- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع والعشرين من دروس سورة الأنعام .
الفرق بين المُلك والملكوت :
ومع الآية الخامسة والسبعين وما بعدها ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) ﴾
فرق كبير بين المُلك والملكوت ، المُلك ما تراه العين ، العين ترى شمساً وقمراً ونجوماً، وترى جبلاً، وبحراً، وسهلاً ، وترى حيواناً ، وترى إنساناً ، وترى طائراً، لكن الملكوت أن ترى ما وراء الطبيعة، أن ترى خالق الكون، أن ترى أسماءه الحسنى، أن ترى صفاته العليا، الملكوت أن تعبر النعمة إلى المنعم، الخَلق إلى الخالق، الحكمة إلى الحكيم، النظام إلى المنظّم، التسيير إلى المُسيّر، أن ترى أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، بيده كل شيء، بيده ملكوت كل شيء، بيده النفع والضر، والموت والحياة ، بيده أن يرفعك أو أن يخفضك، أن يعطيك أو أن يمنعك، أن يُعزك أو أن يُذلك ، حينما تخرق ما تراه عينك إلى ما يراه عقلك تكون قد رأيت جانباً من الملكوت ، قال تعالى :
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِۦ
المؤمن مرتبة جمالية مغموس في سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها :
أيها الإخوة، خروج طفيف على خط الدرس، هناك عبادة ، وهناك علم، العابد مقاومته هشّة، جرّاء أي ضغط يخرق استقامته، العابد مقاومته هشة، جرّاء أي إغراء يفقد اتصاله بالله عز وجل، لكن العالم لا تصرفه عن هدفه لا سياط الجلادين اللاذعة ولا سبائك الذهب اللامعة .
(( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
المؤمن رجل مبدأ، المؤمن رجل قيم ثابتة، المؤمن مرتبة علمية، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً ولو اتخذه لعلّمه، المؤمن مرتبة جمالية مغموس في سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها ، من أدق الآيات التي تعبر عن هذه الحقيقة :
﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى
الأمور واضحة، خلق الكون، خلق السماوات والأرض، حقيقة الكون، حقيقة الحياة الدنيا، حقيقة الإنسان، الإنسان لماذا هو مُكلَّف ؟ لماذا هو مخيَّر ؟ لماذا أودع فيه الشهوات ؟ لماذا منحه العقل ؟ لماذا فطره فطرة عالية ؟ لماذا أعطاه التكليف ؟ لماذا أعطاه التشريع ؟
رحمة الله إذا أتيحت لك فأنت أسعد الناس ولو فقدت كل شيء والعكس صحيح :
(( إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ قالوا: فإنَّكَ تُوَاصِلُ، يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: إنَّكُمْ لَسْتُمْ في ذلكَ مِثْلِي، إنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي، فَاكْلَفُوا مِنَ الأعْمَالِ ما تُطِيقُونَ. وفي رواية: بمِثْلِهِ، غيرَ أنَّهُ قالَ: فَاكْلَفُوا ما لَكُمْ به طَاقَةٌ. ))
رحمة الله إذا حُجبت عنك فأنت أشقى الناس ولو ملكت كل شيء .
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَٰبَ كُلِّ شَىْءٍ
خذوا الدنيا، خذوا الأموال، خذوا الجمال، خذوا البترول، خذوا الثروات، لكن الذي ملأ الله قلبه بالإيمان، وأعطاه الحكمة، وعرف سر وجوده وغاية وجوده، هذا هو الغني الحقيقي، الغنى والفقر بعد العرض على الله، لا يسمى الغني غنياً في الدنيا ولا الفقير فقيراً إلا بعد العرض على الله ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُۥ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍۢ ۚ وَأَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسْتَوَىٰٓ ءَاتَيْنَٰهُ حُكْمًا وَعِلْمًا
الغنى الحقيقي :
إخواننا الكرام، الله أعطى الملك لمن لا يحب، وأعطاه لمن يحب، مادام شيئاً واحداً، أعطاه لمن يحب ولمن لا يحب لا يعد دليلاً على قرب الإنسان إلى الله .
يعني أحياناً إنسان غني يتكلم بسذاجة مضحكة، أنه إذا طاف بلاد الدنيا الله عز وجل يحبه، ويبتدع مقولة ما أنزل الله بها من سلطان: الله إذا أحب عبده أنظره ملكه، سيدنا محمد البحر لم يره، وقبع في أرض صحراوية، لا شيء فيها .
﴿ رَّبَّنَآ إِنِّىٓ أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ
(( دَخَلَ علَيّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ ؟ قُلْنَا : لاَ ، قَالَ : فَإِنّي صَائِمٌ ))
الله عز وجل يقول :
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18) ﴾
يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك ؟ الذي وجدك لم يفقد شيئاً، والذي فقدك لم يجد شيئاً، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ إذا كان الله معك سخر لك أعداءك الألدّاء ليخدموك، وإذا كان الله عليك سمح لأقرب الناس إليك أن يتطاول عليك .
إذا كنت في كل حال معي فعن حمل زادي أنا في غنى
***
كن مع الله ترَ الله معـك و اترك الكل وحاذر طمعـك
وإذا أعطاك من يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعــك
***
هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد
المؤمن وحده في شباب دائم والشباب هو التجدد :
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ إخوتنا الكرام، الأنبياء قِمم البشر، قمم ، والمؤمن الموفق يضع نبي الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة له، في موقف سيدنا إبراهيم قدوة، في موقف سيدنا نوح قدوة ، إنسان دخل السجن مظلوماً سيدنا يوسف قدوة، إنسان له زوجة سيئة سيدنا نوح قدوة، إنسان له أب مشرك سيدنا إبراهيم قدوة، هؤلاء الأنبياء قِمم البشر لكن كل نبي يمثل حالة إنسانية، فإذا كنت مع الله لك في هذا النبي الكريم قدوة حسنة.
(( لا تكونوا إمعة ، تقولون : إن أحسن الناس أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا ))
المؤمن تحكمه عقيدته وقيمه ومبادئه :
المؤمن لا ينساق وراء معطيات البيئة، لا ينساق وراء ما يتعارف الناس عليه، المؤمن لا يتأثر بالعادات والتقاليد، المؤمن تحكمه عقيدته وقيمه ومبادئه، فلذلك شخصية المسلم فذّة، يرى ما لا يراه الآخرون، يسمع ما لا يسمعه الآخرون، يتحرك بطريقة عجيبة، يبتغي رضوان الله، لأنه آمن بالآخرة فلا بد من أن تنعكس مقاييسه، يرى الفوز لا في الأخذ بل في العطاء، يرى الفوز لا في استهلاك جهد الآخرين بل في بذل الجهد للآخرين، يرى الفوز لا في الراحة بل في التعب، لا في الإخلاد إلى النوم بل في اليقظة، يرى الفوز لا في متع الحياة بل في قيم الحياة ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ مثلاً: مرة جئت من حلب بمركبة عامة، وصلت إلى شارع العدوي، والأمطار كأفواه القِرب، رأيت رجلاً يركض، يمارس رياضة الركض أو المشي تحت المطر، قلت: في الشام خمسة ملايين، كلهم في بيوتهم وراء المدافئ يأكلون ويشربون، ماذا في عقل هذا الإنسان من قناعات خالف بها أهل دمشق؟! قناعته بالرياضة والحركة صيانة لقلبه ودعماً لصحته تفوق قناعات الناس جميعاً ، هذا مثل .
وأنت حينما تؤمن كل من حولك يرى أن الذكاء في الأخذ وتراه أنت في العطاء، كل من حولك يرى الذكاء في الراحة وتراه في التعب، أن تأتي إلى مسجد، وأن تجلس على ركبتيك، ليس فيه مقعد وثير، ولا ضيافة، ولا شيء، إلا تعريف بكتاب الله عز وجل، هذا هو الفوز، لو قبعت في بيتك، حيث المقعد الوثير، والزوجة أمامك والأولاد، وتأكل ما لذ، وتشتهي ما لذ وطاب، لا تكون في مقياس أهل الإيمان فالحاً ، الفلاح في أن تتابع فهم كلام الله عز وجل .
إذاً أيها الإخوة، العطاء العظيم، الفوز الكبير، النجاح، الفلاح، الذكاء، التفوق، العقل أن تعرف الله. سيدنا إبراهيم رأى ملكوت السماوات والأرض كيف عبر عن هذه الرؤية ؟ قال :
﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ(75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ(76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّىٓ
الفرق بين الفرق الضالة والفرق المؤمنة :
كنت مرة في بلاد بعيدة، وأخذني صديق إلى معبدٍ لدينٍ آسيوي، والمعبد أُنفِق عليه مبالغ فلكية، ستة ملايين من عملة هذه البلاد أُنفِقت على هذا المعمل.
أيها الإخوة، الأصنام من البرونز، وصدر الصنم من الماس البرلنت وهذا من أغلى أنواع الماس، سبحانك يا رب، يأتي إنسان يحمل شهادة عليا، يسجد لهذا الصنم انبطاحاً، قلت: كم كرّم الله المسلمين بأنهم يعبدون خالق السماوات والأرض! كم كرّم الله المسلم حينما عرف خالق السماوات والأرض! ورأيت آلة في مدخل المعبد لكسر جوز الهند، سألتهم: لمَ هذه الآلة هنا ؟ قال : من أجل أن يأكل الآلهة، يحبون هذه الفاكهة، أي آلهة ؟ إنسان من البرونز لا ينطق، ولا يتكلم، ولا ؟! فهذا الإنسان حينما يعبد صنماً، حينما يعبد حجراً، حينما يعبد شمساً وقمراً، حينما يعبد شخصاً، حينما يؤلّه شخصاً لا تجد له عقلاً .
أيها الإخوة، الدين دين التوحيد ، لكن حتى الأديان السماوية حينما تنحرف تؤلّه أشخاصاً، لذلك ما من فرقةٍ ضالةٍ في العالم الإسلامي إلا وفيها أربع خصائص، تأليه الأشخاص ، وتخفيف التكاليف ، واعتماد النصوص الموضوعة ، والنزعة العدوانية ، وما من فرقة مؤمنة إلا أساسها التوحيد ، وأساسها الاتباع، وأساسها التمسك بدقائق الشريعة ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
شخص معه مرض عضال ، جاء إلى حجر وقال له : اشفنيِ ، ائتِ إلى طبيب ، ادخل مستشفى ، اسأل متخصصاً بهذا المرض مثلاً ، ماذا ينفع الحجر ؟
﴿ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) ﴾
﴿ يَٰقَوْمِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَٰهِرِينَ فِى ٱلْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنۢ بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ۚ
الهدى من الله وحده :
الخلق لم يدّعِه أحد ، فسيدنا إبراهيم قال:
﴿ وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) ﴾
أيضاً هناك من يقول لك: لحم كتفك من خيري، يقول لك: أنا معيل أسرة، أنت مُعال ولست معيلاً، أنت معال مع بقية أفراد الأسرة.
الشيء المتنازع عليه أكده بكلمة ﴿هُوَ﴾ والشيء المقطوع به لم يؤكده بكلمة ﴿هُوَ﴾ قال :
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) ﴾
الإنسان قد يذهب إلى طبيب، وقد يأخذ الدواء ويتم شفاءه، فيتوهم أن الطبيب هو الذي شفاه، هذا الطبيب عالجه لكن الله هو الذي شفاه، الشفاء من الله والطبيب يعالج .
إن الطبيب لـه علم يُدل به إن كان للناس في آجال تأخير
حتى إذا ما انتهت أيام رحلته حار الـطبيب وخانته العقاقير
***
سيدنا إبراهيم بشَّر بقدوم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام :
ومن أبلغ العبر أن بعض الأطباء يمرضون باختصاصهم، فإذا توهموا أنهم متمكنون في اختصاصهم، ولن يصابوا بمرض من اختصاصهم، لأنهم يأخذون بالأسباب أخذاً مبالغاً به، هؤلاء يؤدَّبون بأنهم يُصابون بأمراض هي من اختصاصهم .
والله التقيت مع طبيب متخصص في القلب في بلاد بعيدة، وجدته مطمئن أنه لن يُصاب بهذا المرض، وبعد فترة قيل لي : والله أصيب قبل أيام باحتشاء في قلبه وهو في الخامسة والأربعين .
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) ﴾
أيها الإخوة ، هذا من رؤية هذا النبي الكريم .
﴿ وَإِذِ ٱبْتَلَىٰٓ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٍۢ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا
إذاً سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء، وهو نبي من أولي العزم، ونبينا عليه الصلاة والسلام من نسله، سيدنا إبراهيم قال :
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ
سيدنا إبراهيم بشّر بهذا النبي الكريم :
(( أنا دعوة أبي إبراهيم ))
الآيات التالية عن قصة الهدى وهي منهج لنا :
أيها الإخوة ، الآية الكريمة :
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ
الآن عندنا قصة الهدى ، وقصة الهدى منهج لنا:
سيدنا إبراهيم في رأي بعض العلماء حينما قال: ﴿هَذَا رَبِّي﴾ هو يجاري الخصم، لو سلّمنا معكم افتراضاً أن هذا الكوكب إله، فمن يدير العالم في غيبته؟ هذا هو المعنى، هناك من يتهجم، ويقول: كيف يقول: هذا ربي؟ هذا كلام فيه ضعف تفكير
﴿ قَالَ هَلْ ءَامَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَىٰٓ أَخِيهِ مِن قَبْلُ ۖ فَٱللَّهُ خَيْرٌ حَٰفِظًا ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ
العقل لا يستقيم مع إله من دون الله عز وجل :
فسيدنا إبراهيم يحاورهم، هذا اسمه مجاراة الخصم، هذا ربي ولنفترض أنه إله، فمن يدير الكون في النهار ؟
﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) ﴾
أي أن تعبد شمساً، أو قمراً، أو كوكباً، حجراً، أو مدراً، أو إلهاً من صنع يديك، من التمر صنعته، أو من الحجر نحته، أين عقلك ؟
إخوتنا الكرام، العقل لا يستقيم مع إله من دون الله عز وجل، لا يقبل، والذي يعبد إلهاً من دون الله يصم نفسه بالحمق والغباء، ماذا يفعل معك هذا الإنسان؟ يقولون: إن طبيب الميكادو ـ الميكادو عند اليابانيين إله ـ طبيبه أسلم، لأنه رأى هذا الإله في أواخر أيامه مصاباً بأمراض لا تعد ولا تحصى، كيف تعبد إلهاً معه قرحة؟ ومعه شلل؟ ومعه التهاب مفاصل؟ فالإنسان عندما يفكر لا يستطيع أن يستقيم عقله أن يعبد إلهاً من دون الله، أما أن تعبد خالق السماوات والأرض فهذا شيء يتناسب مع العقل الراجح ، وقد قيل: أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً.
يعني المؤمن إذا عزف عن الدنيا لكنه اختار الله عز وجل، فالذي اختار الله هو أرجح الناس عقلاً، والذي اختار الآخرة هو أشد الناس طموحاً، إنسان طموح ! إنسان طموح صار معه مئة مليون، مئتا مليون ، وبعد ذلك ؟ هناك موت .
الذي يضع كل أمله في الدنيا يغامر ويقامر :
الشيء الذي يحير العقول أن أهل الدنيا يمشون في طريق مغلق، مسدود، يعمل ليلاً ونهاراً إلى أن يصل إلى ثمرة في الدنيا، بعد أن يصل إلى هذه الثمرة يأتي ملك الموت، سمعت عن إنسان بقي يجمع أموالاً لثلاثين عاماً ليشتري بيتاً، فاشترى بيتاً ـ القصة قديمة جداً في أحد أحياء دمشق المرتفعة ـ هذا البيت له شرفة ، وأنا رأيت هذا البيت، وله إطلالة على دمشق، بعد أن جلس في هذه الشرفة، بعد ثلاثين عاماً وهو يجمع ثمن هذا البيت، فقال بالحرف الواحد: الآن أمّنتُ مستقبلي، عاش سبعة أيام بعد هذه الكلمة .
كل إنسان يضع أمله كله في الدنيا فهو يقامر ويغامر، يعني الإنسان يُدفن تحت الأرض خلال دقيقة، لا يشكو شيئاً، وهذه الحوادث تكثر الآن، لا يشكو شيئاً، بين عشية أو ضحاها صار مرحوماً من أهل القبور، فهذا الذي يضع كل مكتسباته في الدنيا يغامر ويقامر .
سيدنا إبراهيم يعلمنا أساليب الحوار :
قال تعالى :
﴿ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً
الآن في النهار، كنا في الليل، وفي النهار تغيب هذه الكواكب والنجوم، الآن في النهار
أيها الإخوة
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً
أنا لا أعبد شمساً، ولا قمراً، ولا نجماً، ولا حجراً، ولا مدراً، ولا بقرةً، ولا شخصاً أظنه أنه يعطي أو يمنع، يرفع أو يخفض، يعز أو يذل، وما أكثر من يعبد أشخاصاً من دون الله، وما أكثر من يعامل أشخاصاً كأنهم آلهة، يطيعهم ويعصي الله، يرضيهم ويغضب الله عز وجل، إذا كانت عبادة الأصنام غير موجودة في العالم الإسلامي فعبادة الأشخاص موجودة دون أن تقول: هو إله، لكنك تعامله كإله، ترى أن طاعته أكبر من طاعة الله، ترى أن رضاه أعظم من رضى الله عز وجل .
الشرك فيما مضى شرك عبادة الأصنام أما الشرك هذه الأيام فهو شرك عبادة الأشخاص :
من أطاع مخلوقاً وعصى خالقاً ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، الألف مليون مسلم في اليوم الواحد يقولون: الله أكبر، دقق في هذا الكلام، إذا أطعت مخلوقاً وعصيت خالقك فأنت ما قلت: الله أكبر ولا مرة ولو رددتها بلسانك ألف مرة، إذا غششت المسلمين، وخالفت منهج رب العالمين، وطمعت في مبلغ كبير من جراء هذا الغش فأنت ما قلت: الله أكبر ولا مرة ولو رددتها بلسانك ألف مرة، لأنك تتوهم أن هذا المبلغ الكبير الذي نلته من غش المسلمين أكبر عندك من طاعة رب العالمين، من أطاع زوجته وعصى خالقه، ما قال: الله أكبر ولا مرة ولو رددها بلسانه ألف مرة، لأنه رأى متوهماً أن طاعة الزوجة ورضاءها أفضل عنده من طاعة الله ورضائه .
إذاً إذا كان الشرك فيما مضى شرك عبادة أصنام، فإن الشرك في العصور المتأخرة هو شرك عبادة الأشخاص.
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106) ﴾
الإنسان إذا كان مشركاً يعطيه الله عز وجل مهلة ليتوب فإذا تاب غفر الله له شركه :
﴿
يُروى أن سيدنا موسى استسقى ربه، فقال الله له ـ وهو كليم الحق ـ: إن فيكم عاصياً، يعني لا أستجيب لكم لأن فيكم عاصياً، فقال موسى عليه السلام: من كان فيكم عاصياً لله فليغادرنا، ولم يغادر أحد، والمطر انهمرت على قوم موسى، فقال: يا رب ، من هذا الذي يعصيك؟ فورد في هذه الآثار: أن عجبت لك يا موسى، أستره وهو عاصٍ لي وأفضحه وهو تائب، يبدو أنه تاب، فالإنسان إذا كان مشركاً يعطيه الله عز وجل مهلة ليتوب ، فإذا تاب غفر الله له شركه
المؤمن لا يخاف إلا الله :
الآن هناك قضية في التوحيد مهمة جداً، عندنا فيروسات للأمراض، عندنا أقوياء، عندنا حيوانات مؤذية جداً لدغتها قاتلة كالحية والعقرب، هناك أشياء مخيفة جداً، هناك زلازل ، هناك براكين ، هناك حروب أهلية، هناك حكام ظُلَّام، فالإنسان ينبغي ألا يخاف أم يخاف؟ قال الله عز وجل على لسان سيدنا إبراهيم : ﴿وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً ﴾
أوضح مثلٍ : لو أن وحشاً مخيفاً جائعاً يمكن أن يلتهم الإنسان كله في دقيقتين مربوط بزمام مُحكم بيد جهة قوية، وبينك وبينه مسافة، لكن هذا الزمام إذا أُرخي وصل إليك، وإذا شُد أبعد عنك، أنت علاقتك مع من ؟ مع الذي بيده الزمام ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
فالمؤمن لا يخاف من الوحوش، ولا من الأقوياء، ولا من الظُلَّام، ولا من الحيوانات القاتلة، ولا من الأمراض ، ولا من الفيروسات، يعني الأخطار لا تعد ولا تحصى، السيوف المُسلّطة على الإنسان في الدنيا لا تعد ولا تحصى، الأخطار كبيرة جداً، ومتعددة جداً، ومتنوعة جداً، لكن المؤمن لا يخاف إلا الله، ويخاف من هذه الأشياء في حالة أن يسمح الله لها أن تصل إليك، مثلاً هذا القوي أنا أخافه ولا أخافه، لا أخافه لأنه بيد الله .
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62) ﴾
لكنني أخافه إذا سمح الله له أن يصل إلي، لا يخافن العبد إلا ذنبه ، ولا يرجون إلا ربه.
لا تخف من أحد، خف من نفسك، خف أن تعصي الله فيستحق هذا الإنسان العاصي التأديب، فيسمح الله لقوي أن ينال منك .
معنى التوحيد :
أدق ما في الدرس هو:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ(213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ(216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218) ﴾
قال تعالى :
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82) ﴾
في درس آخر إن شاء الله نشرح هذه الآيات المتعلقة بالأمن .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.