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بخبر ، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريته ، ومن والاه ، ومن تبعه إلى يوم الدين ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
محاسبة النفس والتدقيق في بواعثها وأهدافها :
أيها الأخوة المؤمنون ؛ كَمُّ المعلومات التي بين أيدي المسلمين كبير جداً ، أما حجم التطبيق فهو قليل جداً ، لابد من حركة لا إلى مزيد من المعلومات ، بل إلى مزيد من العمل ، لابد من محاسبة النفس حساباً دقيقاً ، لابد من مجاهدة النفس والهوى ، الله عز وجل نوه إلى نموذج من البشر يعاتبون أنفسهم عتاباً شديداً ، ويلومون أنفسهم لوماً مستمراً ، هذا النموذج هم ذوو النفوس اللوامة ، قال تعالى :
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾
فمحاسبة النفس ، والتدقيق في بواعثها وأهدافها ، ومطابقة أعمالها لسنة نبيها هذا محور هذه الخطبة إن شاء الله تعالى .
أيها الأخوة الكرام ؛ اللوَّامة من اللوم ، وقد سئل ابن عباس ما اللوَّامة ؟ فقال : " النفس اللؤوم" .
وقال مجاهد : "هي التي تندم على ما فات ، وتلوم عليه " ، ولابد من وقفة متأنية مع النفس ، لابد من ساعة تخلو فيها بنفسك ، تدقق في عملك ، تحلل نواياك ، تلجأ إلى الله عز وجل ، تطلب منه المساعدة ، هي التي تندم على ما فات ، وتلوم عليه .
وقال عكرمة : " النفس اللوَّامة تلوم على الخير والشر " ، كيف تلوم على الخير ؟ تلوم المحسنَ نفسُه ، ألا يكون ازداد إحساناً ، وتلوم المسيءَ نفسُه ألا يكون رجع عن إساءته .
وقال الحسن : " إنَّ المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه على كل حالاته يستقصرها- أي يتهمها بالتقصير- في كل ما يفعل ، فيندم ويلوم نفسه ، وإن الفاجر ليمضي قُدماً لا يعاتب نفسه . "
أنواع النفس :
أيها الأخوة الكرام ؛ كما تعلمون النفوس ثلاثة ؛ نفس مطمئنة :
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾
هي النفس التي عرفت ربها ، واستقامت على أمره ، وبذلت الغالي والرخيص في سبيل مرضاته ، فاطمأنت بذكره ، وألقى فيها السكينة فسعدت بها ، هذه النفس المطمئنة .
وأما النفس الأمارة بالسوء فهي نفس كل عاص ومجرم ، نفس الفجرة والكافرين ، تأمرهم بالسوء، وتبحث عن السوء ، وتحض على السوء ، وتشجع على السوء ، وتثني على السوء ، إنها النفس الأمارة بالسوء .
ولكن النفس اللوَّامة بين بينَ ، تفعل الخير وتقصر في فعله أحياناً ، تستقيم على أمر الله وتزل قدمها أحياناً ، إنها في محاسبة دقيقة ، إنها في تبصر دقيق في جميع أحوالها مع ربها .
أيها الأخوة الكرام ؛ النفس قد تكون أمارة ، وقد تكون لوامة ، وقد تكون مطمئنة والشيء الجديد هو أنها قد تكون في حالةٍ لوامة ، وفي حالة مطمئنة ، وفي حالة أمارة بالسوء ، أي أن المؤمن يتقلب في اليوم الواحد بأحوال كثيرة بأربعين حالاً ، بينما المنافق يستقر أربعين عاماً في حال واحدة ، فهذا التقلب من جهةِ خوفِ العبدِ ربَّه ، من جهةِ التدقيقِ في نواياه ، من جهةِ الشكِّ في حسنِ هدفه ، هذا الذي يبعث على التقلب والتلون .
الحضّ على محاسبة النفس :
أيها الأخوة الكرام ؛ العبرة بعد اللوم المحاسبة ، فيجب أن نحاسب أنفسنا ، ويجب أن نخالف أهواءنا ، وهلاك القلب من إهمال محاسبة النفس ، وهلاك القلب من موافقتها في هواها ، شيئان مهلكان؛ ألاَّ تحاسب نفسك ، وأن تتابعها على هواها ، وفي الحديث الذي رواه الإمام الترمذي عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
قال علماء التفسير ، تفسير الحديث دان نفسه أي : حاسبها حساباً شديداً .
وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ :
((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ))
أيها الأخوة الكرام ؛ الحض على محاسبة النفس محور هذه الخطبة ، دقق في كل كلمة تقولها ، في كل عطاء تعطيه ، في كل منع تمنعه ، في كل غضب تغضبه ، في كل رضا ترضاه ، في كل صلة تصلها ، في كل قطيعة تقطعها ، ماذا أردت بهذا ؟ حاسب نفسك، تبطَّن أهدافك ، تأمل بواعثك .
أيها الأخوة الكرام ؛ ذكر الإمام الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال : " لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه ، يخاطبها ماذا أردت بهذا العمل ؟ ولماذا تأكلين ؟ ولماذا تشربين ؟ أما الفاجر فيمضي قدماً لا يحاسب نفسه" . وقال قتادة في قوله تعالى :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾
أيْ أضاع نفسه وغبنها ، ومع ذلك تراه حافظاً لماله ، مضيعاً لدينه ، فبالنسبة للقضية المتعلقة بالمال تجده يقظًا جداً ، دقيقًا جداً ، يحاسب حساباً عسيراً ، أما في القضية المتعلقة بالدين فهو لا يدقق ، ولا يبحث ، ولا يسأل ، ولا يتحرك ، هذا معنى قوله تعالى : "وكان أمره فرطاً" . وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ : " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظاً من نفسه ، وكانت محاسبته من همته" .
عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه ))
وهذا جوهر النفس اللوَّامة ، وقال أحد العلماء : لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه . ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك . وقال بعضهم : إن التقي أشدّ محاسبةً لنفسه من سلطان عاصٍ ، ومن شريك شحيح .
و :
(( إن في حكمة آل داود عبرة للعاقل اللبيب ألا يشغل نفسه إلا في أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يلقى فيها إخوانه الذين ينصحونه في نفسه ويخبرونه بعيوبه ، وساعة يخلو بين نفسه وبين ربها فيما يحل ويجمل ، فإن في هذه الساعة عوناً على هذه الساعات واستجمام القلوب بفضل بلغة ، وينبغي للعاقل اللبيب أن يكون مالكاً للسانه ، وعارفاً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه))
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع إصبعه فيه ثم يقول : ذق يا حنيف ما حملك على مَا صنعت يوم كذا ؟ .
محاسبة النفس لأن الغفلة من أشدّ الأشياء المهلكة لها :
أيها الأخوة الكرام ؛ أتمنى على الله أن أكون وإياكم من هؤلاء الذين يحاسبون أنفسهم كل يوم ، وكل ساعة ، ويتأملون ، ويدققون ، ويعرضون أعمالهم على الكتاب والسنة ، ويتفحصون نواياهم ، أما هذا الذي يغدو ويروح هكذا بلا حساب ، ولا تأمل ، ولا تدقيق ، ولا بحث ، ولا تقييم ، فإنه غافل عن الله ، والغفلة من أشدّ الأشياء المهلكة للنفس .
كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله : حاسب نفسك في الرخاء قبل الشدة ، فإنه من حاسب نفسه في الرخاء قبل الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة ، ومن أَلْهَتْهُ حياتُه وشَغَلَتْهُ أهواؤُه عاد أمره إلى الندامة والخسارة .
وقال الإمام الحسن : " المؤمن قوَّامٌ على نفْسه ، يحاسب نفسَه لله ، وإنّما خفَّ الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسَهم في الدنيا ، وإنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة " ماذا يقول الناس اليوم بلغتهم الدارجة ؟ لا تدقق ، الله غفور رحيم ، نحن عبيد إحسان لسنا عبيد امتحان ، هذا كلام الجهل ، هذا كلام الشيطان ، هذا كلام من غفل عن ذكر الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه ، فقد يرى شيئاً جميلاً ، يرى مغنماً قريباً ، يرى شيئاً بين يديه ، تتوق نفسه إليه ، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات هيهاتَ ، حيل بيني وبينك ، شهوة لا ترضي الله تتوق نفسه إليها ، ولكن خوف الله عز وجل يغلب عليه ، لكن الطمع بالآخرة يغلب عليه ، لكن مراقبة الله عز وجل تغلب عليه ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت هذا ، مالي ولهذا ، والله لا أعود إلى هذا أبداً ، إن اشتهى شيئاً لا يرضي الله عزفت نفسه عليه طمعاً بما عند الله ، وإن بدر منه شيء لا يرضي الله استغفر الله وتاب إلى الله ورجع إليه ، إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا ، يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل ، يعلم أنه مأخوذ عليه ، في سمعه ، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في كل ذلك .
﴿كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾
قال مالك بن دينار : رحم الله عبداً قال لنفسه : ألستِ صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً . هذه البطولة ، أن تملك نفسك ولا تملكك ، أن تقود هواك ولا يقودك ، أن تحتكم إلى القيم لا أن تسخر منها .
حفظ الجوارح السبع حفظ لرأس مال المؤمن :
أيها الأخوة الكرام ؛ تشبيه أورده بعض العلماء كما أنه لا يتم المقصود من الشركة إلا بالربح ، ولا يكون هذا الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك ، ثم بمطابقة ما يعمل على الشرط ، ثم بالإشراف عليه ، ثم بمحاسبته ، ثم بمنعه من الخيانة ، كذلك النفس ينبغي أن تشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبع التي في حفظها حفظ لرأس مال المؤمن ، والربح بعد ذلك، فمن ليس له رأس مال كيف يربح ؟ هذه الجوارح السبع التي هي رأس مالك هي : العين، والأذن ، والفم ، واللسان ، والفرج ، واليد ، والرجل . هي مراكز العصب والنجاة ، هذه الجوارح السبع رأس مال المؤمن إما أن تعصمه إذا اقترف فيها المعاصي ، وإما أن ينجو من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة إن حفظها بحفظ الله عز وجل ، حفظُها أساس كل خير ، إهمالُها أساس كل شر ، إليكم الآيات التي تومئ إلى هذه الجوارح ، أيها الأخوة؛ قال تعالى :
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً﴾
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾
من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :
لعل آخر آية هي محور الخطبة من القرآن :
﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾
أيها الأخوة الكرام؛ إنْ شارطَ العبد نفسه على حفظ هذه الجوارح انتقل منها إلى مطالعتها ، والإشراف عليها ، ومراقبتها ، فلا يهملها ، إنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولابد ، فإن تمادى في الإهمال تمادت في الخيانة حتى تذهب برأس ماله كله ، فمتى أحس المؤمن بالنقصان انتقل إلى المحاسبة فحينئذٍ تتبين له حقيقة الربح والخسارة ، فإذا أحس بالخسارة، وتيقنها استدرك منها ما يستدرك الشريك من شريكه من الرجوع عليه بما مضى والقيام بالحفظ والمراقبة فيما سيكون .
أيها الأخوة الكرام؛ كلما اجتهد العبد اليوم استراح غداً ، كلما حاسبت نفسك وجوارحك حساباً عسيراً كان حسابك يوم القيامة يسيراً ، كلما أتعبتها في طاعة الله سعدت بقرب الله عز وجل ، ما هو الربح أيها الأخوة ؟ إن حاسبت نفسك حساباً عسيراً ، ما هو الربح ؟ أن تسكن الفردوس ، أن تنظر إلى وجه الله جل جلاله ، وما هي الخسارة ؟ دخول النار ، والحجاب عن رب العالمين ، فإذا تيقنت هذا هَانَ عليك الحساب اليوم .
أيها الأخوة الكرام ؛ مشكلة المشكلات أن الناس اليوم يوازنون بين دنيا ودنيا ، و ينبغي أن تكون الموازنة بين الدنيا والآخرة ، كما ينبغي للمؤمن ألا يغفل عن محاسبة نفسه ، عليه أن يضيق عليها في حركاتها ، وسكناتها ، وخطراتها ، وخطواتها ، وكل نَفَسٍ من أنفاسها . قال تعالى :
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾
كيفية محاسبة النفس :
أيها الأخوة الكرام ؛ كلام دقيق جداً كيف أحاسب نفسي ؟ هناك محاسبتان للنفس محاسبة قبل العمل ، ومحاسبة بعد العمل ، أرجو أن تكون هذه الفقرة واضحة جداً لأنها أخطر ما في الخطبة .
رحم الله عبداً وقف عند همِّه ، فإذا كان لله مضى ، وإذا كان لغيره تأخر .
أي أنّ النفس إذا تحركت لعمل ، كأنْ تنطلق النفس إلى زيارة ، إلى نزهة ، إلى وليمة ، إلى لقاء ، إلى متابعة ، إلى أي عمل تختاره ، إذا تحركت النفس إلى عمل من الأعمال ، وهمَّ به العبد ، تنبّهت النفسُ لتحاسب ، فمَن هي النفس اللوامة ؟ .
وقفت أولاً ونظرت ، أول شيء : هل هذا العمل مقدور عليه أم غير مقدور عليه؟ هذا التفكير علمي ، هل باستطاعتي أن أفعله أو ليس لي ذلك ؟ فإن لم يكن مقدوراً عليه لم يقدم عليه توفيراً للوقت والجهد ، وإن كان مقدوراً عليه وقف وقفة أخرى ، ونظر ، هل فعله خير له من تركه أم تركه خير له من فعله ؟ فإذا كان الثاني تركه ولم يقدم عليه ، وإذا كان الأول وقف وقفة ثالثة ، هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق ؟ فإذا كان الثاني لم يقدم عليه وإن أفضى به إلى مطلوبه ، لئلا تعتاد النفس الشرك ، ويخف عليها العمل لغير الله ، فبقدر ما يخفُّ عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى ، حتى يصير أثقل شيء عليها ، وإذا كان الأول لوجه الله وقف وقفة رابعة ، ونظر هل هو مُعان عليه ؟ هل له أعوان يساعدونه وينصرونه ؟ إذا كان هذا العمل محتاجاً إلى ذلك أم لا ؟ فإن لم يكن له أعوانٌ أمسك عنه كما أمسك النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار ، وإن وجد معاناً عليه فليقدم عليه فإنه منصور ، ولا يفوِّتُ النجاحَ إلا من فوّتَ هذه الخصلة من الخصال .
كلام دقيق أيها الأخوة ، أعيده ثانية؛ ما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدوراً عليه ، هذه أول مرحلة ، ولا كل ما يكون مقدوراً عليه يكون فعله خيراً له من تركه ، ولا كل ما يكون فعله خيراً من تركه يفعله لله ، ولا كل ما يفعله لله يكون معاناً عليه ، فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يقدم عليه وما يحجم عنه ، هكذا المحاسبة ، وهذا معنى النفس اللوامة ، هذا الذي يتأمل وقّاف يتبصر .
﴿يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً﴾
قبل أن يفعل ، قبل أن يعقد هذا العقد ، قبل أن يمضي هذه الشركة ، قبل أن يسافر ، قبل أن يتزوج ، قبل أن يطلِّق ، قبل أن يغضب ، قبل أن يرضى ، يمشي بهذا المنهج، هل هذا العمل مقدور عليه ؟ إن كان لا يدعه ، وإن كان نعم يُقبِل عليه ، هل هو خير لي أم ليس كذلك ؟ هو خير ، فهل أبتغي به وجه الله ؟ أبتغي به وجه الله ، هل أنا مُعان عليه ؟ لا، إذًا أدعُه ، وإن كنتُ مُعانًا عليه فإذًا أمضي به .
حقُّ الله تعالى يتلخّص في ستة أمور :
أيها الأخوة الكرام ؛ محاسبة النفس على طاعةٍ قصرت بها في حق الله تعالى فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي ، هذا بعد الفعل ، أما قبل الفعل أنفعل هذا ؟ ثم لا بد من التروي ، لكن بعد الفعل نحاسبها على شيئين ، على طاعة قصّر فيها العبد في حق الله تعالى فلم يوقعها على الوجه الذي ينبغي ، وحقُّ الله تعالى يتلخّص في ستة أمور؛ الإخلاص في العمل ، والنصيحة لله ، ومتابعة رسول الله ، وشهود مشهد الإحسان فيه ، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه ، بعد ذلك كله يحاسب نفسه ، وهل في هذه المحاسبة من خير ؟ كل الخير في هذه المحاسبة ، أو أن يحاسب نفسه على أمر مباح ، أو معتاد ، لمَ فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة فيكون رابحاً ؟ أم أراد به الدنيا وعاجلها فيكون خاسراً ؟ دققوا في هذه الكلمة أيها الأخوة ؛ عاداتُ المؤمن عباداتٌ ، وعباداتُ المنافق سيئاتٌ ، عاداتُ المؤمن عباداتٌ ، لأنه يبتغي بها وجه الله عز وجل .
تركُ المحاسبة والاستغفار يؤول بالنفس إلى الهلاك :
هناك علماء كبار حاسبوا أنفسهم حساباً عسيراً ، فكان حسابهم يوم القيامة يسيراً ، رجاءً ورحمةً من الله عز وجل ، أما تركُ المحاسبة والاستغفار ، وتسهيل الأمور وتمشيتها ، فإنَّ هذا يؤول إلى الهلاك ، وهذه حال أهل الغرور ، يغمض عينيه عن العواقب ، ويمشَّي الحال ، ويتكل على العفو ، فيهمل محاسبة نفسه ، والنظر في العاقبة ، فإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب ، وأَنِس بها ، وعسُر عليه فطامها ، ولو حضره رشده لعلم أن الحِمية أسهل من الفطام .
فلا تَرُمْ بالمعاصي كسرَ شهوتها إن الطعامَ يقوِّي شهوةَ النهم
***
احفظ هذه القاعدة : الحِمْية أهون من الفطام ، الحِمية بيدك ، أما الفطام فليس بيدك ، قد تستطيع أن تفطم نفسك ، وقد لا تستطيع . رجل اسمه توبة بن الصمَّة ، كان محاسباً لنفسه ، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة ، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألف يوم فصرخ يا ويلتي ، ألقى ربي بواحد وعشرين ألف ذنب ، كيف وفي كل يوم آلاف من الذنوب ؟ ثم خر مغشياً عليه .
المؤمن يوم القيامة لا يندم إلا على ساعة مضت لم يذكر الله فيها ، المؤمن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض ، فإذا تذكر فيها نقصاً تداركه ، ثم يحاسبها على المناهي ، فإذا عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار ، والحسنات هي الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة فإذا كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله ، ثم يحاسبها بما تكلم به ، أو مشت إليه رجلاه ، أو بطشَتْهُ يداه ، أو سمعَتْهُ أذناه ، ماذا أردت بهذا ولمن فعلته ؟ وعلى أي وجه فعلته ؟ ويعلم أنه لابد لكل حركة وكلمة من سؤالين : لمَ فعلته ؟ وكيف فعلته ؟ فالأول سؤال عن الإخلاص ، والثاني سؤال عن المتابعة ، قال تعالى :
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
وقال تعالى :
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ﴾
وقال تعالى :
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾
فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين ؟
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا غيض من فيض في أمر المحاسبة ، كل هذا الكلام شرح لقوله تعالى :
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾
أيها الأخوة الكرام ، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا ، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله الأماني ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
التفكر في الموت :
أيها الأخوة الكرام ؛ قد يشعر المرء من نفسه رعونة وتمرداً ، واتِّباعاً للشهوة ، وإيثاراً للدنيا ، فماذا يفعل ؟ العلاج كما وصفه النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ ))
عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارق ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به ، ماذا يمنع أن تفكر كل يوم بالموت ، لا بمعنى أن تقف ولا تعمل ، لا ، بل إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ، لا أقصد من التفكر في الموت أن تدع العمل ، ولكن أن تنضبط بمنهج الله عز وجل ، أن تأخذ ما لك وأن تدع ما ليس لك ، أن تقول قولاً سديداً ، أن تركز على الدار الآخرة ، أن تنقل اهتماماتك إلى الدار الآخرة ، أن تؤمن أن العاقبة للمتقين ، أن تعمل للآخرة ، فيا أيها الأخوة التفكر في الموت موعظة وأي موعظة ، إن الإنسان بلحظة واحدة يخسر كل شيء جمعه في الدنيا ويؤول إلى غيره ، وإنّ هذه الساعة لابد من أن يدركها كل إنسان كائنًا مَن كان ، فالعاقل والذكي والفالح والمتفوق هو الذي يعد لهذه الساعة عدتها .
أيها الأخوة الكرام ؛ إذا رأى الإنسان من نفسه رعونة ، أو تمرداً ، أو تعلقاً بالدنيا ، أو إصراراً عليها من غير الوجه الصحيح ، بغير منهج الله عز وجل فعليه بتذكر الموت ، ماذا يمنع أن تتبع جنازةً? وأن ترى لحظة الدفن المؤثرة ؟ ماذا يمنع أن تفكر فيم سيكون ؟ ماذا يمنع أن يكون هذا اللقاء الرباني ماثلاً أمامك كل لحظة ؟ واعلموا أنّ الأمر جد ، والسفر قريب، وفي الطريق عقبة كؤود لا يجتازها إلا المخفون ، والبحر عميق ، شمروا فإن الأمر جد ، وتأهبوا فإن السفر قريب ، وتزودوا فإن السفر بعيد ، وخففوا أثقالكم ، فإن في الطريق عقبة كؤود لا يجتازها إلا المخفون .
يا أبا ذر جهز السفينة فإن البحر عميق ، وأخلص النية ، فإن الناقد بصير .
أيها الأخوة الكرام ؛ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ، نحن في دار العمل ، نحن في دار التوبة ، نحن في دار الصلح مع الله ، نحن في دار لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم جئت الله تائباً غفرها لك ولا يبالي ، هكذا قال الله عز وجل :
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
عود على بدء :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾
ماذا هيَّأتَ ليوم القيامة ؟ ماذا هيَّأتَ ليوم تمثُل فيه بين يدي الله عز وجل ؟
الدعاء :
أيها الأخوة الكرام إني داعٍ فأمِّنوا : اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، وإنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنّا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارضَ عنا ، أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك ، اللَّهُمّ لاَ تُؤْمِنَّا مَكْرَكَ ، ولا تهتك عنّا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين ، اللهم صُن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شر خلقك ، ونُبتلَى بحمد مَن أعطى وذم من منع وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء ، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين ، اللهم بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين ، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير .