وضع داكن
28-03-2024
Logo
الخطبة : 1030 - المال والرزق .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، الإنسان بفطرته و جبلته حريص على رزقه كما أنه حريص على حياته، و قد يقول بعض الناس: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.

أحد عشر سؤالا في موضوع الرزق تقلق الإنسان

المال والرزق
كيف يدفع المرء عن نفسه القلق من أجل الرزق ؟ وكيف يمتنع الرجل عن ارتكاب معصية من أجل الرزق ؟ و كيف يحترز الإنسان عن أن يقف مواقف مذلة من أجل الرزق ؟ ما فلسفة المال في الإسلام ؟ من يملك المال ؟ كيف أن الإنسان مستخلف فيه ؟ لماذا ينبغي أن نحافظ على المال ؟ لماذا حرم الله التبذير و الإسراف و إتلاف المال ؟ لماذا فرض الإسلام على المسلم فرضاً عينياً أن يكسب رزقه ؟ هل هناك مكاسب للرزق محرمة تخفى على كثير من المسلمين ؟ كيف يزيد الرزق من خلال الكتاب و السنة ؟
هذه أسئلة تقلق معظم الناس أحاول في هذه الخطبة إن شاء الله أن أجيب عنها.

 

المال كما جاء وصفه في القرأن الكريم والسنة وأقوال السلف الصالح

 

1 – لله ملكُ السماوات والأرض خَلقًا وتصرُّفًا ومصيرًا:

أيها الإخوة الكرام، لقد خلق الله السماوات والأرض وما فيهما، وهو المالك الواحد لكل ما في السماوات و الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى من الثروات الباطنية، قال تعالى:

 

﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾

[ سورة طه: 6]

2 – المال مال الله:

أيها الإخوة الكرام، المال في القرآن الكريم وصف بأنه مال الله:

 

﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾

[ سورة النور: 33]

وسمى الله المال الذي في أيدي الناس مال الله.

3 – المال أداة استخلافٍ :

وسماه أيضاً أداة استخلاف للإنسان، قال تعالى:

 

﴿ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾

[ سورة الحديد: 7]

كل ما في الكون بسماواته وأرضه، بما تحت الثرى ملك لله، ملك خلقٍ، وملك تصرفٍ، وملك مصير، فأصل الملك أيها الإخوة لله سبحانه وتعالى، وليس للعبد إلا التصرف، والله عز وجل سيحاسب عن هذا المال من أين اكتسبته، وفيمَ أنفقته ؟ وقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ))

4 – إضافة المال الإنسان إضافة انتفاع وابتلاء :

لكنه في بعض الآيات يضاف المال إلى الإنسان قال تعالى:

 

﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾

[ سورة آل عمران: 186]

﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ ﴾

أضيف المال إلى العباد هذه إضافة في رأي العلماء لها تفسير، أي أن الإنسان ملك المال ملك انتفاع وابتلاء وامتحان، مُلكت المال ملك انتفاع وابتلاء و امتحان.

5 – المال نعمة من نعم الله تعالى:

المال نعمة من نعم الله
و المال أيها الإخوة الكرام، نعمة من نعم الله الدالة على رحمته بالإنسان، قال تعالى:

 

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾

[ سورة الضحى]

 

 

 

 

 

 

6 – المال خيرٌ:

أيها الإخوة الكرام، سمي المال في القرآن الكريم خيراً، قال تعالى:

 

 

 

 

 

 

 

﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾

[ سورة البقرة: 180]

وقد امتدح النبي المال فقال عليه الصلاة و السلام:

(( نعم المال الصالح للمرء الصالح ))

وقد نُقل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدهم قال: << حبذا المال أصون به عرضي، و أتقرب به إلى ربي >>.

7 – المال قوام المعيشة:

حدد هذا الصحابي الكريم أهداف كسب المال، و بين الله جل جلاله أن المال قوام الحياة، و أن معايش الناس، و قيام هذه المعايش يكون بالمال، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً﴾

[ سورة النساء: 5]

وجوب المحافظة على المال وعدم تضييعه

وجوب عدم تبذير المال
أيها الإخوة الكرام، بما أن المال نعمة، وخير كلها تعاريف القرآن، بما أن المال نعمة وخير وقيام حياة الناس فينبغي أن نحفظه، وأن نحافظ عليه كي نلبي به حاجاتنا الأساسية، وألا نضيعه، و آية الدين هي أطول آية في القرآن الكريم تؤكد ضرورة حفظ المال ورعايته، وعدم تضييعه من خلال كتابة الدين، والاستشهاد بالشهود، و أخذ الرهان، و قد نهى الإسلام عن إضاعة المال الذي استخلف الله العباد فيه، فعن الْمُغِيرَة قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

 

(( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ))

 

[ مسلم]

و من جهة أخرى وصف الله الذين يبذرون أموالهم وصفهم بأنهم إخوان الشياطين:

 

﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾

[ سورة الإسراء]

الشيطان كفور، و المبذر أخ للشيطان، إذاً هو كفور، كفور بهذه النعمة التي يمكن أن يرقى بها في الجنة إلى أعلى عليين:

 

﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ﴾

[ سورة القصص: 77]

أما الذي ينفق ماله في المباحات فهذا لم يوصف بأنه مبذر، بل وصف بأنه مسرف:

 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾

[ سورة الأعراف: 31]

﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً ﴾

[ سورة الإسراء: 29]

ملوماً إن لم تنفق:

 

﴿ مَحْسُوراً ﴾

[ سورة الإسراء: 29]

محسوراً إن أنفقت مالك كله:

 

﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾

[ سورة الإسراء: 29]

أيها الإخوة الكرام، ثلاث منجيات، و ثلاث مهلكات، فأما المنجيات فتقوى الله في السر و العلانية، و قول الحق في الرضا و السخط، و القصد في الغنى و الفقر، القصد أي أن تنفق المال باعتدال بين الإسراف و التقتير، بين البذخ و الحرص على هذا المال، قال تعالى:

 

﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾

لذلك و القصد في الغنى و الفقر، و أما المهلكات فهوى متبع، و شح مطاع، و إعجاب المرء بنفسه، و هو أشدهن، الآن يقول النبي صلى الله عليه وسلم:

(( طلب الحلال واجب على كل مسلم ))

[ ورد في الأثر]

وجوب طلب المال الحلال وتحري مواضعه وعدم سؤال الناس فيه

لأن الصلاة فرض، و الصيام فرض، و العمرة واجب، و الحج فرض، و أداء الزكاة فرض، و هذه الفروض تحتاج إلى أن تكون قد أكلت فشبعت، و شربت فارتويت، وسكنت في مأوى، فما لا يؤدى الفرض إلا به فهو فرض، و ما لا يؤدى الواجب إلا به فهو واجب، وما لا تؤدى السنة إلا به فهو سنة، لذلك في حديث آخر يقول عليه الصلاة و السلام:

(( طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ))

[ الجامع الصغير عن ابن مسعود]

لأن منهج الله أن تتزوج، وأن تنجب، وأن تنفق على زوجتك، وهذا يحتاج إلى مال، لذلك:

(( طلب الحلال واجب على كل مسلم ))

[ الجامع الصغير عن أنس]

(( طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ))

[ الجامع الصغير عن ابن مسعود]

الأنبياء قدوة، قال تعالى:

 

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾

[ سورة الفرقان: 20]

هم بشر مفتقرون في وجودهم إلى أكل الطعام:

 

﴿ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ ﴾

[ سورة الفرقان: 20]

و مفتقرون إلى ثمن الطعام بالعمل، بالمشي في الأسواق، إذا كانت هذه صفات الأنبياء و المرسلين فالمؤمنون من باب أولى، و لولا أن الأنبياء بشر تجري عليهم كل خصائص البشر لما كانوا سادة البشر، هم قدوة للبشر، فعَنِ الْمِقْدَامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ))

[ البخاري، ابن ماجه، أحمد ]

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ))

[ البخاري]

أن يكون لك عمل تكسب منه رزقك هذا وسام شرف لك، لذلك أيها الإخوة الكرام، تروي السنة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ:

(( أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ ـ أي بساط ـ نَلْبَسُ بَعْضَهُ، وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ ـ فقط بساط و إناء ـ قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ـ المزايدة مشروعة، والمناقصة مشروعة ـ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالْآخَرِ قَدُومًا ـ أي فأساً ـ فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ، وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ، وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ ))

[ أبو داود، ابن ماجه ]

أيها الإخوة الكرام، نستفيد من هذه القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدل أن يعطي هذا السائل أهّله تأهيلاً نفسياً، حيث أمره أن يزود أهله بالطعام كي يفرغ من التفكير في شأنهم لبعض الوقت، و لينقطع للعمل، و أهّل أهله مادياً بالطعام كي يفرغوا من القلق و الهم، ثم دفعه إلى أن يكسب رزقه بيده، و قال:

(( خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ))

[ البخاري عن الزبير بن العوام ]

تحريم أكل أموال الناس بالباطل بكل الطرق والأساليب

أيها الإخوة الكرام، بالمقابل قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾

[ سورة البقرة: 188]

أموالكم، بربكم لو أن في ثوب المرء جيبين، فأخذ ألف ليرة من جيب فوضعه في جيب آخر ماذا فعل ؟ لكن بلاغة هذه الآية أنها وصفت مال أخيك بأنه مالك من زاوية واحدة، من زاوية وجوب الحرص عليه و كأنه مالك، فلأن تمتنع عن أكله حراماً من باب أولى.
أيها الإخوة الكرام، لذلك يقول عليه الصلاة و السلام:

(( كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ))

[ مسلم، الترمذي، أبو داود، ابن ماجه عن أبي هريرة ]

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

[ سورة البقرة: 188]

(( ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد الإسلام ))

[ ورد في الأثر]

من أساليب أكل الأموال بالباطل

1- الغش وصوره

الخداع والغش
أيها الإخوة الكرام، من أكل أموال الناس بالباطل الغش، الذي يغش الناس يأكل أموالهم بالباطل، الغش له أنواع كثيرة، و صور شتى ترجع في معظمها إلى المخادعة في إظهار شيء، و إخفاء شيء في باطنه.

 

1 – الكذب:

من ذلك الكذب في التعريف بالشيء، فيُعرّف الرديء بأنه جيد، و ذو السعر الرخيص بأنه من الصنف ذي السعر العالي.

 

 

2 – خلط الرديء بالجيد:

ومن الغش دس الرديء في ثنايا الجيد، و بيعه جميعاً بقيمة الجيد دون بيان الواقع و الحقيقة.

 

 

3 – الخديعة في الثمن:

و من الغش أن يقول البائع: اشتريته بكذا كذباً ليخدع المشتري في هامش ربحه.

 

 

4 – إخفاء العيوب والتلاعب في الوزن وغيرِه:

ومن الغش إخفاء العيب والتلاعب بالوزن والكيل، والعدد والطول والمساحة والحجم.

 

 

5 – تزوير منشأ البضاعة وصفاتها وتاريخها:

ومن الغش تزوير منشأ البضاعة و مصدرها، أو الكذب في صفاتها، وفي تاريخ صلاحيتها.

 

 

6 – عرض البضاعة بطريقة مغرية مخفية للعيوب:

و من الغش عرضها بطريقة تزيد من مزاياها، وتخفي من عيوبها.

 

 

7 – استغلال جهل المشتري بنوع البضاعة:

ومن الغش توجيه المشتري إلى بضاعة رديئة كاسدة استغلالاً لجهله في نوع البضاعة.

 

 

8 – استغلال جهل المشتري بثمن البضاعة:

و من الغش استغلال جهل المشتري بثمن البضاعة، ورفع السعر أضعافاً مضاعفة، وهذا الجهول في نوعية البضاعة و في ثمنها سماه النبي صلى الله عليه وسلم مسترسلاً فقال:

 

 

(( غبن المسترسل ربا، غبن المسترسل حرام ))

 

[ الجامع الصغير عن جابر وعلي]

9 – استغلال جهل البائع بقيمة البضاعة:

و كما أن البائع يكون غاشاً للمشتري يمكن أن يكون المشتري غاشاً للبائع حينما يستغل جهل البائع بقيمة بضاعته الحقيقية، لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان لأنهم يجهلون قيمة بضاعتهم و لا يعرفون قيمتها إلا إذا دخلوا إلى السوق.

