وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 32 - يا حبذا نوم الأكياس و فطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى و صومهم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، مع فائدة جديدة من فوائد العالم الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى، هذه الفائدة تتصدر بقول لأبي الدرداء، لكنه من العمق بمكان.

نوم الأكياس وفطرهم وقيام الحمقى وصومهم

 يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: << يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم >>.
 هاتان حالتان متناقضتان، حالة إنسان نائم، وإنسان قائم يصلي، إنسان مفطر، وإنسان صائم، وقد يبدو لكم هذا الكلام عجيباً، الأكياس الذين عرفوا الله، واستقاموا على أمره، وعرفوا سر وجوده، وغاية وجوده، وباعوا أنفسهم لله عز وجل، هؤلاء نومهم وفطرهم أفضل ألف مرة من قيام أحمق وصومه، هذا شيء ملاحظ.

سوء خلق الحمقى مع كثرة العبادة تنفير من الدين

 قد تجد الرجل صائماً، وكلامه قاس، همّه نفسه، لا يقدم خدمة لأحد، مستعلٍ، شعوره أنه هو مهتدٍ إلى الله، وضابط لأموره، هذا الشعور يجعله فوق البشر، فصار أداة منفّرة، فلذلك ما الذي يبعث الناس على أن ينفروا من الدين ؟ عبادات الحمقى، لا أتحدث عن الفرائض أبداً، أنا أتحدث عن النوافل، فإذا كان الكيس قائماً صائماً فهو في أعلى عليين ولا شك في ذلك، لكن لو وازنا بين إنسان عرف الله ويتمتع بخلق عال جداً، يتمتع بفهم عميق للدين، باع نفسه لله، وقته كله لخدمة العباد، في أعلى درجات اللطف والأدب، والتواضع وخدمة الخلق، مفتقر إلى الله عز وجل ، هذا الإنسان لو أنه يأكل كما يأكل معظم الناس، أي ليس صائماً نفلا، وليس قائماً بالليل، قد يكون الصيف وقته قصير جداً، نام الساعة الثانية عشرة، والفجر الساعة الثالثة والنصف، فلم يستطع أن يقوم الليل، لكن فهمه للدين العميق وإخلاصه وأخلاقه العالية ومحبته للخلق وتواضعه لهم، والناس تتحلق حوله، وتلتف حوله، هذا أفضل ألف مرة من إنسان أحمق جاهل مستكبر، لكنه عابد.
 هل هناك دليل نبوي ؟ نعم:
 عَنْ أَبِي حَاتِمٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ...))

[الترمذي]

 كأن النبيّ e فرّق، دِينه أي: يصوم ويصلي، يؤدي زكاة ماله، لكن خلقه فيه قسوة بالغة، فيه استعلاء أحياناً.
مرة أخ قرأ آية، وشرحها، فقال له الثاني: ليس هذا هو المعنى، بحالة استكبار تفوق حدّ الخيال ، قال له: بارك الله بك فما المعنى ؟ قال له: هذا المعنى فوق مستواك، شيء ينفّر.
والله هناك أمراض عند من ينتمي للدين، والله إنهم ليحتاجون إلى أطباء نفسيين للكبْر، والشعور بالاستعلاء، واحتقار الناس، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع الخلق، وكان متواضعاً.

 

استيعاب العاصي وسعة الصدر معه

 

 عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ

(( أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَلْعَنُوهُ، فَوَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ))

[البخاري]


 هذا فهم عميق جداً، وثمة فرق بين شخص يعصي الله، وهو مغلوب على أمره، وشخص يعصي الله مستكبرًا، هذا شارب الخمر مغلوب على أمره، لعل الله يتوب عليه.
 عَن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:

 

((... فَجَاءَتْ الْغَامِدِيَّةُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي، لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَ اللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى، قَالَ: إِمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ، قَالَ: اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا فَسَمِعَ، نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إِيَّاهَا فَقَالَ: مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ ))

 

[مسلم]

 كلما كبرتَ عند الله تتواضع لعباده، لا تشمت بأحد، تجد الإنسان المقصر يحتاج إلى مساعدة، يحتاج إلى قلب كبير، يحتاج إلى نفَس طويل.
 أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى عندما هدى جاره الذي لم يدَعه ينام الليل طوال عمره، كان مغنياً، وكان يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
فلما افتقده مرة سأل عنه، فإذا هو بالسجن، فذهب بمكانته وهيبته وعلمه إلى مدير الشرطة، وتوسط له أن يطلق سراحه، طبعاً أطلق سراحه فوراً إكراماً لهذا العالم الجليل، أركبه وراءه على الدابة، قال له: يا فتى، هل أضعناك ؟ قال له: والله لن أعود إلى الغناء.
 كان تعليقي أن أبا حنيفة قلبه كبير جداً، واستوعب هذا الشاب حتى تاب.
 تُروى قصص عن بعض العلماء، لكن بعضهم يستنكرها عليهم أشد الاستنكار:
مرة أرسل ليرات ذهبية إلى من تعمل في البغاء، لعل الله يتوب عليهن، لأن العاصي يريد قلباً كبيراً، يريد قلباً يستوعبه، يجب ألا تكفّره فوراً، هناك دعاة إلى الله أُفُقهم ضيق جداً، إن وجدوا شاباً متلبسًا بمعصية يقيمون عليه الدنيا، هو محطَّم، هو منهار نفسياً، ليس مستعداً لمن يكفره ويوبخه، يريد قلباً يَسَعه، يأخذ بيده إلى الله، بطولتك ليست مع المؤمنين الصادقين، هؤلاء سائرون إلى الله، بطولتك مع إنسان عنده مليون مشكلة، مع إنسان معقد، مع إنسان واقع في معصية، مع إنسان واقع في انحراف، ليس له أحد، فكلما تكبرت عليه كنت أبعد عن أن تكون داعية إلى الله عز وجل.
 كلمة مؤثرة جداً: << يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم >>
لذلك قال الإمام الغزالي: << لأن يرتكب العوام الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون >>.
 مرة قرأت كتاباً، في مقدمته كتب المؤلف: " يا رب، إن سيئاتي من قضائك، أنا لا دخل لي "، ألغى الدين كله، ألغى المحاسبة كلها، ألغى الحساب، ألغى الثواب، ألغى العقاب، ألغى الجنة، ألغى النار، هو لم يعمل شيئاً، كل سيئاته من قضاء الله عز وجل، هذا خطأ كبير، << فلأن يرتكب العوام الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون >>.
الفعل بأمر الله، لكن العبد اكتسب الخطيئة، وأرادها، واختارها، وتحرك نحوها، والله عز وجل أعطانا الخيار، وتعلقت قدرة الله باختيار العبد.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى يعلق على كلام أبي الدرداء رضي الله عنه: << يا حبذا نوم الأكياس و فطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، الذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين >>: " هذا من جواهر الكلام " .
إخواننا الكرام، الغرور مخيف، الغرور أن تتوهم أنك بحجم أكبر من حجمك الحقيقي بآلاف المرات، الله عز وجل يتولى أحياناً تحجيم الإنسان ليعود إلى حجمه الحقيقي، فأنا لا أرى مرضاً يحول بينك وبين المقربين كالكبر، والكبر مبطّن.
 إخواننا الكرام، أكبر المعاصي الظاهرة يكون احتمال التوبة منها كبيرًا جداً، لكن أخطر شيء في حياتك الكبائر الباطنة، منها الكبر، والاستعلاء، والشعور أن الناس دونك، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))

 

[ مسلم ]

 مرة كنا في الحج، أحد العلماء الأجلاء دعا في عرفات، دعا وبكى، قال: والله لعل شاباً من الحاضرين قد قُبِلَ حجُّه، ولم يُقبل منا أحياناً، الله رب النيات، لا تهتم بالمظاهر والأعلام والأسماء الكبيرة والأضواء المسلطة على بعض الأشخاص، اهتم بالإخلاص، فقد يكون الشاب لا أحد يعرفه، إذا غاب لم يفتقد، وإذا حضر لم يعرف، لكنه مخلص.
عندما جاء رسول من نهاوند إلى سيدنا عمر، وأخبره أنه مات خَلق كثير، فقال سيدنا عمر لهذا الرسول: << مَن هم الذين ماتوا وقتلوا ؟ قال: إنك لا تعرفهم، فبكى عمر، وقال: ما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم >>، من أنا ؟ فالإخلاصَ الإخلاصَ.
 إخواننا الكرام، هناك آية لا أشبع منها، وهي قوله تعالى:

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 159]

 بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم، فلما كنت ليناً لهم التفوا حولك:

 

﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 159]

 مع أنك نبي ورسول، و يوحى إليك، و معك معجزات، و فصيح، و بليغ، وجميل الصورة، مع كل هذه الميزات:

 

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 159]

 أيّ اتصال من نتائجه الرحمة في قلبك، والرحمة تنعكس ليناً، واللين يسبب التفاف الناس حولك، والانقطاع عن الله يسبب قسوة بالقلب، ينعكس غلظة وفظاظة، والنتيجة ينفض الناس من حولك، فبطولتك كداعية لا أن تملك معلومات دقيقة جداً، وأدلة قوية، هذه أساسية في الدعوة، ولابد منها، لكنها شرط لازم غير كافٍ، أنت بحاجة لقلب كبير يسع المذنبين، يسع من حولك، يسع المخطئين، يسع اليائسين.

 

الشبهات والضلالات إيقاظ لنشاط المسلم

 

 أحياناً يستفتيك الإنسان، وهو ليس بحاجة إلى فتوى، هو بحاجة إلى من يدعمه، من يقوي همته، من يرفع من أمله بالله عز وجل، الله عز وجل من سننه في هذه المعركة بين الحق والباطل، والمؤامرات التي تهجم على الدين، ومع كل هذه المؤامرات والتهجمات ينمو الدين نمواً عجيباً، وقد سمعت الآن أنه يعقد مؤتمر في أوربة لبحث أخطر قضية تواجهها، وهي انتشار الإسلام، لا في الجاليات الإسلامية، بل في سكان أوربة الأصليين، هذا معه جنسية فرنسية له حق التصويت، هذه مشكلة، إذاً العالم كله يحارب هذا الدين، والدين ينمو، وكأن المعركة بين الحق والباطل أرادها الله عز وجل، هذه المعركة سبب نشاط المسلمين، هذه المعركة تبث النشاط في العالم الإسلامي، وكلما جاء إنسان بضلالة، ونشرها بكتاب تقوم الدنيا ولا تقعد، صار هناك نشاط بين طلاب العلم والدعاة إلى الله، والطلاب سألوا أستاذهم: ما هو رأيكم في هذه الفتوى ؟ والأستاذ راجع الكتب، وجاء بالفتوى الصحيحة، فصار هناك حركة، فيبدو أن الحق لا ينمو إلا بالتحدي.
إن أيّ إنسان يطرح فكرة غير صحيحة يحرك البلد كله، فتجد نشاطاً، وردًّا، وسؤالا، وجوابًا، وندوات، لذلك هذا هو الدور الخفي الذي يغيب عن معظم الناس، والشيطان يطرح شبهة، يلقي وسوسة، يحرك الناس، فيتمتن إيمانهم، ويقوى، هو لا يريد ذلك، ولا يتمنى، ولا يشعر.
أحياناً العدو له دور مهم معك، دقق، الصديق لا يرفعك، لأنه يمدحك فتبرك، كلما مدحك ترتاح، وتتكاسل، أما العدو فيتابعك كلمة كَلمة، ينتقدك، لا مكانة لك عنده، يتهجم عليك، فإذا راقبك شخص يحصي أنفاسك، ويتابعك، قبل أن تتكلم بالكلمة تعد للألف، من الذي دعاك لتنضبط ؟  العدو، من الذي دعاك تحضر درسك جيداً ؟ العدو، من دعاك إلى أنم تعتمد على النص الصحيح ؟ العدو، من دعاك ألا تتكلم عن منام ولا شطحة ولا خرافة ؟ العدو، لأنه جالس بالمرصاد، من دعاك تتفوق ؟ العدو، قال الشاعر:

عُداتي لهم فضل علي و منة  فلا أذهب الله عني الأعاديا
* * *

 الأعداء لهم دور إيجابي، لكن لا أحد ينتبه لهذا الدور، لذلك أنا أقول: أيّ إنسان له عمل دعوي، وألغى المعارضة ينتهي، دع الناس ينتقدوك، اسمح للإنسان ينتقدك، تنتبه أن نقطة أنت غير منتبه لها، لا تلغِ المعارضة فتلغى أنت، هل لهذا دليل ؟ طبعاً لها دليل:
 عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

 

(( بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلَا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، مَرَّتَيْنِ ))

 

[البخاري]

 بعض أصحابه لم يقبل ما فعله خالد، وراجعه.

 

معنى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ

 

 لذلك إخوانا الكرام، هذا الدين لا ينمو إلا بالحرية، لا ينمو بالقمع، لا ينمو بالإرهاب الفكري، يوجد إرهاب فكري، يوجد آية قرآنية الدعاة يتلونها على استحياء، لأننا نحن متهمون بالإرهاب، تأتي الآية تصفنا بأننا نرهب عدو الله وعدونا، قال تعالى:

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 نحن نهرب من كلمة إرهاب، وهي في القرآن الكريم، الحقيقة أن الآية تخلق مشكلة كبيرة جداً، وجدوا كلمة ( الإرهاب ) فقالوا: أنتم إذاً أنتم إرهابيون.
 والله أيها الإخوة الكرام، لو تعمقتم في معنى هذه الآية لوجدتم أن هذه الآية تمنع الإرهاب، قال الله لك:

 

 

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 معك سلاح نووي فلا تفكر دولة أن تتجاوز حدودها معك، لا تفكر دولة أن تقاتلك، لا تفكر دولة أن تتآمر عليك، لا تفكر دولة أن تدنس المصحف الذي لك، لا تفكر دولة أن تتهجم على قرآنك، تخاف منك، أما البلد الضعيف فيتفننون بانتقادنا، ويتفننون بإذلالنا، فكل ما يجري أن البلاد الضعيفة ليس معها سلاح قوي، أما لو وجد سلاح قوي بربكم من مئة سنة الدولة التي عندها سلاح نووي هل استخدمته ؟ لا، لذلك أن تعد لأعدائك ما تستطيع من قوة هذا يلغي القتل، أنت حقنت الدماء بهذا العمل، وألغيت الحروب، وألغيت العدوان، وألغيت التطاول، وألغيت الاستفزاز كله، هذا إذا كنت قوياً، وإذا كنت ضعيفاً يتفنن العدو بإذلالك واستفزازك.
 امرأة تخطب في كنيسة في أمريكة، وبعض القادة العرب بمؤتمر قمة قال: هذه أيضاً حائض، أي ليست طاهرة، ويوجد خمسون مصلٍّ، وخمسون مندوب فضائية، هذا موضوع إعلامي فقط، موضوع استفزازي أن المرأة التي لا تجب عليها صلاة الجمعة إطلاقاً تخطب وتؤم الرجال، أليس هذا استفزازاً ؟ استفزاز إعلامي فقط، والمصحف دنس كما سمعتم، لو كنا أقوياء لما كان يجرؤ أحد أن يفعل هذا معنا، الآن عندما ضعفنا صار هناك تطاول، بالمقابل صار هناك سفك دماء، فلو كنت قوياً لحقنتَ الدماء، لو كنت قوياً لألغيت الإرهاب، وأُلغي أن يقع عليك إرهاب، وأن تدفع شبابك إلى أن يُتّهموا أنهم إرهابيون، ما هذه الآية ؟

 

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

 

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 والله زارني أخ من الهند، قال لي: في الهند تسعمئة مليون، منهم تسعون مليون مسلم، أقسم لي بالله وهو الرجل الثاني مع أكبر عالم مسلم بالهند، هذا العالم المسلم درس في دمشق فزارنا، وأنا التقيت معه على طعام، قال لي: تسعون مليون مسلم بالهند مضطهدون، قال لي: يوم طورت الباكستان سلاحاً، وأصبحت دولة نووية، والله قُلِبتْ معاملة المسؤولين للمسلمين مئة وثمانين درجة إكراماً، صار هناك دولة جارة معها سلاح نووي.

 

﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 إخوانا الكرام، أقول لكم هذه الكلمة: السلاح قد لا تستخدمه أبداً، لكن لمجرد أن عندك سلاحًا خطيرًا العالم كله يهابك، والعالم كله لا يفكر أن يعتدي عليك، ولا أن يستفزك، ولا أن ينشأ من استفزازه حركة طائشة للشباب تتهم بالإرهاب، كل هذا ينتهي، هل رأيت الآية:

 

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾

 

[ سورة الأنفال: الآية 60]

 فنحن إن كنا أقوياء نمنع الإرهاب عنا، ولا نقبل تهديدًا أساساً، لا نقبل وعيداً، لا نقبل مقاطعة اقتصادية، لا نقبلها، لكن الضعيف يجب أن يتحمل، لذلك هذه الآية التي قالها الله عز وجل هي الحل، وكنت أقول لكم دائماً: إن الإنسان عليه جهاد النفس والهوى، وعليه جهاد دعوي، وعليه جهاد بنائي، فإذا نجح بجهاد النفس والهوى والجهاد الدعوي والبنائي يُنتظر أن ينجح في الجهاد القتالي.
إذاً نعود إلى كلام أبي الدرداء رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: << يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم، الذرة من صاحب تقوى أفضل من أمثال الجبال عبادة من المغترين >>.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " هذا من جواهر الكلام وأدلّه على كمال فقه الصحابة، وتقدّمهم على مَن بعدهم في كل خير، رضي الله عنهم ".

 

منازل السير إلى الله تُقطع بعلو الهمة والإخلاص في العمل القليل

 

 

 وقال: " فاعلم أن العبد إنما قطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، الدليل:

﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾

[ سورة الحج: الآية 32]

 إنها تقوى القلوب لا تقوى الجوارح.
وقال تعالى:

 

﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾

و قال عليه الصلاة و السلام:

 

 

(( التَّقْوَى هَاهُنَا، وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ))

 

[مسلم عن أبي هريرة]

 قال: " فالكيس يقطع من المسافة ـ أي المسافة إلى الله ـ بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعَاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير، والتقدم و السبق إلى الله سبحانه و تعالى إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه على صاحب العمل مع كثرة حركته ".
 أنت بصراحة إذا رأيت شخصًا جالسًا في دكانه، وعقَد صفقة ربح منها مليون، وداوم ساعة من الزمن، والثاني يفتح المحل ثماني عشرة ساعة ويربح ألف ليرة، الأول في دقائق ربح مليونًا، والثاني في ثماني عشرة ساعة ربح ألف ليرة، فالعبرة ليست بالوقت، ولا بالحركة، ولا بالضجيج، العبرة بالإنجاز، فكلما ازداد إيمانك، وتعمق إيمانك، وتعرفت إلى الله عز وجل، وسلمت نيتك، وسما هدفك كان العمل البسيط يعدل عند الله العمل الكثير.
قال: " فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله ".
لو فرضنا أن الكيس أيضاً أقام عبادات و نوافل كثيرة سبق الثاني بآلاف المراحل.
 مثلاً النبي عليه الصلاة والسلام هو سيد الخلق، وحبيب الحق، هو المشرّع، شرع لك الصلوات والنوافل والعبادات، هذا أعلى شيء يوصلك إلى أعلى مرتبة، فلما تخترع عبادات لا أصل لها في الدين بنية أن تزداد قرباً من الله فقد اتهمت النبي بالقصور، ومنهج رسول الله كامل يوصلك لأعلى مقام، أنت لست مضطراً أن تخترع عبادات كي تنال أكثر، النبي e حريص على أمته، والنبي عليه الصلاة والسلام أعطى منهجاً متوازناً، فأنت لا تحتاج منهج آخر.

 

منهج النبي e في السير إلى الله كامل لا يحتاج إلى زيادة

 

 

 يوجد كثير من الحلقات يخترعون فيها عبادات، تقرأ الإخلاص ثمانين مرة، وهذه سبعين، وهذه خمسًا وثمانين، كلها أشياء لم ترِد في السنة، يخترعون مناهج لم ترِد عند النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي e منهجه كامل، ومنهجه يوصلك إلى أعلى مرتبة عند الله، لا تحتاج إلى شيء آخر.
مرة أراد شخص أن يحرِم قبل الميقات، فقال له أحد الصحابة: لا تفعل، قال له: هي عبادة، قال له: تُفتن، قال له: كيف أفتن ؟ قال له: وهل من فتنة أشد من أن ترى نفسك سبقتَ رسول الله .
 في بلد إسلامي جماعة لا يتزوجون، وهذا خطأ كبير، الزواج سنة، الزواج لا يتناقض مع تفوقك عند الله عز وجل، وقد ترقى إلى أعلى المراتب وأنت متزوج، هذه زوجة، لك أجر بالزواج منها، حصنت فتاة، أقمت أسرة، أنجبت أطفالاً، سيدنا عمر يقول: << واللهِ إني أقوم إلى زوجتي وما بي من شهوة إلا ابتغاء ولد صالح ينفع الناس من بعدي >>.
هناك هدف نبيل عندما تربي طفلاً تربية إسلامية، وتفرزه للمجتمع عنصراً كاملاً كريم الأخلاق، معطاء، منضبطاً، عنده حياء، عنده خجل، عنده ورع، وأنت قد خدمت الأمة.
 أنا حينما أستمع إلى قول النبي الكريم:

(( تناكحوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ))

  واللهِ لا أصدق ثانية واحدة أن النبي الكريم e يريد أن يتباهى بعدد أمته فقط، أحياناً تجد طفلاً يتكلم كلاماً تستحي أن تسمعه وحدك، يتكلم في العورات، وهو طالب ابتدائي، من أين استقى هذه الكلمات ؟ البيئة سيئة جداً، بيئة الأسرة سيئة، المدرسة سيئة، فالنبي e يتباهى بعدد فقط ؟ بأطفال منحرفين ؟ يتباهى بالنوعية، وقد كان أصحاب النبي e الواحد منهم كألف، و الألف منا نحن كأفٍّ.
 قال ابن القيم: " أكمل الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان موفياً كل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى ترم قدماه، ويصوم حتى يقال: لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئاً من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر، والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحداً منهما إلا بصاحبه وقرينه "
نريد قلباً موقناً وجوارح ملتزمة، ومن أدقّ التعريفات الإيمان: " أنه ما وقر في القلب، وأقر به اللسان، وصدقه العمل ".

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور