- السيرة / ٠3سيرة الصحابة
- /
- ٠2رجال حول الرسول
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة عامة :
أيها الأخوة الأكارم, مع بداية الدرس التاسع والعشرين من دروس سير صحابة رسول الله رضوان الله عنهم أجمعين، وصحابيّ اليوم سيدنا سعيد بن عامر الجمحي, وقبل أن نبدأ الحديث عن سيرة هذا الصحابي الجليل لا بد من كلمة أمهِّد بها لمحور هذه السيرة .
أيها الأخوة, الإنسان له شهوتان كبيرتان في حياته, شهوة المال، وشهوة النساء، ولو أردتم أن تحصوا المعاصي المتعلقة بهاتين الشهوتين لوجدتم أن تسعة أعشار المعاصي متعلقة بكسب المال، ومقاربة النساء لذلك ترى في القرآن الكريم، وفي السنة المطهرة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تشدِّد على الانضباط، فنحن إذا اخترنا صحابياً جليلاً، وبرزتْ فيه صفةُ العفّة التي هي مِن آثار الإيمان، والإيمان عفّة، فهذا الصحابي سعيد بن عامر المؤمن، المؤمن مسموح له في القنوات النظامية، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾
النقطة الدقيقة أن هذا الصحابي سوف ترون لديه عفة ما بعدها عفة، ونزاهة ما بعدها نزاهة، والحقيقة هذه ثمرة يانعة تجدها عند المؤمن، فما قيمة المعلومات إنْ لم تكن مثمرة ثمارًا يانعة؟ كل إنسان ذكي ينتسب إلى الجامعة يقرأ عددًا من الكتب، ويحفظ ما فيها، ويكون طليق اللسان، الكلام سهل جداً، النقطة الدقيقة لو أنّك تعلمتَ، وفهمتَ، وتكلمتَ ولم تكن في مستوى الكلام فهذا الشيء لا يقدِّم ولا يؤخِّر، فنجاح الإنسان ليس في مدى معلوماته، بل في مدى تطبيقاته ، وسوف ترون بعد قليل أن هذا الصحابي الجليل كان في أعلى درجات العفة .
من هو الصحابي الذي وقع بين أيدي زعماء قريش ليمثلوا به ويقتلوه ؟
هذا الصحابي سعيد بن عامر الجمحي كان واحداً من الآلاف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم، وإذا أكرمَ اللهُ أحدَكم بالحج أو بالعمرة، فلأداءِ العمرة ينطلق المعتمِرُ إلى التنعيم، مكان مسجد السيدة عائشة، هذا المكان كان في عهد النبي خارج مكة، وفي ظاهرها .
آلاف مؤلفة خرجوا إلى منطقة التنعيم في ظاهر مكة، بدعوة من زعماء قريش، ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي، أحد أصحاب محمد، بعد أن ظفروا به غدراً بعد معركة بدر الحاسمة، التي جعلت أنوف قريش في الوحل، ثلاثمئة صحابي على ضُعفٍ في قوتهم وعدتهم وعتادهم، لكنهم على قوةٍ في إيمانهم جعلوا صناديد قريش زعيمة الجزيرة العربية راغمة أنوفها، ويذلُّونها، فتركت معركة بدر أثرًا نفسيًّا سلبيًّا جداً عند قريش، لذلك غلت دماؤهم، واشتد حقدهم، وأي صحابي عثروا عليه ولو غدراً يقتلونه، ويمثلون به، ليشفوا غليلهم، فهذا الصحابي سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه لحكمة أرادها الله وقع بأيدي كفار قريش .
كلمة على الهامش :
أيها الأخوة, كلكم يعلم أن هذه الحياة الدنيا لا قيمة لها، فأيُّ إنسان شاءت حكمة الله أن ينتهي أجله، وكان الله راضيًا عنه ينطبق عليه قول الله عز وجل:
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
وعندما يُسعِد اللهُ إنسانًا فهذا شأنٌ لا يوصف، وإذا ألقى الله عز وجل في قلبك رحمته فأنت أسعد الناس، ولو كنت أفقر الناس، وأنت أسعد الناس، ولو كنت أشد الناس مرضاً، وأنت أسعد الناس، ولو كانت ظروف حياتك في منتهى القسوة والخشونة، وإذا حَجَبَ عنك رحمته، وكنت مترفًا إلى أعلى درجة كنت أشقى الناس فخبيب أُلقِيَ القبض عليه، وسيق ليُقتَل مع التمثيل به .
يجب أن تعلموا أيها الأخوة، أنّ فعل الإيمان بالنفس كفعلِ السحر، أمرٌ لا يصدق، ليس هذا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو لكل مؤمن سلك مسلكهم، ولكل مؤمن عرف ربه، ولكل مؤمن التزم منهج ربه، ولكل مؤمن أخلص لله، ولا بد أن يكرمه الله عز وجل، يقال: هذه كرامات، تعريف الكرامة أنك حينما تطيع الله، وحينما تخلص، وحينما تحبُّ الله حقًّا، فلا بد أنّ الله جل جلاله يبادلك حبًّا بحبٍّ عن طريق التكريم، فيُحدِث لك أمورًا غريبة، وترى الأمور ميسرة لك، ولك هيبة كبيرة عند الناس، وأنت مرتاح، ليس عندك الشعور بالقهر، شعورك النفسي سويٌّ، وأنت أسعد الناس ولو أنك تفتقر إلى كل شيء، هذا الحديث يطول، قال تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
أيها الأخوة، أنا إذا التقيت بأخ كريم من أخواننا، وسألته السؤال التقليدي: كيف حالك؟ صدِّقوني أحياناً أشعر بغبطة ما بعدها غبطة، إذا قال لي هذا الأخ: الحمد لله، فإنّه يقولها من أعماق نفسه، سعيد بالله، وهو لا يملك بيتًا، ولم يتزوج، ولا عمل له، لكنه سعد بالله رغم أصعب الظروف، وأخشن أنواع الحياة، وأقسى المنغِّصات، وتلتقي بإنسان معه أموال، لو أحبَّ أن ينفق باليوم مئة ألف وعاش مئة سنة لكَفَتْه، ويقول لك: السوق مسموم، ولا يعاش في هذا البلد، يا لطيف .
عنده أموال لا تأكلها النيران، وتشعر أنه من أشقى الناس، وتلتقي بمؤمن في أدنى مستويات المعيشة، فيقول لك: الحمد لله، أنا تقريباً شعرتُ بالتجربة، لأنّ اتصال المؤمن بالله اتصال حقيقيٌّ، واصطلاحه مع الله، وأوبته إليه، وعودته إليه، وإخلاصه له، وطاعته له، وبذله، وإنفاقه، هذا كله يكسبه كرامة عند الله تتجلى بنواحي شتى، إحداها الطمأنينة، قال تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
إحداها الشعور بالرضى، فلا يسخط، وعلامة المؤمن أنّه راضٍ عن الله، راضٍ عن نفسه، راضٍ عن جسمه، وعن وضعه العائلي، وعن عمله، وعن زوجته وأولاده، يقول لك: الله حكيم فاختار لي الأحسن دائمًا، فحالة الرضى لا تقدر بثمن .
يا أيها الأخوة, أن ترضى عن الله، معنى ذلك أنك تعرفه، أن ترضى بالقضاء والقدر، معنى ذلك أنك مؤمن بأنَّ الله حكيم ورحيم وغني وكريم وعادل، وأن تفتقد أشياء كثيرة في الدنيا، وأنت متفائل، معنى ذلك أن كل همِّك الآخرة، والدنيا لا قيمة لها، وهذا كلام النبي صلى الله عليه ، وأحيانًا لا يستوعبه الإنسان، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْد, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
أظنّ جازمًا أنه ما مِن مخلوق أهون على كل الناس كالبعوضة، فإذا وقفتْ على يد شخص بعوضةٌ وقتلها هل يشعر في نفسه أنه قاتل؟ هل يشعر أنه مجرم مذنب؟ لا، إذاً: فلا قيمة لها، فكيف بجناحها؟
((لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ))
لذلك إن الله يعطي الدنيا لمَن يحبّ، ولمن لا يحب، فليست الدنيا مقياساً إطلاقاً، قد تكون أفقر الناس، وأنت عند الله في مرتبة عالية جداً، والقاعدة معروفة، إنّ الله أعطى المال لمَن لا يحبُّ, أعطاه لفرعون، وأعطاه لقارون، وأعطاه لمن يحب, أعطاه لسيدنا ابن عوف، فكان من أغنى الصحابة، فإذا أعطاه للكافر وللمؤمن هل يصلح كمقياس؟ لا يصلح لذلك البتة .
القوة أعطاها لفرعون، وأعطاها لسليمان الحكيم، سيدنا سليمان كان ملكًا من أعظم الملوك، قال تعالى :
﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾
وفرعون كان قال تعالى :
﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾
فما دام الشيء أُعطِي لأَحبِّ الناس إلى الله ولأبغضِهم إليه فهل يُعدُّ مقياساً؟ فلا القوة مقياس، ولا المال مقياس، وقد تجد شخصًا وسيمًا بهيَّ الطلعة، ولكنه فاجر فاسق كافر, وترى شخصًا كما وصفه الواصفون، قصير القامة، أحنف الرِّجل، مائل الذقن، ناتئ الوجنتين، ضيق الكتفين، أسمر اللون، ليس شيء من قبح المنظر إلا وهو آخذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيد قومه، فحتى الشكلُ لا قيمة له، ولا المال، ولا الغنى، ولا القوة, والسلطة لها قيمة، قيمة واحدة فوق القيم كلها هي مدى معرفتك بالله، ومدى طاعتك له، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
هذا هو المقياس .
لذلك فأنا تكلمتُ يومًا على منبر الجمعة في خطبة عن الحج: أن الإنسان في الدنيا تتحكم فيه قيم مادية طاغية، تحجبه عن حقيقته الإنسانية، لأنه يستخدم موازين خاطئة، وحجبٌ مُضَلِّلة، ويكون عنده أقنعة مزيفة، ولكنْ عند الموت تسقط كل هذه الأقنعة المزيفة، وتُزاح الحجب المضللة ، وتتلاشى القيم المادية، وتحطم الموازين غير الصحيحة، ليحاسب في ضوء قيم جديدة، وموازين جديدة، فما هي هذه المقاييس؟ وما هي هذه الموازين والقيم؟ إنها مدى معرفتك بالله، ومدى معرفتك بمنهج الله، ومدى استقامتك على منهج الله، وحجم عملك الصالح الذي نفعت به الخلق، فهي أربعة موازين فاستمسِكْ بغرزِها, ثمّ إنّ مكتسبات الإنسان إذا وضعت على هذا المحك يجب أن تستخدم مقياس ربنا عز وجل، فلا تفرحٍ بالدنيا .
فهذا سيدنا خبيب بن عدي إما أنه ليس بشرًا، بل فوق البشر، وإمّا أننا لسنا بشرًا، وسنشاهد بعد حينٍ إنسانًا أُلقِي القبضُ عليه غدراً، وسيق ليُقتَل، ويمثَّل به، وهو في أسعد لحظات حياته، الآن إذا تلقى الشخصُ خبرًا سيّئًا عن صحته فلا أحدَ يتكلم معه أبداً، فقد لجأ إلى النوم من شدة الألم واليأس والخوف .
ما هو الذنب الذي اقترفه خبيب ليساق إلى هذا المشهد المؤلم وهل شهد سعيد مصرع خبيب ؟
ذهبَ شبابُ مكة ليشاهدوا مصرعَ خبيب، فقد كان خبيب بن عدي شابًا موفور الشباب، فتىً متدفقًا موفورَ الفتوة، ومع ذلك هذا مصيره الذي أراده الله له، لكن العبرة في الخاتمة الحسنة، وهي الجنة، قال تعالى:
﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾
وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المُعَدِّ لقتله، فوقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته الممدودة يطلّ على خبيب، ولم يكن مسلماً يومئذٍ، وقف يطل على خبيب، وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة والصبيان، وهو يقول: إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، فالصلاة عنده أعظم شيء في حياته، أنا راضٍ بما كتبه الله لي، فنظر إليه سيدنا سعيد بن عامر الجمحي وهو يصلي ركعتين، ويستقبل الكعبة ويصلي، وقال:
((يا لحسنهما ! ويا لتمامهما ! -صلاة متقنة فيها خشوع، فإذا جاءت شخصًا رسالةٌ مزعجة فإنه يقول: واللهِ لم أعرف كيف أصلي؟ وهذا سيموت بعد قليل ويُعدم، ويصلِّي صلاةً ما أروعها من صلاة- دهش زعماء قريش، فما خاف، -أين الفزع؟ أين الجزع؟ أين التوسل؟ أين البكاء؟ أين لطم الخدود؟ أين الصياح بالويل؟- .
ففعلوا، -لكنه كان ذكياً- وكان حكيماً، فما أطال الركعتين، -ولو أنه أطالهما لظنوا أنه خائف، ويؤخِّر وقت الإعدام- فاتَّجه إلى زعماء قريش، وقال: واللهِ لولا أن تظنّوا أني أطلتُ الصلاة جزعًا من الموت لاستكثرتُ ِمنها، لكن اقتصرت على ركعتين خفيفتين لئلا تظنوا أني خائف من الموت، ثم شهد قومُه، وشهد أيضًا سعيدُ بن عامر الجمحي صحابي اليوم، وكان وقتها مشركاً، شهد سعيدٌ قومَه بعينَيْ رأسه وهم يمثِّلون بخبيب، وهو حيّ، فيقطعون من جسده القطعة تلو القطعة، وهم يقولون: أتحبُّ أن يكون محمداً مكانَك، وأنت ناجٍ؟ فيقول والدماء تنزف منه: واللهِ ما أُحبُّ أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب محمّدٌ بشوكة، ما هذا؟ -واللهِ إني كنت ولا زلتُ أقول: إذا كان الصحابة من البشر، فنحن لسنا من البشر ، نحن دون البشر، وإن كنّا بشرًا فَهُمْ فوق البشر، إنسان يقطع لحمه، وتقطع أعضاؤه، ثم يُسأَل: أتحب أن يكون محمدٌ مكانك؟ ماذا فعل لَهُ النبي؟ هداه إلى الله، ماذا أعطاه النبي حتى قُتِل من أجل إيمانه برسول الله؟ لقد أعطاه الهدى والإيمان، فإذا جاء أحدَنا شرٌّ من شريكه, يقول: لَعَنَ اللهُ الساعةَ التي شاركتُه فيها، أليس كذلك؟ وإذا جاءته متاعب من شخص يلعن الساعة التي رآه فيها- لكنّ خبيبًا سيق إلى القتل وإلى التمثيل لأنه آمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام, لذلك دهش أبو سفيان، بل صُعق، فقال:
((ما رأيت أحداً يحب أحداً كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً))
-أخواننا، الإيمان حبٌّ، فيجب أن تحبّ اللهَ، وأن يكون اللهُ أحبَّ إليك من كل شيء، كيف ذلك؟ إذا تلقيت أمرًا من إنسان مخالفًا لأمر الله، لو قطعوك إرْباً إرْباً فلا تعصِ الله، لأن اللهَ أحبُّ إليك من أيّ شيء، قال تعالى:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
يجب أن تحبَّ رسولَ الله، وعلامةُ محبتك له اتّباعُك له، ويجب أن تحبّ المؤمنين، وحينما تكره مؤمناً فهذا مؤشر خطير، ومعنى ذلك أنك في خندق المنافقين، فهذا مؤمن مطيع لله، متأدِّب مع الله، عبد لله، منصف، وعلى جادة الحق، فلماذا تكرهه؟ فكراهية المؤمنين علامة ليست طيبة، بل هي علامة خطيرة، والدليل قول الله عز وجل:
﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾
إذا أخذ أخٌ من أخوانك شهادة عليا، وأنت لا تملك هذه الشهادة، تقول: لا يستحقها، تفرح أم تنزعج ؟ أخوك اشترى بيتًا، أو تعيَّن في منصب رفيع، أو تزوج بنَت شخص غنيّ، فأكرمه وأعطاه بيتًا، أو أصابته نعمة وأنت انزعجت، فهذه علامة النفاق، وإذا أصابه خير، وفرحت فأنت مؤمن سليم القلب والنفس، واللهِ الذي لا إله إلا هو لا أشعر بطمأنينة إلا عندما أشعر أن أي أخ وصل إلى خيرٍ وفلاحٍ، وكأني أنا أصبتُه، وأعدُّه كسبًا للمؤمنين، والحمد لله, فعلامة إيمانك أن تفرح لأخوانك المؤمنين، وهذا التحاسد والتباغض والطعن، هذا كله من صفات المنافقين، وليس المؤمن بفاحش ولا صخّاب ولا عيّاب, عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:
((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ, مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ فَإِنَّ اللَّهَ فِي حَاجَتِهِ, وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))
لكن سيدنا سعيد بن عامر نظر إلى خبيب بن عدي، وقد رفع بصره إلى السماء مِن فوق خشبة الصلب، وكان يقول: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبقِ منهم أحدا، -فلك الحق أن تدعو على الكفار المجرمين، الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم- ثم لفظ أنفاسه الأخيرة، وبه ما لم يستطع على إحصائه من ضربات السيوف، وطعنات الرماح، فقد صبُّوا كل حقدهم وكل ضيقهم على هذا الصحابي الجليل، وقتلوه ومثَّلوا به, وكان مما قال قبل موته بيتين من الشعر:
ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلما على أي شق كان لله مصرعِي
وذلك في ذات الإلهِ وإن يشأ يبارك على أوصال شِلوٍ ممزعِ
إنّ الله عز وجل قادر في المعركة أن لا يذيق الشهيدَ طعمَ الألم، وهذا شيء ثابت في السنة، وفي صحيح البخاري، الشهيد لا يشعر بألم الجراح إطلاقاً، وهناك شواهد قطعية واقعية، فالإنسان اخترع المخدِّر، فترى المريضَ مستلقيًا على المنصة في غرفة العمليات، والشرايين مربوطة، والقلب صناعي، وبالمنشار شققنا الصدر، وفتحنا القفص الصدري، وخرج القلب، وفتحوا القلب، ووصلوا إلى الدسام، والإنسان المريض مرتاح، الإنسان يخترع مخدرًا ليخفف عنه الألم، وخالق الكون إذا استحق إنسانٌ الشهادة، والأعداء طعنوه وقطّعوه إرْبًا إرْبًا أفلا يستطيع الله أن يمنع عنه العذاب؟ واللهِ أنا مؤمن إيمانًا قطعيًّا أن كل إنسان يموت في سبيل الله لا يمكن أن يشعر بالألم إطلاقاً، وثمّة أدلة كثيرة .
النبي الكريم وصف الشهيد بثلاث صفات: أن لدمه رائحة المسك، وأن الله يريه مقامه في الجنة، وأن الله يعفيه من ألم الجراح, لا يشعر بآلام، هذه الصفات الثلاث وردت في حديث صحيح رواه الإمام البخاري، وذلك حينما يضع الإنسان نفسه في سبيل الله ليموت يشعر بهذا الشعور .
لقد لَفَظ خبيب أنفاسه الأخيرة، واستحق جنة ربه، قال تعالى:
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾
﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾
وكل شيء بحساب .
ما هو الأثر الذي تركه خبيب في سعيد وهل كان هذا الأثر سبباً في إسلامه ؟
((عادت قريش إلى مكة، ونسيت في زحمة الأحداث الجسام خبيباً ومصرعه، لكن الفتى اليافع سعيد بن عامر الجمحي لم يغِب خبيبٌ عن خاطره لحظةً، فصورة خبيب وكيف قتلوه؟ وكيف قطعوا من لحمه؟ وكيف عذبوه؟ وكيف صلى؟ وكيف دعا عليهم؟ هذه الصورة لم تغِبْ عن ذهنه إطلاقاً، فكان يراه في الحلم إذا نام، ويراه بخياله إذا استيقظ، ويمثُل أمامه وهو يصلي ركعتين هادئتين مطمئن أمام خشبة الصلب، ويسمع رنين صوته في أذنيه، وهو يدعو على قريش ، فيخشى أن تصعقه صاعقة، أو تخرّ عليه صخرة من السماء، يشعر نفسه أنه مجرم، لأنه ما نصره، ولأنه سكت .))
-لذلك أيها الأخوة، إذا كان الشخصُ بمكان، وله أخ مؤمن ظُلِم، وهو قادر أن ينصره، ولم ينصره، فإنّ الله عز وجل سيحاسبه حساباً شديداً، وإذا ظلم في حضرتك مؤمن، وأنت قادر أن تنصره، لكنّك آثرت السلامة، وأنت قوي، وفي مركز قوي، وهذا الذي يظلمه تحت يدك، وهذا مؤمن وتعرفه مستقيمًا بريئًا، وهذه التهمة ألبسوه إياها إلباسًا، وأنت تستطيع أن تنصره، وقلت: لا علاقة لي، له رب يتولى أمره، ما شاء الله على هذا الكلام، أنت خليفة في الأرض، قال تعالى:
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾
لكن الحقيقة سيدنا سعيد بن عامر الجمحي كان وقتها قريبًا من الإسلام، رغم أنه كان مشركاً، بل كان على مشارف الإيمان، لذلك فقدْ علِم أن الحياة عقيدة وجهاد, -صدق القائل:
قِفْ دونَ رأيك في الحياة مناضلاً إن الحياة عقيدة وجهـــاد
والباقي لا شيء، تفاهة في تفاهة، اعتنقتَ مذهبًا عظيمًا، وبذلت من أجله الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، فأنت في الدرجات العلا إيمانا وثوابا، وأعظم شيء في الحياة أن تؤمن بالله، وأن تضع كل إمكاناتك في الدعوة, إنّ الإيمان الراسخ يفعل الأعاجيب، ويصنع المعجزات، فو اللهِ إنّ الإيمان الحقيقي لَيصنع من الإنسان شخصيةً أخرى .
وهذا مثل بسيط جداً، وقد يكون تافهًا، قال لي أخ: وقفتُ على بائع أريد أن أشتري بيضًا، فقلت له: أريد أن أشتري بيضًا طازجًا, فقال لي: البيض الذي عندي منذ أربعة أيام، وجارنا أحضر بيضًا الآن، لقد صُدِمْتُ، لأن هذا هو المؤمن حقًّا، هذا أبسط شيء في الإيمان، تاجر نصوح لا يكذب، وشراء البيض أمرٌ بسيط، لكن صدقه يلفت النظر- .
قال له أبو سفيان:
((أتحب أن يكون محمد مكانك، وأنت معافىً؟ فيقول خبيب: واللهِ ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسولُ الله بشوكة))
-فهذا ليس إنسانًا عاديًّا، كلامه ليس ككلامنا، وموقفه ليس كموقفنا، فنحن نرضى بالسلامة لأنفسنا، ولو على حساب غيرنا، أما خبيب فحبُّه ما بعده حبٌّ لهذا النبي، الذي مات بسبب إيمانه به- لقد شعَر سيدنا سعيد بن عامر الجمحي أنّ هذا الرجل الذي يحبه أصحابُه هذا الحب ليس إنسانًا عاديًّا، بل هو نبي مؤَيَّد من السماء، -ونحن لم يُتَحْ لنا أن نرى أنبياء، فإذا جلس مع مؤمن أعلى منه, يقول: واللهِ استأنست، وشعرت براحة، فأحواله طيبة ومستقرة، فإذا جلستَ مع مؤمن سبقك أكثر منك إيمانًا تشعر براحة، والجلوس معه سعادة، فكيف لو التقينا مع نبي؟-
إلى أن شرح الله صدر سعيد بن عامر الجمحي إلى الإسلام، وأعلن براءته من آثام قريش، ومن أوزارها، وخلعه لأصنامها وأوثانها، ودخوله في دين الله، وهاجر سعيد بن عامر إلى المدينة، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات، ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راضٍ عنه، ظل مِن بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر، وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد))
إليكم النصيحة التي قدمها سعيد لعمر وهو على كرسي الخلافة :
فمركز الثقل في السيرة علاقته بسيدنا عمر، وكل إنسان له مركز ثقل، لقد أسلم خبيب متأخرًا، ودخل مع النبي، وجاهد معه، لكن بطولته والصفحات المتألقة في حياته كانت في عصر سيدنا عمر بن الخطاب، الذي كان يعرف لسعيد بن عامر صدقه وتقواه، ويستمع إلى نصحه، ويصغي إلى قوله .
فمرة دخَلَ سعيد بن عامر الجمحي على سيدنا عمر في أول خلافته، فقال:
((يا عمر، أوصيـك أن تخشى الله في الناس، -فهذه قاعدة إيمانية، أنا سوف أقدمها هدية لكم، أنت بائع، تاجر، موظف، مهما كانت الحرفة التي تتعامل مِن خلالها مع الناس، إذا خفتَ الله في الناس، فما آذيتَهم، وما غششتَهم، وما كذبتَ عليهم وما احتلت عليهم، وعاملت كل واحد منهم كأنّ الله هو المحامي، وكأن الله هو الوكيل، فإذا خفتَ الله في الناس فأنت في موكب النجاة، اسمعوا الجواب-: لن يخيفك الله من الناس، -قال لي واحد: واللهِ يا أستاذ دخل عليّ موظف تموين، فصارت ركبي ترجف، فانطلقتُ رأساً إلى طبيب القلب، وخططتُ فشعرتُ بضيق، إنسان يدخل إلى محلك، فيسبِّب لك أزمة قلبية، أمّا لو فرضنا بائِعًا ما دخل زبون إلى المحل إلا وباعه بصدق وأمانة ونصيحة، وما كذب، ولا غشَّ، ولا أخذَ أكثر مما ينبغي، ولا استغلَّ جهل الزبون، فأنت تخاف من الله، فلن يخوِّفك من الناس، هذا شيء مستحيل، فلنسْمعْ ما قاله سعيد بن عامر لعمر، ولنفقَهْ دقة العبارة- قال له: أوصيـك أن تخشى الله في الناس، ولا تخش الناس في الله، -ما أجمل هذه الكلمة، وألاّ يخالف قولـك فعلـك، فإن خيرَ القول ما صدقه الفعل .
فهل تجد إنسانًا في الأنظمة الحديثة يخاطب ملِكًا بهذه الطريقة؟ هذا مستحيل- قال: يا عمر، الحمد لله الذي أخرجنا من جور الحكام إلى عدل الإسلام، يا عمر, أقم وجهك لمن ولاّك الله وجهه من بعيدِ المسلمين وقريبِهم، وأحِبَّ لهـم ما تحـب لنفسك وأهل بيتك، واكرهْ لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخصّ الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم, -إنسان مغمور ضعيف عييّ اللسان أعطِه حقه الكامل- فقال عمر: من يستطيع ذلك يا سعيد؟ فقال: يستطيعه رجل مثلك ممَّن ولاهم الله أمـر أمـة محمـد، وليس بينهم وبين الله أحد))
أنت أعلى واحد قوة ومرتبة عند الله عز وجل .
مرة سيدنا عمر كان يخطب، فقطع الخطبة، وتكلم كلامًا لا معنى له، مثل الإعلانات في الأخبار، لا علاقة للأخبار في الإعلان، يخطب وفجأةً قطع الخطبة، وقال: يا عمر, كنتَ عميرًا ترعى غنمات لبني مخزوم، وتابع الخطبة، ما علاقة هذا الكلام بالموضوع؟ فلما انتهت الخطبة سأله أحد الصحابة، وهو سيدنا ابن عوف عن تلك الجملة الدخيلة على الخطبة، فأجابه: واللهِ وأنا أخطبُ قالت لي نفسي: أنت أمير المؤمنين، وليس بين الناس وبين الله أحد إلا أنت، فأردت أن أعرِّف نفسي حقيقتها، لقد كنتَ عُميرًا رَاعي الغنم، وهذه حقيقته، وقطع الخطبة وعرّف الناس مَن هو، وتابع، عظماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
الإنسان العاقل لا يتكبر، ومَن تكبَّر فإنّ الله يضعه، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر وضعه .
هل كان سعيد من قائمة الفقراء يوم تولى إمارة حمص وأين وضع المال الذي فرضه عمر له ؟
ويدعو سيدنا عمر عميرًا إلى مؤازرته، وقال له:
((يا سعيد، إني ولَّيتُك على أهل حمص، فقال يا عمر: ناشدتك الله ألا تفتننِّي، فغضب عمر، وقال: ويحكم ويحكم !! وضعتم هذا الأمر في عنقي، ثم تخليتم عني، يجب أن تعينوني، -لا يقدر إنسان أنْ ينجح بمفرده، حتى الدعوة إلى الله، كل واحد يعين على حسب قدراته، هذا بماله، وهذا بعلمه، وهذا بإمكاناته، وهذا بعضلاته، وهذا بخبرته، وهذا باختصاصه أما أن يكون الشخصُ سلبيًّا فهذا ليس من المسلمين- .
والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص، وقال له: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال: وما أفعل به يا أمير المؤمنين، فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي، ثم مضى إلى حمص، بعد فترة قليلة وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسديَ حاجتهم، فرفعوا إليه كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر، قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم فقير! قالوا: نعم, والله إنه لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا توقد في بيته النار .
فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار، فجعلها في صرة، وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجتك، فجاء الوفد إلى سعيد بالصُّرة، فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كأنما نزلت به نازلة، أو حلَّ بساحته خطب، فهبَّتْ زوجته مذعورة، وقالت : ما شأنك يا سعيد، أمات أحدٌ مِن المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: أأصيب المؤمنون في وقعة؟ قال: بل أعظم من ذلك، فقالت: وما أعظم من ذلك؟ قال: دخلتْ عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي، وحلَّت الفتنة في بيتي، قالت: تخلَّصْ منها، وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً، والنساء يحبون المال، قال: أو تعينيني على ذلك؟ قالت: نعم، فأخذ الدنانير فجعلها في صرة، ثم وزعها على فقراء المسلمين، لقد خاف أنْ يصبح غنيًّا يتنعم، ويأكل والناس جائعون))
ما هي الشكوى التي صدرت من أهل حمص على سعيد وماذا كان جواب سعيد عنها ؟
سيدنا عمر قام بجولة تفقدية إلى المحافظات، أو إلى الولايات في دولته، فذهب إلى بلاد الشام وحمص يومئذٍ تُدعى الكُويفة، تصغير الكوفة، تشبيهًا لها بالكوفة، لكثرة شكاوى أهلها من عمالهم وولاتهم، كما كان يفعل أهل الكوفة، فلما نزل فيها لقيه أهلها للسلام، وأول سؤال سألهم:
((كيف وجدتم أميركم؟ فشكوه إليه، وذكروا أربعًا من أفعاله، أربع شكاوى، وكل واحدة منها أعظم من الأخرى، فقال عمر: فجمعتُ بينه وبينهم، بالمناسبة إن اشتكى إنسان لك على آخر فاجمعهما معاً، فقد ترى أنّ أربعة أخماس الكلام ليس على حقيقته, أربع أخماس الكلام يُلغَى إذا جمعت الاثنين معاً، فلا يتكلم بحضرة خصمه كما لو كان غائبًا، فأمامه يخجل، فكل شيء فيه كذب يلغيه ، فاجمعهما, قال عمر: فجمعتُ بينه و بينهم، و دعوت الله ألا يخيِّب ظني فيه, لأن عمر هو الذي اختاره واليًا عليهم, فقد كنتُ عظيم الثقة به، فلما أصبحوا عندي هم و أميرهم, قلت: ما تشكون من أميركم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار, فقلت لسعيد: ما تقول في ذلك يا سعيد؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والله إني كنتُ أكره أن أقول ذلك, أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس .
قال عمر: هذه واحدة، وما الثانية؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل, فما تقول يا سعيد؟ قال: والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل, الليل ليس لهم, النهار لهم، والليل لله صلاةً و قيامَ ليل، و ذكرًا و تهجدًا و دعاء, قلت: وما تشكون أيضاً؟ قالوا: إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر, قال: وما هذا يا سعيد؟ قال: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي عليّ، فأنا أغسلها في الشهر مرة، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم, قال: ثم ماذا؟ قالوا: تصيبه من حين لآخر غشية، فيغيب عمن في مجلسه, كأنه يغيب عن الوعي, قال: ما تقول في هذا يا سعيد؟ قال: شهدت مصرع خبيب بن عدي، وأنا مشرك, ورأيت قريشًا تقطِّع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمدٌ في مكانك؟ فيقول: واللهِ لا أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، وإني واللهِ كلما ذكرت ذلك اليوم، وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أنّ الله لن يغفر لي؟ فقال عمر: الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني به، ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته، ثم رأتها زوجته، هذه المرة رأت زوجته المال، قالت له: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، اشترِ لنا مؤونة، واستأجر لنا خادماً، فقال لها: وهل لك فيما هو خير من ذلك؟ قالت: وما ذلك؟ قال: ندفعها إلى من يأتينا بها، ونحن أحوج ما نكون إليها، قالت: وما ذاك؟ قال: نقرضها لله قرضاً حسناً، قالت: نعم وجزيت خيراً .
فقدْ أعانته، وهذه الألفُ الثانية وزَّعها، وقال لزوجته: انطلقي بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين فلان، وإلى معوزي آل فلان، ووزع الألف الثانية))
ما هي رسالة الإيمان ؟
هذا سعيد بن عامر الجمحي الذي كان يتأخَّر صباحاً، وبالليل لا يجيب أحدًا، وبالشهر يغيب يومًا
وأحياناً تأتيه غاشية فيغيب عن الوعي، وهذا الرجل قد شهد مصرع خبيب، وكيف رأى هذا الصحابي الجليل الذي عذَّبَه الكفار أشدّ التعذيب، ومات وهو في أسعد لحظاته؟ هذا أثر الإيمان في نفس الإنسان .
إنّ العفّة مِن علامة إيمانك، العفة عن أموال الناس، والعفة عن أعراض الناس، والناس يُؤْتَوْن من المال والنساء، فإذا حصنتَ نفسك من فتنة النساء بغض البصر، وعدم الاختلاط، ومن جهة المال بتحرير الدخل، فقد سددت عندئذٍ على الشيطان أكبر المنافذ، التي يمكن أن ينفذ إليك منها, عنده فخ فعال، وعنده شبكة محكمة، وعنده مقلب مدمِّر، ألا وهو النساء، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
((النساء حبائل الشيطان))
كيف أنّ الإنسان ينهار إذا بُعِث في مهمة شاقّة؟ واعلمْ أنّ المرءَ يسقط بالنساء والمال، وبهذين يسقط جميع الناس، الرشاوى والفضائح في إيطاليا ما أسبابها؟ المال والنساء، فالمؤمن محصن ضدَّ المال والنساء، وهو في حرز حريز .