2- الاحتكار

ومن أكل أموال الناس بالباطل الاحتكار، وهو بالتعريف الدقيق: حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه و بذله حتى يغلو سعره غلاء فاحشاً غير معتاد، بسبب قلّته أو انعدام وجوده في مظانه مع شدة الحاجة إليه، قال الإمام أبو يوسف: " كل ما أضر بالناس حبسه فهو احتكار ".
وقال بعض الفقهاء المحدّثين: " كل إيهام أو تضليل من شأنه أن يزيد في الطلب على السلعة مع قلة العرض تمهيداً لرفع السعر فهو احتكار ".
و هذا الربح الزائد الذي يجنيه المحتكر حرام، لأنه ليس نظير زيادة في البضاعة و لا في صفاتها، و لا نظير خدمة خاصة يقدمها البائع، و لا يؤخذ هذا المبلغ الزائد بالرضا الحقيقي من المشتري، إنما هو إلجاء أصحاب الحاجات إلى شراء حاجاتهم بأكثر من أثمانها الحقيقية.
والمحتكر ـ و الآن دققوا ـ و المحتكر من خلال أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملعون، و كلمة ملعون كبيرة جداً، ملعون و خاطئ، و قد برئت منه ذمة الله، وقد توعده الله بالنار، فعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ ))

[ مسلم ]

عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ ))

[الدارمي ]

(( من احتكر الطعام أربعين ليلة يريد به الغلاء فقد برئ من الله، وبرئ الله منه ))

[ مشكاة المصابيح عن ابن عمر]

(( وبئس العبد المحتكر، إن أرخص الله الأسعار حزن، وإن أغلاها فرح ))

[البيهقي عن معاذ]

و الله أيها الإخوة الكرام، أؤكد لكم إن كانت عندك بضاعة يكون المسلمون في أشد الحاجة إليها، و هبط سعرها، و فُرج عن المسلمين، و لم تربح الربح الذي كنت تتوقعه، إن كنت مؤمناً حقاً فينبغي أن تفرح بنقص ربحك، و بحل مشكلة المسلمين، هذه علامة إيمانك.

وسائل وأسباب زيادة الرزق

أيها الإخوة الكرام، هل من وسيلة إن فعلناها يزداد الرزق ؟

1 – الاستقامة:

هل هناك من علاقة بين الرزق والاستقامة ؟ القرآن يجيب عن ذلك:

 

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ﴾

[ سورة الجن: 16]

الآن محصول القمح مهدد كلياً، بلدنا الطيب ينتج في العام ستة ملايين طن، الآن المحصول بأكمله مهدد، لا يوجد أمطار:

 

﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾

[ سورة الجن]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾

[ سورة الأعراف: 96]

2 – الصلاة:

هل هناك من علاقة بين الرزق و بين الصلاة ؟ يقول الله عز وجل:

 

﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾

[ سورة طه: 132]

بيت تؤدى فيه الصلوات الخمس، و محل تجاري يؤدي صاحبه و موظفوه الصلوات الخمس هذا محل مرزوق بنص هذه الآية.

3 – الاستغفار:

هل من علاقة بين الرزق و الاستغفار ؟ قال تعالى:

 

﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾

[ سورة نوح ]

4 – الشكر:

هل من علاقة بين الرزق و الشكر ؟ قال تعالى:

 

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾

[ سورة إبراهيم: 7]

كان عليه الصلاة والسلام تعظم النعمة عنده مهما دقت، كان إذا دخل إلى بيت الخلاء و خرج يقول:

(( الحمد لله الذي أذاقني لذته، و أبقى فيّ قوته، و أذهب عني أذاه ))

[الجامع الصغير عن ابن عمر]

يشكر على أبسط شيء.

5 – صلة الرحم:

هل من علاقة بين الرزق و صلة الرحم ؟
عن أَنَس بْن مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ـ أي في أجله ـ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ))

[ البخاري، مسلم، أبو داود، أحمد ]

6 – الصدقة:

هل من علاقة بين الرزق و بين الصدقة ؟ يقول عليه الصلاة و السلام:

(( استنزلوا الرزق بالصدقة ))

[الجامع الصغير عن جبير بن مطعم]

وهناك مقولة رائعة:

(( الأمانة غنى ))

[الجامع الصغير عن أنس]

الأمين يملك أثمن شيء في الحياة و هو ثقة الناس، و إذا وثق الناس بك أعطوك.

7 – إتقان العمل:

أيها الإخوة الكرام، هل من علاقة بين الرزق و إتقان العمل ؟

(( إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه ))

[الجامع الصغير عن عائشة]

والملاحظ أن أصحاب الحرف في أيام الكساد المتقنون منهم وحدهم يعملون، والأقل إتقاناً لا يجدون عملاً إطلاقاً، فلذلك الإتقان والأمانة والصدقة وصلة الرحم والشكر والاستغفار والصلاة والإيمان والتقوى أحد أسباب زيادة الرزق في القرآن و السنة.
أيها الأخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل و سلم وبارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.

أبو حنيفة الفقيه العالم التاجر الصادق

أيها الإخوة الكرام، أبو حنيفة النعمان ـ رحمه الله تعالى ـ الفقيه الكبير أكرم علمه و نفسه، وحزم أمره على أن يأكل من كسب يمينه، وهذه بطولة، أبو حنيفة النعمان الفقيه الكبير حزم أمره على أن يأكل من كسبه الحلال، و أن تكون يده هي العليا دائماً، وقد أيقن أنه ما أكل امرؤ لقمة أزكى و لا أعز من لقمة ينالها من كسب يده، لهذا خصص شطراً من وقته الثمين لكسب رزقه فاتجر بالخز أي بالقماش، و كان له متجر معروف، يقصده الناس فيجدون فيه الصدق في المعاملة، والأمانة في الأخذ والعطاء، وكانوا يجدون فيه أيضاً الذوق الرفيع، و كان يأخذ المال من حله، و يضعه في محله، وكان كلما حال عليه الحول أحصى أرباحه من تجارته، واستبقى منها ما يكفيه لنفقته، ثم يشتري بالباقي حوائج القُراء وحوائج المحدِّثين، وحوائج الفقهاء وطلاب العلم وأقواتهم وكسوتهم.
أبو حنيفة النعمان الفقيه الكبير الذي ضرب للناس مثلاً أعلى في كسب الرزق، لذلك كان الإسلام عظيماً، لأنه منهج واقعي و منهج ينطبق مع الفطرة و منهج فيه عزة و كرامة.

الدعاء

اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب، و ما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب، اللهم صن وجوهنا باليسار، و لا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، و نبتلى بحمد من أعطى، و ذم من منع، و أنت من فوقهم ولي العطاء، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم إنا تعوذ بك من الفقر إلا إليك، و من الذل إلا لك، و من الخوف إلا منك، نعوذ بك من عضال الداء، و من شماتة الأعداء، و من السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم استر عوراتنا، و آمن روعاتنا، و آمنا في أوطاننا، و اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً و سائر بلاد المسلمين، اللهم اسقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث و لا تجعلنا من القانطين، ولا تأخذنا بالسنين، و لا تعاملنا بفعل المسيئين يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة المسلمين لما تحب وترضى، اللهم أهلك أعداءهم، شتت شملهم، اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اجعل الدائرة تدور عليهم يا رب العالمين، انصر الإسلام، و أعز المسلمين، و أذل الشرك و المشركين، انصر عبادك المؤمنين في مشارق الأرض و مغاربها، و في شمالها و جنوبها، في العراق و في فلسطين و في الصومال، و في كل مكان يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور