- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس والعشرين من دروس سورة الأنعام .
الله تعالى يريد أن يخفف عن نبيه محمد العقبات والصعوبات التي ترافق الدعوة إلى الله :
ومع الآية الرابعة والسبعين ، وهي قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(74 ﴾ ﴾
أيها الإخوة، (إِذ) ظرف زمان، والله سبحانه وتعالى يريد أن يُخفّف عن نبيه صلى الله عليه وسلم العقبات والصعوبات والمشقات التي ترافق الدعوة إلى الله، فمعركة الحق والباطل معركةٌ أزليةٌ أبديةٌ، والذي يتصدى للدعوة إلى الله يجب أن يُوطّن نفسه على أن المعركة مع الطرف الآخر معركة حاميةٌ وقاسيةٌ ومديدةٌ، وقد قال الله عز وجل :
﴿ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَ
إذاً أراد الله سبحانه وتعالى استنباطاً من تلك الآية أن يُذكّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمتاعب والعقبات التي واجهت أبا الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، أي واذكر يا محمد وقت :
﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
كلمة آباء تنسحب على الأب والجد وأب الجد وجد الجد مهما علوا :
أيها الإخوة، الأبوة أصل، فهذا الفرع من هذا الأصل، وكلمة آباء تنسحب على الأب، وعلى الجد، وعلى أب الجد، وعلى جد الجد، مهما علوا، لكن في هذه الآية ملمح ينبغي أن يكون واضحاً عندكم، الآية الكريمة في البقرة :
﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(133) ﴾
فإسحاق أبو سيدنا يعقوب، وإبراهيم والد لسيدنا إسحاق، ولكن جاء سيدنا إسماعيل وهو أخ إسحاق، وقد أُدرِجت أسماؤهم على أنهم آباء، فلذلك القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى، قد يُسمّى العم أباً، وفي بعض الأحاديث الشريفة :
(( العم والد ))
أيها الإخوة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح . من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء ))
آزر كان مشركاً، وكان من عبّاد الأصنام، فلا يُعقل أن يكون آزر أباً لسيدنا إبراهيم، والنبي عليه الصلاة والسلام من نسل إبراهيم، فلذلك آزر في رأي علماء كثيرين جداً ليس أب إبراهيم ولكنه عم إبراهيم. .
أيها الإخوة ، هناك نقطة دقيقة جداً ، الله عز وجل يقول :
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا
الذي يعبد غير الله بنص هذه الآية نجسٌ، إذاً يُرجّح أو في الأعم الأغلب أن آزر ليس أب إبراهيم، ولكنه عمه.
الله عز وجل عدّ العم أباً :
والدليل القطعي على ذلك أن الله عز وجل:
إذاً: إسماعيل ليس أباً ليعقوب ولكنه عمٌّ له، وقد ورد ذكره في الآية على أنه أب لذلك الله عز وجل عد العم أباً، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (العم والد)
شيء آخر أيها الإخوة ، عندنا في اللغة كلمة إذا أطلقتها انصرفت إلى معنى، وإذا قيّدتها انصرفت إلى معنى آخر، تقول: فلان ذو أخلاق، أطلقتها تعني أخلاقاً فاضلة، لكن هناك أخلاق ذميمة، أما الأخلاق التي من نوع آخر فيجب أن تقيدها بكلمة ثانية، فلان أخلاقه سيئة، وفلان أخلاقي أو ذو أخلاق، إذا اكتفينا بكلمة أخلاق تنصرف إلى الأخلاق الفاضلة، أما إن أردنا الأخلاق السيئة يجب أن نذكر كلمة سيئة ، تطبيقاً لهذه القاعدة :
لو أن إنساناً طرق باب إنسان، فتح ابنه، يقول له: أبوك هنا؟ يقول له: نعم أو لا، إذا قال: أبوك فقط، يقصد أباه الحقيقي، أما إذا كان مُتبنى عنده يقول له: أبوك محمود هنا ؟ وأحياناً بعض الأصهار يتوددون إلى أهل زوجتهم، فينادون عمهم أباً، وأم زوجتهم أماً، لكن يضطرون أن يقولوا: ماما فلانة، لأنها في الحقيقة ليست أمهم، فإذا أرادوا تكريم أم زوجتهم نادوها بكلمة أمي، لكن أضافوا بعد هذه الكلمة الاسم الحقيقي.
ميزة قريش على بقية القبائل :
كل هذا الكلام وهذه المصطلحات ، وتلك الاستنباطات من أجل أن يثبت نسب النبي الطاهر من لدن آدم عليه السلام إلى أمه وأبيه، ويجب أن نثبت أن النبي حينما يقول: (العم والد)
أيها الإخوة الكرام ، قريش يعبدون الأصنام لا شك، لكن في أعماق عقائدهم هذا النبي الكريم أبو الأنبياء، ما ميزة قريش على بقية القبائل؟ أنهم حول الكعبة التي بناها إبراهيم عليه السلام، وأن زوجته سعت بين الصفا والمروة فكان نبع زمزم، وأن الذبيح الذي افتداه الله بكبش عظيم هو سيدنا إسماعيل، إذاً الأحداث الكبيرة التي رافقت حياة سيدنا إبراهيم كانت في مكة، إذاً في أعماق العقل الباطن لقريش أنهم يعظمون هذا النبي، ويعظمون بيت الله الحرام، وتحج إليه القبائل من كل حدب وصوب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك الله عز وجل حينما لم يسمح لأبرهة أن يهدم الكعبة حفاظاً على مكانة قريش، مع أن جيش أبرهة ليس جيشاً وثنياً، إنه جيش يمثل الدين النصراني، ومع ذلك لم ينتصر على أهل مكة، ولم يهدم الكعبة حفاظاً على مكانة هذه القبيلة التي سوف تغدو قبيلة النبي صلى الله عليه وسلم :
﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) ﴾
طبعاً كيف (آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)
الفرق بين الكافر والمؤمن أن الكافر مع النعمة والمؤمن مع المنعم :
شيء آخر ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً﴾
﴿ وَمِنْ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيْلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ۚ لَا تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِى خَلَقَهُنَّ
الشعوب البدائية رأت النعمة فعكفت على عبادتها، في الهند الآن يعبدون البقر من دون الله .
﴿ وَٱلْأَنْعَٰمَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ
شيء واضح جداً، والإنسان المشرك أحياناً يبقى مع النعمة ولا يخترقها إلى المُنعم، الفرق بين الكافر والمؤمن أن الكافر مع النعمة، والمؤمن مع المنعم .
﴿ إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ حَنِيفًا
المؤمن يرى أن كل النعم من عند المنعم لذلك يمتلئ قلبه محبة وشكراً للمنعم :
نحن جميعاً كإسقاط على حياتنا اليومية قد تنعم بصحة، من منحك هذه الصحة؟ الله جل جلاله، قد تنعم بزوجة طائعة منيبة، من منحك إياها ؟ الله جل جلاله .
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً
قد ترزق أولاداً صغاراً يملؤون البيت فرحاً وسروراً وحياةً ونشاطاً، من منحك هذا الولد؟ الله عز وجل، هذا الفرق الواضح الصارخ بين المؤمن ، الذي يرى أن كل النعم من عند المُنعم، لذلك يمتلئ قلبه محبة وشكراً للمنعم .
لو أنه ركب مركبة، أن الله عز وجل مكنني من شراء مركبة، لو أنه تزوج، لو أنه سكن بيتاً، لو أنه تناول طعاماً طيباً ، لو أنه رأى ابناً لطيفاً جميلاً يضحك بين يديه، فكل نعمةٍ يراها المؤمن يعزوها إلى الله عز وجل، وبالشكر تدوم النعم
لذلك مثلاً لو أن امرأة عالية الجمال أصبحت زوجتك، فإن رأيت المُنعم لا تطيعها في معصية الله، أما إن غفلت عن المنعم تطيعها في معصية الله، لو أنك كنت في وظيفة ذات دخلٍ كبيرٍ، وجاءك توجيه من مدير المؤسسة بعملٍ لا يرضي الله، إذا رأيت أن هذا الإنسان هو سيد نعمتك، ونسيت الله عز وجل تعصي الله وترضيه، أما إذا رأيت أن هذه الوظيفة منحةٌ من الله عز وجل، وأنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق لا تطيع أحداً إلا فيما يرضي الله عز وجل، هذا هو التوحيد .
نحن محاطون بنعمٍ لا تعد ولا تحصى ، أهل الدنيا عبدوا هذه النعم من دون الله، لذلك الفاتحة نقرأها كل يوم عشرات المرات، الحَمدُ، الحمد يعني هناك نعمة، كلمة الحَمدُ الآن التأوه، معناها هناك نقمة، البكاء فيه مشكلة، الحَمدُ يعني هناك النعمة، المشكلة بيننا وبين الطرف الآخر، الحَمدُ عند المسلم لله وعند غير المؤمن لزيد أو عبيد، لولي النعمة، لآلهة في الأرض، لطواغيت في الأرض، أدق كلمة في الفاتحة
﴿ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ
ليس هناك خلاف على الحمد، هناك نِعَم، أهل الدنيا يتمتعون بالصحة وبالجمال أحياناً، وإن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين، جميع النعم التي ينعم بها المؤمنون ينعم بها الطرف الآخر أضعافاً مضاعفة، ومع ذلك يعبدون النعم من دون الله، بينما المؤمنون يعبدون المنعم ولا يعبدون النعم .
أهم شيء في هذا الدرس أنك حينما تنتفع من نعمة ينبغي أن ترى المنعم :
أيها الإخوة، الله عز وجل يقول: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾
يعني مرة على صور الأقمار الصناعية لطعة رمادية فوق الشرق الأوسط، كانت أمطاراً غزيرة، حدثني أحد الخبراء في الزراعة أن هذه الأمطار سببت مرعىً في البادية تُقدّر قيمته بالمليارات، لو لم تكن هذه المطر لكان حجم الاستيراد للعلف بالمليارات ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾
كأن أهم شيء في هذا الدرس أنك حينما تنتفع من نعمة ينبغي أن ترى المنعم، وحينما تنتفع من سببٍ ينبغي أن تصل إلى المُسبب، وهذا هو الفرق كبير بين المؤمن وبين غير المؤمن، يعني أهل الغرب مع النعمة، وأهل الإيمان مع المنعم .
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً ﴾
جاء ثعلب فبال على أحد أصنامهم ، فقال أحد الأعراب :
أرب يبول الثعلبان برأسه*** لقد ضل من بالت عليه الثعالب
* * *
محبتك ، وطاعتك ، وولاؤك ، وإخلاصك لحجر ؟!
أقول لكم أيها الإخوة: لا يليق بك كإنسان خلق الله الكون من أجلك أن تكون لغير الله، لمجرد أن تكون لغير الله إنك تحتقر نفسك .
يعني تصور حاسوباً صناعيّاً ثمنه خمسون مليوناً بحجم هذه الطاولة، يمكن أن يقدم لك خدمات وإنجازات تعود عليك بالمليارات، يمكن أن تستخدمه طاولة؟! ممكن؟! إنك إن فعلت هذا احتقرته، هذا الحاسوب مُهيأ ليجعلك من أغنى الأغنياء، وفيه تعقيدات في تصميمه تحار فيها العقول، ومع ذلك تستخدمه طاولة، إن هذا احتقار له، سند بمليار ليرة، ظهره فارغ، أيعقل أن تستخدم ظهره كورقة لتكتب عليها مسودة، ثم تمزقه، أين عقلك ؟!!
معنى الضلال :
فيا أيها الإخوة ، الإنسان مخلوق لله: ومما جاء في الآثار القدسية من الكتب السماوية السابقة:
خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيفٌ أسوقه لك كلَّ حين ، لي عليك فريضة ولك عليَّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك وعِزَّتي وجلالي إن لم ترض بِما قسَمْتُهُ لك فلأُسلِطَنَّ عليك الدنيا تركضُ ركْض الوحش في البريّة ، ثمَّ لا ينالك منها إلا ما قسمْتُهُ لك منها ولا أُبالي ، وكنتَ عندي مَذْموماً .
ويُروى أن الله تعالى قال لداوود عليه السلام:
تريد وأريد، ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد .
أيها الإخوة الكرام:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) ﴾
أزمة أهل النار وهم في النار :
﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىٓ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ (10) ﴾
الإيمان ألا ترى مع الله أحداً :
يعني هذا الكون أيعقل أن لا يكون له صانع ؟ يعني أنت في تعاملك اليومي حينما تركب طائرة أو سيارة ، ألا تعتقد أن هناك معامل مساحاتها فلكية، مرة شاهدت معمل طائرات، شيء لا يصدق ، المساحات تفوق حد الخيال ، التقنية ، الرافعات، القطع التي تُجمَّع من معامل عديدة ، أنت حينما تركب طائرة توقن أن لهذه الطائرة عقولاً صممتها، ومواد صُنعت منها، وتطبيقات عالية المستوى جمعت بينها .
الإنسان في أعقد حالاته تعقيد إعجاز لا تعقيد عجز، أليس له خالق حكيم ؟ الناس الآن لا يقولون : أنا أعبد صنماً، هذه ولّت، يعني الشرك الجلي مستحيل أن يكون في العالم الإسلامي، أن تجد صنماً كبوذا يُعبَد في العالم الإسلامي ، مستحيل، الشرك الجلي انتهى ، بدءاً من بعثة النبي صلى الهل عليه وسلم ، ونحن أمة التوحيد، والحمد لله، ولكن الشيء الخطير هو الشرك الخفي، الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، أنت حينما تعتمد على مخلوق وتنسى خالقك هذا شرك، حينما تأخذ بالأسباب وتعتمد عليها فهذا شرك، حينما ترى أن اللذة هي كل شيء في الحياة هذا شرك، كأنك أغفلت الجنة ولم تعبأ بها، ورأيت الدنيا هي الجنة، الواحد لا يغتر أنه مؤمن، أو أن هويته في العالم أنه مسلم، أو معه هوية مكتوب عليها أنه مسلم، أو ولد من أب وأم مسلمَين، أو ولد ببلد إسلامي، الإيمان فوق هذا، الإيمان ألا ترى مع الله أحداً، الإيمان ألا تعتمد إلا على الله، ألا ترجو إلا الله، ألا تتوكل إلا على الله ، الله وحده يرفع ويخفض، ويعطي ويمنع، ويُعز ويُذل ، ويمنح ويمنع .
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
الإيمان رؤية حقيقية وموقف :
لذلك: الإيمان رؤية، رؤية حقيقية، ومع هذه الرؤية موقف، أما من السهل جداً أن تكون مع المؤمنين لكنك لا ترى قوياً إلا الذي تزعم أنه قوي، وتنسى الله عز وجل، نحن بامتحان صعب جداً مع العالم الغربي، نُهدَّد كل يوم .
﴿
ثم أيها الإخوة يقول الله عز وجل :
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) ﴾
الحقيقة يوجد مُلْك ويوجد مَلكوت، فالله عز وجل مالك المُلك، فالله عز وجل أشار إلى أن إبراهيم رأى ملكوت السماوات والأرض، رأى من بيده السماوات والأرض، وهذا فرق آخر، هذا التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، رأى ملكوت السماوات والأرض، لذلك الآيات الكونية التي وردت في القرآن الكريم والتي تزيد على ألف وثلاثمئة آية الشيء الذي يلفت النظر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرحها، ولم يذكر جوانبها، ولا يوجد حديث عنها إلا ما ندر .
الآيات الكونية تفتقر إلى أحاديث شريفة :
وقد يلفت النظر أيضاً أن أي موضوع تعبُّدي فيه أحاديث تزيد على مئتي حديث، موضوع البيوع، موضوع الزواج ، موضع الطلاق ، أحاديث كثيرة جداً، إلا أن هذا القسم في القرآن الكوني، الآيات الكونية هذه تفتقر إلى أحاديث شريفة، والذي يتساءل ما السبب ؟ الذي يمكن أن يكون جواباً مقنعاً أنه إما بتوجيهٍ من الله عز وجل، أو باجتهادٍ من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن التوجيه أو الاجتهاد في أعلى درجات الحكمة ، لماذا ؟ لقد رأى ملكوت السماوات والأرض ، لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ملكوت السماوات والأرض، قال تعالى :
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(18) ﴾
في الإسراء والمعراج رأى الحقيقة، رأى كل شيء، رأى ما كان وما سيكون، لكن لو أن النبي صلى الله عليه وسلم شرح هذه الآيات شرحاً عميقاً بحسب رؤيته لملكوت السماوات والأرض، لأنكر عليه أصحابه، ولو شرحها شرحاً مبسطاً في مستوى فهم أصحابه لأنكرنا عليه نحن اليوم، لذلك هذه الآيات التي تزيد عن ألف وثلاثمئة آية تُرِكت للتطور العلمي، فكلما تقدم العلم كشف عن جانب من هذه الآيات الباهرات التي هي دليل أن هذا الكلام كلام الله عز وجل، الشهادة العظمى من الله للعباد أن هذا القرآن كلامه، الآيات التي تندرج تحت الإعجاز العلمي في القرآن الكريم لذلك: ﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ
أنا لا أتصور مؤمناً ليس معه حجة، لا أتصور مؤمناً إلا إذا كان عابداً فقط بعيداً عن العلم، ولكن هناك عابد، وعالم :
(( اغد عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محباً، ولا تكن الخامس فتهلك ))
الموضوع الإخباري لا يصلح أن تتحاور به مع الكفار أما الشيء الثابت فهو هذا الكون :
إخواننا الكرام، العابد مقاومته هشة، بأقل ضغط ينهار، وبأقل إغراء ينهار، لكن المؤمن وقد رأى من آيات ربه لا يتضعضع لا أمام سبائك الذهب اللامعة، ولا تحت سياط الجلادين اللاذعة، هذا هو الإيمان، ومن هؤلاء المؤمنين الواحد كألف، ومن هؤلاء المعتقدين العُبّاد الألف كأف، وإذا صلح زمن سابق بالعبّاد فإن هذا الزمن الصعب الذي فيه الشبهات والشهوات لا يصلح إلا بالعلماء، إن أردت لهذا الدين النمو والتقدم فاطلب العلم، لأن الطرف الآخر لا يخضع إلا للعلم، لا يخضع لشيء تؤمن به أنت وحدك.
كنت أقول دائماً للإخوة الكرام: حينما يتحاورون مع الطرف الآخر إياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تطرحوا موضوعات إخبارية، موضوع الملائكة إخباري، لو قال لك إنسان ملحد: ما الدليل على أن هناك ملائكة؟ ما معك دليل، دليلك الوحيد أن الله ذكر الملائكة، ما الدليل على أن هناك جِنَّاً؟ ما معك دليل، الدليل الوحيد أن الله ذكر الجن في القرآن الكريم، فكل موضوع أخبرك الله به فهذا موضوع إخباري، هذا الموضوع لا يصلح أن تتحاور به مع الطرف الآخر.
أما الشيء الثابت هذا الكون، هذا الكون يخضع له كل أهل الأرض، القوانين ما لها علاقة بالأديان إطلاقاً، قوانين الفيزياء والكيمياء والفلك، قوانين الجسم والحياة والنبات والحيوان، قوانين يخضع لها كل البشر، فلذلك هذا الكون هو الثابت الأول لأنه ينطق بوجود إله، وبكماله، وبوحدانيته، وهناك مليون دليل ودليل على أسماء الله الحسنى من الكون.
هذا الماء فيه خاصة لولاها لما كان هذا الدرس، بل لما كانت هذه المدينة، بل لما كان هذا العالم .
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلْأَنْعَٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَٰنُهُۥ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَٰٓؤُاْ
هذا الماء عنصر من عناصر الكون، يتمدد بالتسخين، وينكمش بالتبريد، لكن عند درجة زائد أربع تنعكس الآية ويتمدد بالتبريد، ولولا هذه الظاهرة لتجمّدت جميع البحار حتى أعماقها، ولتوقف التبخر، وتوقف المطر، ومات النبات، ومات الحيوان ، ومات الإنسان ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
أول ثابت في الحوار مع الطرف الآخر هذا الكون والثابت الثاني القرآن الكريم :
هناك أشياء تحرك الصخر، فإن أردت أن تحاور إنساناً فإياك أن تسمح له أن يطرح عليك قضايا إخبارية، لأن دليلك الوحيد ذكر الله لها فقط، هو ليس مؤمناً بالله أصلاً ولا بكتابه، فأول ثابت في الحوار مع الطرف الآخر هذا الكون، وكيف أنه ينطق بوجود الله ووحدانيته وكماله، والثابت الثاني: هذا الكتاب، القرآن الكريم ، فيه ألف وثلاثمئة آية فيها سَبَق علمي لا يستطيع إنسان على وجه الأرض إلا أن يعتقد أنها كلام الله، عندما يقول الله :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِن نُّطْفَةٍ
لا من نطفة وبويضة، ثم يكتشف العلم مؤخراً أن الذي يحدد كون المولود ذكراً أم أنثى هو الحوين والنطفة وليس البويضة، يعلم أن هذا كلام الله عز وجل ، يقول الله عز وجل :
﴿ قَالَ رَبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ
ثم يقول :
﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ(17) ﴾
ثم يقول :
﴿ فَلَآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ
لو درست الفلك لَخرَرت لله ساجداً على هذا التفصيل، مرة مشرق ومغرب، ومرة مشرقان ومغربان، ومرة مشارق ومغارب.
إيمانك بكتاب الله وبسنة رسوله يجب أن يكون كإيمانك بوجودك :
إذاً: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
الإيمان يا أخوان ليس فيه حل وسط أبداً .
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ
إيمانك بهذا الكتاب، وبالذي جاء بهذا الكتاب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالذي أرسل هذا النبي وهذا الكتاب كإيمانك بوجودك، هذه اليقينيات، هذا اليقين الذي يولّد مناعة قوية جداً .
أنا قلت في بداية الدرس: اللهم أخرجنا من الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات، الآن الشهوات في أعلى درجة، مستعرة الآن الشهوات والفتن يقظة، الدنيا كلها تدعو إلى المعصية، والمؤمن يريد وجه الله عز وجل، الدنيا كلها مع المعصية والتفلت .
(( كيف بكم إذا لمْ تأمروا بالمعروفِ ولم تَنْهَوْا عن المنكر ؟ قالوا : يا رسول الله وإنَّ ذلك لكائن ؟ قال: نعم ، وأشدُ ، كيف بكم إذا أمرتُم بالمنكر ونهيُتم عن المعروف ؟ قالوا : يا رسول الله وإنَّ ذلك لكائن ؟ قال : نعم ، وأَشدُّ ، كيف بكم إذا رأيتُمُ المعروفَ منكراً والمنكرَ معروفاً ))
نحن في هذا الزمن ، كل شيء منحرف مقبول، أما أن تضع فتاة على رأسها قطعة قماش تُمنع من الدخول في المدرسة بفرنسا، أما أن ترتدي فتاة في أمريكا ثياب سحاقيات ويمنعها المدير لبقية مروءةٍ فيه، يقيم الأب عليه دعوة ويربح ثلاثين ألف دولار، أما أن تضع فتاة قطعة قماش على رأسها فممنوع، أليس كذلك؟
لم يُسمح لدولة إسلامية أن تدخل السوق المشتركة إلا إذا قالت: الزنا شيء طبيعي، لا يسمى جريمة الزنا، يعني المعروف أصبح منكراً والمنكر أصبح معروفاً، فلذلك:
﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
علينا أن نتسلح بالعلم لأنه السلاح الأقوى الآن :
أنا أدعوكم أيها الإخوة لا أن تحضر درساً، قضية سهلة جداً، أدعوك إلى أن تملك حجةً قويةً تصمد أمام أكبر الأدمغة بعداً عن الله عز وجل، أدعوك إلى دليلٍ قطعيٍّ يطأطئ له أهل الكفر، أدعوك إلى أن تملك حجة ، هذا الكون أكبر حجة، وهذا الكتاب أكبر حجة، والأحاديث الصحيحة أكبر حجة ، ويكاد الإعجاز العلمي الآن هو المادة الأولى التي تقف في وجه العولمة وفي وجه محاربة الأديان ، فلذلك :
﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.