- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثلاثين من دروس سورة الأنعام .
من لوازم كمال الله سبحانه هداية خلقه :
ومع الآية الثامنة والثمانين، وهي قوله تعالى :
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(88)﴾
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12)﴾
أي تولّى بذاته العلية هداية خلقه، وكلمة (على) مع لفظ الجلالة تعني أن الله ألزم نفسه إلزاماً ذاتياً أن يهدي عباده، وحينما تعتقد أن الله لا يهدي عباده، ولا ينزّل على رسله الكتب، ولا يرسل الأنبياء إنك لا تعرفه إطلاقاً، فمن لوازم كماله هداية خلقه .
بشكل مُبسّط: أب جالس، ابنه الصغير يقترب من المدفأة، هل يبقى ساكتاً؟ يتحرك، ينبه، يحذر فإن لم يستجب قام من مجلسه، وأمسك ابنه، وأبعده عن المدفأة، هذا الحد الأدنى من لوازم الأب الرحيم .
فمجرد أن تتوهم أن الله يبقي عباده من دون إرشاد، أو توجيه، أو تعريف، أو هداية فأنت لا تعرف الله، وبعد قليل تأتي الآية الكريمة :
﴿
الله عز وجل لا يبين لك الهدف يبين لك الطريق إلى الهدف :
حينما تقول:
﴿
قال علماء التفسير: وعلى الله بيان سبيل القصد، الآن الله عز وجل لا يبين لك الهدف، يبين لك الطريق إلى الهدف
إذاً: هناك من تسأله: لمَ لا تصلي؟ لمَ لا تستقيم؟ يقول لك بسذاجةٍ ما بعدها سذاجة: لم يهدنِي الله بعد، الجواب: الله عز وجل هداك وانتهى الأمر، بقي أن تستجيب .
إذاعةٌ تبثّ برامجها على أمواج الأثير، ومعك جهاز استقبال، أنت مُكلَّف أن تحرك مؤشر هذا الجهاز إلى المحطة، فإن لم تفعل فالذنب ذنبك، وأنت المقصِّر، وأنت المسؤول، البث مستمر، بقي أن تتلقى هذا البث .
الهداية مستمرة، الله عز وجل هداك بهذا الكون، كل شيء في الكون ينطق بوجود الله ، ووحدانيته، وكماله، وهداك بهذا القرآن، وهداك بالنبي العدنان، وهداك بالدعاة المخلصين، وهداك بالمعالجة النفسية؛ بين ضيقٍ، بين كآبةٍ، بين انشراحٍ، بين تفاؤلٍ، وهداك بأفعاله، إن أحسنت دعمك بمكافئة، وإن أسأت نبّهك بعقوبة، فيهديك بخلقه، ويهديك بكلامه، ويهديك بنبيه، ويهديك بالعلماء الصادقين، ويهديك نفسياً، ويهديك بأفعاله، تقول: حتى يهديني الله، الله هدايته مستمرة، بقي أن تستجيب، والآية :
﴿
الطريق إلى معرفة الله التفكر في خلق الله :
إذاً
﴿
الطريق إلى معرفة الله التفكر في خلق الله، هذا دليل قوي جداً.
في آيات كثيرة جداً، على كلٍ لو أن هناك ألف آية يُشَم منها رائحة الجبر، وهناك آية واحدة مُحكَمة تنطق بالاختيار، كل الآيات المتشابهات تُحمَل على هذه الآية المُحكمة، هذه قاعدة أصولية، حينما يقول الله عز وجل :
﴿
قال علماء التفسير: هذه الآية أصلٌ في أن الإنسان مُخير، أيّة آية يُشمّ منها رائحة الجبر تُحمَل على هذه الآية، يهدي به من عباده من يشاء الهداية، تريد أن تهتدي الهدى جاهز، تريد أن تعصي المعصية جاهزة، أنت مخير افعل ما تشاء .
في اللحظة التي تتوهم فيها أنك مسير في كل شيء وقعت في خطأ قاتل :
قال تعالى :
﴿
﴿ وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً(3)﴾
ففي اللحظة التي تتوهّم فيها أنك مُسيَّر في كل شيء وقعت في خطأ قاتل، عندئذٍ لا معنى لا للجنة، ولا للنار، ولا للثواب، ولا للعقاب، ولا للأمانة، ولا للتكليف، ولا للمسؤولية، وكل ما في الدين يصبح تمثيلية سمجة .
أحياناً يُعلن عن مسابقة، ويتقدم المئات، وتُؤلف لجان لفحص المتسابقين فحصاً تحريريّاً، وفحصاً شفهيّاً، وقدرات ذكاء، وقدرات عامة ، وخاصة ، والذي سوف يُقبل معروف سلفاً قبل إجراء المسابقة، أليست هذه تمثيلية سمجة !
أيعقل أن خالق الأكوان، مبدع الإنسان، خلقه كافراً وقدَّر عليه الكفر؟ وقدر عليه المعصية، ثم يرسل له الأنبياء والمرسلين، وينزل الكتب، ويدعوه إلى الهدى والإيمان، كلام لا معنى له .
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إيّاك إياك أن تبتل في الماء
***
الإنسان مسير ومخير :
كمال الله عز وجل يفوق الخيال .
﴿ ذَٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِمَا كَفَرُواْ ۖ
(( اعملوا فكل ميسر لما خلق له ))
يسّر لك زماناً معيناً، مكاناً معيناً، أباً معيناً، أماً معينة، جنساً معيناً، هذا الذي اختاره الله لك هو أقرب شيء لمصلحة آخرتك، لذلك ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني، هذه واحدة، أما حينما كلفك فأنت مخير، كلفك أن تكون صادقاً، وأميناً، وعفيفاً، وكلفك بالصلاة، والصيام ، والحج ، والزكاة ، وكلفك بغض البصر، وكلفك بالنطق بالحق، ونهاك عن الغيبة ، والنميمة ، والبهتان ، وقول الزور ، ونهاك أن تؤذي إنساناً بكلمة أو بتصرف، فهناك أوامر وهناك منهيات، أنت في هذا النطاق مخير، بالتعبير الدقيق مخير فيما كلفت به .
هناك تفسير ثانٍ: لو أن إنساناً اختار أن يؤذي المسلمين، ذكي جداً، معه وسائل عالية جداً، وغش المسلمين، النقطة الدقيقة جداً الله عز وجل رب، والرب يختلف عن السيد، لو كنت صاحب مؤسسة تجارية وعينت موظفاً، وكلفت إنساناً أن يراقبه، يراقب دوامه، يحصي عليه أخطاءه، لكن لا يتعاطف معه، فالمهمة الأولى أن تسجل عليه أخطاءه، فإذا بلغت حداً غير مطلوب فصلته، لو أن ابنك داوم يوماً بالمؤسسة هل يصبح هدفك أن تسجل أخطاءه؟ لا، تعالجه واحدة وَاحدة، كلما أخطأ تنبهه .
الله تعالى يسيّر عبده ليؤدبه :
فالله عز وجل سيّرك لأفضل ما يناسبك ثم خيّرك، الآن لو اخترت اختياراً خاطئاً يسلب منك اختيارك ويسيّرك ليؤدبك.
هناك تسيير ثان، التسيير الأول: هيأ لك أفضل ظرف، وخصائص، ومواصفات كي تكون من أهل الجنة، ثم خيرك، لو أسأت الاختيار يعالجك في الدنيا .
﴿
فأنت تقع في التسيير الثاني، مهما كنت ذكياً، مهما كنت عاقلاً، مهما تراكمت خبراتك، حينما تقتضي حكمة الله تأديبك ويأخذ منك خبرتك، ويأخذ منك علمك، وتتورط في عمل تدفع ثمنه باهظاً، هذا التسيير الثاني .
أول تسيير لصالحك، ثاني تسيير كي يربّيك، فأذكى الأذكياء يرتكب أكبر حماقة أحياناً، حينما يرتكب هذه الحماقة يُساق له عذاب أليم كي يلفت الله نظره إلى معصية كبيرة .
إذاً الله عز وجل رب العالمين، تذكر مثل ابنك بالمؤسسة، ليس الموضوع تسجيل أخطائه، الموضوع محاسبته عن كل خطأ على حِدى، فوراً، فكلما علا مقامك عند الله جاء التأديب سريعاً، إذا أحب الله عبده ابتلاه، وكلما ضعف إيمانك جاء التأديب متأخراً إلى أن تتراكم الذنوب، فيأتي تأديب قد لا تحتمله.
أنواع المصائب :
فلذلك إذا أحب الله عبده ابتلاه ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)﴾
إذاً: مصائب المؤمن مصائب دفعٍ ومصائب رفعٍ، مصائب العاصي والكافر مصائب قصمٍ أو مصائب ردعٍ، مصائب الأنبياء مصائب كشفٍ، ينطوي على حقيقة إنسانية باهرة لا تظهر إلا في الظروف الصعبة، الأنبياء مصائبهم مصائب كشف، المؤمنون مصائب دفع أو رفع، العصاة مصائب تأديب، الكفار مصائب قصم، يعني ما كل مصيبة تشبه أختها.
أوضح مثل أردده كثيراً: ركبت قطاراً من دمشق إلى حلب، ولك في هذه المدينة مبلغ كبير جداً، ما عليك إلا أن تذهب إليها كي تأخذ المبلغ، قد ترتكب أخطاء كثيرة في القطار، قد تقطع بطاقة من الدرجة الأولى، وتجلس في الدرجة الثالثة، هذا خطأ كبير، لكن القطار يمشي باتجاه حلب، قد تجلس مع شباب ليسوا لبقين وتنزعج منهم انزعاجاً شديداً، هذا خطأ ثان، لكن الطريق متجه إلى حلب، قد تتلوى من الجوع ولا تعلم أن في القطار مطعماً، هذا خطأ ثالث، لكن القطار يتجه إلى حلب، قد تجلس بعكس القطار تُصاب بالدوار، هذا خطأ رابع، لكن القطار متجه إلى حلب، هذه أخطاء المؤمن ، لكن القطار باتجاهه إلى حلب والقبض جاهز، أما الخطأ الذي لا يُغفَر فأن يكون التوجه إلى حلب والقبض في حلب وأن تركب قطار درعا، القطار فخم لكن ما فيه شيء .
الشرك ذنب لا يُغفَر :
الشرك أن تتجه لغير الله، لا يستطيع أن يعطيك، ولا يحميك، ولا يسعدك، ولا يحفظك، ولا يغنيك، ولا يرفعك، لا يفعل شيء، فلذلك الشرك ذنب لا يُغفَر، ليس معنى لا يُغفَر قسوة لا ، لا يُغفَر تحصيل حاصل .
إنسان يتلوى من ألم الزائدة الدودية ، الطريق المناسب إلى المستشفى، ولو اتجه إلى مقصف، في هذا خطأ كبير، أخي نحن نرفض أن نعالجه، لا، لا ترفض، المحل الذي يذهب إليه ليس فيه معالجة، ليس موضوع رفض، المكان الذي سيذهب إليه فيه مطعم، فيه أكل، ليس فيه مستشفى ، وليس فيه فتح بطن، وليس فيه مخدر ، وليس فيه طبيب جراح ، فإذا قلنا : نحن لا نعالج إنساناً معه التهاب زائدة إذا توجه إلى المقصف ، طبعاً المقصف ما فيه مستشفى، فأنت حينما تتجه اتجاهاً خاطئاً لا تجد شيئاً، أما إذا اتجهت إلى الله فعنده كل شيء، عنده سلامتك، وعنده سعادتك، وعنده توفيقك، وعنده سرورك، وعنده كل شيء، لذلك الإنسان في بعض المناجاة يقول: يا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟ وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟
الآن فهمنا معنى قوله تعالى :
﴿
ليس قسوة، هناك تعبير أصولي تحصيل حاصل، أنت اتجهت إلى لا شيء، لن تجد شيئاً، ليس موضوع حرمان، لا، موضوع أن هذا المكان الذي اتجهت إليه ليس فيه شيء.
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
العبرة أن تختار هدفاً أكبر من طاقاتك :
قال تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
إخواننا الكرام، يوجد حقيقة أتمنى أن تكون واضحة عندكم، أحياناً الإنسان وهو شاب يطمح بزوجة معينة، ذات شكل معين، يعيش بالأحلام، يطمح ببيت نمطه حديث، ليس فيه جدران أبداً، مثلاً يطمح بمركبة من مستوى معين، بوظيفة معينة، ما دامت هذه الأحلام لم يصل إليها يمكن أن يكون سعيداً تجاوزاً، متى يبدأ شقاؤه؟ إذا بلغ هذه الأهداف كلها، تَعَيَّن بوظيفة، واشترى بيتاً، وتزوج، وعنده هذه المركبة، ختمهم، أحاط بهم، بدأ يشعر بالفراغ .
إخواننا الكرام، أنت مصمم لأهداف لا نهائية، حينما تختار أهدافاً نهائية محدودة تشقى بها، الآن سبب شقاء العالم الغربي أنه وصل إلى قمة الرفاهية، حياة مملة جداً كل شيء ميسر بأعلى درجة، نظام صارم مستحيل أن تخالفه، يعني أنت لا بد أن تسافر، وأنت بأقصى الغرب، وبينك وبين الشرق خمس ساعات بالطيران، ترسل بريداً إلكترونياً أن هيئوا لي جواز سفر بالمطار، تأتي بعد ساعة تجد الجواز جاهزاً، ما من مشكلة .
كنت في بلد، الثلاجة فيها حساسات الكترونية، كمية البيض لو قلّت البراد فيه إنترنت، يتصل بالسوبر ماركت، يعطي رقم البطاقة المالية لصاحب البيت، يُطرق الباب تأتي الكمية الناقصة، يعني كل نواقص الثلاجة تأتي آلياً للبيت، حياة لا معنى لها، تصبح مملة .
تجلس مع إنسان بلغ كل أهدافه، الجلسة معه لا تطاق، كل شيء أمّنه، ما لها معنى السيارة عنده، ولا البيت الفخم، ولا الطعام الطيب، كله تناوله، أما إنسان له هدف كبير يبقى شاب في الثامنة والتسعين، شاب، ما من إنسان يشيخ مؤمناً، هدفه الله ، مهما سعى لا يزال أمامه الكثير، العبرة أن تختار هدفاً أكبر من طاقاتك، أنت في شباب دائم ، لا تشعر بالفراغ أبداً ، في ذهن المؤمن مشاريع لا يعلمها إلا الله لو كان اليوم مئة ساعة ، كله ممتلئ .
الإنسان مصمم ليعرف الله فإذا وضع هدفاً صغيراً يشقى به :
لذلك أيها الإخوة، ما لم تختر هدفا كبيراً فأنت شقي، حينما تختار هدفاً صغيراً إذا بلغته بدأت المتاعب، بدأ الملل، بدأ السأم، بدأ الضجر، بدأ التأفف، لذلك العالم الغربي لما بلغوا كل أهدافهم انحرفوا، لا ترضيه زوجته، يبحث عن متعة أخرى، وقد تكون شاذة ، أكثر أسباب الشذوذ هو الملل، لأن هدفه المادي حققه، حينما تذهب إلى الشرق والغرب تجد نموذج إنسان ليس له هدف، ولا رسالة، له هدف طبعاً مادي، قصر فخم جداً، لا بد من عدة مركبات، مركبة للعائلة، للنزهات، لكل فرد بالأسرة مركبة بحسب رغبته، قارب سياحي فخم جداً، هذا مرفوع على عجلات للعُطل، طيران شراعي يمارس فيه هواياته في العطل، لكن بعد حين كله يمل منه، لأن الإنسان مُصمم ليعرف الله ، فإذا وضع هدفاً صغيراً يشقى به، أنت حينما تضع هدفاً كبيراً تبقى شاباً طوال حياتك، معقول من إنسان يبدأ بالتدريس في الثامنة عشر ويموت في الثامنة والتسعين وهو يُدَرِّس! وكان إذا رأى شاباً يقول له: يا بني أنت تلميذي، وكان أبوك تلميذي، وكان جدك تلميذي ، وهو منتصب القامة ، حاد البصر، مرهف السمع، أسنانه في فمه ، يُقال له: يا سيدي ما هذه الصحة ؟! يقول: يا بني ،
ابحث عن هدف كبير، أمور الدنيا تأتي وهي راغمة، والله في حديث قدسي لا يوزن بالدنيا :
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ))
تجد إنساناً لا هم له إلا أن يشتري بيتاً، فقط ، أنا لست ضد شراء البيت، البيت مأوى، لكن ما له هم ثان إطلاقاً، لا يفكر بشيء، يشتري بيتاً، يكدح ثلاثين أو أربعين سنة ويأخذ بيتاً تقدر مساحته بستين متراً، شمالي، قبو، الله خلقك لهذا؟
قد يسكن إنسان بيتاً ستين متراً، وشمالياً، وقبواً، لكن يعيش بجنة، إذا كان لك هدف كبير فأنت في جنة.
أنواع الإحباط :
يقول بعض العلماء: ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، فماذا يفعلوا أعدائي بي ؟ بستاني في صدري، له قول آخر:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46)﴾
(( إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَومَ القِيامَةِ عليه رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ قاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العِلْمَ، وعَلَّمَهُ وقَرَأَ القُرْآنَ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: تَعَلَّمْتُ العِلْمَ، وعَلَّمْتُهُ وقَرَأْتُ فِيكَ القُرْآنَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرْآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النَّارِ، ورَجُلٌ وسَّعَ اللَّهُ عليه، وأَعْطاهُ مِن أصْنافِ المالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ به فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قالَ: فَما عَمِلْتَ فيها؟ قالَ: ما تَرَكْتُ مِن سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فيها إلَّا أنْفَقْتُ فيها لَكَ، قالَ: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقالَ: هو جَوادٌ، فقَدْ قيلَ، ثُمَّ أُمِرَ به فَسُحِبَ علَى وجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ في النَّارِ. ))
أحياناً دواء ثمنه ثلاثة آلاف، له صلاحية، مضت هذه المدة، ما بقي له قيمة، أحياناً معرفة لكن بعد فوات الأوان، دخلت الامتحان ما أجبت ولا بكلمة، الورقة بيضاء، عدت إلى البيت، قرأت البحث فهمته، لكن متى ؟ بعد فوات الأوان، حبط عمله، يعني سقط عمله ، يعني سقطت قيمة عمله، فالعمل إما أن يكون سيئاً وإما أن يكون عملاً إنسانياً مقبولاً ولكن النوايا ليست طيبة .
مقام النبوة اتصال دائم بالله أما المؤمن فساعة وساعة :
لذلك أيها الإخوة الآية الدقيقة :
﴿
أليس القرآن بليغاً وموجزاً، لمَ لم يقل الله عز وجل: ربي اجعلني صادقاً وانتهى الأمر؟ لا، الدخول قد يكون صادقاً، لكن الخروج ليس صادقاً، فالبطولة أن تدخل صادقاً وأن تخرج صادقاً، يعني الصعود للقمة صعب جداً لكن السقوط منها سهل جداً، الإنسان إذا بلغ القمة بطولته ليس في بلوغها ولكن في البقاء فيها، لهذا لما فتح عليه الصلاة والسلام مكة دخلها مطأطئ الرأس، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره.
﴿
هؤلاء الأنبياء العظام
إذاً مقام النبوة اتصال دائم بالله، نحن كمؤمنين ساعة وساعة.
المؤمن وكيل عن الله :
المؤمن ساعة وساعة، أي ساعة تألق ساعة فتور،
﴿ هَٰٓأَنتُمْ هَٰٓؤُلَآءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِۦ ۚ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ ۚ
لا تمنّ على الله، إن مننت عليه يستبدل بك إنساناً آخر، أنت بعمل صالح لا تزهد به، لا تهمله، إن أهملته أقصاك الله عنه وجاء بإنسان آخر، أنت بنعمة كبيرة؛ نعمة مجلس العلم، لا تهملها إن أهملتها يأتي من ينتفع به
فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ
المؤمن الصادق قدوته الأنبياء والمرسلون :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)﴾
الأنبياء، الله ذكر الأنبياء جميعاً تقريباً
مثل أنا أستخدمه للتوضيح: يعني لو أن ملكاً طلب من أستاذ لغة عربية أن يعطي ابنه دروساً، الملك ماذا يعطي؟ يعني أقلَّ عطاء أن يعطيه بيتاً وسيارة، فهذا المعلم أفقه ضيق جداً، بعدما انتهى الدرس، قال لهذا الطالب الذي هو ابن الملك: أين الأجرة ؟ قال له: كم ؟ قال : ألف ليرة ، قال : تفضل ، من ضيق أفقه طلب أجرة. فأنت حينما تعرف الله، وتقدم عملاً لوجه الله، ما الذي يهينك ؟ أن تُعطى أجرة .
﴿ وَيَٰقَوْمِ لَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ۖ
علامة إيمانك، وعلامة معرفتك بالله وكرمه، وعلامة معرفتك بالآخرة أن تترفّع عن الأجرة .
علامة الصادقين أنهم لا ينتفعون بالدعوة :
والله هذه الآية دقيقة جداً ، يعني علامة الصادقين أنهم لا ينتفعون بالدعوة
الآن إنسان لا يمكن أن يقدم شيئاً من دون أجر، مادي، يظن أنه ذكي لكن الحقيقة أنه غبي، الذكي الذي لا يسأل أجراً، الذكي المُوفَّق الفالح الناجح العاقل هو الذي يطلب الأجر من الله
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً(9)﴾
بل الذي يزداد عمله بالثناء ويقلّ بعدم الثناء، والذي يزداد عمله بالأجر ويقلّ بلا أجر مادي، وبعيد عن أن يكون وكيلاً عن الله
مرة زارني شخص من ألمانيا ليجري معي دارسة حول علماء دمشق، فلما عرف أن هناك ثمانية عشر درساً في الأسبوع قال لي: كم تأخذ عليها؟ قلت له: لا شيء، اختل توازنه ، لم يدخل في برنامجه إنسان يعطي شيئاً من دون أجر، لم يدخل في برنامجه أبداً، مع أن المؤمن يبني حياته على العطاء، حياته كلها مبنية على العطاء، يعني يأخذ ما يحتاجه فقط، أما الباقي فلخدمة الخلق.
لذلك الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، والأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء عاشوا للناس والأقوياء عاش الناس لهم، فرق كبير، الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، فأنت كتابع للنبي يجب أن يكون كمالك رأسمالك، وأنت كتابع لنبي يجب أن يكون سلاحك لا ما تملك من سلطة بل ما تملك من كمال، يجب أن تملك القلب لا أن تملك الرقبة، يجب أن تعيش للناس لا أن يعيش الناس لك، هذا الحد الأدنى من الإيمان، لذلك مجتمع الإيمان مجتمع فيه جنة، كل إنسان يقدم للآخر ما يحتاج، أما في عالم المادة لا يمكن أن يقدم لك فكرة، ولا كلمة، ولا نصيحة إلا بأجر مسبق، هذا الإنسان يشبه المعلم الذي طلب من ابن الملك الأجر فوراً، خسر البيت الفخم والمركبة وأخذ على الدرس ألف ليرة
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين