وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 29 - الذِكر و الشكر-قول سيدنا علي
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، مع فائدة جديدة من فوائد ابن القيم رحمه الله تعالى، وعنوان هذه الفائدة الذكر والشكر.
 بالمناسبة أيها الإخوة الكرام، الذكر أوسع نشاط للمسلم، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ))

[ الترمذي، ابن ماجه، أحمد، مالك]

 إذا قرأت القرآن فأنت ذاكر، وإذا تفكرت في خلق السماوات والأرض فأنت ذاكر، وإذا نصحت مسلماً فأنت ذاكر، وإذا سبحت الله فأنت ذاكر، وإذا استغفرته فأنت ذاكر، وإذا صليت فأنت ذاكر، قال تعالى:

 

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾

 

[ سورة طه ]

 أوسع نشاط هو الذكر، وهناك ذكر تعلمي ذكر تعليمي، ذكر شعائري وذكر عملي، إلى آخره.
 يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
" بُني الدين على قاعدتين: الذكر والشكر "
قال تعالى:

 

﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾

 

[ سورة البقرة ]

 إنك إن ذكرتني شكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني، والذكر في حد ذاته شكر، إنك إن ذكرتني شكرتني، وإذا ما نسيتني كفرتني.
سيدنا رسول الله قال لسيدنا معاذ: والله يا معاذ إني لأحبك، ما قولك في كسب إنسان في الأرض أعلى من هذا الكسب ؟ أن يقول لك سيد الخلق، وحبيب الحق: والله يا معاذ إني لأحبك ؟ لذلك إذا أحبك أهل الإيمان فهذا وسام شرف، أما إذا أحبك أهل الفسق والعصيان فهذه وصمة عار، فاحرص على أن يحبك أهل الحق.
 عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:

 

(( أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي لَأُحِبُّكَ يَا مُعَاذُ، فَقُلْتُ: وَأَنَا أُحِبُّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَدَعْ أَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ: رَبِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ ))

 

[ النسائي، أبو داود ]

 لكن بشكل دقيق كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس المراد بالذكر ذكر اللسان، بل الذكر القلبي اللساني، لأن هناك أناسًا متقدمين في السن في ذكر دائم، لكن ذكر قد لا يتناسب مع السلوك، ذكر دائم، ولكنه دائم التفريق بين الناس، وأحياناً، نقل كلام، وغيبة، ونميمة، وهو يقول: سبحان الله، سبحان الله، ويطلق بصره في الحرام، ويقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، هذا الذكر باللسان فقط لا قيمة له إطلاقاً، هنا ذكر ابن القيم الذكر القلبي اللساني، والذكر يتضمن ذكر أسماء الله الحسنى، وصفاته الفضلى، وذكر أمره ونهيه، وذكره بكلامه، وهذا يستلزم معرفته، والإيمان به، وبصفات الكمال، ونعوت الجلال، والثناء عليه بأنواع المديح، وذلك لا يتم إلا بتوحيده، فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله، ويستلزم ذكر نعمه وآلائه، وإحسانه إلى خلقه.
 أنا أتمنى كما قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( برئ من النفاق مَن أكثرَ مِن ذكر الله ))

 

[الجامع الصغير عن أبي هريرة بسند فيه ضعف]

 ولأن المنافقين أثبت الله لهم أنهم يذكرون الله، ولكنهم لا يذكرون الله إلا قليلا، أما المؤمنون فيذكرون الله ذكراً كثيرا، والآية تقول:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً ﴾

 

[ سورة الأحزاب ]

 ألا تشعر بالتقصير حينما تقرأ هذا الحديث الشريف:

 

(( بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))

 

[البخاري عن عبد الله بن عمرو]

 ألا تشعر بالتقصير حينما تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم:

 

(( مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِغَزْوٍ مَاتَ عَلَى شُعْبَةِ نِفَاقٍ ))

 

[النسائي عن أبي هريرة]

 والجهاد الدعوي جهاد، واللهُ سماه جهادًا كبيرًا، ألا تفكر مرة أن يهتدي إنسان على يديك ؟ ألا تفكر مرة أن تأتي بإنسان إلى مجلس علم ؟ أن تقنع إنساناً بتطبيق طاعة لله عز وجل ؟ إذاً الدعوة إلى الله في حدود ما تعلم، ومع من تعرف فرض عين، والدليل:

﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ﴾

، والتواصي بالحق ربع أركان النجاة.
إنّ الذكر أن تذكر كلامه، أن تقرأ قرآنه، أن تذكر أسماءه الحسنى، وصفاته الفضلى، أن تذكر أمره ونهيه، أن تذكر ما أعد للمؤمنين، وما أعد للكافرين، هذا كله من الذكر، أما الشكر فقال:
" القيام بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران هما جماع الدين ".
لذلك:

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾

[ سورة البقرة ]

﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

 

[ سورة طه ]

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[ سورة طه ]

 والمؤمن الصادق يحب أن يكون من النخبة الذين قال الله عز وجل عنهم:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾

[ سورة الأنعام ]

 " فالشكر هو القيام له بطاعته، والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً، وهذان الأمران جماع الدين، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، ولهذا هما الغاية التي خلق الإنسان من أجلها ".
الحقيقة أن هذه الآية واضحة جداً، قال تعالى:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً﴾

[ سورة النساء ]

 إن شكرتم وآمنتم ما يفعل الله بعذابكم ؟ فأنتم حينما تشكرون، وحينما تؤمنون فقد حققتم الهدف الأكبر من وجودكم، وأيّ إنسان عنده ابن متفوق مهذب من المستحيل أن يكلمه كلمة قاسية.
 والله هناك معنى أيها الإخوة الكرام، لولا أني أخشى أن يفهم على غير ما أردت لفصلت فيه كثيراً، وهو أن خالق الأكوان، رب الأرض والسماء، رب العالمين، مَن بيده كل شيء، كن فيكون، زل فيزول، هذا الإله العظيم الذي ألزم نفسه العلية بالاستقامة ما الدليل ؟ قال تعالى:

﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

[ سورة هود ]

 و( على ) إذا جاءت مع لفظ الجلالة فهي تفيد الإلزام الذاتي، الله ألزم ذاته أن يستقيم مع عباده،

(( يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا ))

[مسلم عن أبي ذر]

 الله عز وجل ألزم ذاته العلية بالاستقامة:

 

﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

 وألزم ذاته العلية برزق العباد، فقال تعالى:

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾

[ سورة هود ]

 وألزم ذاته العلية بهداية العباد، قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾

 

[ سورة الليل ]

 لأن الله ألزم ذاته العلية بالاستقامة، فهذا الإله أنت بيده، أنت بكلمة كن أو زل، كل شيء، صحتك، قلبك، أوعيتك، دماغك، كل أجهزتك، وكل مَن حولك، وكل مَن فوقك، وكل مَن دونك، وكل المواد، وكل المعادن، وكل الحشرات، وكل المخلوقات، ومع ذلك إذا استقمت على أمره فلا  سلطان له عليك، لأنه ألزم نفسه بالاستقامة، الدليل:

 

﴿ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً﴾

 

[ سورة النساء ]

 هناك معنى دقيق جداً: الإله العظيم الذي أنت بيده وقبضته إذا كنت مطيعاً له، ولأنه ألزم ذاته العلية بالاستقامة، وبأن يرزقك، وأن يهديك إليه لا سلطان له عليك ! لذلك النبي قال حديث جامع مانع:

(( لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه ))

[ورد في الأثر]

 واللهِ كأن العلم كله جمع في هاتين الكلمتين:

(( لا يخافن العبد إلا ذنبه، ولا يرجون إلا ربه ))

 الأعداء كثر، لكن العدو الحقيقي هو الذنب، وسبب الذنب هو الجهل، وفي النهاية الجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، وأخطاء الجهل كبيرة جداً، أخطاء مدمرة، والإنسان يرى أحياناً جاهلاً، فالمؤمن لا يحقد عليه، بل يشفق عليه، الآن حركة عشوائية في الظلام فيها أخطاء كبيرة جداً، ترى أسرة، زوجة صالحة تطلَّق لسبب تافه، لأن زوجها تافه، وجاهل، المؤمن يؤتى الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، المؤمن يحول أعداءه إلى أصدقاء، والأحمق الذي لم يؤتى الحكمة يحوّل أقرب الناس له إلى أعداء.
 سيدنا عمير بن وهب كان جالسًا، فقال: واللهِ، لولا أولاد أخشى عليهم العنت من بعدي، ولولا ديون ركبتني ما أطيق سدادها لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، سمع صفوان هذا الكلام، فقال له: أولادك أولادي ما امتد بهم العمر، وديونك علي بلغت ما بلغت، فامض لما أردت، تقلق على شيئين، على أولادك، وعلى ديونك، الديون علي، والأولاد أولادي ما امتد بهم العمر، فسقى سيفه سماً، وركب ناقته، واتجه إلى المدينة ليقتل محمداً e، لكنه مغطى بهدف آخر، أن يفكّ ابنه من الأسر، وصل إلى المدينة، فرآه سيدنا عمر، قال له: ما الذي جاء بكم إلينا ؟ قال: جئت أفك أسر ابني، وقال: هذه السيف التي على عاتقك ؟ قيده بها، وساقه إلى النبي e مقيّدا، وقال للنبي الكريم: هذا عدو الله جاء يريد شراً، النبي الكريم أب للبشرية كلها، وما لم تشعر بمحبة لكل الخلق، وما لم تشعر أن الله أكرمك بالهدى، وأن هؤلاء الذين يعادونك لجهلهم، اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون، فدخل عليه عمر ومعه عمير بهذه الحالة، قال: يا عمر، أطلقه، فك أسره، أطلقه، قال: ابتعد عنه، فابتعد عنه، قال: ادنُ مني يا عمير، قال: سلم علينا، قال: عمت صباحاً، بفظاظة وبجفاء، قال: قل: السلام عليكم، قال: هذا سلامنا، قال: ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال: جئت أفك أسر ابني ؟ قال: وهذه السيف التي على عاتقك ؟ قال: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال: ألم تقل لصفوان: يا صفوان لولا ديون ركبتني لا أطيق سدادها، ولولا أطفال أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت، وقتلت محمداً، وأرحتكم منه، توقف، وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن هذا الذي جرى بيني وبين صفوان لا يعلمه إلا الله، وأنت رسوله، وأسلم.
أجمل شيء قاله سيدنا عمر، وسقت هذه القصة لأبين هذا الموقف، قال: دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إلي منه، وخرج من عنده وهو أحب إلي من بعض أولادي.
ليس هناك عداوة دائمة، المؤمن الصادق لا يكره شخصاً، بل يكره فعله، فإذا رجع إلى الله عز وجل أحبه كأقرب الناس إليه.
الآن صفوان ينتظر الخبر السار الرائع، قتل محمد e، فصار يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة ليتلقى الأخبار السارة عن مقتل محمد عليه الصلاة والسلام، فجاء الخبر الذي لم يحتمله، أن عمير أسلم.
فعظمة النبي e أنه كان يحوّل أعداءه إلى أصدقاء، وأنت كمؤمن ينبغي أن تحب الناس جميعاً، ينبغي أن تتسع بهم.
 سيدنا أبو حنيفة النعمان له جار لا ينام الليل من أجله، مغنٍّ، يبدو أن بيته ملاصق تماماً لبيته، والشاب يحب الغناء، ومعه طنبور، عود، وطوال الليل:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
 فضاق به ذرعاً، وفي أحد الأيام اختفى الصوت، فسأل، فقيل له: ألقي القبض عليه، ذهب بمكانته العلية، وبعلمه الكبير إلى مدير الشرطة مستشفعاً له، طبعاً مجيئه كبير جداً، أطلق سراحه، أركبه وراءه على الدابة، وقال: يا فتى، هل أضعناك ؟ تقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ؟
فبكى هذا الفتى، وقال: والله لا أعود إلى الغناء ما حييت.
مرة قلت هذا في خطبة، قلت: ليت العلماء يتسع صدرهم لشاب زلت قدمه، أولاً يكفرونه، اخرج يا فاسق، يجب أن يتسع الصدر لإنسان قصر، يجب أن يرى الشاب قلباً رحيماً، أفقاً واسعاً، فإن لم تحب الناس فينبغي ألا تدعوهم إلى الله، ينبغي أن تحبهم على عُجرهم وبُجرهم.
أيها الإخوة الكرام، الذكر والشكر هما قوام الإيمان، وأسأل الله لي ولكم النجاة.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور