- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني والعشرين من دروس سورة الأنعام .
الإيمان الفطري :
ومع الآية الثالثة والستين، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63) ﴾
أيها الإخوة، أولاً: حقائق الإيمان أودعها الله في جِبِلّة الإنسان، من أي جنس، من أي لون، من أي دين، من أي مذهب، من أي اعتقاد، من أية طائفة، حينما يدلهمّ الخطب تقول: يا الله، أي إنسان على وجه الأرض حتى لو كان ملحداً عندما يواجه خطراً ماحقاً يتوجه إلى الله عز وجل، تكلمت بهذا الكلام لأن طائرةً تُقلّ خبراء من دولة تؤمن بأنه لا إله –قديماً- ودخلت هذه الطائرة في سحابة مكهربة، وكان وقوعها وشيكاً، فإذا بهؤلاء الخبراء وقد ملؤوا الدنيا كلاماً بأن الله غير موجود دون أن يشعروا رفعوا أيديهم واستغاثوا بالله عز وجل لينجيهم من هذه الكارثة.
لذلك مفهوم الألوهية مُودَعٌ في أعماق النفس البشرية، هذا ما يسمى الإيمان الفطري، إلى من نتوجه إذا شحت السماء؟ إلى من نتوجه إذا ادلهمّ الخطب؟ إلى من يتوجه المريض إذا أُصيب بمرض عضال؟ إلى الله وحده، وينسى كل الذين أشركهم من الله عز وجل .
أيها الإخوة، ولكن لي تحفُّظٌ على هذا الموضوع، وهو أنه جميل جداً أن تتوجه إلى الله في أثناء الشدة، ولكن الأجمل من ذلك أن تتوجه إليه وأنت في رخاء، وأنت في بحبوحة، وأنت في صحة، وأنت في شبابك، ما من شيء أحب إلى الله من شابٍ تائبٍ في مقتبل الحياة يغلي حيوية ونشاطاً، ومع ذلك يضبط نفسه وفق منهج الله.
لو عدنا إلى أصل فطرتنا لأدركنا جمال الكون :
على كلٍ:
(( لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لَاسْتَهَمُوا، ولو يَعْلَمُونَ ما في التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، ولو يَعْلَمُونَ ما في العَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً(6) ﴾
أيها الإخوة
﴿ فَجَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا
ما من شيء ثابث، إلا أن يضمن الله لك الثبات، يعني بناء استغرق إنشاؤه سنوات طويلة يصبح أنقاضاً في ثوانٍ، هذا الزلزال .
الكوارث التي تأتي لها تفسير إلهي :
باخرةٌ من أعظم البواخر، هذه الباخرة صُمّمت بحيث لا تغرق، جدرانها كلها من طبقتين، فلو خُرقت الطبقة الخارجية الطبقة الداخلية تحول بين الماء وبين وصوله إلى الداخل، حتى إنهم كتبوا اجتراءً على الله: هذه الباخرة لا يستطيع القدر إغراقها، بل إن هذه الباخرة لم تُزوَّد بقوارب النجاة لأنها لا تغرق، وفي أول رحلة لها من أوربا إلى أمريكا، وعلى متنها نخبة أغنياء أوربا، وقد قُدّرت حلي النساء بالمليارات، هي مدينة عائمة، وفي طريقها إلى أمريكا ارتطمت بجبل ثلجي قسمها شطرين، ولم ينجدها أحد، لأن إشارات النجدة توهموها احتفالات على هذه الباخرة، ومات آلاف مؤلّفة، فقال بعض القساوسة وقتها: إن غرق هذه السفينة درسٌ بليغٌ من السماء إلى الأرض.
على كلٍ أيها الإخوة ، يشير الله عز وجل في هذه الآية إلى أن الإيمان متوافق مع الفطرة، يعني أنت في النهاية لا تلتجئ عند الشدة إلا إلى الله، بل مرةً حدث في بلدنا رياحٌ عاتيةٌ حطمت مئات البيوت الزجاجية، فقال لي أحدهم: يعني الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأديانهم وطوائفهم قالوا: إن المسيء أدّبه الله عز وجل، فهناك إيمان فطري، وهناك إيمان عقلي، وهناك إيمان نقلي، الآية هنا تتحدث عن الإيمان الفطري :
لا يحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله :
أحياناً الشُّبُهات ظلمات، القضية غامضة، القضية تحير، كيف نوفق بين هذه الآية وهذه الآية ؟ كيف نوفق بين وعود الله في القرآن الكريم وواقع المسلمين؟ كيف نوفق بين النمو الاقتصادي وتحريم الربا ـ مثلاً ـ ؟ فالطرف الآخر يطرح شُبُهات دائماً، وأحياناً هناك ظلمات يعني أخطار، أخطار في البر، وأخطار في البحر، هذه ظلمة، قد لا تجد ماء لإرواء زرعك، وقد لا تجد مالاً لشراء البضاعة، وقد لا تجد دواء لمرض عضال، فكأن العلماء بيّنوا أن هذه الظلمات بعضها فكري، بعضها من نوع الشبهات، وبعضها حسي من نوع المصائب، هي ظلمات، وقد رمز الله إلى الذي يعكر صفو الإنسان، والذي يوقعه في حيرة، والذي يربكه بالظلمات، والله وحده ينجيه منها. أحياناً تأتي الآية الكريمة :
﴿ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ(58) ﴾
الآن يعيش العالم الإسلامي ظلمات ليس لها من دون الله كاشفة، ولا بد من تدخل إلهي مباشر، لأنه كحلٍّ أرضي يبدو بعيداً جداً، إذاً :
﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍۢ مِّن رَّبِّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَىٰكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ٱلْإِصْلَٰحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِىٓ إِلَّا بِٱللَّهِ
وقد قيل: إن هذه الآية من أعمّ الآيات في القرآن الكريم، يعني أيّ هدف لا يُحقَّق إلا بتوفيق الله، إن كان الهدف شخصياً، أو جماعياً، عاماً، أو خاصاً، لا يُحقق شيء على وجه الأرض في ملكوت الله عز وجل إلا بتوفيق الله ، لذلك كان من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللَّهُمَّ لا سَهْلَ إِلاَّ ما جَعَلْتَهُ سَهْلاً
مادام الأمر بيد الله فالتعامل مع الله وفق القواعد تعامل علمي :
أنا أتكلم أو أخاطب الشباب، أنت في مقتبل العمر، صحتك، دراستك، عملك، حرفتك، زواجك، مستقبلك بيد الله عز وجل، ومادام الأمر بيد الله التعامل مع الله وفق القواعد، تعامل علمي .
﴿ أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ
أنا أؤكد لكل شاب أنك إذا خطبت ود الله عز وجل، وأخلصت له، وضبطت جوارحك وفق منهجه فمستقبل زاهر ينتظرك، بعيداً عن كل معطيات البيئة، والعصر، والأزمات، والصعوبات، والعقبات، ليس في الكون إلا الله .
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
آية ثانية :
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18) ﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36) ﴾
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
لو أن المسلمين توجهوا إلى الله مخلصين لأمدهم الله بعناية وحفظ وتأييد ونصر :
إذاً:
(( أنا ملك الملوك ومالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، وادعوا لهم بالصلاح ، فإن صلاحهم بصلاحكم . ))
القوى المخيفة في الأرض مخيفة فعلاً وجبارة، وعاتية، وقوية، وقاسية، ولا ترحم، ولكن ينبغي ألا تخاف منها لأن الله عز وجل يبين أن هؤلاء الأقوياء بيد الله عز وجل .
﴿ مِن دُونِهِۦ ۖ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
معنى التوحيد :
(( من كان همه الآخرة جمع الله شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله عليه ضيعته، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ))
يُروى أن الله أوحى إلى داوود:
(( عبدي أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد. ))
هذا هو التوحيد، كم قوة في الأرض طاغية يد الله فوق أيديهم ؟
﴿ مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍۢ فَلَا مُمْسِكَ
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرضِ إِلَهٌ﴾
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ
هذا هو التوحيد، ألاّ ترى مع الله أحداً، أن ترى أن يد الله تعمل وحدها في الكون، يعني هؤلاء الذين يتحركون يسمون في الإعلام صُناع القرار هؤلاء ليسوا صُناع القرار ، إنما هم أدوات بيد الله عز وجل .
يتضرع الإنسان إلى الله حينما ييأس من حلٍّ أرضي :
التوحيد مريح أيها الإخوة، ولا سيما في هذه الأزمات، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لا يُعقَل ولا يُقبَل أن يأمرك الله أن تعبده ثم يُسلِمك إلى بعض عباده الأقوياء، قال :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُۥ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
متى أمرك أن تعبده ؟ بعد أن طمأنك ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ﴾
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍۢ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍۢ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ لِلَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِۦ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًا
أنت متى تبحث عن مخرج ؟ إذا رأيت الأبواب كلها مُغلّقة، أحياناً تغلق الأبواب كلها في وجه المسلم، لأن هناك ضعفاً بإيمانه، وهناك شرك خفي يعاني منه، فحتى يلجئه الله إلى السماء لا بد من أن يقطع أمله من أهل الأرض، ولكي يقطع أمله من أهل الأرض لا بد من أن يُلهم هؤلاء الذين اعتقد أن مصلحته عندهم أن يبعدوه عنهم ﴿تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً﴾
يمكن أن تدعو الله جهراً ويمكن أن تدعوه وأنت صامت :
أحياناً الدعاء في نفسك :
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً(3) ﴾
بالمناسبة كفكرة إيجابية، يمكن أن تدعو الله وأنت صامت، يمكن أن تدعوه وأنت صامت.
أقسم لي رجل، كنت في طريقي إلى مدينة في الساحل، فرأيت مسجداً على الساحل رائعاً صليت فيه، ثم التقيت مع الذي أنشأه، قال لي: أنا قبل عشرين عاماً أنهيت خدمتي الإلزامية، وأردت أن أسافر إلى الخليج، وأنا في الطائرة في ذهابي إلى الخليج ـ أقسم لي بالله لم يحرك شفتيه ـ لكن نادى ربه نداءً خفياً، قال: يا رب، إن أكرمتني فسأنشئ مسجداً في هذا المكان، وقد أكرمه الله عز وجل ، فلما عاد لإنشاء هذا المسجد، كان هناك عقبة كبيرة، المسجد لا ينشأ إلا في منطقة منظمة، فحدثني عن تفاصيل هذه القصة، نادى ربه نداءً خفياً، أنت يمكن أن تنادي الله وأنت ساكت، أحياناً تكون في موقف الكل ينظر إليك وأنت في أمسّ الحاجة إلى الله، ليس ضرورياً أن تحرك شفتيك ..
كلما تذللت لله رفعك وكلما تكبرت واستنكفت عن عبادته وتأبيت أن تطيعه أذلك :
هذه الفرصة الرائعة لكل واحد منا متاحة، أن تنادي ربك نداءً خفياً
اجـعل لربك كـل عزك يستقر ويثـبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت
***
المؤمن يعتز بالله، ويحتمي بالله، ويعتمد على الله، ويتوكل على الله، ويلجأ إلى الله، ويستعيذ بالله ﴿تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً﴾ يعني تذللاً، قضية يسمونها بالمنطق معادلة متعاكسة ، كلما تذللت لله رفعك .
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾
وكلما تكبرت، واستنكفت عن عبادته، وتأبّيت أن تطيعه أذلك، والله هناك قصص أيها الإخوة إنسان يُصاب بذل ما بعده ذل، تُهان كرامته، تُنتَهك حرماته، يُؤخَذ ماله، يشيع في الناس عنه أسوأ الأخبار .
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ۖ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ۗ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ
كأن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أنك تكون في أعلى درجة عند الله حينما تدعوه
إذا عاهدت الله عز وجل على شيء فبطولتك أن تنجز هذا العهد :
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ(102) ﴾
فأنت إذا عاهدت الله عز وجل على شيء بطولتك أن تنجز هذا العهد، وتحقق هذا الوعد.
﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ(63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ(64) ﴾
يعني أحياناً الإنسان في ساعة الشدة الشديدة لا يرى إلا الله، فإذا ارتفعت حرارة ابنه إلى الثانية والأربعين، وقال له الطبيب: التهاب سحايا خطر، حياته في خطر، ودعا الله عز وجل من أعماق أعماقه، فلما شُفي ابنه عزى الشفاء إلى الطبيب، الطبيب معه بورد، صار الطبيب معه بورد، والدواء الذي أتى به أجنبي، فعاليته عالية جداً، ونسي أن الله أذن له بالشفاء، وهذا خطأ كبير:
(لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) أيضاً بطولتك بعد الرخاء، دعوت الله فاستجاب لك، وأزاح عنك كل كرب، فالبطولة أن هذا الشفاء، وهذا النجاح، وهذه الإزاحة ينبغي ألّا تعزوها إلى مخلوق، اعزُها إلى الخالق .
لا بدّ من الالتجاء إلى الله عز وجل لأنه من اعتز بغير الله ذلّ :
هذا يذكرني إلى أن السيدة عائشة حينما شاع عنها حديث الإفك، وشاع عنها أنها زنت، وهي السيدة الأولى، وهي الطاهرة، وهي التي كان النبي يحبها حباً جماً، وتأخر الوحي في تبرئتها أربعين يوماً كي يعلم الناس أن الوحي ليس بيد رسول الله، لو كان بيده لجاءت آية التبرئة بعد ساعة من الاتهام، ولكن جاءت التبرئة بعد أربعين يوماً، فحينما نزلت آيات التبرئة قال أبوها الصديق لها: قومي إلى رسول الله فاشكريه، قالت: والله لا أقوم إلا لله.
أنت حينما يُزاح عنك كرب، تُزاح عنك مصيبة، تزاح عنك ضائقة، تُشفى من مرض عُضال، انتبه إلى ما تقول، يجب أن تعزو ذلك إلى الله، وأن تقوم إلى الله شاكراً، وقد شرع النبي لنا ركعتي الشكر، أو سجود الشكر، اسجد لله، وقل: يا رب، لك الشكر والحمد على أن أنقذتني، يعني أقم علاقة مع الله، أقم علاقة معه، اسأله، استغفره، تب إليه، قل: يا رب أَقِل عثرتي، يا رب آمن روعتي، يا رب اغفر زلتي، يا رب أعنّي على نفسي، لا بد من حوار بينك وبين الله، لا بد من التجاءٍ إلى الله عز وجل ﴿قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ﴾
من اعتز بغير الله ذل، من اعتز بغير الله ضل، من اعتز بغير الله افتقر، من اعتز بغير الله انتكس، كان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
إخواننا الكرام، يعني فيما سمعت في بعض السنوات إمام الحرم صلى التراويح، وفي يوم الختم في ليلة اليوم السابع والعشرين دعا دعاءً مطولاً اقترب من ساعة، وقد خصص في هذا الدعاء دعاء على هؤلاء الذين يغتصبون في فلسطين، ويقتلون، ويهدمون، ويحرقون، ويقتلعون الأشجار، ويردمون الآبار، ويذلون الناس، دعا عليهم ما يزيد على خمس عشرة دقيقة، وبكى بكاءً شديداً، في هذا الوقت بالذات توجهت طائرتان كبيرتان تحملان مئة وخمسة وعشرين ضابط كومندس، وكل ضابط مكلف بالملايين، يتقن اللغة العربية والعامية واللغة المحلية، يتقن السلاح الأبيض، يتقن الصراع الياباني، يتقن استخدام أدق الأسلحة، وهؤلاء الضباط الكبار توجهوا إلى جنوب لبنان كي يأخذوا رهائن من المساجد ليلة القدر، فإذا بالطائرة الأولى تقع على الطائرة الثانية، وإذا بالطائرتين تقعان على مستعمرة إسرائيلية، والثابت أنه منذ أن تأسست إسرائيل من عام 1948 حتى الآن لم تُمنَ بخسارة بشرية تفوق هذه الخسارة، مئة وخمسة وعشرون ضابطاً.
ربما كانت المصائب نعماً باطنة :
يعني أنت حينما تدعو الله عز وجل صادقاً يستجيب لك، حتى الصندوق الأسود حينما قرؤوا ما فيه آخر كلمة قالها الطيار الذي في الأعلى، قال: أنا أسقط ولا أدرِي لمَ أسقط،
إذاً:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ(65) ﴾
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الزلازل، يعني ثلاثمئة ألف إنسان ماتوا في زلزال شرق آسيا، خمسة ملايين إنسان بلا مأوى، أخبار الزلزال تعرفونها جميعاً.
لا يمكن أن يرمم ضعفنا إلا بالإيمان بالله :
الله عز وجل قال ـ دققوا في هذه الآية التي هي قانون العداوة والبغضاء ـ :
﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّا نَصَٰرَىٰٓ أَخَذْنَا مِيثَٰقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِۦ
يعني العداوة لها قانون، أنا حينما أبتعد عن الله، وحينما يبتعد فلان عن الله أردنا الدنيا، والمصالح متضاربة، والشهوات تتصارع، والأهداف المادية تتجاذب، الآن ماذا يجري في العالم؟ صراع على الدنيا، كل ما تسمعونه من كلام متعلق بالمبادئ كذب مصالح، الإنسان يغطي أحياناً حركته وحربه بكلام كله كذب، الصراع على الثروات .
إذاً
نحتاج إلى أن نكون أقوياء والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل :
قال تعالى :
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ
﴿ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173) ﴾
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَٱنتَقَمْنَا مِنَ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ
﴿
لكننا حينما تركنا الله، وابتعدنا عنه ضعفنا، فأصبحنا لا نملك غير سلاح واحد، أن نددّ، وأن نشجب، وأن نُدين، وأن نستنكر، وأن نشدد على كذا، وأن نحمّل الجهة الفلانية المسؤولية، وأن نحرق العلم، عندنا غير ذلك؟ والقوي يسخر منا، هو يُسَر بهذا لأننا ضعاف، أما حينما نكون أقوياء نقول كما قال هارون الرشيد، قال له: مِن هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى كلب الروم نقفور، ما ترى لا ما تسمع، وانتهى الأمر .
الإله واحد، إلههم إلهنا، وربهم ربنا، الإله واحد، والقوانين واحدة ، نحتاج إلى أن نكون أقوياء، والقوة تحتاج إلى إيمان بالله عز وجل .
حينما يأتي القضاء والقدر من الله مباشرة وقعه يكون أخف بكثير مما لو جاء من إنسان :
أيها الإخوة:
﴿ يَٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلْأُمُورِ
آية ثانية :
﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(43) ﴾
اللام لام التوكيد، يعني قد يأتي المصاب من إنسان، فأنت بهذه الحالة تحتاج إلى توحيد أعلى، كي توقن أن هذا الإنسان مُسيَّر، وأن الله سمح له أن يصل إليك، من أجل ألا تحقد حقداً لا يحتمل أن الله سمح له أن يصل إليك، لذلك هنا ينبغي أن تصبر على قضاء الله وقدره الذي ساقه على يد فلان، وأن تغفر لهذا الإنسان إن أمكنك أن تغفر، أو أن تطالب بحقك إن أردت، لكن أن تأتي المصيبة من الله مباشرة شيء، وأن تأتي عن طريق إنسان شيء أصعب.
حينما يشيع الفساد في الأرض يجب أن نُحصن بشيئين بالاستقامة والوعي :
لذلك: ﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾
إذاً: نحن في قبضة الله، وتحت رحمة الله، وحينما يشيع الفساد في الأرض قد يُبتلى الناس بصراعات داخلية، وهذا خطر جداً .
وبالمناسبة، يعني أعداء المسلمين يدفعون المبالغ الطائلة لإثارة فتنة داخلية، ويجب أن نُحصَّن بشيئين بالاستقامة وبالوعي، بالاستقامة لأنها تبعد عنا كل مصاب إلهي، وبالوعي لأنه يبعد عنا كل مكر خارجي: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ
يعني يمكن أن تكون المودة بين المؤمنين، والتعاطف، والتزاور، والتضامن علامة الإيمان، أما الخلافات على مستوى المدينة، والبلدة، والحي، والعائلة، والأسرة، حتى داخل الأسرة، الخلافات أساسها ضعف الإيمان، ونسيان منهج الله عز وجل .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين