وضع داكن
28-03-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 07 - فرغ خاطرك من الهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

ما ضمنه الله لك و ما طلبه منك:

 أيها الإخوة الكرام، من حِكم ابن القيم رحمه الله تعالى: " فرغ خاطرك من الهم بما أمرت به ولا تشغله بما ضمن لك ".
يعني أن اهتمامك وتفكيرك وجهدك وسعيك لتكن هذه جميعاً بما أُمِرتَ به من معرفة الله، وعبادته، والعمل الصالح، " ولا تشغله بم ضمن لك، فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان "، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً.

 

مثال على ما ضمنه الله لك و ما طلبه منك:

 القضية خطيرة جداً، معظم الناس مشغولون أشد الانشغال، بل يقعون في المعاصي والآثام من أجل شيء ضمن لهم، وينسون، ويغفلون عن علة وجودهم في الدنيا، وعن غاية وجودهم، وقد ذكرت في لقاء سابق أن طالباً في مدرسة داخلية مكلف بشيء واحد، هو أن يدرس، له قاعة مطالعة، فيها مكتبة عامرة، فيها جو هادئ، فيها تكييف، فيها إضاءة جيدة، وهناك وجبات غذائية من أعلى مستوى تقدم في الأوقات الدقيقة، هو ترك مهمته الأساسية وهي الدراسة، وتفقد المطبخ من حين لآخر، وسأل عن جاهزية الطعام، وعن نوع الطعام، وعن مكونات الطعام، ومتى سيقدم الطعام، وما الكمية التي سيقدم بها الطعام ؟ هذا طالب أحمق، انشغل بما ضمن له، وترك ما كلف به.

 

 

ماكلفنا الله به:

 فأنت في الدنيا مكلف بعبادة الله، مكلف بمعرفته، مكلف بطاعته، مكلف بالعمل الصالح، والدنيا ضمنت له، لكن أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلمت لي فيما تريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.

 

 

مثال على ما ضمنه الله لك:

 أيها الإخوة الكرام، طالب العلم يؤثر الآخرة على الدنيا فيربحهما معاً، والجاهل يؤثر الدنيا على الآخرة فيخسرهما معاً، فتأمل حال الجنين، يأتيه غذاؤه وهو الدم من طريق واحدة هي السرة، علاقته بالغذاء من طريق واحدة هي السرة، فإذا خرج من بطن أمه، وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقان اثنان، وأجرى الله له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول، لبناً خالصاً سائغاً، قطعت السرة، وجاء الثديان، فإذا تمت مدة الرضاع، وانقطعت الطريقان بالفطام فتح الله له طرقاً أربعة أكمل منها، طعامان وشرابان، فالطعامان من الحيوان، والنبات والشرابان الماء واللبن، وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ، فإذا مات، وانقطعت عنه هذه الطرق الأربع فتح الله له سبحانه وتعالى إن كان سعيداً طرقاً ثمانية هي أبواب الجنة الثمانية، من طريق واحد إلى طريقين، إلى أربعة إلى ثمانية.

 

 

جزاء التسليم فيما أراد الله:

 أيها الإخوة الكرام، هناك حديث قدسي لا تستطيع إذا قرأته إلا أن يقشعر جلدك

 

 

(( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))

 

[البخاري]

 أعد الله لك بعد الموت حياةً لا توصف، قال تعالى:

 

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 169]

 بكل ما في هذه الكلمة من معنى،

﴿ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾

 قال تعالى:

 

﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾

 

[ سورة يس: الآية 26]

 لذلك المؤمن حينما يأتيه ملك الموت يأتيه بأحب الأشخاص إليه، فإذا رأى مكانه في الجنة يقول: لم أر شراً قط، ينسى كل ما سيق له من مصائب،

 

جزاء عدم التسليم فيما أراد الله:

 وأما الكافر إذا رأى مكانه في النار يصيح صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا، ويقول: لم أر خيراً قط، قد يكون في دنياه غارقاً في الملذات والنعم، لذلك في بعض الأحاديث الشريفة:

 

 

(( ألا يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكره ))

 

[الجامع الصغير بسند ضعيف]

الدنيا طريق للأخرة:

 والبطولة لمن يضحك آخراً، يولد الإنسان وكل من حوله يضحك، وهو يبكي وحده، فإذا وافاه الأجل كل من حوله يبكي، فإذا كان بطلاً يضحك وحده، أحياناً إنسان تكون تنتظره سعادة لا توصف إذا أمضى حياته في طاعة الله، وفي القرب من الله، وفي خدمة الخلق، وأنا أقول لكم أيها الإخوة الكرام، وأعدت هذا القول مرات ومرات: إن لم تكن طرفاً في مؤامرة قذرة هدفها إفقار المسلمين، أو إضلالهم، أو إفسادهم أو إذلالهم أو إبادتهم فأنت من سعداء الدنيا والآخرة، إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، وإذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون غنياً، لأن خيارات القوي والغني في العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، أما إذا كان طريق القوة سالكاً على حساب دينك وقيمك فالضعف وسام شرف لك، وإذا كان طريق الغنى سالكاً على حساب مبادئك ودينك وقيمك فالفقر وسام شرف لك، العبرة أن يأتي الموت وأنت عابد لله، مطبق لأمره، ثابت على مبادئك وقيمك.

 

حقيقة الدنيا:

 أيها الإخوة الكرام، الرب سبحانه وتعالى لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه، وأنفع له، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، فما من شيء يأخذه الله منك إلا يعوضك خير منه في دينك ودنياك، لذلك ورد في بعض الأحاديث القدسية الصحيحة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ  وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:

 

 

(( يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ))

 

[مسلم]

أي أن الله حينما يأخذ من المؤمن بعض صحته يعطيه أضعافاً مضاعفة من القرب.

معنى العطاء و المنع:

 ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع انقلب المنع عين العطاء، وإذا كنت في العناية المشددة، ويضيق عليك، وتحاسب على كل كلمة، وكل نظرة فاعلم أنك من المقربين، وأنك في العناية المشددة، وإذا كنت في أعلى درجات القوة والدنيا بين  يديك، ولم يكن الله راض عنك فهذا أكبر عقاب يناله الإنسان من الله، قال تعالى:

 

﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

 

[ سورة الأنعام: الآية 44]

 لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه، وأنفع له،

 

(( وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ))

 

[البخاري]

 لذلك من حكمة الله عز وجل أنه قد يصيب الإنسان في خريف عمره متاعب كثيرة، هذه المتاعب لها هدف تربوي، أن ينزع من قلبه حب الدنيا، وأن يتعلق بالآخرة، الله عز وجل يمنع عبده المؤمن الحظ الأدنى الخفيف، ولا يرضى له إلا بالحظ الأعلى النفيس، يمنعه الحظ الأدنى الخسيس، ويعطيه الحظ الأعلى النفيس، كطفل يلهو بالرمل، يؤخذ منه الرمل، ويعطى له اللؤلؤ، وفرق كبير بين الرمل واللؤلؤ، لكن العبد لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وما ادخر له، لذلك ورد في بعض الكتب أن إنساناً يحب أكلة نفيسة، فإذا قال له الطبيب: هذه الأكلة ينبغي أن تمتنع عن تناولها، يا نفس، لو منعتِ من أكلة تحبينها من قِبل طبيب لا شك أنك تمتنعين عنها، أيكون الطبيب أصدق عندك من الله ؟ إذا منعك الله عز وجل من شيء، وحرم عليك شيء، وأنت لا تعبأ، وتقترف هذا الشيء، ويأتي طبيب يحمل شهادة عالية، يقول لك: إياك والملح، إياك والمواد الدسمة، إياك وهذه الأكلة، فإنها قاتلة، تمتنع فجأة، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ إذاً ما أكفركِ، أن تخشى إنساناً، ولا تخشى خالقاً، أنت تثق بتوجيه إنسان، ولا تثق بتوجيه خالق الأكوان، إذاً ما أكفرك، أيكون وعد الطبيب أشد عندك من وعيد الله ؟ إذاً ما أجهلكِ، فالذي يعصي الله يدمغ بالجهل وبالكفر.

 

جهل الإنسان:

 والعبد لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه، وحكمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه وما ادخر له، أحياناً ملِك يطلب من معلم أن يعلم ابنه، الملك في ذهنه أن يعطي هذا المعلم بيتًا كبيرًا، ومركبة فارهة، ملك كل شيء في ملكه، هذا المعلم أُفُقه ضيق جداً، طالب الابن بالأجرة، قال: كم تريد على الدرس ؟ قال: ألف ليرة، قال: هذه ألف، ملك سيعطيه بيتاً ومركبةً، وهذا الإنسان طلب أجرة، فلما يعمل الإنسان عملاً صالحاً، ويطلب عليه أجراً يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة، فهذا العبد جهل ما أعد الله له، وطمع في الدنيا، بل هو مولع  بحب العاجل، وإن كان دنيئاً، وبقلّة الرغبة في الآجل، ولو كان علياً، الآية الكريمة:

 

 

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

 

[ سورة الإنسان: الآية 27]

 احتقاراً لهم:

 

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً﴾

 

[ سورة الإنسان: الآية 27]

 ولو أنصف العبد ربه، وأنى له بذلك لعلم أن فضله عليه فيما منعه منه في الدنيا، لعلم أن فضل الله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها، كلام دقيق، فضل الله علينا فيما منعنا من الدنيا أكبر بكثير من فضل الله علينا فيما أعطينا، قد تعطى الدنيا، وتكون سبب الهلاك، لذلك الله عز وجل يعطي الدنيا لمن يحب، ولمن لا يحب، هل كان يحب فرعون ؟ آتاه الملك، هل كان يحب قارون ؟ آتاه المال، والملك آتاه أيضاً سيدنا سليمان، وآتى المال سيدنا عثمان، هذه الدنيا ليست مقياساً، لا تكريماً ولا عقاباً، وما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، وما امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه من هذه الدار إلى دار أخرى إلا ليتأهب منها للقدوم عليه، وليسلك الطريق الموصلة إليه:

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً﴾

[ سورة الفرقان: الآية 62]

 

 أيها الإخوة الكرام، من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ))

[الترمذي]

يجب علينا معرفة حقيقة الحياة:

 هذه قضايا أيها الإخوة الكرام خطيرة جداً في حياتنا، يجب أن نعرفها، لأننا إذا عرفناها جاءت حركتنا في الحياة صحيحة، أحياناً تكشف لك الحقيقة فينعكس المقياس، كراكب دراجة، وأمام طريقين، طريق نازل رائع معبد محفوف بالأشجار، وطريق صاعد ترابي فيه أكمات عقبات، وفيه صخور، كل معطيات الواقع تدعوك إلى الطريق النازل، المنطق والذكاء، والوضع والبيئة، والواقع والمعطيات كلها مع الطريق النازل، لوحة صغيرة يشار فيها إلى أن هذا الطريق النازلة تنتهي بحفرة مالها من قرار، فيها وحوش كاسرة، وجائعة، وأن الطريق الصاعد تنتهي بقصر منيف، فيه ما لذ وطاب، هذه اللوحة الصغيرة ألا تعكس القرار ؟ تعكسه مئة في المئة، فالإنسان حينما يعرف الحقيقة يسلك الطريق الذي يراه الناس غير سليم، لذلك قالوا: إن لم تتهم بالجنون من المجانين فلست مؤمناً، والمجنون من عصى الله.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور