- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس التاسع عشر من دروس سورة الأنعام .
خصائص النبي عليه الصلاة والسلام :
ومع الآية الثامنة والخمسين، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ(58) ﴾
هم استعجلوا عذاب الله، وعذاب الله ليس بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية تبين أن النبي بشر، وأنه لا يملك نفعاً ولا ضراً لأحد، بل لا يملك نفعاً ولا ضراً لنفسه، فلأن لا يملك لغيره نفعاً ولا ضراً من باب أولى، وهو لا يعلم الغيب، وهو يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم، عدة آيات في القرآن الكريم تبين حقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو يعرف الحق، ويعرف الله، ويعرف الطريق المُوصل إليه، فبلسانه يهديك إلى الله، وإذا أحببته ارتقيت بمحبتك إلى الله، فقاله يهديك، وحاله يهديك، لكنه لا يعلم الغيب، لكنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فلأن لا يملك للآخرين من باب أًولى، لكنه يخاف إن عصى ربه عذاب يوم عظيم، إذا كانت هذه خصائص النبوة، وقد وصف الله بها نبيه الكريم، وكان سيد الخلق وحبيب الحق، وبلغ أعلى درجات الكمال البشري، هل يستطيع أحد على وجه الأرض كائناً من كان أن يدّعي صفات فوق هذه الصفات، يكون كاذباً ودجالاً ومحتالاً، هذه خصائص النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن قد يسأل سائل: ما الحكمة أن الله سبحانه وتعالى يجعل أنبياءه معظمهم ضعفاء؟ أًيُعقل أن يقف النبي أمام عمار بن ياسر، وهو يُعذَّب ، ولا يملك أن يوقف العذاب عنه فيقول: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ؟!!
(( مرّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بياسرٍ وعمّارٍ وأمّ عمارَ وهم يُؤذونَ في اللهِ تعالى فقال لهم : صبرا يا آل ياسرَ ، صبرا يا آل ياسرَ فإن موعدكُم الجنة ))
الحكمة من جعل الأنبياء ضعفاء :
الحقيقة أن الله أعطى القوة لأناس هم طغاة أحياناً، لا يحبهم الله أبداً، طغاة العالم كما ترون وتسمعون يَقتلون، ويستبيحون الحرمات، وينهبون الأموال، ويفعلون كل شيءٍ لا يرضي الله عز وجل، ومع ذلك هم أقوياء جداً، يبدو لقصير النظر أنهم يفعلون ما يشاؤون، فما الحكمة من أن أنبياء الله كانوا ضعفاء؟! الحقيقة الحكمة أن الإيمان بالنبي القوي إيمان مشبوه، لأن الأقوياء إذا طلبوا شيئاً فالكل ينفّذ من دون تردد، هؤلاء الناس يستجيبون لنبي قوي، لا لأنه نبي، بل لأنه قوي، يستجيبون له خوفاً أو طمعاً، ولكن الله يريد من الإنسان أن يؤمن طواعية من دون ضغط ولا إغراء، لذلك لحكمة أرادها الله كان النبي ضعيفاً، وكان الإيمان به مُنزَّهاً عن خوف أو عن طمع، ومنزهاً عن أي غرض، فالإيمان الحقيقي هو أن تؤمن بإنسان لا يملك لك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً، ولا رفعةً ولا انخفاضاً.
إذاً: لحكمة بالغةٍ بالغة كان النبي صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، تطلبون العذاب بشكل فيه تحدٍّ، أو تستخفون بهذه الدعوة، يعني إن كنت كما تدّعي رسول فلْيُمطِر علينا ربك حجارة من السماء، ائتنا بعذاب الله إن كنت صادقاً، فكان الرد النبوي المتأدب مع الله، رد النبي الذي هو عبد لله :
أوضح مثل: ابن إنسان غني جداً، لا يُحتَمل، لا في سلوكه، ولا في أخلاقه، الابن الذي لا سند له، وأبوه قد توفي، وهو يتيم، وليس شيءٌ في يده تجد منه بطولات وتفوق يفوق حد الخيال، لعل الضعف والفقر سبب كبير من أسباب التفوق .
المفهوم السلبي للقضاء والقدر مفهوم مرفوض :
إذاً الله عز وجل حينما يختار لك أن تكون ضعيفاً في مجتمع الأقوياء، وحينما يختار لك أن تكون فقيراً في مجتمع الأغنياء، لكن إياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تفهموا من هذا الكلام أن ترضى بالضعف، وأن ترضى بالفقر، أما حينما تبذل كل ما تملك ، ويصل بك جهدك إلى هذا المستوى ينبغي أن ترضى عن الله عز وجل، لأن حكمة بالغةً أرادها الله عز وجل قد تخفى عنك الآن ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدُّنْيَا وَهُوَ يَحْمِيهِ كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ تَخَافُونَهُ عَلَيْهِ ))
(( إن الله تعالى يحمي عبده المؤمن كما يحمي الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة ))
إذاً العبرة أن ترضى عن الله، لا تناقض بين أن ترضى عن الله وبين أن تسعى لرفع مستواك الثقافي والعلمي والاقتصادي والمعيشي، يعني ليس مطلوباً منك أن تقبل بمقدر عليك، وأوضح مثل: أنه لو دخل إلى البيت لص هل تقول: سبحان الله! هذا قضاء الله وقدره، وتستسلم له، أم تتحرك، وتقاوم، وتقبض عليه، وتسلمه إلى الجهات المسؤولة؟
إذاً: المفهوم السلبي للقضاء والقدر مفهوم مرفوض، لكن حينما تبذل كل ما تستطيع، حينما تسعى إلى أقصى درجة، ويصل بك السعي إلى هذا المكان، بعد كل سعيك أصبحت إنساناً ذا دخل محدود، وبعد كل سعيك أصبحت إنساناً بحسب مبادئك وقيمك، وأن الإيمان قيد يمنعك أن تنافق، يمنعك أن تكذب، يمنعك أن تتوسل إلى هدف مشروع بوسيلة غير مشروعة، إذا انتهى سعيك إلى أن تكون ضعيفاً وذا دخل محدود، فاعلم علم اليقين أن هذا الذي اختاره الله لك هو أبدع ما يكون، عبَّرَ عن هذه الحقيقة الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فقال: " ليس بإمكاني أبدع مما أعطاني " .
مرة ثانية أتمنى ألا تفهموا هذا أن ترضى عن واقع بإمكانك أن تغيره، أو أن ترضى عن دخل بإمكانك أن تحسّنه وفق منهج الله، أو أن ترضى عن مكانة بإمكانك أن ترتقي إلى أعلى منها وفق منهج الله، فلذلك هذه حقيقة، الله عز وجل حينما يختار لإنسان ضعفاً، أو دخلاً محدوداً، فلحكمة لو كُشِف الغطاء لاخترت الواقع، وللإمام علي رضي الله عنه كلمة رائعة يقول: " والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً" ، وله قول آخر ليس أقل منه روعة : " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي "
كفاك نصراً على عدوك أنه في معصية الله :
إذاً الآية تشير :
﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(216)﴾
لو بسطنا هذه الحقائق على ما يعانيه المسلمون في العالم كله الآن، الحقيقة أن كل شيء وقع أراده الله، وقد قامت حروب ضد المسلمين في البقاع كلها .
هناك إقبال على الدين لأن في الإسلام خلاص العالم :
النقطة الأولى أيها الإخوة، هو أن هذه الحروب، وهذه المضايقات، وهذه الحصارات الاقتصادية، هذا كله يؤدي إلى صحوة، يؤدي إلى عودة إلى الله، نحن مقصرون، وأقول دائماً : هان أمر الله علينا فهنّا على الله ، فلذلك الله عز وجل يعالجنا ، ونحن في العناية المشددة، وأقول لكم مرة ثانية: إن هناك مكتسبات ما كان يخطر على بال أحد أن تكون، منها أن الإسلام قفز في العالم كله إلى بؤرة الاهتمام، وأن العالم كله يراقب هذه الحرب الشعواء على المسلمين، وهو يسأل: ما الإسلام؟ هل تصدقون أن هذا الدين الإسلامي في العالم من حيث نموه هو أول دين في العالم ينمو، والشيء الذي لا يصدق أنه بعد عشرين عاماً تقريباً يتوقع الخبراء أن يكون الإسلام هو الدين الأول في أوروبا، فهناك إقبال على الدين، لأن في الإسلام خلاص العالم .
النقطة الدقيقة أيها الإخوة، أن العالم قبل خمسين عاماً تقريباً كان فيه ثلاث كتل من القيم، كتل الشرق، وكتل الغرب، والإسلام، الشرق تداعى من الداخل، والغرب بعد الحادي عشر من أيلول سقط كحضارة وبقي كقوة غاشمة، الآن ليس على الساحة إلا الإسلام مع أننا ضعاف، ومع أننا مستهدفون، ومع أن العالم كله يحاربنا، ولكن في الإسلام خلاص العالم، هذا يدعونا إلى أن نستفيد من هذه الفرصة الذهبية، وأن نقدم الإسلام في أبهى حلة، وأن نطبقه، وأن نعرضه أحسن عرض على الطرف الآخر، وكل واحد منا هو مسلم، هو سفير لهذا الدين، هذا عن قوله تعالى:
﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(59) ﴾
إخواننا الكرام، هذه الآية فيها دلالات كبيرة جداً، أولاً مفاتح جمع مِفتح على وزن مِفعل، مِبرد، آلة الفتح، أو مفتاح، ومفاتح جمع مَفتح، المكان الذي يُفتح، يعني أداة الفتحِ اسمها مِفتح، والخزانة الحديدية اسمها مَفتح، فجمع مِفتح، أو مَفتح مفاتح، أو مفاتيح ، الله عز وجل يقول :
أنواع الغيب :
قال تعالى :
﴿ ذَٰلِكَ مِنْ أَنۢبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
وأنت لا تعلم أيضاً ماذا جرى قبل ألف عام في مكان ما من العالم، ثم إنك لا تعلم ما سيكون بعد حين، هذا غيب الحاضر والماضي والمستقبل، غيب إخباري، غيب الماضي وغيب المستقبل شيء، وغيب الحاضر شيء آخر، غيب الماضي وغيب المستقبل بُعده زماني، أما غيب الحاضر فبُعده مكاني، الآن ماذا يجري في أحد أحياء حلب؟ لا ندري، أما الغيب المطلق
﴿ وَعَلَٰمَٰتٍۢ
جعل لكل شيء غاب عنك علامة، أنت لا تعلم أين الماء في باطن الأرض؟ لكن هناك علامات تقليدية، يأتون بقضيب رمان، وهناك علامات حديثة، هناك وسائل لمعرفة ماذا في باطن الأرض، وقس على هذا كثيراً، هناك أشياء غابت عنك وعني، وشيء غاب عني ولم يغب عنك، هذا نوع من الغيب، وهناك غيب غاب عنك وعني، لكن الله سبحانه وتعالى سمح أن نعرفه، وجعل لهذه المعرفة وسائل، فمن أخذ بها كشف هذا الغيب، وجميع المخترعات والمكتشفات، وجميع الومضات الإبداعية في العالم وفي تاريخ البشرية من هذا القبيل، ولكن هناك غيب مطلق يغيب عنا جميعاً، وليس له وسائل كي نعرفه، وقد أراد الله ألا نعرفه، فأنت بين غيب مضاف، وغيب مشترك لكن له وسائل، وبين غيب مطلق لا يعلمه إلا الله .
مصير كل إنسان غيب اختصّ الله به ذاته :
لذلك أيها الإخوة، أنت حينما تتقن هذه الحقائق لا تدخل نفسك في متاهة تقييم الأشخاص، مصير كل إنسان لا يعلمه إلا الله، أن توزع ألقاب الكفر والإيمان على من تشاء وعلى من تحب هذا تطاول على الله، وهذا سماه العلماء تألّياً على الله، هذا الآن إنسان الآن عاصٍ، الآن غير مسلم، وقد يدخل في دين الله، وقد يكون أفضل منك عند الله في المستقبل .
فمصير كل إنسان غيب اختص الله به ذاته، ولم يسمح لأحد أن يصل إليه، يعني الصحابة الكرام حينما لم يصلوا إلى مكة في صلح الحديبية وعادوا، تألموا ألماً لا حدود له لكن الله رد عليهم فقال:
﴿
يعني يوجد في مكة أناس آمنوا ولكن كتموا إيمانهم، ونساء آمنّ بالله وكتمن إيمانهن، فأنتم إذا وصلتم إلى مكة لقتلتموهم وأنتم لا تعلمون، فشاءت حكمة الله، وهو يعلم الغيب، ويعلم أن هذا الإنسان مؤمن، أو سوف يؤمن، أو أنه قريب من الإيمان، فأنت حينما تعرف أن هناك غيباً مطلقاً لا يمكن أن تعرفه لا أنت ولا غيرك هذا يجعلك مؤدباً، وأوضح مثل على ذلك :
(( أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ ، وَغُسِّلَ ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْتُ : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ـ هذا الهدف ـ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالَتْ : فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ أَبَداً ))
الله عز وجل لا يسمح لجهة أن تتألّه إلى أمد بعيد :
إذاً: هناك غيب يغيب عنك ولا يغيب عن غيرك، هذا من شؤون حياتنا الدنيا، وهناك غيب يغيب عنك وعن غيرك ولكن الله شاء أن تعرفه، وضع له أسباباً، وعلامات، ووسائل عليمة، فالغرب في هذا الباب تفوقوا علينا كثيراً، كشفوا القوانين، ووصلوا إلى المجرات، وغاصوا في أعماق البحار، ووصفوا، وقالوا، وألّفوا، وهذا تفوق ولا شك، ونحن في حاجة إلى هذا العلم، ولكن هناك شيء استأثر الله به، الآن ماذا يبنى على هذا الكلام؟ أنا أقول لكم من دون حرج: إن الذي يتابع مثلاً برامج حول الأبراج يعد في نص كلام رسول الله كافراً :
(( مَنْ أَتَى كَاهِناً أَوْ عَرَّافاً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ))
ومن يتابع هذه البرامج للتسلية لم تُقبل له صلاة أربعين صباحاً ولا صلاة أربعين ليلة:
(( مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ))
ذلك لأنه يتوهم أن جهة تقول له في المستقبل: سوف تكون غنياً أو فقيراً، يعني من كان يظن أن هذا العملاق الشرقي الذي يملك من القنابل النووية ما يكفي لتدمير القارات الخمس خمس مرات، كلام دقيق، الكتلة الشرقية حينما كانت في أوجها، وحينما كان هناك توازن قِوى بين الكتلتين، وكانت هذه نعمة ما عرفناها وقتها أبداً، لا يستطيع معسكر أن يحرك غواصة، يتصدى له المعسكر الثاني، وهؤلاء الضعاف في العالم محميون بفضل هذا التنافس وهذا التوازن، وقد قال الله عز وجل :
﴿ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍۢ
إلى آخر الآية، أما الآن قطب واحد، لا قيم، ولا مبادئ، ولا إنسانية، ولا شيء من هذا القبيل، يتفننون بإذلال الشعوب الضعيفة، هذا من نتائج أن أصبح قطبٌ واحدٌ مكان توازن القوى، فلذلك هذا العملاق الشرقي الذي يملك من القنابل النووية ما يدمر بها القارات الخمس خمس مرات، من كان يصدق أنه سيتداعى من الداخل؟ ويصبح من أضعف الدول في العالم، من كان يصدق؟
(( الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِداً مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ ))
لا تقنطوا من روح الله، الله عز وجل لا يسمح لجهة أن تتألّى إلى مدى بعيد، لها جولة وجولات، ولكن لا بد لها من مصير أسود، لأن الظلم ظلمات يوم القيامة، أما نحن كوننا مسلمين:
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) ﴾
مهام المسلمين اليوم :
قد تقول لي: كيف الخلاص؟ أقول لك: ليس هناك حل أرضي الآن بحسب المدى المنظور لا يوجد حل، لكن كيف أن الله عز وجل أنهى قوة في العالم تُعدّ من أقوى القوى في التاريخ الحديث، تلاشت من دون حروب، من دون خسائر، من الداخل، فلعل الله سبحانه وتعالى يهيئ لهذا القطب الذي يتفنن في إذلال الشعوب، وفي استباحة دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، وثرواتهم سبباً لدماره، على كلٍّ الآية التي تناسبنا الآن :
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66) ﴾
مهمتك أن تعبد الله، وأن تنتظر الخير منه كي تشكره عليه، وانتهى الأمر، وأن نعمل لتخفيف أعباء المسلمين بحمل همومهم، لتحسين أوضاعهم، لتزويج شبابهم، لمعالجة مرضاهم، لتأمين فرص عمل.
إخواننا الكرام، من بديهيات العقيدة أن الطرف الآخر إذا أراد إفقارنا، العبادة الأولى كسب المال الحلال وإنفاقه في مصالح المسلمين، والطرف الآخر إذا أراد إضلالنا، العبادة الأولى ترسيخ معالم الدين، والطرف الآخر إذا أراد إفسادنا، العبادة الأولى صيانة شباب المسلمين وشابات المسلمين، والطرف الآخر إذا أراد إذلالنا، ينبغي أن نضحي بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس.
ما لم يكن انتماؤك إلى مجموع المؤمنين فلست مؤمناً :
أيها الإخوة، قلت مرةً لبعض الإخوة الكرام في جلسة: استمعوا إلى الأخبار ما شئتم، وتابعوا دقائق الأخبار، واستمعوا إلى تحليل الأخبار، واستمعوا إلى ما بين السطور، وما بين الكواليس، ولكن لا تنسوا لثانية واحدة أن الله موجود، وأنه بيده كل شيء، وأن الله قادر على أن يقلب كل هذه الموازنات، وكل هذه المعادلات في ثانية واحدة، ولعل الله سبحانه وتعالى يخبئ لنا نصراً من عنده لا نرى أسبابه الآن، لكن علينا أن نستقيم على أمر الله، علينا أن نصلح شأننا، أن نصلح بيوتنا، علينا أن نربي أولادنا، علينا أن نتعاون، ذكرت لكم كيف أن المسلمين في فرقة، وفي تشتت، ينبغي أن نتعاون، وأن نلغي هذه الخلافات فيما بيننا، ينبغي أن نعد أنفسنا أمة واحدة، قال تعالى :
﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
ما قال: إن جماعة فلان إخوة، ولا قال: إن المذهب الفلاني إخوة، قال:
إذاً:
نحن في عهدة الله عز وجل وفي رعايته فعلينا أن نطيع الله :
ذات مرة ـ أيضاً قصة رمزية ـ امرأة متقدمة في السن على مشارف الموت، التقت بسيدنا نوح عليه السلام، قالت له: يا نوح، متى الطوفان؟ لا تنسَني عند الطوفان، يبدو أن هذا النبي الكريم ـ والقصة رمزية ـ جاء الطوفان ونسيها، والسفينة في أمواج عاتية تذكّر هذه المرأة، طبعاً أيقن أنها ماتت، فلما انتهى الطوفان جاءته، وقالت: يا نوح متى الطوفان؟ فإذا كان سيدنا نوح نسي فالله لا ينسى، فنحن في عهدة الله عز وجل، وفي رعايته، فعلينا أن نطيع الله، علينا أن نقدم سبب الحفظ، الله يحفظ بلادنا .
إخواننا الكرام، الذي يجري في العراق لا يصدق، لا يوجد أمن، ولا يوجد طعام، ولا يوجد شراب، ولا يوجد كهرباء، ولا يوجد وقود، ولا يوجد شيء إطلاقاً، قتل يومي، وترون وتسمعون، فادعوا الله أن يحفظ بلادنا من الفتن.
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6) ﴾
أحيانا تُكشَف ثروات تفوق حد الخيال.
إذاً: ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ﴾ في الأمر حكمة، سبحان الله ! هذه البلاد غير المتعلمة الجاهلة المتخلفة عندها ثروات كبيرة جداً، والبلاد الذكية جداً والمتعلمة جداً ما عندها ثروات، لو كانت الثروات عندهم لمتنا جميعاً، لكن الله عز وجل يقيم توازناً، يعطي هؤلاء المقصرين بعض الثروات، ويعطي هؤلاء المتفوقين قلة الثروات، فهؤلاء يأتون إلى هؤلاء، وهكذا .
كل ما يجري في العالم يعلمه الله مهما كان صغيراً :
الآية الكريمة :
﴿
أما الذي حصل: لتتقاتلوا، الآية لتعارفوا، لا لتتقاتلوا.
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ(21) ﴾
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَٰهٌ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۚ
إذا كان سقوط ورقة يعلمها، يعني الله عز وجل يقرب لك، هذا الشيء الذي لا يقدم ولا يؤخر، وليس له أي معنى، ولا حكم شرعي، ولا ظلم فيه، ورقة تسقط يعلمها، إذا فكيف بما فوقها ؟!!
خالق هذا الكون لا يعقل أن يدع عباده من دون تصفية حسابات :
يعني أنا أحياناً أقول: قال عليه الصلاة والسلام :
(( دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ ))
أعلق على هذا الحديث الشريف الصحيح، فما قولكم بما فوق الهرة؟ هرة حُبست، لم تُقتل فماتت جوعاً، فصاحبة هذه الهرة سوف تدخل النار، فالذي يبيد الشعوب، ويقصف البلاد باليورانيوم المُخضّب، الذي يبقى تأثيره المؤذي أربعمئة وخمسين ألف عام، يؤثر في الطعام والشراب والنباتات، وهذا الإنسان الذي أمر بهذا القصف لا يحاسب؟!
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36) ﴾
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
لذلك رحم الله ابن القيم الجوزية هو وحده يرى أن الإيمان باليوم الآخر دليله عقلي لا نقلي، خالق هذا الكون لا يُعقل أن يدع عباده من دون تصفية حسابات.
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ(42) ﴾
علامة ضعف الإيمان الشكوى :
لذلك أيها الإخوة، أقدم لكم بشارة: إن لم تكن طَرفاً في مؤامرة قذرة هدفها إفقار المسلمين، أو إضلالهم، أو إفسادهم، أو إذلالهم، أو إبادتهم، فأنت ملك، إذا لم تكن لك علاقة بما يجري الآن من انتهاك للحرمات، ومن نهب للثروات، ومن أعمال يندى لها الجبين، فأنت من الناجين إن شاء الله، وإنْ لم يكن لك شأن كبير في المجتمع .
قال ملك لوزيره: " من الملك؟ قال له: أنت، ملك جبار ، قال له : لا ، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيت يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه ، إنه إذا عرفنا جهد في استرضائنا، وإن عرفنا جهدنا في إحراجه"، فإذا كنت تتمتع بصحة، ولك دخل يغطي نفقاتك فقط فأنت ملك.
واللهِ كنت قبل يومين في عيادة إنسان أصابه مرض عضال، وهو في ريعان الشباب، خرجت من عنده والله الذي لا إله إلا هو، وقلت: لو أن الله أتم عليك الصحة، ولا تملك من الدنيا شيئاً إلا رغيف خبز تأكله ظهراً من دون إدام لكنت ملِكاً.
نعمة الصحة لا تعدلها نعمة على الإطلاق، تأتي بعد الهدى، الهدى، فالصحة، فالكفاية، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ))
الشيطان حينما يأتي الإنسان، يقول الله عز وجل :
﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِّنۢ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَٰنِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ
لكن النقطة الدقيقة:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين