وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 0727 - فضل الإنفاق - غدة التيموس.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنـا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغامـاً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر. اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته، ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين. اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإنفاق :

 أيها الأخوة المؤمنون ، مما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان جواداً وكان أجود ما يكون في رمضان، فهو كالريح المرسلة ، انطلاقاً من هذه الصفة العالية في رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت هذه الخطبة إن شاء الله تعالى حول موضوع الإنفاق.
 الحقيقة الأولى هي أن المال الذي تملكه هو مال الله، ويدك عليه يد الأمانة، وأن الله سبحانه وتعالى مستخلفك فيه لينظر ماذا تعمل؛ من أين اكتسبته؟ وأين تنفقه؟
 الحقيقة الثانية أن هذا المال الذي بين يديك ليس نعمة، وليس نقمة إنما هو حيادي، إنما هو موقوف على طريقة إنفاقه، يقول الله عز وجل:

﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا﴾

[ سورة الفجر: 15-17]

 أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء وحرماني دواء، حظ موقوف، ليس نعمة وليس نقمة، إنما هو موقوف على طريقة إنفاقه، فإذا أنفق في طاعة الله، وفي وجوه الخير أصبح نعمة وأية نعمة، أما إذا أنفق في وجوه الشر، وعلى الشهوات التي لا ترضي الله عز وجل، فانقلب هذا المال إلى نقمة وأية نقمة.

 

المال مال الله و الإنسان مستخلف فيه :

 أيها الأخوة الكرام: تأكيداً لمعنى أن المال مال الله، وأن الإنسان مستخلف فيه يقول الله عز وجل:

﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[سورة الحديد: 7]

 وإنما سمى الله الزكاة - ونحن في شهر الزكاة - صدقة لأن إنفاق المال يؤكد صدق الإنسان، هناك عبادات لا تكلف الإنسان شيئاً، وهناك عبادات تتناقض مع طبعه، طبع الإنسان أن يأخذ المال، والتكليف أن ينفقه، إذاً سميت الزكاة صدقة لأنها تؤكد صدق الإنسان، كل يدعي وصلاً بليلى، ولكن هذا يحتاج إلى دليل، كلّ يدعي أنه مؤمن ولكن هذا الإدعاء يحتاج إلى دليل، من أدلة الإيمان إنفاق الأموال:

﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة التوبة: 103]

 تطهرهم: بمعنى ثلاثي، تطهر الغني من الشح، تطهر الفقير من الحقد،
 تطهر المال من تعلق حق الغير به.
 تزكيهم: تنمو نفس الغني فيرى عمله الطيب ويرى دوره الخطير في المجتمع، تزكي نفس الفقير فيرى أنه ليس هيناً على الناس، والناس يهتمون به، فتنشأ هذه العلاقات الاجتماعية المتينة من هذا التواصل بالمال. وتنمي المال نفسه بأن الله عز وجل يطمئن المنفقين أن كل شيء ينفق يخلفه الله جل جلاله. أيها الأخوة:

﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴾

[سورة النازعات: 40]

 يبدو أن الهوى أن يكنز الإنسان المال، هوى الإنسان في تجميع الأموال، قال تعالى:

﴿ وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 32]

 هوى الإنسان في قبض المال، والتكليف في إنفاقه، فهذا الذي ينشأ في نفس الإنسان من صراع بين كنز المال وإنفاقه هو ثمن الجنة.

 

رفض الإسلام النظرية الجبرية في الفقر :

 الإسلام - أيها الأخوة - يرفض أشدّ الرفض أن نتوهم أن الفقر جبر من الله عز وجل، الإسلام يرفض النظرية الجبرية في الفقر، أي أن الله خلق غنياً وخلق فقيراً وهكذا إلى الأبد، كلا بل خلق فقيراً ليمتحنه في فقره، وخلق غنياً ليمتحنه في غناه، وأمر الغني أن ينفق على الفقير، قال تعالى:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾

[ سورة يس: 47]

 هذه النظرة الجبرية للفقر مرفوضة في الدين، الغني ممتحن بغناه والفقير ممتحن بفقره، بل إن كل مؤمن ممتحن بمقررين؛ مقرر الحظوظ التي نالها ممتحن بها، ومقرر الحظوظ التي لم ينلها ممتحن بها، من هنا كان دعاء النبي عليه الصلاة والسلام:

(( اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عوناً لي فيما تحب، وما زويت عني مما تحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ))

[ورد في الأثر]

الإنفاق صفة أساسية من صفات المؤمن :

 أيها الأخوة، من الصفات الأساسية جداً للمؤمنين أنهم مما رزقناهم ينفقون، وكلما وردت آيات الإنفاق توهم القارئ أنها تعني إنفاق المال، الحقيقة الرزق واسع، فالعلم رزق، والمال رزق، والجاه رزق، والخبرة رزق، فالمؤمن من خصائص إيمانه أنه ينفق مما رزقه الله عز وجل، بل إن حقيقة الإيمان لا يمكن أن تستقر في نفس المؤمن إلا وتعبر عن ذاتها بذاتها بحركة نحو الخلق، أي إسلام سكوني لا يوجد، تنفق من علمك، إذا أقامك الله في حقل العلم، تنفق من مالك، تنفق من جاهك، تنفق من عضلاتك، تنفق من وقتك، تنفق من خبرتك، أي شيء آتاك الله إياه بإمكانك أن تنفق منه، فالمؤمن في الأصل من صفاته الأساسية أنه ينفق مما أعطاه الله عز وجل.
 وقد يقول قائل: الله جل جلاله قادر على أن يغني الفقير دون أن يسألكم أن تعطوه، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، ليمتحن الفقراء بالأغنياء و الأغنياء بالفقراء، فقد ينجح الفقير في امتحان الفقر فيتجمل ويتعفف، ويصبر ويحتسب هذا عند الله، وقد ينجح الغني في امتحان الغنى فيتواضع وينفق، وقد يسقط الغني في امتحان الغنى فيتكبر ويحجب ماله عن المستحقين، وقد يسقط الفقير في امتحان الفقر فيضجر ويكذب ويتضعضع أمام الأغنياء، ومن جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه. المنفق يعوض الله عليه أضعافاً مضاعفة، وكأن الله عز وجل حينما قال:

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

[ سورة البقرة: 245 ]

 الله جلّ جلاله ينتظر من المؤمن أن يقرضه قرضاً حسناً أي عملاً صالحاً، إنفاقاً، تعليماً، خدمة، بذل خبرة، ينتظر الله من عبده المؤمن أن ينفق ليضاعفه أضعافاً كثيرة، ولكن لا ينبغي أن تعتقد أن الدنيا هي دار جزاء، لا ينبغي أن تنتظر أن يأتيك الجزاء أضعافاً مضاعفة في الدنيا، أنت عليك أن تنفق وعلى الله الباقي، قال تعالى:

﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾

[ سورة الزمر: 66]

﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾

[ سورة الأعراف: 144]

 يجب أن نعتقد أن الجزاء في الآخرة، ولكن الله جلت حكمته قد يكافئ بعض المحسنين تشجيعاً للباقين، وقد يعاقب بعض المسيئين ردعاً للباقين، ولكن الحساب الأخير، ولكن الرصيد يوم القيامة:

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[سورة آل عمران : 185]

إنفاق المؤمن مسجل عند الله و سيكافئه عليه :

 أيها الأخوة، هذا الذي ينفق ماله في سبيل الله عنده حاجتان، الحاجة الأولى أن يعلم أن الله يعلم، والحاجة الثانية أن يعوض الله عليه هذا الذي أنفقه، وهاتان النقطتان في الإنفاق مضمونتان في كتاب الله عز وجل:

﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة البقرة: 215 ]

﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ﴾

[ سورة البقرة: 270]

 حتى لو أنفقت ليرة واحدة، لو أطعمت لقمة واحدة، حتى لو أطعمت نصف تمرة، قال تعالى:

﴿وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾

[ سورة التوبة: 121]

 فالمؤمن يطمئن أن هذا الذي أنفقه وقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، أن هذا الذي أنفقه وقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير، أن هذا الذي أنفقه يعلمه الله، لا يحتاج لا إلى إيصال، ولا إلى تصريح، ولا إلى يمين، علاقته مع الله، فكل الذي أنفقه سُجل له بنص الآيات الثلاث. المعنى الثاني الذي ضمنه القرآن الكريم:

﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾

[ سورة البقرة: 272]

 وكل واحد منكم أيها الأخوةـ له مع الله تجربة، كل واحد منكم أنفق نفقة صغيرة أو كبيرة ربنا عز وجل شجعه على الإنفاق، فعوض عليه أضعافاً مضاعفة، وما نقص مال من صدقة. الآية الثانية:

﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾

[ سورة البقرة: 272]

 فالله عز وجل طمأن المنفقين، طمأنهم بأنه يعلم، وطمأنهم بأنه سوف يخلف عليهم ما أنفقوا.

 

الإنسان مخلوق للجنة و الجنة لها ثمن و ثمنها العطاء :

 ولكن في القرآن آية كريمة دقيقة يقول الله عز وجل:

﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة البقرة:195]

 هل تصدقون أن الإنسان إن لم ينفق يهلك، ليس له عمل يُعرض على الله يوم القيامة، أتاه صفر اليدين، ليس له عمل يجعله في رحمة الله عز وجل، ليس له عمل يكون سبباً لدخول الجنة، الذي لا ينفق يهلك والإنفاق بمعناه الواسع. لابد من أن تتحرك، لابد من أن تعطي، أنت في الدنيا من أجل أن تعطي. قال تعالى:

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 5-7 ]

 صدق بالحسنى: أي اعتقد اعتقاداً جازماً أنه مخلوق للجنة، وأن الجنة لها ثمن، وثمنها العطاء.

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾

[ سورة الليل: 5-7 ]

 يا أيها الأخوة الكرام، هناك ملامح لطيفة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، كان يوزع شاة، وزع معظمها ولم يبق إلا كتفها، فقالت له السيدة عائشة: يا رسول الله لم يبق إلا كتفها، فقال عليه الصلاة والسلام: بل بقيت كلها إلا كتفها. الذي استهلكته ذهب، والذي أنفقته بقي، وأسعد الناس من قدم ماله أمامه، ليسهل عليه اللحاق به، وأشقى الناس من خلف ماله وراء ظهره فحينما ينتقل إلى الدار الآخرة تنزع روحه انتزاعاً لأن كل مكتسباته خلفها وراء ظهره. فالإنسان يهلك إن لم ينفق، كما أنه ليس مكلفاً أن ينفق كل ماله، لأنه في ساعة التألق ينفق ماله كله، وفي ساعة الضعف يندم على ما فعل فيقع في شر علمه، لذلك قال تعالى:

﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾

[ سورة البقرة:195]

 التهلكة : إن أنفقتم أموالكم كلها، والفضيلة وسط بين طرفين، وعن مطرف عن أبيه قال:

(( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر، قال: قال عليه الصلاة وسلام: يقول ابن آدم: مالي مَالي! قال: وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت))

[ الترمذي والنسائي عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه]

 مالك الحقيقي هو الذي تصدقت به، لأنه يبقى، أما الذي أنفقته على لباسك فإنه يبلى، والذي أنفقته على طعامك فإنه يفنى، والذي اكتسبته ولم تنفقه تحاسب عليه وإن لم تنتفع به.

 

الكسب و الرزق :

 بالمناسبة أيها الأخوة هناك كسب وهناك رزق، الرزق ما انتفعت به، والكسب ما حصلته دون أن تنتفع به، أنت محاسب على كسبك، على شيء انتفعت به أو لم تنتفع به، فلذلك المال الذي لم تنتفع به لا في طعامك، ولا في شرابك، ولا في مسكنك، ولا في ثيابك، ولا في إنفاقك هذا كسبك، أما الذي يبقى لك فهو الذي أنفقته في سبيل الله. فقد يأتي أغنى الأغنياء فقيراً يوم القيامة، وقد يأتي إنسان له مال محدود هو أغنى الأغنياء يوم القيامة، من هنا قال الإمام علي كرم الله وجهه :" الغنى والفقر بعد العرض على الله " ورد في بعض الحكم أن هلك المسوفون - من هو المسوف؟ الذي يقول سأنفق، ومن أدراك أنك تعيش إلى اليوم الذي حددته كي تنفق فيه؟
 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(( بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر ))

[أخرجه الحاكم عن أبي هريرة ]

 لذلك يقول الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾

[ سورة البقرة: 254]

على الإنسان أن يتصدق و هو في أوج قوته :

 أقول لكم هذه الحقيقة وإن كانت مرة: أناس كثيرون أوصوا ببعض أموالهم بعد وفاتهم لوجوه الخير، فيما وصل إلى علمي أن عدداً كبيراً منهم لم تنفذ وصيتهم، لأن ورثتهم بخلوا على من ورثهم بمبلغ يُؤدى في وجوه الخير، لذلك درهم تنفقه في حياتك خير من مئة ألف درهم تنفقه بعد مماتك وقد لا يُنفق.

﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾

[ سورة المنافقون: 10-11]

 ينبغي أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، وأنت في أوج قوتك، وفي أوج حاجتك إلى المال، قال تعالى:

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة آل عمران: 92]

الإنفاق في وجوه الخير ليس له سقف :

 أيها الأخوة الكرام ، الإنفاق في وجوه الخير هذا ليس له سقف، ولكن الإنفاق الاستهلاكي على الطعام والشراب واللباس، وعلى الأهل والأولاد، هذا الإنفاق يجب أن يكون معتدلاً، لقوله تعالى:

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾

[ سورة الإسراء: 29]

 مهما كنت غنياً، إن أردت أن تنفق إنفاقاً استهلاكياً يجب أن يكون هذا الإنفاق في حدود المعقول، في حدود الاعتدال، وهذا من صفات المؤمنين الصادقين، من صفات عباد الرحمن.

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾

[ سورة الفرقان: 67]

 هذا في موضوع الإنفاق الاستهلاكي، أما الإنفاق في وجوه الخير فقد قال تعالى:

﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة البقرة: 215 ]

 يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ليس منا من وسع الله عليه ثم قتر على عياله ))

[ الديلمي في مسند الفردوس عن جبير بن مطعم ]

المرأة الصالحة هي التي تعين زوجها على دينه :

 ثم قال تعالى:

﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾

[ سورة الطلاق:7]

 أي هؤلاء الأهل الذي يضغطون على أزواجهم ليحملونهم على أن يكسبوا مالاً حراماً لينفقوا عليهم بسخاء، هؤلاء هم أعداء حقيقيون لأزواجهم، قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

[سورة التغابن : 14]

 هذه عداوة مآل وليست عداوة حال، فالإنسان يوم القيامة حينما يرى أنه من أجل إرضاء زوجته وأولاده كسب المال الحرام فاستحق النيران عندئذ تنقلب محبته لزوجته عداوة يوم القيامة.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾

[سورة التغابن : 14]

 لكن الصحابية الجليلة كانت تودع زوجها قبل أن يذهب إلى عمله تقول: يا فلان اتق الله بنا، نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام.

(( أعظم النساء بركة أقلهن مؤنة ))

[ أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة]

(( أعظم النساء بركة أقلهن مهراً ))

[ أحمد والبيهقي بلفظ أيسرهن صداقاً ]

 هذه المرأة الصالحة التي تعين زوجها على دينه، التي تعين زوجها على الشيطان، ولا تعين الشيطان على زوجها، والحكم الشرعي أن زوجتك وأولادك ليس لهم عليك من حق إلا أن تطعمهم مما تأكل، وأن تلبسهم مما تلبس، فإذا قدر الله لك رزقاً محدوداً فلا حجة لهم في ذلك.

 

علامة إيمانك أنك تتألم حينما ترى غيرك ينفق و أنت لا تنفق :

 ومن علامة الإيمان أن الإنسان يتمنى أن ينفق، فإن رأى من ينفق وهو لا ينفق قد يبكي، قال تعالى عن هؤلاء الذين جاؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يجد النبي ما يحملهم عليه:

﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ﴾

[ سورة التوبة: 92]

 من علامة الإيمان أنك تتألم أشدّ الألم حينما ترى غيرك ينفق وأنت لا تنفق.
 سيدنا زيد الخير جاء النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله ما علامة الله فيمن يريد؟ قال: كيف أصبحت يا زيد؟ قال: إن فعلت الخير سرني ذلك، وإن فاتني حزنت عليه، وهذه علامة الإيمان، أي إن فعلت الخير سعدت أشدّ السعادة، وإن فاتني حزنت عليه فهذه علامة المؤمن فيمن يريد .

وجوب أن يكون الإنفاق طيباً :

 أيها الأخوة الكرام: هذا الذي تنفقه يجب أن يكون طيباً، لقول الله عز وجل:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾

[ سورة البقرة: 215 ]

 قد يُجر الإنسان إلى إنفاق المال من أجل أن ينتزع إعجاب الآخرين هذا شيء يجب أن ينتبه له المنفق. قال تعالى:

﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾

[ سورة البقرة:265 ]

 المخلص لا يعلق آية أهمية على ردود الفعل، هناك من قدر إنفاقك، هناك من أثنى عليك، هناك من شكرك خطياً أو شفهياً، أنت أنفقت لوجه الله، قال تعالى:

﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً﴾

[ سورة الإنسان: 9]

إنفاق الأموال وسيلة قربى من الله عز وجل :

 بل إن الله عز وجل حينما قال:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾

[ سورة المائدة :35]

 الوسيلة واسعة جداً، من هذه الوسائل إنفاق الأموال وسيلة إلى القربى من الله عز وجل، قال تعالى:

﴿وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾

[ سورة التوبة ا 99]

 يتخذ ما ينفق قربات عند الله.

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة:274]

المؤمن إذا أنفق لا يتبع ما أنفق مناً ولا أذىً :

 وفي موقف آخر مشرف..

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة:274]

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

[ سورة آل عمران: 134]

 من صفات المؤمن أنه إذا أنفق لا يتبع ما أنفق مناً ولا أذىً، وهذه قاعدة ذهبية أرجو الله أن تكون واضحة لديكم، إذا عملت معروفاً مع إنسان كمال هذا العمل ينبغي أن تنساه كلياً كأنك لم تفعله إطلاقاً، وإن فُعل معك معروف الكمال يقتضي ألا تنساه أبداً حتى الموت، إن تلقيت معروفاً لا تنساه حتى الموت، وإن فعلت معروفاً تنسه من توك، هكذا صفات المؤمن.

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾

[ سورة البقرة:274]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾

[ سورة البقرة:264]

 والثروة مهما كانت طائلة إن أديت زكاتها فليست بكنز، وهذه بشارة لكل من ابتلاه الله بالمال.

 

إنفاق الطرف الآخر لانتزاع إعجاب الناس :

 أما الطرف الآخر فإنفاقهم في منحى آخر، قال تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾

[ سورة الأنفال: 36]

 فشتان بين من ينفق ليرقى، وبين من ينفق ليكون إلى النار مصيره.
 أو إذا أنفق الطرف الآخر في وجوه الخير فينفق رئاء الناس، من أجل أن يقال عنه محسن كبير، من أجل انتزاع إعجاب الناس.

﴿وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً﴾

[ سورة النساء: 38]

 أما إذا أنفقوا أمولاً طائلة على الفنون وعلى المنجزات الحضارية بالمفهوم العصري فقد أشار القرآن إلى هذا.

﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾

[ سورة آل عمران: 117]

 حينما تُنفق الأموال الطائلة على شيء لا يرضي الله عز وجل ولا يقرب إليه بل يبعد الناس عنه، هذا:

﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً﴾

[ سورة الفرقان: 23]

 إنفاق على منجزات يسمونها الناس حضارية، أو إنفاق في وجوه الخير رئاء الناس، أو للصد عن سبيل الله، هذا هو الطرف الآخر، وهذا إنفاقه، والطرف الآخر إن أنفق المال أنفقه إسرافاً، وإن منعه مَنعه بخلاً وتقتيراً.
 والإنفاق يحتاج إلى إيمان، والإيمان يحتاج إلى التزام.

﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾

[سورة التوبة :53]

 الإنفاق يحتاج إلى إيمان، والإيمان من لوازمه الالتزام، والمؤمن الملتزم إذا أنفق يرقى بإنفاقه إلى أعلى عليين.

بطولة الإنسان كشف من يحسبه غنياً وهو يستحق أن ينفق عليه :

 أيها الأخوة الكرام ، آيات الإنفاق في القرآن تزيد عن مئتي آية، اخترت لكم بعضها فلعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا بها، لكن قبل أن أختم؛ هذا الذي ينبغي أن تنفق إليه المال، هذا الذي ينبغي أن تعطيه مالك، ينبغي أن تجتهد اجتهاداً لتعرف على من تنفق هذا المال، الله جل جلاله أخبرك على من تنفقه، تنفقه:

﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة البقرة: 273]

﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾

[سورة المعارج: 24-25]

 من هو المحروم؟ هو الذي تعفف عن السؤال فحرم، إذاً ينبغي أن تبحث أنت، ينبغي أن تدرس، ينبغي أن تسأل، ينبغي أن تحقق في هذا العفيف الذي لا يسألك وهو في أشدّ الحاجة إلى المال، في هذا العفيف الذي يبدو غنياً وهو في أشدّ حالات الفقر، في هذا العفيف الذي يحفظ ماء وجهه، في هذا العفيف الذي يدل مظهره على أنه غني وهو في الحقيقة فقير، بطولتك في كشف هذا الإنسان الذي تحسبه غنياً وهو يستحق أن تنفق عليه.

 

الأقربون أولى بالمعروف قاعدة أساسية في إنفاق الأموال :

 آخر فقرة في هذا الخطبة:

﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾

[ سورة البقرة: 215 ]

 إن أنفقت على أقربائك، الذين هم أقرب الناس إليك، والذين تعرفهم في مدخلهم وفي مخرجهم، فهذه صدقة وصلة في وقت واحد، أي تعمل عملين صالحين في وقت واحد إن تفقدت أقرباءك، إن تفقدت أرحامك، إن تفقدت من يلوذ بك، لأنك الوحيد الذي تعلم أحوالهم، الناس أنت لهم وغيرك لهم، أما أهلك الأقربون فمن لهم غيرك؟؟ ورد أنه لا تقبل زكاة مال وفي أقرباء الناس محاويج، يجب أن نبدأ بالأقرباء لأنهم ألصق الناس بنا، طبعاً القاعدة: الأقربون أولى بالمعروف، هذه قاعدة فقهية، لكن بعض العلماء حللها، قال: الأقربون نسباً، والأقربون إلى الإيمان، والأقربون إلى الفقر. عندك ثلاثة موازين، لو اجتمع قريبان فالأفقر، لو اجتمع قريبان فقيران فالأتقى، الأقربون نسباً، والأقربون إلى الفقر، والأقربون إلى الإيمان.. إن اجتمع مؤمنان فالأفقر، إن اجتمع فقيران فالأتقى، إن اجتمع مؤمنان فقيران فالأقرب نسباً. هذا الميزان يمكن أن تتخذه في إنفاق الأموال.
 أيها الأخوة الكرام حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا لغيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني..

* * *

الخطبة الثانية :
 أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

غدة التيموس :

 أيها الأخوة الكرام، من البحوث العلمية المستجدة حول غدة صماء في جسم الإنسان هي غدة التيموس أو الغدة الصعترية، هذه غدة تنمو في بداية الولادة، وتضمر بعد سنتين، الأمر الذي حمل كبار العلماء على أن يقولوا: هذه الغدة لا وظيفة لها، ولا شأن لها في حياة الإنسان إطلاقاً، وهذا من نقص العلم، ثم اكتشف فجأة - قبل سنة تقريباً - أن هذه الغدة من أخطر الغدد في حياة الإنسان، إنها بمثابة المدرسة الحربية، فكريات الدم البيضاء بعضها مستطلع، وبعضها مصنع للمصل، وبعضها مقاتل، وبعضها للخدمات ـ
 إذاً كريات الدم المقاتلة البيضاء هذه معها سلاح خطير، ولكنها في عرف الطب همجية، قد تقتل الصديق، لذلك هذه الكريات تدخل إلى هذه المدرسة الحربية وتتلقى دروساً طويلة حول الصديق والعدو، من هو الصديق ومن هو العدو، بالمجاهر الإلكترونية كُبرت هذه الغدة فإذا فيها مدرجات كمدرج الجامعات، تُلقى على هذه العناصر المحاضرات عن الصديق والعدو، والطفل خلال أول عامين يضع كل شيء في فمه، من أجل أن يعرف الأعداء، بعد تعليم طويل يصل إلى السنتين، تُفحص هذه العناصر المقاتلة عنصراً عنْصراً، يُعطى لها عنصراً صديقاً، فإن قتلته تُقتل، يعطى لها عنصراً عدواً، فإن لم تقتله تُقتل، لا تخرج من هذا المدرج إلا الخلايا المثقفة، معها سلاح ولكنها تستخدمه ضد الأعداء فقط، فإذا ثقفت هذه الكريات البيضاء انتهت مهمة هذه الغدة عندئذ تضمر، و تعود إلى حجم قليل جداً.
 أيها الأخوة ، الشيء الذي يلفت النظر أن هذه الكريات البيضاء مُكلفة أن تعلم حفيداتها هذه المعلومات الدقيقة حول الصديق والعدو، بعد سن الستين تضعف هذه الكريات عن تعليم حفيداتها، فتظهر في حفيداتها أخطاء وبيلة، من هذه الأخطاء أنها قد تهاجم الأصدقاء، ويُعزى التهاب المفاصل إلى هذه الحالة، فكريات الدم البيضاء بدل أن تهاجم الأعداء تهاجم الأصدقاء فيصاب الإنسان بالتهاب المفاصل. هذه الغدة التي لا يلتفت الناس إليها، ويظن أنه لا فائدة منها هي في الحقيقة من أخطر الغدد في جسم الإنسان، إنها بمثابة المدرسة الحربية أو الكلية العسكرية، من أجل تدريب العناصر المقاتلة على معرفة الصديق والعدو.
 وكلما تقدم العلم اكتشف هذه الآيات الدالة على عظمة الله عز وجل.

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا، مولانا رب العالمين. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين. اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين. اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين. اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، ولا تهلكنا بالسنين، ولا تعاملنا بفعل المسيئين.. اللهم أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير وبالإجابة جدير.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور