وضع داكن
29-03-2024
Logo
الندوة : 05 - التلازم الحتمي بين التدين الصحيح والخلق القويم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جمال:

 

 الحمد لله، رب العزة جلّ في علاه، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم إلى هذه الحلقة المتجددة من لقائنا الأسبوعي:" فيه هدى للناس".
 أيها الأعزاء، من الدعاء الذي دائماً نلجأ إليه: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب".
 أيها الأعزاء: دائماً هناك أثر للإيمان بالله سبحانه و تعالى في تقويم الأخلاق، هذه الأخلاق التي ما إن حلت في مجتمع إلا كان هذا المجتمع ناجحاً بكل المقاييس.
 عندما نتحدث عن هذه الموضوعات يسعدنا أن نكون بضيافة صاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
 دكتور: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور راتب:
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراًً.
الأستاذ جمال:
 بارك الله بك.

التلازم الحتمي بين التدين الصحيح والخلق القويم :

الدكتور راتب:
 الحقيقة أن هناك تلازماً ضرورياً و حتمياً بين التدين الصحيح والخلق القويم، فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته، والمنهج الأول لدعوته، فقال عليه الصلاة والسلام:

((وإنما بعثت معلماً))

[ابن ماجه عن ابن عمرو]

((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ))

[رواه أحمد عن أبي هريرة]

 فالهدف الأول لدعوته هو إرساء البناء الأخلاقي للفرد والمجتمع؛ لأن هذا البناء الأخلاقي ثمن سعادة الدنيا والآخرة، والمتتبع لنصوص القرآن الكريم، ولنصوص السنة المطهرة الصحيحة، يجد ذلك التلازم الضروري بين التدين الصحيح والخلق القويم، وأعني بالتدين الصحيح، الاتباع، قال تعالى:

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم ﴾

[سورة الماعون الآيات : 1ـ2]

 هذا التلازم بين التكذيب بالدين وبين الخلق السيئ، و يقابله التلازم بين التدين الصحيح والخلق القويم، قال تعالى:

﴿َ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

[سورة القصص الآية:50]

 وكأن هذه الآية بينت أن هناك طريقين لا ثالث لهما، إما أن يستجيب الإنسان لمنهج الله، أو أن يستجيب لهوى نفسه، فإن لم تكن على الخط الأول، فأنت على الخط الثاني حتماً:

﴿َ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾

[سورة القصص الآية:50]

الإيمان أساس الفضائل ولجام الرذائل :

 حديثنا أستاذ جمال عن هذا التلازم الدقيق، والشمولي، والعفوي، والمستمر، بين التدين الصحيح والخلق القويم،فعن أنس بن مالك قال:

((ما خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له))

[ أحمد عن أنس بن مالك]

 وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام:

((الحياء والإيمان قرنا جميعاً فإذا رفع أحدهما رفع الآخر))

[الأدب المفرد عن ابن عمر]

 إذا رفع أحدهما رفع الآخر.
 لذلك يعد الإيمان أساس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الصحيحة ذلك فقال:

((إن أحسن الناس إسلاماً أحسنهم خلقاً، وإن أكملهم إيماناً أحسنهم خلقاً، وإن من أحبّ العباد إلى الله أحسنهم خلقاً، وإن من أقرب المؤمنين مجلساًً مني يوم القيامة أحسنهم خلقاً))

[رواه الطبراني عن جابر بن سمرة]

((خير ما أعطي الرجل المؤمن خُلُقٌ حسن))

[الطبراني عن أسامة بن شريك]

((إِنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ القَائِمِ))

[ أبو داود عن عائشة]

((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة ))

[رواه الطبراني عن أنس بن مالك]

((الخلق الحسن يذيب الخطايا كما يذيب الماء الجليد، والخلق السوء يفسد العمل كما يفسد الخل العسل))

[الطبراني عن عبد الله بن عباس]

 أستاذ جمال هذه كلها أحاديث في أعلى درجة من الصحة، تؤكد في مجملها أن هناك تلازماً ضرورياً حتمياً، مستمراً، شمولياً، عفوياً، بين التدين الصحيح و بين الخلق القويم.
 هذه سنته القولية، صلى الله عليه وسلم، فماذا عن سنته العملية؟

 

النبي صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأسمى لاجتماع المبدأ والسلوك :

 إن النبي صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأسمى لاجتماع المبدأ والسلوك، وتطابق المعتقد مع القول، بل تطابق القول مع العمل، إن أعظم المسلمين منه قرباً صلى الله عليه وسلم أولئك الذين ضاقت المسافة بين سلوكهم وبين مبادئهم، وقيمة المؤمن في تطبيق ما يقول.
 إن ظاهرة النفاق التي تحدث عنها القرآن الكريم وتحدثت عنها السنة الصحيحة بشكل مطول تعني خللاً في مطابقة الأقوال للمعتقدات، وتعني خللاً في مطابقة الأفعال للأقوال؛ فالنوع الأول هو النفاق الإعتقادي، أن تقول ما لا تعتقد، الذي يخرج صاحبه من الملة، والنوع الثاني هو النفاق العملي الذي إن طال عليه الأمد كان وخيم العاقبة.
 أستاذ جمال، إن أهم مصدر للسعادة الحقيقية، انسجام حركة المرء في الحياة مع ما يعتقد؛ حيث يشعر المرء بتيار يجتاحه من البهجة، والارتياح، والأمن، كلما تخطى عقبة من العقبات التي تحول بينه وبين مثله وقيمه العليا.
 أستاذ جمال، إن الملذات الحسية لا تخترق غشاء القلب، بل ولا تحوم حوله، لكن الذي يصل إلى أعماق القلب، ويغمره بالسعادة والطمأنينة؛ هو نشوة الانتصار على الأهواء والمغريات، وضغوط الشهوات والمصالح.

القاعدة الدينية الأخلاقية تُمكّن الناس من تحمل الظروف الصعبة دون أن ينحرفوا :

 إن السعادة الحقيقية لا تجلب من الخارج أبداً، إنما هي شعاع من نور، يولد ويكبر في داخل الإنسان، ويضيء جوانب الحياة كلها، ويجعلها أكثر انسجاماً، و منطقية، وأكثر تهيئاً للنمو والتقدم والاستمرار،كل ذلك مرهون بأوضاع تسود فيها القيم الأخلاقية، ويعلو فيها صوت الالتزام والاستقامة، وترفرف في أرجائها إشراقات الاتصال بالله.
 إن القاعدة الدينية الأخلاقية في أي مجتمع؛ هي التي تتحمل الأثقال التي تنتج عن طبيعة الحياة المادية والاجتماعية؛ وعن الانتكاسات التي تصاب بها الأمة في ميادين الحياة المختلفة.
 أستاذ جمال، إن هذه القاعدة الدينية الأخلاقية هي التي تُمكّن الناس من تحمل الظروف الصعبة؛ إذا كان هناك مبادئ، وقيم، فالضائقات المالية، والظروف الصعبة في الحياة؛ هذه القاعدة الدينية الأخلاقية تتحمل ذلك، هذه القاعدة الدينية الأخلاقية تُمكّن الناس من تحمل الظروف الصعبة دون أن يتحللوا ـ أن يصابوا بالانحلال ـ ودون أن ينحرفوا؛ فحين يصاب الناس بضائقة شديدة؛ فإن القاعدة الأخلاقية تدفعهم إلى إغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، والصبر على المدين المعسر، إلى جانب التمسك الشخصي، وعدم الرضوخ لمقتضيات الظروف الصعبة، فنجد المسلم يمتنع عن كل كسب حرام مع فاقته الشديدة، وذلك اتكاء على ما لديه من قيم ومقاومة روحية لدواعي التحدي.
الأستاذ جمال:
 إذاً للإيمان أثر كبير في تقويم الأخلاق، لكن هذه الشحنة الإيمانية البديعة التي يأخذها المؤمن كيف يمكن أن ينميها و يحسنها؟
 هناك أناس يتعبدون الله عز و جل لكن هناك ما نسميه الشحنة التي يجب أن يأخذها المؤمن، ليقف سداً منيعاً بهذه الأخلاق التي يأخذها من الإيمان، كيف يمكن أن ننمي هذه الشحنة عند الإنسان ليقف أمام هذه الأشياء؟

الاتصال الحقيقي بالله عز وجل يزود الإنسان بأكبر شحنة إيمانية :

الدكتور راتب:
 أستاذ جمال، جزاك الله خيراً، أنت سألت وأجبت.
 كيف أجبت؟
 قلت: إن الإنسان يحتاج إلى شحنة؛ والحقيقة الدقيقة أن اتصاله بالله ـ لا أقول الصلاة الجوفاء التي يؤديها ـ إن اتصاله بالله الحقيقي، يعطيه أكبر شحنة؛ هناك شحنات يومية؛ كل شحنة تكفي للشحنة القادمة؛ في الصلوات الخمس, هناك شحنة أسبوعية؛صلاة الجمعة؛ معها خطاب، معها توضيح، معها حديث، معها شرح، معها آيات قرآنية، معها أحاديث صحيحة، معها أحكام فقهية، معها قصص مؤثرة؛ فالصلوات خمس شحنات تغذي إيمان المؤمن، وتغذي عقله، في اليوم خمس مرات، لكن الله جعل لهذا الدين شحنة أسبوعية في خطاب؛ فقال:

﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾

[سورة الجمعة الآية:9]

 قال علماء التفسير: ذكر الله: "الخطبة"؛ والناس يتوهمون أنه إذا استطاع أن يلحق بالأمام بصلاة الجمعة فقد أدرك الجمعة! لا والله ما أدركها؛ حينما قال عز وجل:

﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾

[سورة الجمعة الآية:9]

 أجمع العلماء على أن ذكر الله هو سماع الخطبة، هي الشحنة العلمية؛ إن صحّ أن الصلوات الخمسة شحنة روحية، فخطبة الجمعة مع صلاتها شحنة علمية روحية في الوقت نفسه، وجعل الله لهذا الإنسان شحنة مكثفة لثلاثين يوماً هي شحنة الصيام؛ ثلاثون يوماً ندع الطعام والشراب، ونصلي كل يوم مساء عشرين ركعة ـ صلاة التراويح ـ، هناك شحنة سنوية، ربما كفت لعام بأكمله.
 فالصلاة شحنة من وقت إلى وقت، والجمعة شحنة من أسبوع إلى أسبوع، والصيام شحنة من سنة إلى سنة، وهناك شحنة العمر إنها حج بيت الله الحرام.
 فكما تفضلت هذا الزاد الخلقي، هذا الموقف الصامد المتماسك، هذا الاعتزاز بالقيم، هذا الشعور بقيمة الإنسان، هذا يكون عن طريق شحنات علمية روحية، يتلقاها كل يوم، وكل أسبوع، وفي العام مرة، وفي العمر مرة.
الأستاذ جمال:
 دكتور في حياتنا التي نعيشها، هناك القوي، وهناك الغني، وهناك الأخلاقي، أيهما الأبقى؟ أيهما الأرقى؟ أيهما المؤثر في هذه الحياة ولماذا؟

 

طابع الرقي الحقيقي هو طابع أخلاقي :

الدكتور راتب:
 بارك الله بك أستاذ جمال.
 الحقيقة،إن هذه القاعدة الإيمانية الأخلاقية هي الرصيد الاحتياطي الضخم، الذي تعتمد عليه الأمة، في ترميم العديد من جوانب شخصيتها وحياتها، القاعدة الإيمانية الأخلاقية هي التي تعتمد عليها الأمة، في ترميم جوانب شخصيتها، من هنا ندرك أن حجم الجريمة التي ارتكبت في حق هذه الأمة حينما دفعت دفعاً من حيث تريد أو لا تريد، ومن قبل أعدائها المستعمرين، على المستوى الداخلي والخارجي، وعلى مستوى التطبيق، إلى جعل القيم الأخلاقية الدينية في المرتبة الدنيا من اهتماماتنا، فلما واجه الناس ما واجهوه من ضائقات العيش، ومن شح في المتطلبات، لم يجدوا لديهم سنداً خلقياً كريماً يعتمدون عليه في الصمود أمام المغريات، ومحفزات الانحدار المختلفة، وأمام الضغوط الشديدة، ومسببات الاستسلام والسقوط.
 إن الذين ـ وهذا هو الجواب الدقيق لسؤالك الكريم ـ نَكُنّ لهم عظيم الاحترام ليسوا أولئك الذين يملكون المال الكثير، وليسوا أولئك الذين يملكون الدهاء والمكر، وليسوا أولئك الذين يملكون القوة الجسدية الخارقة، وليسوا أولئك الذين يملكون الرقاب، إنما أولئك الذين يملكون الخلق الكريم، ويترفعون عن سفاسف الأمور، أولئك الذين انتصروا على التحديات داخل نفوسهم، أولئك الذين يملكون قوة الانتظار، الانتظار قوة ـ أولئك الذين يملكون التضحية بالعاجل من أجل الآجل، أولئك الذين يملكون الإيثار مع مسيس الحاجة إلى ما يحتاجونه، أولئك الذين يملكون القلوب، هؤلاء الذين نُكنّ لهم عظيم الاحترام؛ إن صحّ أن هناك من يملك الرقاب فإن هناك من يملك القلوب، إن صحّ من يعيش الناس له هناك من يعيش للناس، إن صحّ أن هناك من يأخذ، فهناك من يعطي، فلذلك هؤلاء الأخلاقيون، هؤلاء الذين يستندون إلى قاعدة إيمانية أخلاقية، هم يتحملون كل الضغوط من أجل الحفاظ على مبادئهم وقيمهم، وهؤلاء في الأمة صمام الأمان، هؤلاء في الأمة هم الذين يقودون هذه الأمة إلى طريق العزة والخلاص، بالإمكان أن نقول: إن طابع الرقي الحقيقي، هو طابع أخلاقي.

الاستقامة والنبل والتضحية الطرق الوحيدة لكسر أغلال التبعية للغرب :

 أستاذ جمال، أنا حضرت ملتقى لبعض الكفاءات الصناعية، في بعض الدول العربية؛ فالذي قيل في هذا اللقاء: إن أي معمل لا يحترم التعامل مع الآخرين؛ فهذا المعمل لن ينجح.
 لذلك طابع الرقي الحقيقي هو طابع أخلاقي أكثر من أن يكون طابعاً عمرانياً تنظيمياً، والجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من الإسلام شيء عجيب، هناك الآن تقدم عمراني مذهل في إنشاء العمارات المرتفعة، في الأنفاق، في القطارات، في الطائرات، في المعامل؛ لكن هذه القصص القديمة التي عاشها أجدادنا، والتي فيها من القيم ما فيها، هذه تبدو متألقة دائماً، وكأنها تشدنا إليها، لذلك الجاذبية التي تتمتع بها القرون الأولى من تاريخ الإسلام، تنبع بشكل أساسي من طابع الاستقامة، والنبل، والتضحية، وليس من التفوق في الحروب، أو العلوم، أو العمران، ولعل الطريق الوحيدة إلى كسر أغلال التبعية للغرب؛ يكون عن طريق إحداث انتفاضة روحية أخلاقية، يستعلي بها المرء على المعطيات المادية للوضع الحضاري الراهن، ويلتفت إلى إثراء حياته بوسائل لا تحتاج إلى المال؛ صناعي، تجاري، زراعي، لا ينجح إلا إذا اعتمد على قيم أخلاقية، دعك من الآخرة ـالآخرة حق ـ لكن لا ننجح في الدنيا إلا بمجموعة قيم أخلاقية، قال هذا بعض أصحاب المعامل الكبيرة: ما لم يكن هناك قواعد أخلاقية في التعامل مع الآخرين فهذا العمل لن ينجح.

مصير الإنسان يتوقف على أمرين؛ علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان :

 إن دراسة الحضارات الإنسانية توقفنا على حقيقة كبرى، هذه الحقيقة هي أن مصير الإنسان يتوقف دائماً على أمرين، علاقته بربه، وعلاقته بأخيه الإنسان، والآية الدقيقة التي وردت على لسان سيدنا عيسى:

﴿وَأَوْصْانِي بِالصّلاةِ والزَّكَاةِ مَا دُمْت حَيّاً﴾

[سورة مريم:الآية31]

 أي هناك حركة نحو الله؛ إيماناً، وطاعة، وعبادة، وتقرباً؛ وهناك حركة نحو الخلق؛ إحساناً، وإيثاراً؛ لذلك تقوم هذه الحضارة على أمرين اثنين، علاقة المرء بربه وعلاقته بأخيه الإنسان، والبعد الروحي والأخلاقي هو المركز والمحور في هاتين العلاقتين، وحين ينحط الإنسان وينحط المجتمع يتحول الإنسان عن عبادة ربه إلى عبادة لذاته وشهواته، وتسود علاقته بالآخرين؛ القوة بدل الرحمة، والقمع بدل التفاهم، وينصرف عن العناية بالروح إلى العناية بالجسد، وعن الاهتمام بالمبدأ إلى الاهتمام بالمصلحة، ويتحول المجتمع كله إلى غابة يشعر فيها كل واحد أن من حقه افتراس الآخرين، كما أنه من الممكن أن يكون فريسة لواحد منهم، هذا هو مجتمع الغاب وهذا يذكر في اللقاءات كثيراً؛ مجتمع الغاب مجتمع الأقوياء، مجتمع القسوة، مجتمع القهر.
 الطريق الوحيد للحيلولة دون هذه الحالة؛ يكمن في تدعيم الرقابة الذاتية، وتعزيز علاقة العبد بربه جلّ وعلا، وتحفيز الإرادة الخيرة في الناس؛ وهذا الحل ـ وإن كان مكلفاً على المدى القريب ـ إنه سفينة نوح على المدى البعيد؛ لا يوجد سواه، لن يكون بإمكان أفضل النظم الاجتماعية، ولا بإمكان أقسى العقوبات الصارمة، أن تُقوّم الاعوجاج، ولا أن تملا الفراغ الناشئ عن ذبول الروح، وانحطاط القيم، فالعقوبات الشديدة لا تنشئ مجتمعاً، لكنها تحميه، والنظم مهما تكن محكمة ومتقنة، لن تحول دون تجاوز الإنسان لها، وتأويلها بما يجهضها، وكل الحضارات المندثرة تركت تنظيماتها وأدوات ضبطها خلفها، شاهدة على نفسها بالعقم والعجز.
الأستاذ جمال:
 إذاً الموضوع فعلاً يحتاج إلى تأنٍّ، ومراجعة للإنسان مع ذاته، ليقوي صلته بخالقه العظيم، هذه العلاقة القوية مع الله سبحانه تجعل هذه الشحنة الإيمانية تقوى؛ ليكون للإيمان أثر في التقويم الأخلاقي.
 هناك موضوع خطر ببالي الآن؛ وهو هل من الممكن للشحنة الإيمانية أن تقوى عند الإنسان، ليعيش حياة هانئة سعيدة، وإذا انتقل ـ ولابد أن ينتقل ـ إلى محكمة قاضيها رب العالمين؛ لابدّ من الابتعاد في حياته عن مسألة هامة جداً؛ وهي التعدي على حق الآخرين، أكل حقوق الأيتام، التعدي على الناس بموضوع اسمه الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة؛ كيف نبين للأخ المستمع ماهية هذا الموضوع لو سمحت؟

 

الرادع الحقيقي الضابط لحركة الإنسان هو خشية الله عز وجل :

الدكتور راتب:
 سؤال دقيق لكنه يحتاج إلى تمهيد أنت متى تنضبط؟ إذا أيقنت يقيناً قطعياً أن كل خطأ ترتكبه لابد من أن تحاسب عليه؛ بمعنى آخر؛ أن المؤمن ينطلق من أن الله بينه وبين الآخر، فالمؤمن يخشى الله أن يظلم الآخر، يتقرب إلى الله بخدمة الآخر، مادام الله بين شخصين، بين زوجين، بين شريكين، بين جارين، بين أخوين، بين زميلين، مادام الله بينهما، كل طرف يتقرب إلى الله بخدمة الطرف الآخر، وكل طرف يخشى الله أن يظلم الطرف الآخر؛ لذلك:

(( والذي نفس محمد بيده ما تواد اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ))

[أحمد عن ابن عمر]

 وأنت حينما تتحرك دائماً الحركة تنطلق من عقيدة، ومن يقين، أن هذا أخي لو اعتديت عليه؛ فهناك رب سيحاسبني عليه؟
 أنا قناعتي أن الشيء الرادع الحقيقي الوحيد هو خشية الله عز وجل، الرادع الحقيقي الضابط لحركة الإنسان؛ الذي يجعل الإنسان يتحرك وفق منهج؛ هو الخوف من الله عز وجل وقد قيل:

(( رأس الحكمة مخافة الله ))

[ رواه البيهقي عن عبد الله بن مسعود]

 فالإنسان أحياناً يكون في مجتمع فيه نظام، وعقوبات رادعة، وربما تكون قاسية جداً، فقبل أن يتحرك حركة تخالف المنهج؛ يعد للمليون خوفاً من إنسان، فكيف من الواحد الديان؟ فكيف لمن يراك في بيتك وفي عملك؟ كيف لمن يعلم حقيقة النوايا التي تنطوي عليها؟

 

الانضباط الحقيقي للإنسان هو انضباط ديني :

 أستاذ جمال، أنا لا أرى من ضابط، من رادع، من محفز للاستقامة؛ كالإيمان بالله لأن الله معنا:

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً * وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ﴾

[سورة الإسراء الآيات : 78ـ 80]

 فالإنسان حينما يرى أن الله معه، وأنه سيحاسبه؛ هذا أكبر رادع؛ لأن المشرع معك دائماً، ويعلم الخبايا، والنوايا، والبواعث، والأهداف؛ فلذلك إذا كان التشريع من قبل إنسان، قد يكون هذا المشرع ذكياً، وقد يكون المواطن أذكى منه؛ لذلك مثل بسيط، في أمريكا وضعت لاقطات للسرعات الزائدة، فاخترع جهاز في السيارة ينبهك قبل الوصول لهذه اللاقطات، فهذا التشريع الذكي الذي ترجم بأجهزة حساسة، أتى إنسان آخر ترجمه بشيء معاكس، والآن الدولة هناك تبحث عن جهاز يكشف هذه الأجهزة في السيارات؛ فالمعركة مستمرة؛ إذا كان المشرع من بني البشر والمشرع له من بني البشر فهي إذاً معركة بين عقلين، أما حينما يكون المشرع خالق البشر؛ لا يستطيع الإنسان أن يتحرك لا يمنة ولا يسرة؛ لذلك الانضباط الحقيقي هو انضباط ديني؛ لأن المشرع معك، وأنت في قبضته، وهو على كل شيء قدير، فيبدو أن أحد أسباب الاستقامة عند المؤمنين، أن التشريع من قبل خالقهم، ومن قبل ربهم، وهو معهم أينما كانوا، وهم في قبضته، فلذلك دائماً وأبداً الإنسان يشرع، وقد يأتي من يحتال عليه؛ هذه هي مشكلة الإنسان من أقدم الأزمان.
الأستاذ جمال:
 إذاً في ختام لقائنا الإنسان يحتاج إلى هذا الإيمان الذي تتفضل به، وهذه الرقابة الداخلية، وهذا الوازع الداخلي الذي ينعكس على أعماله وصفاته، وبالتالي يعيش إنساناً سعيداً في دنياه، ينعكس هذا على المجتمع فيكون إنساناً صالحاً، وبالتالي يرضي الله سبحانه وتعالى، والناس جميعاً.

 

تنمية الوازع الديني ضمان لسلامة و استقامة الإنسان :

الدكتور راتب:
 الحقيقة أن الوازع الديني أكبر وازع، والرادع الديني أكبر رادع؛ لأنه ـ كما قلت قبل قليل ـ المشرع معك، وأنت في قبضته، لكن إذا كان المشرع إنساناً، فمن يضمن؟ هذا الذي يعجن العجين، الساعة الثانية ليلاً، إذا خالف النظام والقانون من يضمن لنا أن يُحاسب؟ لا يحاسب إلا من قِبَل الله، الذي يراه حين يقوم، إذاً أنت حينما تنمي الوازع الديني في المجتمع؛ عندئذ تضمن النتائج المبهرة.
 والله أعلم أن سائقاً وجد في مركبته عشرين مليون ليرة، وبقي أربعة أيام يبحث عن صاحبها، ما الذي يمنعه أن يأخذها؟
الأستاذ جمال:
 الإيمان.
الدكتور راتب:
 ويحل بها كل مشكلات حياته؟ الإيمان منعه، لكن صاحب هذا المبلغ بعد أن عثر عليه؛ اشترى له مركبة بمليوني ليرة؛ وهذا شيء رائع جداً.
الأستاذ جمال:
 أخذ المليوني ليرة حلالاً.

أكبر خصيصة للمؤمن أن الله يراقبه :

الدكتور راتب:
 حلالاً،نعم.
 لذلك أنا أرى أن الإنسان حينما ننمي فيه الوازع الديني؛ نضمن استقامته، لأنك جعلت خالق الكون رقيباً عليه، يراه حين يقوم، والله مطلع على النوايا، مطلع على كل ما في الإنسان من نوازع، لذلك:

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾

[سورة الإسراء الآية: 78]

الأستاذ جمال:
 لأن هذا القرآن يعلم.
الدكتور راتب:

﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ﴾

[سورة الشعراء الآيات: 218 ـ 219]

 لذلك الله مطلع علينا، أي أكبر خصيصة للمؤمن أن الله يراقبه، وإذا كان الله يراقبه والله لا يستطيع أن يحيد يمنة ولا يسرة.

 

خاتمة و توديع :

الأستاذ جمال:
 الله عز وجل يقول:

﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾

[سورة غافر الآية: 19]

 في الواقع من خلال هذا الحديث القيم، لفضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي، يتضح لنا اليوم أن للإيمان أثراً كبيراً في تقويم الأخلاق.
 دكتور، أشكركم الشكر الجزيل، لقاؤنا إن شاء الله في الأسبوع القادم، مع حلقة جديدة.
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور