- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس التاسع من سورة الأنعام .
الإنسان حينما يؤمن أنه خُلق للآخرة تراه منطلقاً إلى طاعة الله :
مع الآية الواحدة والثلاثين ، وهي قوله تعالى :
﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) ﴾
أيها الإخوة الكرام، الحقيقة أن(قد) حرف تحقيق، فإذا جاءت قبل فعل ماضٍ يكون حرف تحقيق، يعني خسارة هؤلاء محققة، ماذا خسروا؟ خسروا الأبد، خسروا الجنة التي خُلِقوا لها، خسروا أعظم ثمرة من ثمار الإيمان، وهي السعادة الأبدية، لذلك:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) ﴾
إن صدق بالحسنى تجده يتقي أن يعصي الله، وإن صدق بالحسنى تجد حياته كلها مبنية على العطاء، خُلق ليعطي.
الحياة الدنيا أساسها العمل أما الحياة الأخروية فمبنية على التكريم :
إخواننا الكرام، أنت حينما تؤمن أن قيمتك في الحياة الدنيا فيما تعطي لا فيما تأخذ، لكن الإنسان الغافل الشارد يبني مجده على ما أخذ لا على ما أعطى، حصّلت كذا وكذا، ثروتي كذا وكذا، حجمي المالي كذا وكذا، بإمكاني أن أفعل كذا وكذا، فقيمة الإنسان من منظور الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، قيمة الإنسان فيما يعطي، لذلك ترى المؤمن يسعد إذا أسعد الآخرين، يسعد إذا قدّم خدمات للآخرين، يسعد إذا اعتنى بعباد الله أجمعين ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ﴾ فلما كذب بلقاء الله ، فلما كفر بالحسنى استغنى عن طاعة الله .
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8)وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) ﴾
هو الأصل إما أن تؤمن بالحسنى أي الجنة ، أنك مخلوق لها، وإما أن تكذب بالحسنى، وتؤمن بالدنيا فقط، وقد لا ننتبه بأن الحياة التي نعيشها نحن نسميها اقتباساً من القرآن الكريم حياةً دنيا، معنى دنيا أي منخفضة، ولا نعبأ بالحياة التي تقابلها، وهي العليا الحياة العليا، الحياة الأخروية مبنية على التكريم.
﴿ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا
أساسها التكريم، والحياة الدنيا أساسها العمل .
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ(6) ﴾
إن كان العطاء يسعدك فأنت من أهل الآخرة وإن كان الأخذ يسعدك فأنت من أهل الدنيا :
يعني الحياة الدنيا أرادها الله أن تكون حياة عمل، حياة تجربة، حياة ابتلاء، حياة امتحان، حياة غرائز، ومعك منهج، والمنهج يحول بينك وبين أن تلبي هذه الغرائز، فهناك صراع، وهناك مجاهدة ، وهناك تكليف، أشياء ذات كلفة، فالحياة الدنيا أساسها بذل الجهد، والأوامر تكليفية، أي ذات كُلفة، والحياة الأخرى أساسها الإكرام .
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) ﴾
وقال :
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35) ﴾
لذلك أيها الإخوة، أنت حينما تؤمن بالحسنى أي بالحياة الآخرة، لأنك مخلوق للآخرة، تتقي أن تعصي الله، بل وتبني حركتك اليومية على العطاء، يسعدك أن تعطي؛ أن تعطي من مالك، من وقتك، من جهدك، من خبرتك، من علمك، من كل شيء تملكه، تعطي وتسعد بالعطاء، ودقق: إن كان العطاء يسعدك فأنت من أهل الآخرة، وإن كان الأخذ يسعدك فأنت من أهل الدنيا.
إذاً لأنه صدق بالحسنى اتقى أن يعصي الله، وبنى حياته على العطاء، أما إن صدّق بالدنيا وكذّب بالحسنى استغنى عن طاعة الله، ليس هناك داعٍ، كذب بالحسنى، يُبنى على تكذيبه بالحسنى أنه بخل واستغنى، بنى حياته على الأخذ، وشهد الله أيها الإخوة أن هؤلاء البشر على كثرتهم ـ ستة مليارات ـ وعلى تنوع انتماءاتهم، وألوانهم، وأجناسهم، ومذاهبهم، ونِحَلهم، وطوائفهم، واتجاهاتهم، وأطيافهم كما يقال الآن، وكل التقسيمات الأرضية هي تقسيمات لا معنى لها، التقسيم الإلهي قسمان
(( في الجنَّةِ ما لا عَينٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خطَرَ على قَلبِ بَشَرٍ. ))
لكن متى المشكلة؟ إنسان قد يستمتع بوهم مريح، لكن متى المشكلة؟ حينما يكتشف الحقيقة.
البطولة في العاقبة :
لو أن إنساناً يحمل بالتعبير التجاري شيكاً بمليون دولار مزوّراً، هو لا يعلم أنه مزور، هذا الشيك بمليون دولار يعطيه شعوراً بالغنى، شعوراً بالتفوق، شعوراً بالسيطرة، شعوراً بأنه يفعل ما يريد، يشتري ما يشاء، لكن متى المصيبة الكبيرة؟ حينما يكتشف أنه مزور، ويُزجّ به في السجن، هنا المصيبة، فلذلك البطولة لا أن تضحك أولاً، أن تضحك آخراً، من ضحك أولاً ضحك قليلاً وبكى كثيراً، البطولة في العاقبة ، قال تعالى :
﴿ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُوٓاْ ۖ إِنَّ ٱلْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ ۖ وَٱلْعَٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
(( ألا يا رُبّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة ، ألا يا رُبّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة ، ألا يا رُبّ مكرم لنفسه وهو لها مهين ، ألا يا رُبّ مهين لنفسه وهو لها مكرم ))
فالعاقبة في الدار الآخرة، من أجمل ما قاله الإمام علي رضي الله عنه: " الغنى والفقر بعد العرض على الله "
﴿ كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا مَتَٰعُ ٱلْغُرُورِ
لا ينفعه بعد الموت إلا أعماله الصالحة، إذاً ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ﴾
الخسارة التي لا تعوض أن تخسر الآخرة وتخسر لقاء الله عز وجل :
أنت حينما تؤمن بلقاء الله، دقق: كل حركة، بكل دقيقة تربطها بلقاء الله، الآن سأكذب، لكن الله حرّم عليّ الكذب، فإذا كذبت لن أكون في مرضاته، لا يكذب، إن آمنت بلقاء الله، أنت لاحظ إنساناً يكتب، ويعلم أن كل كلمة يتكلمها محاسب عليها، وسوف يُسأل، وسوف يُحقق معه، كلما كتب كلمة يتصور هذه الكلمة تُعد مأخذاً عليّ، هل أُحاسَب عليها؟ لأنه آمن بإنسان في الأرض قوي يحاسبه فقط، الآن انضباط الناس عجيب في الأرض، ينضبط انضباطاً يفوق حد الخيال، لأنه إنسان، إنسان بشر، لكنه قوي، وبإمكانه أن يوقع به أذىً شديداً، إذاً ينضبط، يطبق الأمر بحذافيره، يبتعد عن الذي نهي عنه بحذافيره، هذا مع بشر، فكيف مع خالق البشر
مثال: محل تجاري له مستودع كبير، ولهذا المستودع بابان، والبضاعة إلى السقف، فالذي سُرِق من باب خلفي لا يستخدم إلا قليلاً، سرق بضاعة بالملايين، كُشِف الأمر بعد حين، العبرة عند المفاجأة، عندما يوقن الإنسان أنه كان مخطئاً.
﴿ فَٱلْتَقَطَهُۥٓ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ
﴿ وَجَٰوَزْنَا بِبَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُۥ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
وقال :
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلًا
المؤمن آمن بساعة اللقاء لذلك حياته كلها متكيفة مع ساعة اللقاء :
﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾
إخواننا الكرام، دائماً وأبداً العاقل هو الذي لا يُفاجَأ، والأقل عقلاً هو الذي يُفاجَأ، والأقل الأقل عقلاً هو الذي يصعق عندما يأتيه خبر غير متوقع، فهذا الإنسان المؤمن آمن بساعة اللقاء فكل حياته متكيفة مع ساعة اللقاء، كالطالب تماماً لحظة الامتحان لن تغادر ذهنه إطلاقاً، فإذا جاءه صديق فهو أمام خيارين، إما أن يستقبله وأن يرحب به وأن يمضي معه ساعاتٍ وساعات، والصديق غير مُكلف بامتحان، أو أن يعتذر منه، كلما رأى أنه سيضع وقتاً يعتذر، لأن ساعة الامتحان لن تغادر ذهنه إطلاقاً.
أحد الطلاب الأوائل في الشهادة الثانوية أجرى معه بعض الصحفيين حواراً، سأله: إلامَ تعزو نيلك الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية؟ فأجابه إجابة رائعة، قال: لأن لحظة الامتحان لم تكن تغادر ذهني ولا لثانية في العام كله، والمؤمن كذلك ، سوف ألقى الله، هل في هذا العمل ما يُغضب الله؟ هل في هذا الأخذ ما يُغضب الله؟ هل في هذا العطاء ما يُغضب الله؟ هل في هذه الصلة ما يغضب الله؟ هل في هذه القطيعة ما يغضب الله؟ هل في هذه المودة ما يغضب الله ؟
﴿ لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ
فمودته محسوبة، وابتسامته محسوبة، وصلته محسوبة، وقطيعته محسوبة، وبِرّه محسوب، ومنعه محسوب، كل هذه التفاصيل تنطلق من أنه سوف يلقى الله، وسوف يسأله عن هذا العمل.
ابدأ من النهاية فالبدء من النهاية يجعلك تنضبط وفق منهج الله :
أيها الإخوة، أُسأَل كثيراً أسئلة متعلقة بالحياة اليومية، والتجارة، والبيع، والشراء، والموظفون يسألونني حول تطبيق النظام، وقد يكون هناك من يتأذّى بسجن، أو بضبط كبير، فماذا أجيبهم؟ أقول له: هيئ جواباً لله عز وجل ولا تعبأ بأحد، فبطولتك لا أن تهيئ جواباً لمن كان أعلى منك من بني جلدتك، ينبغي أن تهيئ جواباً لله عز وجل، والله يعلم كل شيء.
إذاً العاقل لا يفاجأ بشيء، العاقل لا يفاجأ لأنه بدأ من النهاية، وفي البرمجة العصبية اللغوية قاعدة رائعة ابدأ من النهاية، النهاية الموت، ابدأ من الموت، فأي عمل حينما تلقى الله لا تستحي به فافعله، وأي عمل حينما تلقى الله تستحي به لا تفعله، لذلك ورد في بعض الأحاديث :
(( إنَّ ممَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِن كَلامِ النُّبُوَّةِ إذَا لَمْ تَسْتَحِ فاصْنَعْ مَا شِئْتَ
إن لم تستحِ من الله، ابدأ من النهاية، النهاية هو الموت، والموت تراه كل يوم، الأغنياء يموتون، والأقوياء يموتون، والفقراء يموتون، والضعفاء يموتون، والأصحاء يموتون، والمرضى يموتون، ابدأ من النهاية فالبدء من النهاية يجعلك تنضبط وفق منهج الله.
أيها الإخوة ، النبي عليه الصلاة والسلام دعانا كثيراً إلى تذكر الموت.
كل إنسان حينما يأتيه الموت يؤمن بكل ما جاء به الأنبياء فالقضية قضية وقت :
فرعون آمن، لكن بعد فوات الأوان، ويجب أن تعلموا علم اليقين أننا جميعاً، وأن كل البشر، وأن كل الكفار، وأن كل الملحدين، وأن كل الوثنيين، وأن كل إنسان على وجه الأرض، حينما يأتيه الموت يؤمن بكل ما جاء به الأنبياء، فالقضية قضية وقت، إما أن تؤمن اليوم، أو أن يؤمن الإنسان عند فراق الدنيا:
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ(8) ﴾
أنت في نعمة الأمن، ماذا فعلت في هذه النعمة؟ أنت في نعمة الكفاية، أنت في نعمة الصحة، أنت في نعمة الفراغ.
(( اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك ))
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) ﴾
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36) ﴾
الإنسان لم يخلق عبثاً بل سيحاسب على كل ذرة :
تدخل جامعة والأقساط بمئات الألوف، قاعات المحاضرات، والمكتبات، والمهاجع، والمطاعم، ولا يوجد امتحان آخر السنة ؟! كل هذا العطاء بلا امتحان؟! يكفي أن تقول: يُرجى منحي الدكتوراه، هل تُمنح؟ هل في الأرض جامعة تفعل هذا؟ لذلك أن يُخلق الإنسان عبثاً هذا من سابع المستحيلات، وأن يُخلق سدى هذا من سابع المستحيلات .
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93) ﴾
عند بعض العلماء أيها الإخوة أنه ما من قطرة دم تراق إلا ويحملها إنسان، إلا دم الذي يموت بحد شرعي يتحمله الله جل جلاله، أما أن تقتل مئة شخص بقصف، بعد هذا تقول: كان هناك خطأ في المعلومات، هؤلاء الذين ماتوا سوف يتحمل الذين أخطؤوا في تصويب الأهداف دماءهم كلها :
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنِ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8) ﴾
فقال: يكفني هذا وانصرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( انصرف الرجل وهو فقيه ))
مثقال ذرة ، كله محسوب .
الذنوب أنواع :
أيها الإخوة:
أيها الإخوة ، يقول الله عز وجل :
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) ﴾
أيها الإخوة، بادئ ذي بدء يجب أن نُعرِّف اللعب، نحن أحياناً نبني جامعة، هذه الجامعة بُنيت لتبقى، وهناك أهداف نبيلة وراء بنائها أن نُخرِّج قادة للأمة، علماء، أطباء، أدباء، مربين، فأحياناً نبني بناءاً ليبقى، وأحياناً يقام سيرك مثلاً، هذا البناء مؤقت، خيمة، بعد حين يتحول لبناء آخر، فأن تبني ثم أن تهدم في هذا لعب، أوضح مثل دمية الثلج، أو دمية الرمل، بُنيت لتُنقض، لعب، يعني عمل غير هادف، أدق كلام عمل بلا هدف يعني عبث.
المفهوم الحقيقي للعب :
الآن طفل صغير يشتري سيارة صغيرة، يحركها على قطع الأثاث، يرافقها صوت، وإن كان هناك صعود يرفع مستوى الصوت، وهو منغمس في لذة ما بعدها لذة ، لكن أباه يرى أنه يلعب، وهذا نوع من اللعب، أما حينما يكبر ويصبح شخصاً مهمّاً، وتُقدَّم له صوراً متحركة، كيف كان يحرص على هذه اللعبة؟ وكيف كان يقاتل أخاه من أجلها؟ وكيف كان يبكي والدموع تنهمر إذا أُخذت منه؟ وهو في مركز كبير يضحك ويقول: هذا لعب، تعريف اللعب: أنه عمل بلا هدف ، تعريف اللعب: أنه ينتهي بنقيضه ، تعريف اللعب: أنك تراه صغيراً حينما تتجاوزه .
الآن لو وسعت الموضوع: الدنيا كلها لعب، بالنهاية هناك موت، فالقوي يموت، والضعيف يموت، نحمل شهادات، نطبع بطاقات، نُعرِّف بأنفسنا، نبني بيتاً فخماً، جاءنا زائر نُريه أبهاء البيت، غرف البيت، مرافق البيت، ألَّفت كتاباً تُطلِع الناس عليه، هناك حركة لكن كلها تنتهي عند الموت، لو ابتعدنا عن الآخرة، تصور دنيا بلا آخرة، لعب بلعب، ميزات، فكلما اطّلع على آلة يقول لك: هذه فيها ذاكرة، هذه تقف حينما لا تستعملها آلياً، فكل إنسان عنده آلة أو عدة آلات، ويتحدث عن الخصائص، حديث ممتع، لكن في النهاية هذا الذي اشتراه ينساه، ثم يمله، المعنى الصغير في اللعب عمل الأطفال، أو عمل الكبار عند العبث واللهو، أما اللعب بالمفهوم الحقيقي الدنيا كلها لعب، حينما تحذف الآخرة، وتحذف الإيمان بالله، وتحذف الحياة الأبدية، وتلغي الجنة والنار، الحياة الدنيا من دون فكر إيماني، من دون هدف كبير، لعبٌ ولعب .
وصلنا إلى القمر ـ خيراً إن شاء الله ـ وكلفت الرحلة خمسة و عشرين مليار دولار، واضطربت ميزانيات معظم الدول، وتعوّر الدولار لأنه استطاع إنسان أن يضع قدمه على سطح القمر، وضع العلم الفلاني، ركَز هذا العلم على تراب القمر، هؤلاء المعذبون في الأرض ماذا استفادوا؟ هؤلاء الفقراء، هؤلاء المرضى، هؤلاء الشعوب الجائعة، ماذا استفادت من أن يطأ الإنسان القمر برجله؟ نوع من اللعب أيضاً، لعب كلّف أرقاماً فلكية، أحياناً يقول لك رحلة إلى القمر، الآن يُفكَّر برحلات سياحية للقمر، مبالغ فلكية، لعب، وإذا ذهبت إلى هناك، القمر لا يصلح للحياة، بذلة الرائد كلفت 17 مليوناً لأنه ليس في القمر هواء، وإذا لم يكن فيه هواء فليس فيه أمواج صوتية، تحتاج إلى أجهزة بث، وأجهزة استماع، وبذلات لكن لعب بلعب، أنا لا أقلّل من قيمة الكشف العلمي إطلاقاً، لكن في النهاية أنا حينما أعيش بلا هدف عملي لعب بلعب، في بعض الأبنية في أوروبا فيها تماثيل وفيها لوحات زيتية، تفوق حد الخيال، وبالنهاية سوف نموت، لكن النظرة الإيمانية أنك مخلوق لجنة عرضها السماوات والأرض، إذاً أعمالك في الدنيا هادفة، تدرس كي تدل الناس على الله عز وجل، تتعلم الطب كي تقوم بأعمال أساسها الإحسان والخير وخدمة الناس، كي يرضى الله عنك، صدقوا أيها الإخوة، بدأت أنا أن لعب الأطفال يسمى لعب لأنه عمل بلا هدف، وعمل ينتهي بنقيضه، وعمل تستصغره حينما تكبر، لكن لو وسّعت هذه الدائرة لرأيت كل عمل أهل الدنيا لعب بلعب، يعني حركة كبيرة جداً ومظاهر، لكن لا تنتهي بإسعاد الإنسان .
في النهاية الحياة لعب بلعب فيها أشياء ومبالغات تفوق حدّ الخيال :
أنت أحياناً يمكن أن تطوف حول الأرض في ساعة واحدة، يوجد أفكار كهذه، طائرة أسرع من الصوت، يقول: من بيتك إلى المطار ساعة، وحول الأرض ساعة، ومن المطار إلى بيتك ساعة، قُطعت المسافات بزمن قياسي، حسناً ما النتيجة؟ ما الذي حصل؟ يوجد تقدم تقني كبير جداً، يوجد اتصالات، يوجد فضائيات، يوجد إنترنيت، يوجد كمبيوتر، يوجد حواسيب، يوجد آلات تصوير رقمية، يوجد أجهزة تفوق حد الخيال .
أنا كنت في بلد، الثلاجة؛ كل مكان فيها فيه حساس الكتروني، فأنا سآتي بمثل واحد، طبعاً مكان للفواكه، مكان للأجبان، مكان للحوم، مكان للعصير، مكان للبيض، سنأخذ مثلاً البيض، هذه الثلاجة فيها تلفزيون، وفيها إنترنيت، يمكن للسيدة أن تتابع برنامجاً تلفزيونيّاً في أثناء الطبخ، فلو أن حساسات مكان البيض أشارت إلى أنه استهلك ثلاثا الكمية الثلاجة تخبر السوبر ماركت، وتدفع ثمن البضاعة من بطاقة صاحب البيت، ويطرق الباب، وتأتي البضاعة، وأنت لا تشعر، يوجد خدمات أصبحت إلى هذا المستوى، وبعد هذا؟ إذا أنت اشتريت، ماذا حصل ؟ لعب، وثمن الثلاجة ثمن فلكي كبير جداً، لأن كل نواقص الثلاجة يتم باتصال عن طريق الإنترنيت، عن طريق الثلاجة نفسها، ويعطى رقم بطاقة صاحب البيت، وتأتي البضاعة إلى البيت بحسب النقص التي شعرت به الحساسات الالكترونية، أليس هذا لعباً ؟
يمكن أن تجلس على كرسي يقدم لك دلكاً آلياً، خيراً إن شاء الله، ويمكن أن تستحم بحمام يعطيك ماء بقوة شديدة، قال : هذا دلكٌ أيضاً، في النهاية الحياة لعب بلعب، فيها أشياء ومبالغات تفوق حد الخيال.
عندما قال الله :
هذه الناقة من أجل السباق، الجِمال التي تُعَد للسباق في دول الخليج لا تأكل إلا الفستق الحلبي، والعسل، والكاجو، وجبة الجمل الواحدة تطعم أهل قرية، فلان سبق، ماذا حصل؟! تجد الشيء العجيب، الدنيا كلها هكذا، كرة القدم لعب أليس كذلك ؟ سباق الخيول، سباق السيارات، أحياناً السباق يكون فيه أذى للسيارة، صعود الجبال ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ﴾
الفرق بين اللهو واللعب :
طالب في الصيف تعلم شيئاً عابثاً، لعب الشطرنج فرضاً، أذهب ثماني ساعات، لكن لعب الشطرنج في الشتاء، وعنده فحص بكالوريا، هذا لعب مضاف إليه اللهو، يعني اشتغل بالخسيس عن النفيس.
فإله عظيم خالق الأكوان، يصف لك الدنيا وصفاً جامعاً، مانعاً، بليغاً، قاطعاً ، قال لك :
الآن مثلاً: طالب طب في بلد عربي يريد أربعة أشياء، يريد سيارة، وعيادة، وعروساً، وعيّاناً، أي مريضاً، يريد مريضاً يعطيه أجرته، وعروساً، وسيارة، وعيادة، صار طبيباً لامعاً، وأمّن بيتاً، ومركبة، وعروساً، ثم ماذا؟ لا يوجد إلا الموت بعد هذا، لو كنت أغنى أغنياء الأرض ثم ماذا؟ الموت، لو كنت أقوى إنسان ثم ماذا ؟ الموت .
يعني طائرة كبيرة جداً، غرفة نوم، وغرفة جلوس، ويخت في البحر لقضاء إجازة بكاملها، وأرقام تفوق حد الخيال، وبيت يفوق في مساحته حد الخيال، والإنسان في ثانية صار خبراً بعد أن كان شخصاً مهماً جداً، هذه الحياة لعب ولهو، فاللعب عمل عابث بلا هدف، ينتهي بنقيضه، تستصغره بعد حين، أما اللهو فهو عمل عابث بلا هدف، ينتهي بنقيضه تستصغره بعد حين، ولكنه يشغلك عن عمل جليل، فالذي يلهو بالخسيس عن النفيس يعد من أكبر الخاسرين ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾
إيمانك باليوم الآخر وانسجامك معه يقلب الدنيا من لعب ولهو إلى عمل جاد مثمر ونافع :
طبعاً أنا حينما أذكر هذه الأمثلة لا أقصد إنساناً إطلاقاً، قد يكون الإنسان محسناً، وله أعمال طيبة، أنا أقصد أن الحياة تنتهي بالموت، والموت نصيب كل إنسان من دون استثناء:
إذاً ما الذي يلغي أن تكون الدنيا لعباً ولهواً ؟ أن تؤمن بالله، فإذا آمنت بالله عز وجل أصبحت الدنيا ثمينة جداً، لأنها مزرعة الآخرة، ولأن كل أعمالك فيها أعمال صالحة تستحق من الله الثواب والجزاء،
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين