- السيرة / ٠3سيرة الصحابة
- /
- ٠2رجال حول الرسول
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
هل حقوق المرأة في الإسلام نفس حقوق الرجل وهل هناك فرق بين خصائص الرجال عن النساء
أيها الأخوة الأكارم, مع الدرس الثاني والثلاثين من سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابية
اليوم السيدة صفية بنت عبد المطلب
ومن حين لآخر نريد أن نبيِّن لأخواننا الكرام أن دور المرأة في الحياة لا يقلُّ أبداً عن دور الرجل، لكنْ لكلِّ من المرأة والرجل موقعٌ خاصٌ به، وبها، وما الفساد إلا في تبادل المواقع .
موقع الطيار، في غرفة القيادة، هل يعدُّ الطيار ضيِّق الأفق، حبيساً في غرفة ضيقة، إذا كان وراء المقود، وأمام الأجهزة الكثيرة, وبرقبته أرواح ثلاثمئة إنسان من الركاب؟ هذا موقعه الصحيح، فإذا شعر أنه حبيس هذه الغرفة الصغيرة، ولا بدَّ من أن يخرج ليجلس مع الركاب، ويتسامر معهم، وينطلق، ربما سقطت الطائرة، لأنه تخلَّى عن مركز القيادة .
هل يقال للطبيب الجراح: أنت هنا حبيسُ هذه الغرفة الضيقة؟ لا، بل هنا موقعه الصحيح، هنا يُجرِي أخطر عملية جراحية, فحينما قال الله عزَّ وجل:
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾
ليس معنى هذا أن المرأة حبيسة المنزل، ولكن معنى هذا أنها تربِّي أجيالاً، وأن هذا البيت موقعها الصحيح، وأن بإمكان المرأة أن تهزَّ العالم بتربيتها لأولادها، أليس المجتمع محصلة تربيةٍ بيتية؟ فإن كانت التربية البيتية صالحةً، صلح المجتمع، وإن كانت التربية البيتية سيئةً ساء المجتمع .
أيها الأخوة, أنه كلما تقدمتَ في طريق العلم، وكلما ارتقيتَ في سلم الأيمان، اكتشفتَ أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف، وفي التشريف، ثم اكتشفتَ أيضاً، أن للمرأة خصائص متعلقة بها ، ومتعلقة بمهمتها، وتتناسب مع مهمتها، وأن للرجل خصائص جسمية، وعقلية، ونفسية، واجتماعية، تتعلَّق بدوره في الحياة، وبمهمته، وربما ظهرت بطولاتٌ من النساء، أين منها بطولات الرجال؟ وربما ارتقت المرأة في معرفة الله، وفي الإقبال عليه، وفي الشوق إليه, وفي العمل الصالح، الذي يقرِّبها إليه، وربما فاقت الرجال في ذلك، هذا هو المنطلق السليم، واللهُ جل جلاله يقول:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
لذلك المرأة قد تزيد عاطفتها على إدراكها، والرجل قد يزيد إدراكه على عاطفته، لكن مجموع الإدراك والعاطفة في الرجل واحد، ومجموع الإدراك والعاطفة في المرأة واحدٌ، فهي عملية توزيع فقط .
إليكم نسب السيدة صفية بنت عبد المطلب :
صحابية اليوم امرأةٌ نادرة، ليست كمعظم النساء، امرأة تمثِّل نموذجاً خاصاً من بين النساء، إنها السيدة صفية بنت عبد المطلب، صحابيةٌ باسلة، امرأة حازمة، قدَّمتْ للمسلمين أول فارسٍ سلَّ سيفاً في سبيل الله بعد أن أنشأته تنشئةً سليمة .
إنها صفية بنت عبد المطلب، الهاشمية، القرشية، عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخت أبيه، هذه المرأة العظيمة، اكتنفها المجد من كل جانب، أبوها عبد المطلب بن هاشم، جد النبي عليه الصلاة والسلام، وزعيم قريش، وسيِّدها المطاع، وأمُّها هالة بنت وهبٍ، أخت آمنة بنت وهبٍ، والدة النبي عليه الصلاة والسلام .
بالمناسبة، إذا تحدثنا عن النسب فهو حديث مقبول بشرطٍ واحد؛ أن يكون الإنسان مؤمناً ، فإذا تحدثنا عن نسبه، فنسبه تاجٌ يضاف إلى إيمانه، أما إذا تحدثنا عن النسب، وليس صاحبه مؤمناً، فهذا النسب لا يقدِّم ولا يؤخِّر, هل من قرابة أشد من قرابة العمومة؟ أبو لهبٍ كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، لا قيمة للنسب مع الكفر، لا قيمة للنسب مع المعصية، أما مع الإيمان فالنسبُ تاجٌ يتوِّج الإيمان .
أما زوجها الأول الحارث بن حرب، أخو أبو سفيان زعيم قريش، وزوجها الثاني العوَّام بن خويلد، أخ خديجة بنت خويلد، سيدة نساء العرب في الجاهلية، وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام, جمعت المجد من كلِّ أطرافه .
توفي زوجها العوَّام بن خويلد، يعني النبي عليه الصلاة والسلام وصف الزبير بن العوام بأنه حواري رسول الله, والقصة المعروفة، أن عبد الله بن الزبير، حينما أرسل كتاباً إلى معاويةَ ببن أبي سفيان، وقال:
((أما بعد, كان عبد الله بن الزبير مجرد مسلم، وكان معاوية بن أبى سفيان خليفة المسلمين أرسل له كتاباً قال فيه: أما بعد, فيا معاوية، إن رجالك قد دخلوا أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان ليَ ولك شأنٌ، والسلام .
أمسك معاويةُ الكتابَ، ثم دفعه إلى ابنه يزيد، وقال: يا يزيد, ما قولك في هذا الكتاب؟ فقال يزيد: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عنده، وآخره عندك، ليأتوك برأسه, تبسَّم هذا الخليفة الحليم، وقال: يا بني غير ذلك أفضل، أمر الكاتب أن يكتب:
أما بعد, فقد وقفت على كتابِ ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينةٌ جنب رضاه، لقد نزلتُ له عن الأرض ومن فيها .
فجاء الجواب: أما بعد, فيا أمير المؤمنين، اختلف الأسلوب، لا أعدمك الله الرأيَ الذي أحلَّك من قومك هذا المحل, فدفع الجواب إلى ابنه يزيد, وقال: يا بني, من عف ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب))
فكان الزبير بن العوام ابن هذه المرأة البطلة، كان حواري رسول الله، وقد وصفه معاوية في رسالته لابن الزبير بحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم .
انظر إلى تربية السيدة صفية لولدها الزبير بن العوام :
فهذه الصحابية ربَّت ابنها على الخشونة والبأس، ربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعِبه في بَرْيِ السهام، ودأَبتْ على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ، وتقحمه في كل خطر إقحامًا، فإذا رأته أحجم، أو ترّدد ضربته ضرباً مبرِّحاً، حتى إنها عوتِبتْ في ذلك مِن قِبَل أحد أعمامه، حيث قال لها:
((ما هكذا يُضرَب الولد، إنَّك تضربينه ضرب مبغضةٍ، لا ضرب أمٍّ, فقالت شعراً:
من قال: قد.... أبغضته فقد كذب
و إنما أضربه......... لكي يلب
و يهزم الجيش.... ويأتي بالسلب
يلب: يصبح لبيباً))
هذه الصفة مهمة جداً، نشَّأت ابنها نشأة خشونةٍ، ونشأة بأسٍ، ونشأة حزمٍ، ودفعته إلى اقتحام الأخطار، وإلى التعامل مع المصاعب، كي يصلب عوده, والطفل اليوم إنْ رأى حشرة صغيرة يصيح خوفاً، ولا يقوى على فعل شيء، بل لا يتحمَّل شيئًا، وإذا اختلفت مواقيتُ طعامه تراه يضْطَرِب، ويصيح, ويغضب، ويفعل ما لا يصح أنْ يفعل .
ما الذي يفسد الناشئة وكيف يمكن أن تربى ؟
الحقيقة، يبدو أنّ النعيم الزائد للصغار يفسدهم وتربية الصغار على الخشونة والبأس يقوِّيهم، ويجعل عودهم صُلباً، وتجربتهم في الحياة عميقة، وأخطر ما في حياتنا تربية أولادنا، فإن نَجَحْنا في تربية أولادنا، نجح المجتمع،
وإن أخفقنا أخفق المجتمع، وواللهِ لا أرى على وجه الأرض عملاً أعظم مِن أن تعتني بأولادك، وأن تربيهم تربيةً إسلامية، وأن تنشِّئهم نشأةً مستقيمة ، وأن تحملهم على طاعة الله، وأن تجعلهم علماء، وأن تعلِّمهم كتاب الله وسنة رسول الله، وأن تعلِّمهم مكارم الأخلاق، وأن تحملهم على الطاعات، واللهِ ما من عملٍ أجلُّ مِن هذا العمل، وهذا الكلام موجه إلى الآباء .
أيها الآباء, بين يديك كنز، ألا تدري ما هو؟ ابنك كنزٌ بين يديك، إنْ نشَّأته تنشئةً فاضلة كان ذخراً لك في الدنيا والآخرة، وكان امتداداً لك إلى أبد الآبدين، فالأب الذي ربَّى أولاده تربيةً قويمة ثم مات، فإنّه لم يمت ذكرُه، ولو أنه فارق الحياة .
مرة حضرنا حفلاً لأحد العلماء الأجلاء، والدعاة إلى الله عزَّ وجل، وفي نهاية الحفل سمعنا أن وزارة الأوقاف عيَّنت ابنه خطيباً لهذا المسجد الكبير، فقلت: يا سبحان الله، لولا أن هذا الأب ربَّى ابنه تربيةً علميةً إسلاميةً لمَا احتلّ مكان أبيه، ثم قام وخطب فينا خطاباً أكَّد أهليته لهذا المنصب، فقلت: واللهِ لم يمُتْ أبوه، فما دام غاب عن أنظارنا، كان ابنه مكانه، وقد علمه، ورباه وهذبه، وهو الآن من الدعاة إلى الله عزَّ وجل .
إذا كان لك ابن فربَّيتَه تربيةً إسلاميةً، وفقَّهته في الدين، وعلَّمته كتاب الله، وسنة رسول الله، وقوَّمت اعوجاجه، وهذَّبت مشاعره، وحملته على طاعة الله، فأنت لا تموت ولو غادرتَ الدنيا، ولو أن جسمك غاب تحت الثرى، هذا ابنك خليفةٌ لك، ابنك استمرارٌ لك، ابنك صدقةٌ جاريةٌ لك، لا ينقطع خيرها إطلاقاً .
أيها الأخوة, لا يصلح مجتمعنا إلا بتربية أولادنا، ولا حلَّ للمسلمين إلا أن يؤسِّسوا أُسَراً إسلامية، مسالكها إسلامية، ونشاطاتها إسلامية، تقول لي: أنا مسلم, أتعاطف مع المسلمين، يا أخي إن المسلمين يُذَبَّحون في العالم، فماذا نفعل؟ أنت اضمَن لي بيتك فقط أنْ يكون إسلامياً، اضمن لي عملك أن يكون إسلامياً، تجد في العمل مخالفات، وفي التعامل مخالفات، وفي البيت مخالفات، ونحن يا ربِّ عبيد إحسان، وما نحن عبيد امتحان، ما هذا؟ مثل هؤلاء المسلمين، لا يستحقون النصر، ولا يستحقون الحفظ .
مرة التقيت مع رجلٍ يريد أنْ يؤدّيَ زكاة ماله لبعض الجمعيات الخيرية، فقال لي: أنا أحب أن أجعل ابني يدفع هذا المبلغ لأعلِّمه على الإنفاق وأدَرِّبه عليه، فقدَّم المبلغ لابنه، وكلَّفه أن يذهب إلى الجمعية الخيرية ليدفع لها المبلغ، حتى يتعوَّد الابن على الإنفاق، وليس على القبض، فالابن لا بدَّ أن يربَّى، والنبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم))
هل تعرف مَن هو الذي يخفق في تزويج بناته؟ هو الأب الذي أغرقهم في النعم، فهذه الفتاة التي تشتهي كلَّ شيء، ثم تراه بين يديها، مِن أطيب الطعام، وأفخر اللباس، هذه الفتاة لا تصلح أن تكون زوجةً، وقد يأتيها زوجٌ مؤمنٌ عظيم، لكن دخله محدود، فلا تستطيع العيش معه، النبي الكريم قال:
((اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم))
يعني عوِّد أولادك على الطعام الطيب والخشن، فالإنسان الغارق في النعيم لا يصلح أن يكون إنساناً منتجاً .
هل استجابت صفية لرسالة الإسلام حينما دعاها رسول الله وهل عانت ما عانى المسلمون من أذى قريش ؟
وحين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام بدين الهدى والحق، وأرسله الله للناس نذيراً وبشيراً، أمره أن يبدأ بذوي القربى، فقال تعالى:
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
يقاس عليها، هل بيننا شخصٌ ليس له أقرباء؟ فلماذا أنت ساكت إذًا؟ لمِ لا تنقل هذا العلم إلى أقربائك، إلى أهلك، إلى أولادك، إلى من حولك، إلى جيرانك، إلى أصدقائك؟ قال تعالى:
﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾
قد يكون الواحدُ منا طليق الِّلسان، فانشط وتكلّمْ، أمَّا إنْ لم تكن عندك إمكانية، فسمِّعه شريطًا، لا يوجد معك ثمن شريط، أحضِرْه إلى المسجِد، اسمعه الحق، اعتنِ به، احرِصْ على هدايته، عاونه، أكرمه، اخدمه حتى يميل قلبه إليك، والدعوة إلى الله تحتاج إلى أن تفتح القلوب بالإحسان، قبل أن تفتح الآذان باللسان, فلما بُعث النبيُّ، وأمره الله أن يبدأ بذوي قرابته، جمعهم صغاراً وكباراً, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ:
((قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عـَزَّ وَجَلَّ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ, قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكـُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا))
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ:
((لَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ, فَقَالَ: يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي مُرَّةَ بنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ, يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ, فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا))
هذا التوجيه الصحيح، هذا أعظم توجيه، كل إنسان يطرح أفكارًا خلاف هذا التوجيه فهو مخطئ،
ربِّ أخوانك على تمتين علاقتهم بالله فقط .
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ, وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ, فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَـا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا))
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، لا يستطيع أن ينقذك من عذاب الله، أفيستطيع إنسانٌ آخر؟ انظر إلى هذا الكلام ما أجمله وما أصوبَه:
((يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا, وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا))
دعاهم إلى الإيمان، وحضَّهم على التصديق برسالته، أقبل على هذا النور العظيم مَن أقبل، وأعرض عنه مَن أعرض، موطن الشاهد أن صفية بنت عبد المطلب، موضوع درسنا اليوم، كانت مع من أقبل على هذا الدين الجديد، ومع من أسلم لرسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومع من قبل هذه الدعوة الجديدة, انضمتْ صفية بنت عبد المطلب عمَّة النبي إلى ركب المؤمنين، هي وفتاها الصغير الزبير بن العوام، وعانت مع ابنها ما عاناه المسلمون .
أيها الأخوة, هناك أشخاص حملوا الإسلام، فأنت مِمَّن؟ عندما تديَّنت أكرمك الناس، والإسلام حملك، ولما تديَّنت احترمك الناس وقدّروك، لستَ مثل الذي هو جالس على المنصة، يحمله مَن يحمله، ويهرولون به، هكذا بعض المسلمين، فأنت مطلوب منك أن تحمل الإسلام، فماذا بذلت؟ وماذا فعلت؟ لستَ مكلفًا في شيء، إلا أن تأتي إلى المسجد، ولكن احذرْ أنْ تقول: أنا اليوم مشغول، عندي وعندي، ويتقاعس ويتخاذل, الصحابة الكرام بذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وتحملوا المقاطعة والجوع، وتحملوا الاضطهاد والتنكيل، وأُخرجوا من ديارهم .
تصوَّروا رجلا يسكن في بلده، وله بيت، ومحل، وسيارة، ومكانة اجتماعية، ثم أُخرج من بلده، وأقام في بلد بعيد، يفترش الأرض، ويلتحف السماء، وليس معه ثمن أدنى طعام، فالهجرة ليست سهلة، فالنبي هاجر، والهجرة حقيقة، وهي اقتلاع من الجذور، هذه هي حقيقة الهجرة .
أقول لكم بصراحة وبساطة: كان من الممكن أن يخلق الله النبي وأصحابه من دون كفار ، فلما جاء الوحيُ للنبيِّ آمنوا جميعاً، وسلكوا درب السلامة، وعاشوا حياة سعيدة، وانتهى الأمر، لا فتوحات، ولا حروب، ولا مضايقات، ولا خصومات، ولا تنكيل، ولا إخراج من الديار، كان ذلك ممكنًا، ولكن متى يرقى الإنسان؟ لا ترقى إلا بالمعاناة، لا ترقى إلا بالمعارضة، ولا ترقى إلا بتحمُّل المشقات .
لذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يجري عليه كلُّ ما يجري على البشر، ولولا ذلك لما كان سيد البشر، لقد جاع وخاف، قال:
((أوذيت في الله ولم يُؤذَ أحدٌ مثلى، وخفت ولم يخف أحدٌ مثلـي, ومضـى علي ثلاثـون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال))
فهل الهجرة سهلة؟ وهو في غار حراء، وفي غار ثور، وهو في معركة الخندق, حيث قال بعضهم لبعض: أيعدنا صاحبكم، أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته, لم يقل: نبي، لم يقل: رسول الله، قال: صاحبكم، وفي نظره أنّ الإسلام قضية بضع ساعات ، ثم ينتهي الإسلام كلياً، ويندثر، هكذا ظن المنافقين .فأنت لا ترقى إلا بالمجاهدة، ولا ترقى إلا بالمعارضة، ولا ترقى إلا بالمكابدة، ولا ترقى إلا بالمقاومة، فإذا عارضَك في البيت أهلُك بعض المعارضة، لأنك أخذتَ لنفسك هذا المسلك، فلتصبرْ ولتحتسبْ, وقد أحْسنَ المتنبي في قوله:
إِذَا اعْتَادَ الفَتَى خَوْضَ المَنَايَا فَأَهْوَنُ مَا يَمُرُّ بِهِ الوُحُولُ
إليكم بيان هجرتها إلى المدينة تاركة وراء الستار الذكريات التي عاشتها في مكة :
أيها الأخوة, السيدة صفية بنت عبد المطَّلب، عمَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وابنها الزبير بن العوام تحملا في مكة الشدائد، والمضايقات، والتنكيل، والمعارضات، والعزلة، والمقاطعة، والفقر, قال تعالى:
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾
ليبلوكم حتى يرقيكم، فلما أذِن اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلَّم، وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة، خلَّفت السيدة الهاشمية وراءها مكة، بكلِّ ما لها فيها من طيوب الذكريات، ودروب المفاخر والمآثر، ويمَّمَتْ وجهها شطر المدينة مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله .
هاجرت مع من هاجر، لكنّ الآن الهجرة معاكسة، يقول لك: أخذت البطاقة الخضراء، والسفر لأمريكا، حيث الزنا على قارعة الطريق، هاجر وفوجئ بابنته مع صديق لها، في خلوة في البيت، أعوذُّ بالله، فثارت نخوته، وعنَّف ابنته، بعد دقائق جاءت الشرطة لتأخذه إلى المخفر، لأنه قسا على إنسان مدعو من قبل ابنته، هذه الهجرة إنما هي في سبيل الشيطان, َرَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((لَا تُسَاكِنُوا الْمُشْرِكِينَ وَلَا تُجَامِعُوهُمْ, فَمَنْ سَاكَنَهُمْ أَوْ جَامَعَهُمْ فَهُوَ مِثْلُهُمْ))
أنت يجـب أن تبقى في بلد يُعبد الله فيه، فيه مساجد، ومجالس علم، وانضباط، وفيه بقية شرف، وبقية مروءة، أقول: بقية، بقية حياء، هكذا المؤمن، قال تعالى:
﴿بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾
هاجرتْ، كم تقدِّرون عمر هذه السيدة الجليلة التي ربَّت ابنها تربيةً خشنة، تربيةً على البأس، وعلى الشجاعة, وعلى اقتحام المخاطر، وآمنتْ مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتحمَّلتْ كلَّ الصعاب، وهاجرتْ معه، كم تقدرون عمرها؟ كان عمرها ستين عاماً، امرأةٌ لا كالنساء .
إليكم بعض مواقفها التي خدمت به الإسلام والمسلمين :
1- يوم أحد :
في معركة أحد خرجتْ مع جند المسلمين، في ثُلّةٍ من النساء جهاداً في سبيل الله، فجعلتْ تنقل الماء، وتروي العطاش، وتبري السهام، وتصلح القسي، كلّه عمل خاص بالنساء، لكن حمزة بن عبد المطلب، من هو؟ أخوها، أخوها وقد قتل في معركة أحد، وبُقِر بطنه، وانتزعت كبده، ومضغتْ، وثُلِمت أذناه، وقطع أنفه، ومثِّل به، وابنها الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله إلا قليلا منهم، ووجدتْ المشركين يوشكون أن يصِلوا إلى النبي ويقضوا عليه، طرحتْ سقاءها أرضاً .
طبعاً هذا موقف شخصي، المرأة ليست مكلفة بالجهاد، لطبيعتها الأنثوية، لكن هذا موقف شخصي، عمرها ستون عاماً، وعملها في المعركة عمل إنساني, لكن لما رأت النبي عليه الصلاة والسلام، ابن أخيها قد انكشف، واضطرب المسلمون, ألقت السقاء، وهبَّت كاللبؤة التي هوجم أشبالها، وانتزعت من يد أحد المنهزمين رمحه، ومضت تشقُّ به الصفوف، وتضرب بسنانه الوجوه، وتزأر في المسلمين قائلةً:
((وَيْحكم انهزمتم عن رسول الله، فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام، مقبلة خشي عليها أن ترى أخاها حمزة، وهو صريع، خاف عليها، -خاف على مشاعرها .
لكن والله أيها الأخوة، بين نساء الصحابة نساء ولكنّهن في عظمة عظماء الرجال، أنا أقرأ عنهن، ولا أصدِّق أن امرأةً في أحد، قُتِل زوجها، وقُتِل أبوها، وقُتل أخوها، وقُتِل ابنها، ورأتهم صرعى في أرض المعركة، واحداً جانب الآخر, وهي تقول:
((ما فعل رسول الله، ولم تسكن مشاعرها، إلا بعد أن رأت النبي عليه الصلاة والسلام سليماً معافى, قالت: يا رسول الله، كل مصيبةً بعدك تهون))
ما هذه المرأة؟ واللهِ إنها مِن نوع خاص- فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى ابنها الزبير قائلاً:
((المـرأةَ يا زبيـر, المرأةَ يا زبير، أمَّك يا زبير، أبعِدْها عن ساحة المعركة، فأقبل عليها الزبير، وقال: يا أمـي إليك، يا أمي إليك، فقالت له: تنحَّ عني لا أمَّ لك، قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي، قالت: ولمَ؟ إنه قد بلغني أنه مُثِّل بأخي، وذلك في الله، فقال له النبي الكريم: خلِّ سبيلها يا زبير، فخلَّى سبيلها))
-وهذه الخنساء، مات أخوها صخر، فملأت الشعر العربي بكاءً عليه، بكت وأبكت، فليس مِن ديوان شعر مفعم بالحزن والرثاء كديوان الخنساء، وكانت ممّا قالت فيه:
حَمَّالُ أَلْوِيَةٍ هَبَّاطُ أَوْدِيَــةٍ شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ لِلْجَيْشِ جَرَّارُ
نَحَّارُ رَاغِيَةٍ مِلْجَاءُ طَاغِيَةٍ فَكَّاكُ عَانِيَةٍ لِلْعَظْمِ جَبَّـارُ
والأبيات طويلة مشهورة- .
فلما وضعت المعركة أوزارها، وقفت صفية وهي في السَّتِّين من عمرها على أخيها حمزة، فوجدته قد بُقِر بطنُه، وأُخرِجتُ كبدُه، وجُدِع أنفه، وثُلِمتْ أذناه، وشُوِّه وجهه، فاستغفرت له وجعلت تقول: إن ذلك في الله، ولقد رضيتُ بقضاء الله، واللهِ لأصبرنّ، ولأحتسبنّ إن شاء الله, -هنا عظمة المؤمن، فهو كالجبل رسوخاً، وليس أقل مصاب يقلبه ويهز أعماقه، فمِنَ الناس اليوم مَن يشك في القضاء والقدر، ولأَقَلِّ مصاب يقول لك: واللهِ أنا محتار، إيماني تزلزل، ما هذا الإيمان الذي عندك؟ هذا ليس إيمانًا، هذا مِن ضعف الإيمان، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
إذا كان الشخص يرتدي ثيابًا جميلة، وبعد قليل جاءه رجلٌ بمقص وقصّ ثيابه، وقطعها ، ورمى الثياب، وكان في أجمل حالة، ثم غدا عاديًّا، وقد سلِم جسمُه, فهذا الجسد عبارة عن ثياب للنفس، فإذا استشهد المؤمن في ساحة المعركة، فجسده هو ثوبه القديم، ولو ذبح، وقتل، والنبي الكريم أبلغنا أن الشهيد لا يشعر أبداً بألم الجراح، وهو عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى، والشهيد لكرامته على الله عزَّ وجل يرى مقامه في الجنة وقت استشهاده، وتفوح من دمائه رائحة المسك، لأنه قدَّم حياته الله عزَّ وجل، فَقَبِلَهَا اللهُ منه، وأكرمه بها، فكل ما تراه عينك على جسد الشهيد، لا قيمة له إطلاقاً، هو في:
﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
بقيَ الإنسانُ بكامل صحته، وكامل قوته، وكامل شبابه، وكامل تألُّقه، وثيابُه ممزَّقة ملقاة على الأرض، هو في الجنة, قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
فهذه ثيابُه التي خلعها، وألقاها جانباً، وأبدله الله خيراً منها- .
وقد قيل: لقد دُعِيَ النبي عليه الصلاة والسلام إلي التمثيل بالكفار، نظير تمثيلهم بعمِّه حمزة، فقال عليه الصلاة والسلام:
((لا أمثل بهم، فيمثل الله بي، لو كنت نبياً))
لقد نُهِيَ عن التمثيل، والنبي يخاف الله، وهو وقَّاف عند كلام الله .
2- يوم الخندق :
أيها الأخوة, لكن موقف هذه السيدة الجليلة يوم الخندق موقفٌ غريب عجيب بطوليّ، فكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون، خشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حُماتِها، فلما كان يوم الخندق جعل نساءَه وعمّته معهم، وطائفة من نساء المسلمين، في حصنٍ لحسان بن ثابت، ورِثه عن آبائه، وكان من أكثر حصون المدينة مناعةً، وأبعدها منالاً، وبينما كان المسلمون يرابطون على حوافِّ الخندق، في مواجهة قريش، وأحلافها، وقد شغلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو، فأبصرتْ صفيةُ بنت عبد المطلب شبحاً يتحرَّك في عتمة الفجر، فأرهفتْ له السمع، وأحدَّتْ إليه البصر، فإذا هو يهوديٌ أقبل على الحصن، وجعل يَطوف به، متحسساً أخباره، متجسساً على مَن فيه، فأدركتْ أنه عينٌ لبني قومه، جاء ليَعلم أفي الحصن رجالٌ يدافعون عمن فيه، أم أنه لا يضمّ بين جدرانه إلا النساء والأطفال ؟ فإذا علم هذا اليهودي المتجسس أنّ هذا الحصن لا يضمّ إلا نساءً وأطفالاً، داهموا هذا الحصن، وسبَوْا النساء والذراري، فقد نقضوا عهدهم مع النبي، وانتهى الأمر ، وصاروا في صف الأعداء من قريش وأحلافها .
فقالت في نفسها:
((إن يهود بني قريظة قد نقضوا ما بينهم وما بين رسول الله من عهدٍ، وظاهروا قريشاً وأحلافها على المسلمين، وليس بيننا وبينهم أحدٌ من المسلمين يدفعون عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مرابطون في نحور العدو، فإن استطاع عدو الله، هذا اليهودي أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبَى اليهودُ النساءَ، واسترقُّوا الذراري، -وكانت الطامَّة على المسلمين، هذه أخت الرجال حقًّا- عند ذلك بادرت إلى خمارها، فلفَّته على رأسها، وعمدت إلى ثيابها فشدَّتها على وسطها، وأخذت عموداً على عاتقها، ونزلت إلى باب الحصن، فشقَّته في أناةٍ وحذقٍ، وجعلت ترقب من خلاله عدو الله في يقظةٍ وحذر، حتى إذا أيقنت أنه غدا في موقفٍ يُمَكِّنها منه، حملت عليه حملةً حازمةً صارمةً، وضربته بالعمود على رأسه، فطرحته أرضاً، ثم عززتْ الضربة الأولى بثانيةٍ وثالثة، حتى أجهزت عليه، وأخمدتْ أنفاسه بين جنبيه، وبادرتْ إليه ، فاحتزّتْ رأسه بسكين كانت معها، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج على سفوحه، حتى استقر بين أيدي اليهود، الذين كانوا يتربَّصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم، قال بعضهم لبعضٍ: قد علمنا أن محمدًا لم يكن ليترك النساء والأطفال وحدهم، من غير حماةٍ، ثم عادوا أدراجهم))
لقد أجرى اللهُ على يديها حفظَ نساء المسلمين وسلامتهنّ بهذه الشجاعة النادرة, رضي الله عن صفية بنت عبد المطلب، كانت مثلاً فذَّةً للمرأة المسلمة، ربَّت وحيدها فأحكمت تربيته، أصيبت بشقيقها، فأحسنت الصبر عليه، اختبرها اللهُ في الشدائد، فوجد فيها المرأة الحازمة، العاقلة ، الباسلة، إن صفية بنت عبد المطلب، كانت أول امرأةٍ قتلت مشركاً في الإسلام, هذه بطولة، وهذه حالة خاصة بالطبع، فلا نُكلِّف النساء أن يكنّ كذلك، هذه حالة خاصة، وهذا موقف شخصي ، لكن وهي في الستين من عمرها كانت في أعلى درجات إيمانها، وأعلى درجات محبَّتها لدين الله ، ولرسول الله، وأعلى درجات دفاعها عن هذا الدين العظيم .
محور هذا الدرس :
أيها الأخوة, تذكروا أن محور هذا الدرس؛ إمّا أن تحمل الإسلام، وإمّا أن يحملك الإسلام، فإذا حملك الإسلام فلا تزيد عن هؤلاء الذين يُحْمَلون في الحج، ويُطافُ بهم حول الكعبة ، أمّا المطلوب فأنْ تحمل أنت الإسلام، وأن تكون شامخاً كالطوْد، قاسياً كالعود، صُلباً كالصخر، وأن تبذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وأقل ما في الأمرِ أنْ تطلب العلم، وأنْ تحافظ على مجالس العلم، وأقلُّ أحوالك أنْ تستقيم على أمر الله، وأن تقيم الإسلام في بيتك، وفي عملك، وفي دكانك، وفي مكتبك، وفي متجرك، أقل شيء أن تكون مسؤولاً عن بيتك، وعن أولادك، وبصلاح بيتك وبتربية أولادك على الإسلام فقد فعلتَ الكثير في خدمة الإسلام وعزته .