وضع داكن
29-03-2024
Logo
عقل وقلب - الندوة : 03 - كيف نصل لمحبة الله ؟ ـ فرق التوكل والتواكل
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الأستاذ جميل :
السلام عليكم ورحمة الله أيها الأخوة والأحبة ، أسعد الله أوقاتكم بكل خير ، وأهلاً بكم في لقاء جديد في برنامجنا عقل وقلب .
ضيفنا فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي .
فضيلة الدكتور محل السعادة والنجاح أن يرضى السيد عن مولاه ، وحديثنا مستمر عن أناس يستحقون بأعمالهم قبولاً ، وبأخلاقهم محبة وحبوراً ، هل لنا المتابعة في صفات من يحبهم الله ؟.

 

الإنسان هو المخلوق الأول رتبة لأنه قَبِل حمل الأمانة :

الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ جميل الإنسان أولاً كائن متميز .

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

( سورة الأحزاب الآية : 72 )

الإنسان هو المخلوق الأول رتبة ، لأنه قبل حمل الأمانة ، فلما قبل حمل الأمانة سخر الله له :

﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ﴾

( سورة الجاثية الآية : 13 )

وخلقه لجنة عرضها السماوات والأرض ، ثمنها في الحياة الدنيا ، أتى الله بنا إلى الدنيا كي نعرفه ، وكي نعمل عملاً يؤهلنا لجنته ، فأنا لا أبالغ إذا قلت إن علة وجود الإنسان في الأرض أن يعمل عملاً صالحاً ، أي أن يكون محسناً .

 

 

البشر صنفان لا ثالث لهما :

 

1 ـ إنسان تعرف على الله فسلم وسعد في الدنيا والآخرة

يمكن أن نقسم البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، ومذاهبهم ، وتياراتهم ، إلى قسمين نموذج عرف الله ، فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، كان محسناً .

2 ـ إنسان غفل عن الله فشقي وهلك في الدنيا والآخرة :

ونموذج غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه فكان مسيئاً .
لذلك البشر يصنفون صنفين لا ثالث لهما ، صنف محسن ، وصنف مسيء ، وهذه عبر عنها الفلاسفة بالاثنينية ، هناك حق وباطل ، وخير وشر ، وإحسان وإساءة ، وعدل وظلم .
فالإنسان حينما أتى إلى الدنيا ، الله عز وجل أعطاه الشهوات ، أعطاه العقل ، أعطاه الفطرة ، أعطاه المنهج ، أعطاه الوقت ، أعطاه القوة ، فالإنسان بالنهاية إما أن يكون محسناً وإما أن يكون مسيئاً .
النبي عليه الصلاة والسلام رأى جنازة فقال :

(( مستريح ، أو مُسْتَراح منه ، فقالوا : يا رسول الله ما المستريحُ ، وما المستَراح منه ؟ فقال : العبد المؤمنُ يستريح من نَصَب الدنيا ، والعبد الفاجرُ : يستريح منه العبادُ والبلادُ ، والشجر والدواب ))

[أخرجه البخاري ومسلم والنسائي ومالك عن أبي قتادة ]

فلذلك البشر صنفان ، محسن و مسيء ، ونحن في حياتنا الاجتماعية الإنسان عندما يموت معظم الناس يقولون الله يرحمه ، كان محسناً ، كان أباً مثالياً ، كان معلماً مثالياً ، كان تاجراً مثالياً ، أو أن يلعنه الناس بعد موته .
فهذا التقييم الفطري الطبيعي ، فالإحسان أن تحسن مع أهلك ، مع زوجتك ، مع أولادك ، مع جيرانك ، مع أصدقائك ، مع زملائك .
في عملك ، أن تتقن صنعتك ، أن تنصح بها الناس ، أن تعاملهم معاملة طيبة ، كلمة إحسان واسعة جداً ، أن تحسن في علاقتك بجسمك ، أن تحسن في علاقتك بزوجتك ، في علاقتك بأولادك .
أنت محامي ، أن تحسن إلى زبائنك الموكلين ، أنت طبيب ، أن تحسن مع المرضى أن تنصحهم ، ألا تضخم مرضهم ، وألا تجهل علاجهم فتبقيهم عندك ، وغيرك أجدر منك أن يكونوا عنده .
أي القضية واسعة جداً ، فأنت في أي لحظة ، وفي أية ساعة ، وفي أي يوم إما أن تكون محسناً ، وإما أن تكون مسيئاً .

 

الله عز وجل يحب الإنسان المحسن :

إنسان سألك سؤالاً ، تجيبه بأدب جمٍّ ، إنسان سألك سؤالاً تستعلي عليه ، إنسان طلب منك حاجة تقدمها له ، إنسان طلب منك حاجة ترده ، ترفضه ، يعني أنت في أية لحظة تقيّم عند الله محسن أو مسيء ، فالله عز وجل بكماله المطلق ، ولأن أسماءه كلها حسنى وصفاته كلها فضلى ، يحب المحسنين ، يحب الزوج الصالح .

(( أكرموا النساء ، فو الله ما أكرمهن إلا كريم ، ولا أهانهن إلا لئيم ، يغلبن كل كريم ، ويغلبهن لئيم ، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً ، من أن أكون لئيماً غالباً ))

[ ابن عساكر عن علي بسند فيه مقال كبير ]

يحب الله المرأة المحسنة ، زوجة صالحة .

(( انصرفي أيتها المرأة ، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته واتباعها موافقته يعدل ذلك كله ـ أي يعدل الجهاد في سبيل الله ))

[أخرجه ابن عساكر وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان عن أسماء بنت يزيد الأنصارية]

يحب الأب المحسن .

(( رحم الله والداً أعان ولده على بره ))

[ كشف الخفاء رواه أبو الشيخ في الثواب بسند ضعيف عن علي وابن عمر مرفوعا]

يحب الابن البار .

﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾

( سورة الإسراء الآية : 23 )

يحب التاجر الصدوق .

(( إن أطيب الكسب كسب التجار ، الذين إذا حدثوا لم يكذبوا ، وإذا وعدوا لم يخلفوا ، وإذا ائتمنوا لم يخونوا ، وإذا اشتروا لم يذموا ، وإذا باعوا لم يطروا ، وإذا كان لهم لم يعسروا ، وإذا كان عليهم لم يشددوا ))

[ الجامع الصغير عن معاذ بسند ضعيف ]

يحب المزارع ، يجعل الله كل عمله في صحيفته ، لو أكل طير حبة قمح من بستانه لأجره الله عز وجل .

 

علة وجود الإنسان في الأرض أن يعمل عملاً صالحاً :

الله عز وجل يحب من له عمل ، سيدنا عمر كان يحتقر من ليس له عمل

يحب من جعل همه إرضاء الله عز وجل ، يعني موضوع الإحسان هو الحياة كلها ، هناك إحسان مهني ، وهناك إحسان أسري ، و إحسان اجتماعي ، و إحسان صحي ، إنسان يلوث البيئة ، الذي يُسرف في استهلاك الماء ، هذا ليس محسناً هذا يُسرف الماء على مزاجه ويحرم أناساً كثيرين ، لذلك النبي الكريم توضأ من كعب ، فضلت فيه فضلة ، فقال :

(( ردوها في النهر يرحم الله بها قوماً آخرين ))

الترشيد في استهلاك الماء إحسان ، والترشيد في استهلاك الكهرباء إحسان ، وعدم إلقاء الأذى في الطريق إحسان ، وأن تنزع شيئاً عن الطريق إحسان ، وأن تعامل جارك إحسان .
يروى أن الأمير عبد القادر الجزائري ، كان يسكن في الشام ، له جار فقير اضطر أن يبيع بيته ، فجاؤوا له بثمن بخس فغضب ، قال : والله أنا لا أبيع جيرة الأمير بهذا المبلغ ، جاء من أبلغ الأمير هذا الكلام ، فاستدعاه ، وكان دفع ببيته ثلاثمئة ليرة ، قال له : هذه الثلاثمئة لك ، وابقَ جارنا .
هناك جار محسن ، هناك حار يتفنن في إيذاء جاره ، النبي الكريم قال :

(( وأعوذ بك من جار سوء ترعاني عيناه وتسمعني أذناه إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها ))

[ أخرجه الطبراني عن عبد الله بن عباس ]

(( اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء ، إن أحسنت لم يقبل ، وإن أسأت لم يغفر ))

[ورد في الأثر]

في أية لحظة ، أستاذ جميل ، أنت محسن أو مسيء ، بأية لحظة ، إنسان من دون قصد مس يدك ، فتغضب ، إنسان ، ما في مشكلة أبداً ، فالمؤمن عنده سماحة ، عنده عفو ، عنده حلم ، عنده رحمة .
مرة سيدنا عمر يمشي في المسجد ليلاً ، يبدو داس دون أن يشعر على أحد المصلين ، فغضب ، فقال له : أأعمى أنت ؟ قال له : لا ، قالوا : كيف ؟! قال : سألني فأجبته .
هناك إنسان جبار ، وهناك إنسان حليم ، وقور .

 

الإحسان صفة من صفات المؤمن :

أستاذ جميل ، الإحسان من صفات المؤمن ، يحسن مع هرة ، يصغي لها الإناء ، يحسن مع الحيوان إذا ذبحه ، أنا أرى أناساً يذبح الحيوان ، ثم يشق بطنه ، وتفرغ أمعاءه ولا يزال يشعر بالألم ، هذا عمل فيه إساءة .
رأى النبي إنساناً يذبح شاة أمام أختها ، فغضب ، قال له : هلا حجبتها عن أختها ؟ أتريد أن تميتها مرتين ؟ .
لذلك المؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض من إحسانه ، والكافر إذا مات :

﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ﴾

( سورة الدخان الآية : 29 )

يرتاح الناس منه ، أنا أرى المؤمن كتلة كمال ، كتلة عطاء ، كتلة ذوق ، كتلة لطف ، هذا هو الإحسان ، هو انعكاس :

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 159 )

يعني هذا الإحسان سببه رحمة استقرت في قلب المؤمن ، فانعكست ليناً وإحساناً .

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

( سورة آل عمران الآية : 159 )

فهناك معادلة رياضية تتصل بالله ، تشتق منه الرحمة ، تنعكس الرحمة ليناً ، يحبك الناس ، يلتفون حولك ، ينقطع المرء عن الله ، يشتق من انقطاعه غلظة ، تنعكس فظاظة ينفض الناس من حوله ، يعني اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض ، معادلة رياضية .
الأستاذ جميل :
نقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى أن الله يحب المتوكلين ، فما هو التوكل ومن هم هؤلاء المتوكلون ؟.

 

المتوكلون :

الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم .
أستاذ جميل ، هناك مشكلة كبيرة في العالم الإسلامي ، أن التوكل يستخدمه المسلمون في جوارحهم ، لا يعملون ، بينما مكان التوكل هو القلب ، المؤمن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
فلذلك المنهج القويم هو طريق عن يمينه وادٍ سحيق ، وعن يساره وادٍ سحيق ، فمن أخذ بالأسباب واعتمد عليها ، وألهها ، واستغنى عن الله ، وقع في وادي الشرك ، ومن لم يأخذ بها ، وقع في وادي المعصية .
فالبطولة أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .
ماذا يعني التوكل ؟ عندك سفر بمركبتك ، تراجع المركبة مراجعة تامة ، كل شؤون المركبة ، المكابح ، المحرك ، الزيت ، وبعد أن تراجعها مراجعة تامة تقول يا رب أنت الحافظ ، وأنت المُسلّم ، وأنت الموفق ، جمعت بين الأخذ بالأسباب ، وبين التوكل على رب الأرباب ، هذا الموقف ليس سهلاً ، سهل جداً أن تأخذ بالأسباب كالعالم الغربي ، وتنسى الله ، وتعتمد عليها ، وتؤلهها ، وسهل أيضاً كالعالم الإسلامي أن لا تأخذ بها أصلاً ، يا رب أن تنصرنا على أعدائنا ، دعاء بلا عمل .
لذلك الذي لا يتبع الدعاء الأخذ بالأسباب يستهزئ بالدعاء .
شخص عنده جمل أجرب ، رآه عمر فقال له : ماذا تفعل يا أخا العرب بهذا الجمل ؟ قال له : أدعو الله أن يشفيه ، قال له : هلا جعلت مع الدعاء قطراناً ؟ .
رأى أناس يتكففون الناس في الحج ، فقال سيدنا عمر : من أنتم ؟ قال : نحن المتوكلون ، قال : كذبتم ، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله .

على الإنسان أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء:

أنا أرى أن المسلمين الآن في أمس الحاجة إلى هذا المفهوم الغائب عن معظم المسلمين

يظن التوكل لا يفعل شيئاً ، الله ينصرنا ، الله يوفقنا ، نحن أمة محمد ، أمة مرحومة ، هؤلاء أعداؤنا يزدادون قوة ، ونزداد ضعفاً ، ما لم نأخذ بالأسباب ، عندنا آية كريمة وخطيرة ، وعدم الأخذ بها أحد أسباب ضعف المسلمين ، هذه الآية :

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾

( سورة الأنفال الآية : 60 )

هم أعدوا لنا ، ولم نعد لهم ، فلذلك فرضوا على العالم ثقافتهم ، وإباحيتهم ، وأفلامهم ، وانحطاطهم ، وصار النموذج الغربي مطبق في العالم كله من خلال الإعلام ، أنا أرى أن المسلم يجب أن يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن يتوكل على الله وكأنها ليست بشيء .

 

التوكل محله القلب والجوارح محلها الأخذ بالأسباب :

عندنا ملمح دقيق من حديث شريف :

(( إِن الله يَلُومُ على العَجْز ))

[ أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك ]

ما بيدنا شيء ، انتهينا ، أعداؤنا أقوياء ، هذا موقف انهزامي .

(( إِن الله يَلُومُ على العَجْز ، ولكن عليكَ بالكَيْس ))

الكيس أن تأخذ بالأسباب .

(( فإِذا غَلَبَك أَمر ـ عندئذٍ قل : حَسبيَ الله ونعم الوكيل ))

كيف ؟ طالب ما درس إطلاقاً فما نجح ، قال : هذا ترتيب الله ، هذا قضاء وقدر ، هكذا أراد الله ، أنا راضٍ بحكمه ، لا ، أنت كسول ، ورسبت لأنك كسول فقط ، هذا جزاء التقصير فقط ، لا تدخل الإله العظيم بتقصيرك ، فبعض المسلمين وهم ليسوا بقلة يعزون أخطاءهم إلى القضاء والقدر ، يعزون تقصيرهم ، يعزون عدم أخذهم بالأسباب إلى القضاء والقدر .

(( إِن الله يَلُومُ على العَجْز ، ولكن عليكَ بالكَيْس ـ بالعمل ـ فإِذا غَلَبَك أَمر فقل حَسبيَ الله ونعم الوكيل ))

[ أبو داود وأحمد عن عوف بن مالك ]

أن الطالب درس دراسة رائعة ، وفر كل وسائل النجاح ، وفي يوم الامتحان أصابه مرض حال بينه وبين الامتحان ، هذا مقبول منه أن يقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، أما إنسان قصّر بالدراسة فلم ينجح مرفوض أن يقول حسبي الله ونعم الوكيل ، هذا جزاء التقصير ، هذا درس بليغ يحتاجه المسلمون اليوم .

 

الله عز وجل يحب المتوكلين :


الآن النبي الكريم ، لما هاجر ، هو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم لماذا اتجه ساحلاً ؟ ولماذا قبع في غار ثور ، ولماذا استأجر دليلاً غلب فيه الخبرة على الولاء (دليل مشرك) ؟ ولماذا ؟ ولماذا ؟ لم يبقِ ثغرةً إلا وغطاها بأخذ بأسباب ، فلما وصلوا إليه بقي ثابتاً ، هو أدى الذي عليه ، والآن الله ينصره ، قال له يا رسول الله لقد رأونا ، قال له :

(( ما ظنك باثنين الله ثالثهما ))

[أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أنس بن مالك ]

إذاً ينبغي أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن نتوكل على الله وكأنها ليست بشيء هذا هو المطلوب ، وإلا التوكل بمفهومه الساذج ، المفهوم الذي يفهمه الناس مرفوض التوكل محله القلب ، والجوارح محلها الأخذ بالأسباب ، فإذا نقلنا التوكل إلى الجوارح فهذه الطامة الكبرى ، وهذا ما يدفعه المسلمون ثمن فهمهم للتوكل فهماً غير صحيح ، الله عز وجل يحب المتوكلين .

 

العاقل من يحتاط للأمر قبل وقوعه :

 

النبي الكريم أخذ بالأسباب .

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾

>( سورة الكهف )

يجب أن يخطط المسلمون ، أن يعيشوا المستقبل .
يروى أن غدير ماء فيه سمكات ثلاث ، مرّ صيادان أبصرا السمكات الثلاث وتوعدا أن يرجعا ، ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك ، فسمع السمكات قولهما ، و السمكات الثلاث ، كيسة (أي ذكية)، وأكيس منها ، وعاجزة ، قال : أما أكيس هذه السمكات لن تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير ، خرجت ، وقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها .
أما الأقل ذكاء بقيت في مكانها حتى عاد الصيادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها ، فإذا بالمكان قد سُدّ ، فقالت : فرطت ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت ، فطفت على وجه الماء منقلبةً تارةً على ظهرها وتارةً على بطنها ، فأخذها الصياد بيده ، ظنها ميتة ، وضعها على الأرض ، بين النهر والغدير فوثبت في النهر فنجت .
وأما العاجزة فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت .
فكل إنسان يحتاط للأمر قبل وقوعه يكون عاقلاً ، والذي يحتاط بعد وقوعه يكون أقل عقلاً ، هذا يسمونه الآن ردود الفعل ، القوي يفعل ، والضعيف يتخذ ردود أفعال ، والذي يضيع وقته في القيل والقال ، هذا العاجز فلم تزل في إقبال وإدبار حتى صيدت .
إذاً التوكل يعني أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، وأن تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، هذا المفهوم يحتاجه المسلمون في محنتهم الآن .
الأستاذ جميل :
فضيلة الدكتور ، ما هو الأمر المطلوب فعله ممن أحبهم الله سبحانه وتعالى ؟

 

من أحبه الله ينبغي أن يحبب الناس بالله عز وجل :

الدكتور راتب :
ورد في الأثر القدسي :

(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ فجاء الجواب : أحب عبادي إلي تقيّ القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ ))

[من الدر المنثور عن ابن عباس ]

يعني الذي أحبه الله واجبه الأول أن يحببه إلى خلقه .

(( أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وبنعمائي كي يحبوني ، وببلائي كي يخافوني ))

فالذي أحبه الله ينبغي أن يحبب الناس بالله عز وجل .
الأستاذ جميل :
القلب يحب ، والعقل يتفكر ، روينا القلوب من محبة الله ، والعقول عطشى لمعرفة الله .

 

التفكر يزيد الإنسان تعظيماً و حباً لله عز وجل :

الدكتور راتب :
كلما تفكرنا في خلق السماوات والأرض ، وكلما تفكرنا في خلق الإنسان ازددنا تعظيماً لله ، ومحبة له ، وطاعة له ، بالإنسان جيش بكل معاني الكلمة ، فيه فرقة اسمها فرقة الاستطلاع ، الجيش هو الكريات البيضاء ، هذه الكريات خمس فرق ، فرقة الاستطلاع مهمتها استخباراتية

إذا دخل جرثوم إلى الجسم تتجه إليه ، لا تحاربه إطلاقاً ، مهمتها استطلاعية ، مهمتها معلوماتية ، تأخذ شفرته الكيماوية ، وتعود إلى مركزها ، وتسلم هذه الشيفرة إلى فرقة ثانية مكلفة بصنع الأسلحة المصول ، هذه الفرقة مركزها في العقد اللمفاوية ، هذه الفرقة تصنع المصل المضاد لهذا الجرثوم ، وتحتفظ بالتركيب في الذاكرة ، فإذا عاد الجرثوم بعد سبعين عاماً الإضبارة جاهزة ، ولولا هذه الذاكرة المذهلة لا معنى للتلقيح إطلاقاً ، الإنسان يأتيه جرثوم مضعف للكوليرا ، يصنع مصلاً مضاداً .
فلذلك الجرثوم لو عاد بعد سبعين سنة يستطيع الجهاز أن يقدم هذا المصل فوراً هذا أول قسم (الاستطلاع) ، والقسم الثاني تصنيع السلاح ، عندنا فرقة ثالثة فرقة المقاتلين فرقة بكل معنى الكلمة ، وعندنا فرقة رابعة فرقة المغاوير ، مهمات خاصة ، فأربع فرق فرقة الاستطلاع ، وفرقة تصنيع السلاح ، وفرقة المقاتلين ، الفرقة المقاتلة تأخذ السلاح من العقد اللمفاوية وتذهب إلى الجرثوم فتقاتله .أحياناً يكون هناك التهاب باليد هذا الالتهاب معركة تمت بين الجرثوم والكريات البيضاء ، يعني أنا أقول : جيش بكل معاني الكلمة ، فرق استطلاع ، فرق تصنيع السلاح أي معامل الدفاع ، فرق مقاتلة ، فرقة خدمات ، مهندسون ، من أجل تنظيف المعركة ، نقل الجثث ، مثلاً ، وهناك فرقة مغاوير ، خمس فرق ، هذا الجيش أكرمنا الله به .
والإنسان إذا انحرف أخلاقياً يُدمر هذا الجيش بمرض الإيدز ، مرض الإيدز أن هذا الفيروس يدمر هذا الجيش ، يقضي عليه كلياً ، ويلبس ثياباً مشابهة له تماماً ، يظن المراقب أنه من فرق الجيش ، فإذا تمكن قضى على الجيش .

خاتمة و توديع :

الأستاذ جميل :
يا سبحان الله ! أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور ، وجزاكم الله خيراً ، مشاهدينا الأعزاء نودعكم على أمل اللقاء ، نستودعكم الله .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور