وضع داكن
16-04-2024
Logo
الخطبة : 0981 - الإنفاق بكل معانيه الواسعة - فضل القرآن الكريم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى
 الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الإيمان والالتزام بالإيمان ( الإنفاق ):

 أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان إذا آمن بالله، ولم يتحرك، ولم يعط، ولم يقدم عملاً، ولم يلتزم فإيمانه لا يقدم ولا يؤخر، ولا يرقى به عند الله، لأنه ما زاد على أن أقرّ بحقيقة كالشمس، إن أقرّ بها أقر بها، وإن لم يقر بها اتهم في عقله، ولكن الذي يسعِد الإنسانَ ويرفعه عند الله أن يتحرك، وكلمة حركة أوسع سلوك يوصف به إنسان، فيعطي لله، يمنع لله، يغضب لله، يرضى لله، يصل لله، يقطع لله، هناك حركة، قال تعالى:

 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

[ سورة الأنفال: 72]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾

[ سورة الصف ]

حقيقة الإنفاق:

 نقتطع أيها الإخوة الكرام من حركة الإنسان الواسعة جانباً منها، ألا وهو الإنفاق، ولسبب لا أعلمه إذا ذكر الإنفاق توجه إلى إنفاق المال، لأنه يغلب على الإنفاق أن يكون بالمال، ولكن حقيقة الإنفاق أنها تشمل كل شيء، قال تعالى:

 

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[ سورة البقرة ]

إنفاق المال:

 من ألوان الإنفاق:

 

(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ))

 

[متفق عليه عن ابن عباس]

إنفاق النفس:

 إنّ أعلى أنواع الإنفاق أن تجود بنفسك، تجود بالنفس إذ ضنّ البخيل بها، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، هؤلاء الشهداء الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله، قال الله عنهم:

 

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

[ سورة آل عمران ]

بعض العبادات التي تغفر الذنوب:

الشهادة

 ومع أنه قدم أعظم شيء لله، قدم نفسه، لكن حقوق العباد متقدمة على تقديم النفس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ))

 

[مسلم عن عبد الله بن عمرو]

 قدم حياته، قدم روحه، قدم كل ما يملك، قدم أثمن ما يملك، فإذا كان عليه دين لا يغفر له هذا الدين.

 

صوم رمضان

 

(( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

قيام رمضان

(( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

الحج

(( مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ))

[متفق عليه عن أبي هريرة]

حقوق العباد لا تُغفر إلا بالأداء أو بالمسامحة:

 أيها الإخوة الكرام، يجب أن تعلموا علم اليقين أن كل حديث شريف ينبئ المؤمن أنه من فعل كذا غفرت له كل ذنوبه إياكم، ثم إياكم، ثم إياكم أن تتوهموا من هذه الذنوب ما كان بينك وبين العباد، ما كان بينك وبين العباد لا يغفر إلا بالأداء أو المسامحة.
 صحابي جليل خاض مع النبي عليه الصلاة والسلام معارك كثيرة، وتوفاه الله عز وجل وعليه دَين، فعَنْ جَابِرٍ قَالَ:

 

(( تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقُلْنَا: تُصَلِّي عَلَيْهِ، فَخَطَا خُطًى، ثُمَّ قَالَ: أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قُلْنَا: دِينَارَانِ، فَانْصَرَفَ، فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو قَتَادَةَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: الدِّينَارَانِ عَلَيَّ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُحِقَّ الْغَرِيمُ، وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ: مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا مَاتَ أَمْسِ، قَالَ: فَعَادَ إِلَيْهِ مِنْ الْغَدِ، فَقَالَ: لَقَدْ قَضَيْتُهُمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدُهُ ))

 

[أحمد]

 لم يبرد جلده بالتعهد، بل برد بالوفاء، اعتقدوا اعتقاداً يقينياً أن حقوق العباد مبنية على المشاححة، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة، فكل حديث يصِلُ إلى سمعكم مفاده أنه من فعل، كذا من صام رمضان، من قام رمضان، من حج بيت الله الحرام، من هاجر غفرت له كل ذنوبه، أي التي كانت بينه وبين ربه، أما حقوق العباد فلا تسقط بحال إلا بإحدى حالتين، بالأداء أو بالمسامحة، لئلا نتوهم أننا إذا صمنا رمضان إيماناً واحتساباً غفر لنا ما علينا من حقوق للبشر، كدينٍ قديم، أو ذمة متعلقة، أو حق لم تؤده، أو واجب لم تقم به، أو حصة لم تعطها لصاحبها، هذا وهم كبير، والحقيقة المُرة أفضل ألف مَرة من الوهم المريح، مع أن الجود بالنفس أقصى غاية الجود، فإنه يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين، لذلك قال بعض العلماء: واللهِ لَتركُ دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام، ثمانون حجة حجها الإنسان في سبيل الله أفضل منها أن يدع درهمًا من حرام، لكن الواقع المر أن الناس يأكلون بعضهم بعضاً، يأكلون أموال بعضهم بعضاً، يأكلونها بالباطل، ويلجئون إلى المحاكم، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[ سورة البقرة ]

 أيها الإخوة الكرام، أول عطاء: أن يجود الإنسان بنفسه.

 

الجود بالمكانة:

 العطاء الثاني: أن يجود المسلم بمكانته، أحياناً تقتضي مصلحة المسلمين أن يعلو أخوك عليك، وأنت قد تكون أقوى منه، وقد تكون أعلم منه، ولكن المصلحة تقتضي أن يظهر فلان، فحينما تجود برئاستك وبمكانتك وبقدرك في سبيل الله لمًّا للشمل، وتوحيداً للصف، فهذا العطاء لا يقلّ عن العطاء الأول، هذا أيضاً من الجود، وكان عليه الصلاة والسلام جواداً، وكان أجود ما يكون في رمضان.
 إذا ذهب أخوان في مهمة ينبغي ألا يتنافسا، ينبغي أن يتطاوعا، ولو أن الأول كان أكثر طلاقة في لسانه، ولكنه أقلُّ علماً، والثاني أكثر علماً، وأقلّ طلاقة، فإذا قام أحدهما بالمهمة، والثاني كان في معونته فله أجر كبير، هذه الحالة قلّما يحتاجها الإنسان، لأنها تقع نادراً، أن يجود الإنسان برئاسته وبمكانته من أجل الصالح العام، لذلك ما يجري من تمزق بين المسلمين أحياناً يعزى إلى الرئاسة، يعزى إلى حظ النفس، يرأس جماعة لا يلتقي مع رأس الجماعة الأخرى، هو قوي وغني، من أجل مصلحة المسلمين لا يلتقي معه، يبقى بأس المسلمين فيما بينهم، فهذا الذي يجود بمكانته، يجود بقوته، يجود بأتباعه من أجل المصالحة العامة، ذلك لأن الطرف الآخر وضع المسلمين كلهم في سلة واحدة فينبغي أن يقف المسلمون جميعاً في خندق واحد.

 

 

الجود بوقت الراحة:

 أيها الإخوة الكرام، أحياناً يجود الإنسان براحته، بوقت قيلولته، بوقت جلوسه في البيت، بوقت نومه، أن تجود براحتك، واستجمام نفسك، ورفاهيتك، هذا جود، وله عند الله أجر كبير.
 إنسان استغاث بك وقت راحتك، في وقت نومك، هناك من تتوسل إليه بكل ما تملك من أجل أن يأتي ليسعف ابنك المريض، ثم يقول: هذا الوقت وقت راحتي، ابحث عن غيري، أن تجود بنفسك، وأن تجود برئاستك لجماعة من أجل صالح المسلمين، وأن تجود براحتك وبوقت فراغك، وبوقت قيلولتك، ووقت جلوسك مع أهلك، ووقت استمتاعك هذا عمل عظيم.
 وقد يجود الإنسان بعلمه من دون تأفف، من دون تذمر، من دون جواب مقتضب بلا تعليل ولا توجيه، أما حينما تتواضع لمن يتعلم منك، تعطيه الجواب المفصل، تفسر له بعض الإشكاليات، تجيب عن أسئلته الفرعية، تجلس معه، هذا أيضاً من الجود، قال تعالى:

 

 

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[ سورة البقرة ]

 وحينما تجود بجاهك، فلان له عند فلان مظلمة، وفلان صديقك، فإذا ذهبت إليه، واقتطعت من وقته الثمين جزءا كي تعين هذا الضعيف على أخذ حقه، أو كي تحل مشكلة، هذا الإنسان الذي يحتاج قرضاً، أو يحتاج وظيفة، أو يحتاج إنصافاً، هذا أيضاً من الجود، أن تجود بجاهك، مادام بالإمكان أن تحل مشكلة بزيارة، أو باتصال فافعلْ، لكن بعضهم يقول: أنا لا أريق ماء وجهي لأحد، مالي وله ؟ اعمل ما شئت كما تدين تدان.

 

الجود بالوقت:

 أيها الإخوة الكرام، ثم هناك جود بوقتك، تمشي مع أخ في حاجته، يقول عليه الصلاة و السلام:

 

(( والله لأن أمشي مع أخ في حاجته خير لي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ شهرا ))

[الطبراني في الأوسط عن ابن عمر]

 أن تمشي مع أخ في حاجته خير لك من صيام شهر.

 

الجود بالسمعة:

 هناك من يجود بعرضه، والعرض هنا السمعة، أيّ إنسان تكلم بحق إنسان كلاماً غير صحيح، الذي تُكلم بحقه يقيم الدنيا، ولا يقعدها، يكيل له الصاع عشرة أصوع، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَجْلَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَمْضَمٍ، قَالُوا: وَمَنْ أَبُو ضَمْضَمٍ ؟ قَالَ: رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَالَ: عِرْضِي لِمَنْ شَتَمَنِي ))

 

[ أبو داود ]

 وهذا أيضاً جود، إنسان تكلم بحقك كلاماً قل له: سامحك الله، أنا أحتسب هذا عند الله، وهذا أيضاً من الجود.

 

الجود بالاحتمال والإرضاء:

 أيضاً الجود بالاحتمال والإرضاء، هناك أناس عندهم تجاوزات، عندهم غلظة، عندهم جفوة، وبإمكانك أن تسحقهم، وبإمكانك أن تؤدبهم، لكنك عفوت عنهم.
 كان رجل مستلقيًا في المسجد فداس سيدنا عمر على رجله، فقال له: أأنت أعمى ؟ فقال: لا يا أخي، لست أعمى، فعلم سيدنا عمر أصحابه بفعلِه هذا التسامح، فلما سئل عن ذلك قال: سألني فأجبته، أأعمى أنت ؟ قلت: لا، لست أعمى.
 أيضاً حينما تحتمل البطولة، أيها الإخوة لا أن تمتنع عن إيقاع الأذى بغيرك، هذا شيء بديهي، ولكن البطولة أن تحتمل الأذى من الآخرين:

 

 

﴿ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[ سورة هود ]

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾

[ سورة النحل: 127]

﴿ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ﴾

[ سورة المائدة: 45]

الجود بالابتسامة:

 الآن الجود بالابتسامة، لا يكن المسلم دائماً عابسًا من أجل هيبته، لا يبتسم أبداً، في الدائرة، في المستشفى، في الجامعة، في الثانوية، في المحل، دائماً مقطب، هذا الموظف الضعيف الذي أمامك لو ابتسمت في وجهه ما الذي يحصل ؟ تنهار الدنيا ؟ ابتسم، طمئنه، اسأله عن صحته، اسأله عن أولاده، الجود بالخلق والبِشر والبسط، هذا أثقل ما يوضع بالميزان، إنسان كبير غني، عظيم قوي، حوله أتباع، يسأل واحداً منهم: كيف صحتك ؟ كيف أهلك ؟ كيف أولادك ؟ هل أنت بخير ؟ هل تحتاج إلى شيء ؟ هذا جود أيضاً، تجود بابتسامتك، تجود بطلاقة وجهك، تجود بأنسك.
 أحياناً تداعبه بطرفة لطيفة تبقى في ذهنه أشهراً عديدة، هذا الذي يترفع عن الناس، يرى نفسه فوقهم، أنت واحد منهم، كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً، كان إذا دخل بيته كواحد من أهله، كان يمازح أصحابه، كان يسأل عنهم، كان يتفقدهم، كان يخدمهم، كان يطعمهم، إن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه.

 

الجود السلبي:

 أيها الإخوة الكرام، الآن يوجد جود سلبي، في أيدي الناس مال، أنت حينما تزهد بما في أيدي الناس فهذه نفس عفيفة، هذه نفس راقية، هذه نفس أبية، هذا سماه العلماء الجود السلبي:

 

 

لا تسألن بُنــي آدم حاجة  و ســل الذي أبوابه لا تغلق
الله يغضب إن تركت سؤاله  و بُني آدم حين يُسأل يغضب
***

 لا تطمع بما عند الناس يحبك الناس، اطمع بما عند الله يحبك الله، كن عفيف النفس، اتقوا المذلة، ابتغوا الحوائج بعزة الأنفس، فإن الأمور تجري بالمقادير، لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه، و هذا من الجود.

 

 

الجود بالمال:

 أيها الإخوة الكرام، أما الجود بالمال فنحن في أمسّ الحاجة إليه في هذه الأيام، لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجود في رمضان بشكل استثنائي، حتى إنه كالريح المرسلة، فعَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:

 

 

(( مَا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ ))

 

[ مسلم، أحمد ]

 يقول صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، حتى إنه لأحب الناس إلي، وكان عليه الصلاة والسلام أبغضَ شيء إليه، العطاء يذيب النفس، يقول صفوان: أشهد أنه ما طابت بهذا إلا نفس نبي، عرف أنه نبي من عطائه.
أيها الإخوة الكرام، الأحاديث عن عطائه وعن كرمه، وعن جوده وعن بذله، وعن تضحياته كثيرة جداً، لكن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رائع يجعل المسلمين أسرة واحدة، قالت له فاطمة رضي الله عنها: إنها تعبت من خدمة البيت، وأثرت هذه الخدمة في أعضائها، فطلبت منه خادمة، فقال: والله يا فاطمة لا أعطيك خادمة وأدع أهل الصُفة تطوى بطونهم من الجوع، وهو قمة المجتمع الإسلامي، عدّ هذا المجتمع أسرة واحدة، فمادام هناك جياع فلا يمكن أن أعطيك شيئاً يزيد عليهم، هذه أيضاً ومضة من ومضاته صلى الله عليه وسلم.

 

الجود في رمضان له أجر متميز:

 أيها الإخوة الكرام، الجود في رمضان له أجر متميز، أولاً: لشرف الزمان، ولأن الجود في رمضان يضاعف الأجر فيه، الأجر مضاعف، لأنه إعانة للصائمين والقائمين، والذاكرين على طاعتهم، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا ))

 

[ الترمذي، ابن ماجه، أحمد، الدارمي ]

 والله إن هذه البلدة الطيبة عُهِد منها أنها تتنافس في إطعام طلاب العلم، وتتنافس في إطعام اليتامى، والله هذا الذي أشهده كل عام، مع أن الوقت المتبقي من رمضان لا يسمح بتلبية كل الطلبات، فإنه يُرَدّ كل عام عشرات جاؤوا يبذلون الطعام للفقراء، ولما ينتهي رمضان كل يوم فيه وليمة، هذا من فضل الله على هذه البلدة الطيبة.

 

الجمع بين الصيام و الصدقة:

 أيها الإخوة، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا، وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ))

 

[ الترمذي ]

 العلماء أيها الإخوة الكرام قالوا: أن تجمع بين الصيام والصدقة شيء كبير جداً، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:

 

(( كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ، وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ...... قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ....))

 

[ الترمذي، ابن ماجه، أحمد]

اجر إنفاق المال:

 هذا من أعظم الأعمال، وقد قال عليه الصلاة و السلام:

 

(( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ))

 

[متفق عليه عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ]

 أيها الإخوة الكرام، عَنْ عَبْد اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:

 

(( يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ ؟ فَقالَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعُا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ـ يعني مسجد المدينة ـ شَهْرًا... ))

 

[الطبراني في الأوسط]

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهَارَ ))

 

[ البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، أحمد ]

 ثمة قصة لا تصدق، امرأة بَغِيّ، ومع أن الزنا مرة واحدة جريمة، فما بالك أن تمتهن امرأة الزنا، كهذه المرأة البغي، والحديث في البخاري، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ ))

 

[البخاري]

 العلماء لهم تعليلات كثيرة لهذا الحديث، أنها في الصحراء لا تبتغي بهذا العمل إلا رحمة هذا الكلب، والقلب الرحيم قلب قريب من الله، لقد غفر لهذه المرأة وهي بغي، طبعاً تابت بعد ذلك، لأنها سقت كلباً.

 

الوضع المالي المتدني و تداعياته:

 وصدقوا أيها الإخوة الكرام، والله إن مستوى الفقر في ازدياد، والله هناك أناس بمئات الألوف دون الخط الأحمر، والله لا يذوقون طعم اللحم.
 والله حدثني أخ أنه وقف أمام بائع لحم دجاج، امرأة طلبت أيدي الدجاج، هذه لا يأكلها إلا الكلاب، ثم علم هذا الرجل أنها تأخذ هذه الأيدي، وتسلقها، وتطعمها للصغار.
 كل الأغنياء آثمون عند الله إن علموا ذلك، ولم يتحركوا، واللهِ في دراسة دقيقة جداً أن خمسةً وتسعين بالمئة من المومسات لَسْنَ فاسدات، لكنهن فقيرات، أليس هذا وصمة عار بحق الأمة ؟ أن تبيع المرأة عرضها من أجل أن تأكل:

 

 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾

[ سورة الأعراف ]

 هذا شهر الجبر، شهر العطاء، شهر الإنفاق، شهر أن تقدم لله شيئاً.

 

على الكل أن ينفق:

 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( إِذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ، وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ، لَا يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئًا ))

 

[ متفق عليه ]

 والله إن ثمة أخوات كريمات فقيرات يصنعن كل يوم تقريباً خمسًا وعشرين وجبة طعام جيدة لليتامى والفقراء، وهن والله فقيرات، ومع ذلك فإنهن يبذلن جهداً، لذلك اعلمْ أنه لا تتألق إلا بالعمل الصالح، فتعلموا أيها المسلمون ما شئت، فو الله لن تؤجروا حتى تعملوا بما علمتم.

 

الخلق كلهم عيال الله:

 الإنسان لا يقترب من الله إلا بالعمل الصالح، والعمل الصالح يرفعه.
 عندنا في الجيش رتب، هل يستطع جندي غر أن يدخل على لواء في الجيش ؟ بحسب النظام العسكري عندنا وفي كل البلاد هناك نظام تسلسل متَّبع، هل يستطيع هذا الجندي الغر أن يدخل على أعلى رتبة في الفرقة ؟ لا يستطيع إلا عن طريق التسلسل، لكن هذا اللواء الذي على رأس هذه الفرقة لو أن له ابناً يسبح، وكاد يغرق فهذا الجندي الغر أنقذه من الغرق، ألا يستطيع أن يدخل عليه بلا استئذان ؟ بلى، يدخل عليه بلا استئذان، ويجلس إلى جنبه، ويأتي له بالضيافة، و يقول له: لقد تفضلت علي بإنقاذ ابني.
 إن الخَلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، والطريق إلى مرضاة الله بين يديك سالكة، كل من حولك من عيال الله، ولا تفرق بين أحد منهم، احتسب هذا العمل عند الله، أكرم الإنسان، حل مشكلته، نفِّس عنه كربته، اقض دينه، قدم له طعاماً، قدم له علاجاً، قدم له دواء، قدم له كساء.
 إخواننا الكرام، يوجد حديث مذهل، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: رَأَى سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ))

 

[البخاري]

 هذا الضعيف إن أطعمته إن كان جائعاً، أو كسوته إن كان عارياً، أو علمته إن كان جاهلاً، أو آويته إن كان مشرداً، أو أنصفته إن كان مظلوماً، عندئذ يكافئك الله بعمل من جنس عملك، ينصرك على من هو أقوى منك، والله الذي لا إله هو إن أعداء المسلمين كثيرون جداً، وأقوياء جداً، وحاقدون جداً، ويتمنون والله إبادتنا، والله الذي لا إله إلا هو لا نشم رائحة النصر إلا إذا أحسنّا إلى ضعفائنا، إلا إذا مسحنا البكاء عن عيونهم، هذا الذي هو بين أيدينا من نص صحيح:

 

(( هَلْ تُنْصَرُونَ، وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ ))

 

أنت أحوج إلى ثواب الصدقة:

 أيها الإخوة الكرام، دققوا في هذه الكلمة لأحد العلماء الكبار: " من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته ".
 أنت كمسلم، أنت بحاجة إلى ثواب الصدقة، كما أن هذا الفقير بحاجة إلى قطعة اللحم، أنت فقير، ما الذي تقدمه بين يديك يوم القيامة ؟

 

سؤال في الآخرة:

 يقول الله لك: أعطيتك مالاً، فماذا فعلت فيه ؟ يا رب أنفقته على كل محتاج ومسكين، لثقتي بأنك خير حافظاً، وأنت أرحم الرحمين، فيقول الله له: أنا الحافظ لأولادك من بعدك، يقول لشخص آخر: أعطيتك مالاً، فماذا صنعت به ؟ يقول: يا رب، لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، قال: ألم تعلم أني أنا الرزاق ذو القوة المتين، إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم.
 أيها الإخوة الكرام، ما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة، حصنوا أموالكم بالزكاة، باكروا بالصدقة، فإن البلاء لا يتخطاها، صدقة السر تطفئ غضب الرب، الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير، أنفق بلالُ، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، عبدي أَنْفِق أُنفِق عليك.
 أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

 

* * *

 الخطبة الثانية
 الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تعريف بالقرآن الكريم:

 أيها الإخوة الكرام، القرآن الكريم هدى وبيان، وموعظة وبرهان، ونور وشفاء، وذكر وبلاغ، ووعد ووعيد، وبشرى ونذير، يهدي إلى الحق، وإلى الرشد، وإلى صراط مستقيم، يخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فيه تبيان لكل شيء، وهو شفاء لما في الصدور، كتاب الله كما قال عليه الصلاة والسلام، فعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قِيلَ:

 

(( يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّتَكَ سَتُفْتَتَنُ مِنْ بَعْدِكَ، قَالَ: فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ سُئِلَ: مَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا ؟ قَالَ: الْكِتَابُ الْعَزِيزُ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ جَبَّارٍ فَحَكَمَ بِغَيْرِهِ قَصَمَهُ اللَّهُ، هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، فِيهِ خَبَرُ مَنْ قَبْلَكُمْ، وَنَبَأُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، وَهُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، وَهُوَ الَّذِي سَمِعَتْهُ الْجِنُّ فَلَمْ تَتَنَاهَ أَنْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، وَلَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ، وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ ))

 

[الترمذي وأحمد]

قصة لها علاقة بالقرآن الكريم:

 أيها الإخوة الكرام، أضع بين أيديكم قصة لها علاقة بالقرآن الكريم، فبعض العلماء ذكر عن قيام الليل أن الأحنف بن قيس كان يوماً جالساً، فعرضت له هذه الآية:

 

﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾

[سورة الأنبياء]

 فانتبه لهذه الآية، وقال: عليَّ بالمصحف لألتمس ذكري اليوم، حتى أعلم مَن أنا، ومَن أشبه، فقرأ قوله تعالى:

 

﴿ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾

[سورة الذاريات]

 ومرّ بقوم:

 

﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

[سورة السجدة]

 ومرّ بقوم:

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾

[سورة آل عمران]

 ومرّ بقوم:

 

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾

[سورة الحشر]

 وقف الأحنف، ثم قال: اللهم لست أعرف نفسي من هؤلاء، لعله قالها تواضعاً، لكن هكذا قال: أنا لست من هؤلاء.

 

﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾

[سورة الصافات]

 ومرّ بقوم:

 

﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾

[سورة المدثر]

 فقال: اللهم إني أبرأ إليك من هؤلاء، لست من هؤلاء، ولا من هؤلاء، فمازال يقلب ورقات المصحف حتى وصل إلى هذه الآية:

 

﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة التوبة]

 قال: أنا من هؤلاء.

 

القرآن الكريم يرفع متعلمه:

 أيها الإخوة الكرام،

 

 

(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ))

 

[البخاري عن عثمان]

(( إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ))

[مسلم عن عمر]

 عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ، وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ فَلَهُ أَجْرَانِ ))

 

[متفق عليه]

 عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالْأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ... ))

 

[متفق عليه]

 عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ))

 

[متفق عليه]

فوائد القرآن الكريم:

 في الأثر: " يا معاذ، المؤمن لدى الحق أسير، يعلم أن عليه رقيباً على سمعه وبصره ولسانه ويده، وإن المؤمن قيّده الإيمان عن كثير من هوى نفسه وشهواته ".
 وقد ورد في الأثر أنه:

 

(( لا يحزن قارئ القرآن ))

 

[ الجامع الصغير عن أنس بلفظ: لا يخرف قارئ القرآن ]

 وأنه

(( لا يعذب الله قلباً وعى القرآن ))

[الجامع الصغير عن أبي أمامة بسند فيه مقال]

 وأنه

(( من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت ))

[الجامع الصغير عن أنس بسند فيه مقال]

من هو قارئ القرآن الكريم ؟

 اقرأ ـ أيها المسلم ـ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه، واعلم أنه:

 

(( مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ ))

 

[ الترمذي عَنْ صُهَيْبٍ]

 ورُبّ تال للقرآن والقرآن يلعنه.
 أيها الإخوة الكرام، نحن في شهر الإنفاق، وفي شهر القرآن، وجعلت الخطبة الأولى عن الإنفاق بكل معانيه الواسعة، ثم بأفضل شيء يعرفه الناس عن الإنفاق، وهو إنفاق المال، ثم بالقرآن.

 

الدعاء

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور