وضع داكن
08-11-2024
Logo
الدرس : 35 - سورة الأنعام - تفسير الآيتان 97-98 ، الآيات الكونية والقرآنية والتكوينية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة الأنعام .


آيات الله ثلاثة أنواع :


 ومع الآية السابعة والتسعين، وهي قوله تعالى :

﴿  وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(97) ﴾

[ سورة الأنعام ]

 أيها الإخوة الكرام، ينبغي أن نعلم أن كلمة آية تعني علامة، وتعني دلالة، وتعني بياناً، وتعني برهاناً، وآيات الله ثلاثة أنواع: آيات كونية خلقه، وآيات قرآنية كلامه، وآيات تكوينية أفعاله، يمكن أن تعرف الله من آياته التكوينية والكونية والقولية أي القرآن .

 لكن لا بد من ملاحظة: وهي أنك إذا بدأت بمعرفة الله من خلال آياته الكونية فالطريق سالك وآمن، وكلما ازددت تفكراً في خلق السماوات والأرض ازددت تعظيماً لله ومحبة له، لأن كل ما في الكون ينطق بوجود الله، ووحدانيته، وكماله، فإذا ثنّيت بآياته القرآنية تُكشف لك حقائق كثيرة، والآيات القرآنية تتكامل مع الآيات الكونية، كيف ؟

 دخلت إلى جامعة، نظرت إلى أبنيتها، دُهشت لعظمة هذه الأبنية، ولتناسبها مع وظيفتها، قاعات محاضرات، مخابر، جناح لنوم الطلاب، جناح للأساتذة، مدرجات، حدائق كي يستمتع الطلاب، هدوء، مطاعم، أنت تستنبط أن الذي صمم هذه الجامعة مهندس قدير ومتخصص بالجامعات، لكن مهما كنت ذكياً، ومهما أطلت التفكر في هذه الأبنية لا تستطيع أن تعرف النظام الداخلي لهذه الجامعة، ولن تستطيع أن تعرف من هو عميد هذه الكليات، من هو رئيس الجامعة ؟ ما نظامها؟ ما نظام قبول الطلاب فيها؟ ما نظام النجاح والرسوب؟ لهذا لا بد من كتاب. الأبنية، والمخابر، والمدرجات، والحدائق، وأبنية الطلاب، وأبنية المدرسين، والأجواء المحيط بالجامعة، هذه كلها تدلك على أن الذي صممها مهندس قدير، لكن من هو رئيس الجامعة؟ من هم عمداء الكليات؟ ما الأنظمة الداخلية؟ كيف يُقبَل الطلاب؟ كيف يتخرجون؟ هذا شيء لا يمكن إلا أن تأخذه تلقّياً .


لا بدّ من أن تتكامل الآيات الكونية مع الآيات القرآنية :


 إذاً ولله المثل الأعلى، هذا الكون يدل على خالقٍ عظيمٍ، على ربٍّ كريمٍ، على مُسَيِّرٍ حكيمٍ، أسماؤه حسنى، صفاته فضلى، مليار دليل على رحمته، وقدرته، وقوته، وجبروته، وحلمه، ولطفه، لكن لماذا خلقنا؟ هذا لا يأتيك بالتفكر يأتيك بالتلقي ، تقرأ القرآن:

﴿  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)  ﴾

[  سورة الذاريات  ]

 من الذي خلق الكون؟ لا بد له من خالق عظيم، يقول لك القرآن :

﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍۢ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا شَفِيعٍ ۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) ﴾

[ سورة السجدة  ]

 عَلَمٌ على الذات ، شيء جميل .

﴿  إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)  ﴾

 

[ سورة الإنسان  ]

 إذاً لا بد من أن تتكامل آياته الكونية مع آياته القرآنية، فالآيات الكونية تدلك على الله عز وجل، والآيات القرآنية تدلك على سر وجودك، وعلى غاية وجودك، وعلى منهجه، إن الله يحب الصادقين، إن الله يحب المخلصين، إن الله يحب الطائعين .

﴿  وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ(1)  ﴾

[  سورة الهمزة  ]

﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ۦ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) ﴾

[  سورة البقرة  ]


علينا أن نبدأ بآيات الله الكونية ونثني بآياته القرآنية ثم نتفكر في أفعاله :


 لا يُكتفى بالكون، يجب أن نضم مع القرآن الكون، آياته الكونية وآياته القرآنية، الآن أفعاله، لكن أفعاله حقل ألغام، كيف؟ لو بدأت بالتفكر في أفعاله يقفز أمامك مليون سؤال وسؤال، لماذا القهر؟ لماذا الأقوياء والضعفاء؟ لماذا اجتياح الدول القوية للدول الضعيفة؟ لماذا الموت من الجوع في إفريقيا؟ لماذا شح الأمطار؟ لو أنك بدأت بآياته التكوينية لقفز إلى ذهنك مليون سؤال، لذلك أنصح أن تبدأ بآياته الكونية، وتثنّي بآياته القرآنية، ثم تفكر في أفعاله، أنت حينما ترى أمة قوية متغطرسة ترتكب كل الحماقات، وكل المحرمات، وكل الموبقات، وتستعلي، وهي قوية، ويبدو أنها تفعل ما تقول، شيء يحير، تفتح القرآن الكريم :

﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذْنَٰهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) ﴾

[  سورة الأنعام ]

 واضحة : ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾

 أنت حينما ترى فرعون يقتل أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم، ويتفنن في تعذيبهم، وترثي لحال هؤلاء المستضعفين المقهورين، الذين قُتِل أبناؤهم واستُحيت نساؤهم ، ثم تقرأ قوله تعالى :

﴿  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) ﴾

[  سورة القصص  ]


إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق :


 إذاً أيها الإخوة، ابدأ بالتفكر في مخلوقات الله عز وجل، وإياك ثم إياك ثم إياك أن تتفكر بالخالق : 

 كيف يعلم ما سيكون؟ تجاوزت الخط الأحمر، لن تستطيع أن تكشف عدل الله بعقلك إلا بحالة مستحيلة؛ أن يكون لك علم كعلمه، ومادام ليس لك علم كعلمه إذاً تؤمن بعدله من خلال كلامه .

﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا ۚ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) ﴾

[  سورة الكهف  ]

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم ۚ بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا(49) ﴾

[  سورة الإسراء  ]

 لا فتيل، ولا قطمير، ولا نقير، ولا حبة من خردل .

﴿ وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْـًٔا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍۢ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ (47)﴾

[  سورة الأنبياء  ]

 ينبغي أن نبدأ بالتفكر في خلقه أولاً، ونثنّي بقرآنه ثانياً، ثم إذا تفكرنا في أفعاله نعلم أن كل شيء وقع أراده الله، وأن كل شيء أراده الله وقع، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، وأن حكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق، عندئذٍ تستسلم ، فلذلك يقول الله عز وجل : 


أي شيء خلقه الله عز وجل له وظيفتان كبيرتان :


﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ﴾ بالمناسبة أيها الإخوة، وهذا كلام دقيق، أي شيء خلقه الله عز وجل له وظيفتان كبيرتان، الوظيفة الأولى: أن تتعرف إلى الله من خلاله، سواء تفكرت في جسمك، أم في طعامك، أم في شرابك، أم في الجبال، الوديان، السهول، الصحارى، القِفار، البحار، البحيرات، الأنهار، الينابيع، النبات، الأطيار، الأزهار، الأسماك، سواء تفكرت في مخلوقاته أم في ذاتك، وقد قال الله عز وجل :

﴿ سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِىٓ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ (53)﴾

[  سورة فصلت  ]

 فالوظيفة الأولى أن تعرف الله من خلال هذا الذي خلقه لك، هذه الوظيفة الأولى وقد عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : 

((  هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْد ))

[  رواه أبو داود عن قتادة  ]

 يرشدني إلى الله وأنتفع به في دنياي، الخير النفع المادي .

يعني كنت أضرب مثلاً بشكل متكرر، أنه إذا كنت فقيراً لا سمح الله ولا قدر فقراً مُدقِعاً، ولا يتيح لك دخلك أن تلعق لعقة عسل واحدة، وقرأت كتاباً عن العسل، فخشع قلبك لله، وعظّمته على بديع صنعه، ولم تلعق لعقة واحدة، أنت حقّقت الهدف الأكبر من خلق العسل، لأنك تعرّفت إلى الله من خلاله، ولو أكلت عسلاً ما شاء لك أن تأكل، ولم تتفكر في هذا الشفاء للناس كما وصفه الله عز وجل فأنت لم تحقق شيئاً من سبب وجود العسل (هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْد) .

 العالم الغربي حقق الناحية النفعية في كل شيء، والمؤمنون في العالم حققوا الناحية التعرّفية، والدليل أن الله سخر هذا الكون تسخير تعريف وتكريم (هِلالٌ خَيْرٍ وَرُشْد) رشد؛ تعريف، خير؛ تكريم، إن دلّك عليه أكرمك بهذا الشيء، رد فعلك الطبيعي أن تشكره وأن تؤمن به، أو أن تؤمن به وأن تشكره، فإذا آمنت به وشكرته حققت الهدف من وجودك، فإن آمنت به رد فعل التعريف، وإن شكرته رد فعل التكريم ، حققت الهدف من وجودك، وإن حققت الهدف من وجودك تتوقف المعالجة .


ينبغي أن تؤمن بالله من خلال آياته وأن تشكره من خلال نعمائه وإحسانه :


﴿ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنتُمْ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) ﴾

[ سورة النساء  ]

 انتهى كل شيء ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ .

  إذاً أنت بين آيات كونية، وآيات قرآنية، وآيات تكوينية، ابدأ بالكونية، وثنِّ بالقرآنية فهما متكاملان، إن استوعبت الآيات الكونية والقرآنية أمكنك أن تفهم الآيات التكوينية، لا تعترض عندئذٍ على الله، لا تقل: في العالم ظلم، لا تقل: هناك أقوياء وضعفاء، كل هذه الأسئلة التي يطرحها أهل الدنيا البعيدون عن الله عز وجل لا تطرحها أنت ، إذاً : 

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا﴾ هنا يوجد وظيفة محدودة ﴿لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾

  لكن هناك آيات أخرى :

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَآيَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ(13) ﴾

[ سورة الجاثية الآية : 13 ]

 تسخير تعريف وتكريم ، ينبغي أن تؤمن به من خلال آياته ، وينبغي أن تشكره من خلال نعمائه وإحسانه . 

﴿ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ والحقيقة النجوم، يعني ماذا نعلم عن النجوم ؟ بعض الإحصاءات أننا لا نستطيع أن نعد بالعين المجردة أكثر من عشرة آلاف نجم فقط ، بينما عدد المجرات في أحدث موسوعة علمية معتمدة تقريباً ثلاثة آلاف مليار مجرة، وفي كل مجرة مليون ملْيون نجم، فالنجوم التي لا نراها لا تعد ولا تحصى ، لذلك قال تعالى :

﴿  فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) ﴾

[  سورة الجاثية  ]


الجزء الأخير من القرآن الكريم جزء مكي فيه إرشاد إلى التفكر في الكون :


 ذكرت لكم كثيراً أن بعد الأرض عن الشمس مئة وستة وخمسون مليون كم، وأن الشمس تستوعب مليون وثلاثمئة ألف أرض، وأن نجم قلب العقرب يستوعب الشمس والأرض مع المسافة بينهما، والحديث عن النجوم لا ينتهي، وقد قال الله عز وجل :

﴿ قُلِ ٱنظُرُواْ مَاذَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِى ٱلْآيَٰتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍۢ لَّا يُؤْمِنُونَ(101) ﴾

[  سورة يونس  ]

﴿  فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)  ﴾

[  سورة عبس  ]

﴿  فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)  ﴾

[  سورة الطارق  ]

﴿  وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا(2) ﴾

[  سورة الشمس  ]

﴿  وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2) ﴾

[  سورة الفجر  ]

 تقريباً الجزء الأخير من القرآن الكريم جزءٌ مكيٌّ فيه إرشادٌ إلى التفكر في الكون ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي هذا الذي أراد أن يعلم ينتفع من هذه الآيات .


حينما تتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة أي شيء مهما صغر يدلك على الله :


 إخواننا الكرام ، هناك آيات عديدة تحير ، قال تعالى مثلاً :

﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) ﴾

 

[ سورة الزمر  ]

 شيء محير، يا رب، أنا إذا فكرت بهذه الآية أؤمن؟ أم إذا كنت مؤمناً قبلها أنتفع بها ؟ أكثر الآيات: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وقد قال بعض أصحاب النبي الكريم: أوتينا الإيمان قبل القرآن، معنى ذلك أنك حينما تتخذ قراراً بالبحث عن الحقيقة أي شيء مهما صغر يدلّك على الله، بعرة تدل على البعير، وأقدام تدل على المسير، وماء يدل على الغدير، أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدلان على الحكيم الخبير ؟  

 أعرابي راعي إبل قد يهتدي إلى خالق السماوات والأرض من بعرة جمل، ومن غدير ماء، ومن أقدام على الرمال، وإنسان يجلس في أكبر محطة فضائية، أو في أكبر محطة أرضية تتلقى معلومات عن الفضاء بتلسكوبات هي من أعظم ما في العالم اليوم، أو هو على مجهر إلكتروني يرى الخلية بتفاصيلها، إذا أراد هذا الأعرابي راعي الإبل أن يعرف الله، وليس أمامه إلا ماء وأقدام وبعرة يصل إلى الله، وإذا لم يرد هذا الذي في أكبر محطة فضائية، ويرى المجرات العملاقة، ويرى بالمجهر الإلكتروني النُّسج الخَلَوية، فالأول يعرف الله بلا وسائل، والثاني لا يعرفه مع كل هذه الوسائل، لأن طلب الحقيقة يشبه الفيلم في آلة التصوير، فإن لم تطلب الحقيقة قد تلتقط هذه الآلة آلاف الصور الرائعة، لكن لأن صاحب هذه الآلة لم يطلب الحقيقة ليس فيها فيلم تنطبع عليه هذه الحقائق، أما الذي يطلب الحقيقة، ولو كان يملك أصغر آلة أو أقل آلة تعقيداً إنها تنفعه بل ترشده إلى خالقه. 

﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ .

(من نفس واحدة) لها معنيان :

 الآية التي تليها :

﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ(98) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني الآن هناك ستة آلاف مليون، هؤلاء لعلهم قبل خمسين عاماً كانوا ثلاثة آلاف مليون، وقبل كانوا أقل، وأقل، وأقل إلى أن نصل إلى إنسان واحد، كان أصل كل هؤلاء البشر سيدنا آدم، الستة آلاف مليون أصلهم إنسان واحد هو سيدنا آدم، هذا معنى .

 المعنى الثاني: ﴿مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني جسم بالأرض تصميمه، تصميم الدماغ، الأعصاب، القلب، الشرايين، الأُذين، البُطين، الكليتان، المعدة، مسار الأعصاب، مسار الأوعية بدقة بالغة، كل البشر بتصميم واحد، وإلّا لا معنى للطب في العالم، يدرس إنسان الطب في أمريكا، ويطبق الذي قرأه في الصين، ويعرف إلى جانب العصب المعين شريان والفرق بينهما مل واحد، فلو عاد إلى الصين ليطبب مرضاه يجد أن الإنسان الذي شرّحه في أمريكا يجد مثله في الصين، هذه نعمة كبيرة جداً، لولا أن بنية البشر واحدة، وأجهزتهم واحدة، وخصائصهم واحدة، وتفاصيل أجهزتهم واحدة، لمَا أمكن أن يُستَخدم علم في مكان في مكان آخر .

إذاً: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ تجد غير التشريح، هناك الفيزيولوجيا، كل جهاز له خصائص، يعني الكلية مثلاً لو أن الضغط ارتفع لها موقف، الضغط قل لها موقف، الملح زاد لها موقف، مصممة على برامج معقدة جداً، المعدة كذلك مصممة على برامج معقدة جداً، هناك إقياء، وأحياناً في حالات معينة عدم قبول الطعام، وهناك سعال، وتثاؤب، وبكاء، يعني هناك خصائص في الجسم، القلب له خصائص يتسرع من ثمانين إلى مئة وثمانين، وهناك أمر يأتي من ذاته، أمر للثمانين من ذاته، وأمر للمئة والثمانين يأتيه من الدماغ عن طريق الكظر إلى القلب، قد يُعقد مؤتمر لأمراض القلب يقول لك: أكثر من خمسة وعشرين ألف طبيب حضر من أنحاء العالم ليستمعوا إلى مئات المحاضرات، حول القلب فقط، القلب مُجهز بجاهزية عالية جداً، يُسَد أحد شرايينه، ينشأ شُرينات قد تصل إلى عشرة أحياناً، مجموع أقطارها تساوي قطر الشريان المنسد، من صمم ذلك ؟ شيء لا يصدق .

 تمشي في الطريق تستمع إلى بوق سيارة، من يصدق أن في الدماغ جهاز يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين؟ صوت البوق دخل إلى هذه الأذن قبل هذه الأذن، التفاضل واحد على(1620) جزءاً من الثانية، الجهاز بالدماغ يحسب ذلك، يُصدِر أمراً بالحركة إلى اليمين، لأن البوق جاء من اليسار ، جهاز بالغ التعقيد .


خصائص النفس واحدة تحب الكمال والنوال والجمال :


 إذاً أيها الإخوة ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ الآن هذا الجسم بتشريحه، وبالفيزيولوجيا التي تنطبق عليه، يعني خصائص الأجهزة، وخصائص الأنسجة، أن القرنية تتغذى بالحلول غير القرنية بالشعريات، تفاصيل طويلة جداً، هذا الجسم بالغ الدقة مشابه لكل إنسان، الآن نفس الإنسان النفس الواحدة : 

 خصائص النفس واحدة تحب الكمال، تحب النوال، تحب الجمال، تحب أن تكون متفوقة، تحب المحسن، تكره المسيء، تحب التعاون، لها فطرة، ولها جِبلِّة، ولها صِبغة، ولها طبع، من صمم هذا كله؟ الله عز وجل . 

﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ﴾ نحن جميعاً كنا مستقرين في ظهر أبينا آدم، ثم انتقلنا من نسل إلى نسل، حتى استقرينا في أجهزة آبائنا، ثم في أرحام أمهاتنا، ثم أصبحنا على الأرض مستقرين، ثم نُقلنا إلى المستودع ؛ القبر، القبر مستودع، مات، إلى القبر ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ والاستقرار أنواع ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ﴾ والاستقرار أنواع كثيرة، قد تستقر على أرض، ثم يُنقَل هذا الإنسان إلى مستودع ليستقر ثانية إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفذ عذابها ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ .

 هناك معنى آخر لمستودع: أنت في الشام، وقد يكون غذاؤك مستودعه في درعا، الخبز الذي تأكله مستودعه هناك، والفاكهة في المكان الفلاني، لك مستقر ولك مستودع يمدك بالغذاء ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ .


الإيمان بأن الله هو الرزاق يدفعك إلى طاعته :


﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ كنت أقول: لو دخلنا إلى بستان في منطقة خارج دمشق، مزروع بالتفاح مثلاً، البستان الخامس على اليمين، الشجرة السابعة، الغصن الثالث، التفاحة الرابعة، هذه لك، لك أن تأكلها هدية، ولك أن تأكلها ضيافة، ولك أن تأكلها شراء، ولك أن تأكلها لا سمح الله ولا قدر سرقة، ولك أن تأكلها تسولاً، طريقة وصولها إليك باختيارك ، أما هي لك ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ 

﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَىْءٍۢ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ﴾

[  سورة الروم  ]

 إخواننا الكرام، على رؤوس جبال هملايا يوجد ينابيع ماء، معنى ذلك أن هناك قمم أعلى منها مستودعات للماء كي يشرب الوعول في هذه الارتفاعات الشاهقة الماء ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ .

  في بعض البلاد أذكر سبعة آلاف جزيرة ، ثم أنبئت أن الرقم أكبر بكثير، لكل جزيرة نبع ماء عذب ﴿ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ﴾ 

 أيها الإخوة ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ بُنيةً، ووظائف، وخصائص ﴿فَمُسْتَقَرٌّ﴾  بكل مرحلة كنا مستقرين في مكان ، وفي النهاية ننتقل إلى المستودع وهو القبر ، ثم لنستقر إما في جنة يدوم نعيمها ، أو نار لا ينفذ عذابها ، لا سمح الله ولا قدر .

 الشيء الآخر، أن المستقر في مكان، وقد يكون مستودع غذائك في مكان آخر ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ﴾ والرزق لك ، وقد ورد في بعض الأحاديث النبوية قول النبي صلى الله عليه وسلم : 

((  إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله عباد الله ، وأجملوا في الطلب واستجملوا مهنكم  ))

[  رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة  ]

 لا تقبل حرفة لا ترضي الله، لأن الذي لك هو لك ولن يكون لغيرك، والذي ليس لك لن يكون لك، الإيمان بأن الله هو الرزاق يدفعك إلى طاعته لا إلى معصيته من أجل الرزق، وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذا الدرس .


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين. 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور