- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (006)سورة الأنعام
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنين ، مع الدرس السادس من دروس سورة الأنعام .
الذين ألفوا اقتناص اللذات وكسب الأموال المحرمة يرفضون نبوة النبي ورسالة الرسول:
مع الآية التاسعة عشر ، وهي قوله تعالى :
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) ﴾
أيها الإخوة الكرام، حينما يرسل الله إنساناً هو رسول للناس، ويقول لهم: أنا رسول الله، ومعه منهج فيه أمر وفيه نهي، ولأن الإنسان حينما يتبع شهوته لا يألف الأمر والنهي، يألف التفلت، والحرية المطلقة، وهذا شأن المجتمعات حينما تبتعد عن منهج الله، الكلمة التي تُقال بالعالم الغربي: الحرية.
الحقيقة أن هذه الكلمة لها حدود لا تنتهي، لكن الواقع يبين أن من معاني هذه الحرية التي يفهمونها أن تفعل كل شيء، ألا تُسَاءل، أن تفعل كل شيء يحلو لك، هذه ليست حرية إنما هي تفلُّت، على كلٍ الإنسان إذا ألِف التفلت، إذا ألف أن يمارس الشهوة بلا قيود، ولا حدود، ولا ضوابط، والشهوات الكبرى كسب الأموال، ومقاربة النساء، وما من فساد في الأرض إلا ويرتكز على حرية في كسب الأموال، وحرية في اقتناص اللذائذ، ما من فساد في الأرض إلا ويرتكز على حرية؛ أي إباحية، أي تفلت من منهج الله عز وجل في كسب الأموال، وحرية أو إباحية أو تفلت في العلاقة بالجنس الآخر، هؤلاء الذين ألِفوا اقتناص اللذات، وكسب الأموال المُحرمة، هؤلاء يرفضون نبوة النبي ورسالة الرسول، والجواب الأول له :
﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلً
أكبر دليل أن هذا القرآن الكريم كلام الله هو وقوع الوعد والوعيد:
إذا جاءك إنسان ولم يقيّدك، ولم يلزمك بعمل ما، قد تجامله وقد ترحب به، لكن حينما يُلزمك بشيء يُقلّل من حريتك، فردُّ الفعل الطبيعي أن تُكذبه، لذلك هؤلاء الأنبياء والرسل لا بد لهم من دليل يؤكد نبوتهم ورسالتهم
قصص كثيرة وردت في القرآن الكريم هي في الحقيقة وقوع الوعد والوعيد:
الله عز وجل قال :
﴿ يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ
أي إنسان يجترئ على الله، ويأكل الربا، ثم يُتلَف ماله، فتدمير ماله شهادة الله لهذا الإنسان أن هذا القرآن كلام الله بدليل وقوع الوعيد، إنسان عمل عملاً صالحاً فعاش حياة طيبة، الحياة الطيبة التي يحياها المؤمن هي شهادة الله لهذا المؤمن أن القرآن كلامه، فالحياة الطيبة لا يملكها إلا خالق الإنسان، ولأنه آمن ونفّذ تعليمات الله عز وجل فالله منحه هذه الحياة الطيبة .
أيها الإخوة، وقوع الوعد والوعيد شهادة الله لهذا الإنسان أنه كلام الله
إذاً أكبر دليل في هذا القرآن على أنه كلام الله أن ما فيه من وعود تحققت إنما هي شهادة الله عز وجل.
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ
طبعاً هذه الآية نزلت قبل أن يغلب الروم، فلما غلبت الروم وقوع هذا الوعد كان شهادة الله لهذا الإنسان أن هذا القرآن كلامه، وإن أردت أن توسّع الموضوع أو أن تضيقه سِيّان، لكن أنت لمجرد أن تصطلح مع الله، وأن تستقيم على أمره تشعر بسعادة ، تشعر بسكينة ، لأن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) ﴾
حينما تُصدق أنك مخلوق للجنة، وتبني حياتك على العطاء، وتتقي أن تعصي الله تجد أن الأمور جرت لصالحك، وهذه الأمور جرت من قبل خالق الأكوان .
الإشارات التي تسمى إنجازاً علمياً عددها كبير جداً تقترب من ثلث القرآن:
إذاً: أكبر دليل من هذا القرآن الكريم على أنه كلام الله، هو وقوع الوعد والوعيد، وقوع الوعد شهادة الله لهذا الإنسان أن هذا القرآن كلامه، ووقوع الوعيد شهادة الله لهذا الإنسان بأن القرآن كلامه
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً (59) ﴾
المسلمون حينما أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، لقوا ذلك الغي، وهذا الغي الذي هم فيه الآن شهادة الله للبشر أن هذا القرآن كلام خالق البشر، هذا دليل .
الدليل الآخر: أن الله سبحانه وتعالى أورد في هذا القرآن قريباً من ألف وثلاثمئة آية تتحدث عن الكون، هذه الآيات الكونية بعضها فيه مفهوم علمي، وبعضها فيه إعجاز علمي، معنى الإعجاز: أن إشارة قرآنية إلى عظمة الله عز وجل من خلال خلقه لم تُكشَف إلا في نهاية الزمن، إلا بعد ألف وخمسمئة عام، ووقت نزول الوحي مستحيل أن يستطيع مخلوق على سطح الأرض أن يكشف هذه الحقيقة، فهذه الإشارات التي تُسمى إن شئتم سبْقاً علمياً، أو تسمى إن شئتم إنجازاً علمياً، هذه عددها كبير جداً تقترب من ثلث القرآن .
بعد تقدم علوم الطب يُكتَشف أن نوع الجنين يحدده الحُوين لا البويضة، فإذا قرأت القرآن الكريم :
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45)مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) ﴾
بعض الأدلة عن الإعجاز العلمي في القرآن :
حينما نكتشف أن كل شيء يدور في هذا الكون بدءاً من الذرة، وانتهاء بالمجرة، ثم تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ ۖ كُلٌّ فِى فَلَكٍۢ يَسْبَحُونَ
وحينما يكتشف رواد الفضاء أن الفضاء الخارجي مظلم ظلاماً تاماً، لانعدام الهواء في الفضاء الخارجي، وحينما تقرأ قوله تعالى :
﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ(14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) ﴾
حينما ارتاد الإنسان الفضاء، وشعر بضيق صدره كلما علا في طبقات الجو تقرأ قوله تعالى :
﴿ فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُۥ يَشْرَحْ صَدْرَهُۥ لِلْإِسْلَٰمِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُۥ يَجْعَلْ صَدْرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى ٱلسَّمَآءِ
وحينما يُكتشف أن بين كل بحرين حاجزاً يمنع اختلاط مياه البحر بمياه البحر الآخر، وأنه تمت بحوث علمية مُطوّلة اكتُشف فيها أن لكل بحر مكوناته، وطبيعته، وملوحته، وكثافته، وخصائصه، ثم نقرأ قوله تعالى :
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19)بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) ﴾
كروية الأرض ودورانها حول الشمس وردت في القرآن الكريم :
وحينما يُكتشف مؤخراً أن الأرض تدور حول الشمس، وأن الشمس بالنسبة إلى الأرض ثابتة ، لكن الشمس مع المجموعة الشمسية تتجه إلى نقطة في الفضاء الخارجي، أما في العين الظاهرة الشمس تدور حول الأرض، بهذه العين الشمس تشرق وتغرب، وتشرق وتغرب، فالمتحرك هو الشمس، لكن حينما نطلع على آيات القرآن الكريم نجد أن :
﴿ وَٱلشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّۢ لَّهَا
الأرض هي التي تدور حول الشمس، وحينما يُكتَشف أن الأرض كرة، وأن الله سبحانه وتعالى أشار إلى هذه الكروية في آيات عديدة ، فقال تعالى :
﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ
لا يقبل من شكل هندسي إلا الكرة إذا دارت هذه الكرة حول منبع ضوئي فتداخلَ النور والظلام، على هذا الشكل هذه الحادثة لا تكون إلا في الكرة، أما في المكعب يوجد حروف فالضوء يأتي فجأة، ويغيب فجأة، إلا في الكرة تتداخل الأشعة مع الظلام في وقت واحد، والدليل: أنه بين الفجر، وبين طلوع الشمس، يوجد تداخل بين النور والظلام، وأنه بين المغرب وغياب الشفق الأحمر هناك تداخل بين الضوء والظلام، ثم إن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ ٱلْأَرْضَ
وما من شكل هندسي تُمد عليه الخطوط إلى مالا نهاية إلا الكرة ﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ﴾
وآيات كثيرة جداً في هذا الموضوع .
أكبر شهادة لله عز وجل لخلقه أن محمداً بن عبد الله هو رسول الله هو هذا القرآن:
إذاً الآيات المتعلقة بالإعجاز العلمي، أو بالسبْق العلمي التي يستحيل على الإنسان أن يعرفها وقت نزول الوحي هذه الآيات هي شهادة الله لنا جميعاً أن هذا القرآن كلامه، مادام هذا القرآن كلام الله عز وجل، فالذي جاء به رسول الله .
إذاً: يمكن أن نقول إن أكبر شهادة لله عز وجل لخلقه، أن محمداً بن عبد الله هو رسول الله هو هذا القرآن
﴿ سَنُرِيهِمْ ءَايَٰتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِىٓ أَنفُسِهِمْ
هذان الدليلان الكبيران وقوع الوعد والوعيد، وآيات الإعجاز العلمي
كل شيء في الأرض يدل على الله عز وجل:
التسلسل
هذا الكون هو الثابت الأول، يراه كل الناس، يراه الكفار، ويراه المؤمنون، يراه أهل الأديان كلهم، هذا الكون المترامي الأطراف، هناك أرقام تكاد لا تُصدق، مئتان وثلاثون مليار مجرة، في كل مجرة عدد كبير من المليارات من الكواكب، هذا الكون ثابت، يراه الناس جميعاً، يرون الشمس والقمر، يرون البحار والأنهار، يرون الجبال والمنخفضات، يرون الحيوانات على كثرتها، يرون الأسماك، يرون الأطيار، يرون النباتات، كل شيء في الأرض يدل على الله عز وجل .
هذا الكون لا يستطيع إنكار وجود صانعه إلا الإنسان، فهل يُعقل أن نضع قنبلة في مستودع للحديد فالمحصلة طائرة من أحدث الطائرات، بمحركات، وأجهزة قياس، وأجهزة ارتفاع، وأجهزة تبريد، ومقاعد وثيرة؟ أيعقل أن يكون الانفجار منتهياً إلى طائرة، لو فجرنا مطبعة أيعقل أن تكون المحصّلة كتاب فيه حروف، وفيه فصول، وفيه أبواب، وفيه حواشٍ وتعليقات، وفيه علم، فهذا الكون هو الثابت الأول ، فأنت بعقلك وحده تستطيع أن تؤمن بوجود الله، وبأسمائه الحسنى، في الكون رحمة، وفي الكون حكمة، وفي الكون علم، وفي الكون قدرة، وقدرة الله عز وجل تجلت قبل أسبوعين بهذا الزلزال الذي قوة تفجيره مليون قنبلة ذرية، وأن هذا الموج كيف أنه دمر كل شيء، وشاء الله لهذا الماء أن يكون نعمة فكان، ويشاء له أحياناً أن يكون نقمة فيكون، فهذا الكون يَشِفّ عن قدرة، يشفّ عن علم، يشف عن رحمة، يشفّ عن حكمة، فبعقلك يمكن أن تكتشف حقيقة الوجود الإلهي، والكمال الإلهي، والوحدانية الإلهية ، هذا أول شيء.
وبعقلك وحده يمكن أن تكتشف أن هذا القرآن كلام الله من خلال إعجازه، ومن خلال وقوع الوعد والوعيد، وبعقلك وحده يمكن أن تكتشف أن الذي جاء بهذا القرآن المعجز هو رسول الله.
إذاً: يمكن أن تؤمن إيمانا علمياً محضاً، ويمكن أن تؤمن إيماناً عقلياً محضاً، ويمكن أن تؤمن إيماناً يقينياً محضاً، أن الله سبحانه وتعالى موجود، وواحد، وكامل، من خلقه، ومن كتابه، ومن هذا الإنسان الذي بعثه الله للبشر جميعاً إنما هو محمد بن عبد الله .
بعد أن ينتهي عقلك من الإيمان بالله عن طريق الكون، والإيمان بالقرآن عن طريق الإعجاز، ووقوع الوعد والوعيد، والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عن طريق القرآن ينتهي دور العقل، ويأتي دور التّلقّي، ويأتي دور الوحي، فكل شيء يعجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به .
القرآن الكريم يخاطب الله به كل البشر إلى نهاية الدنيا والله تولى بذاته حفظ هذا الكتاب :
هذا الكلام كله أيها الإخوة يُساق في قوله تعالى :
بالمناسبة أيها الإخوة، الله جل جلاله تولى حفظ هذا الكتاب، تولاه بذاته، ما معنى تولاه بذاته؟ أمر أنبياءه السابقين أن يحفظوا الكتب السماوية، قال تعالى :
﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَىٰةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّٰنِيُّونَ وَٱلْأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَٰبِ
أُمِر الأنبياء أن يحفظوا كتابه، كتبه السابقة، فحفظوها، ولكن الله لم يتولَّ حفظها، فأتباعهم لم يحفظوها، بل غيروها وبدلوها، لكن الله سبحانه وتعالى لأن هذا القرآن لنهاية الدوران، ولكل الأمم والشعوب تولى الله بذاته حفظه، مع هذا التفلت الذي ما بعده تفلت، مع هذا الفسق والفجور الذي ما بعده فسق وفجور، العناية بهذا القرآن تفوق حد الخيال، يعني العناية بكتابته، بخطوطه، بطبعاته، بحفظه، بمؤسساته، شيء لا يصدق، يعني ما من كتاب على وجه الأرض حظي بالحفاظ عليه دقيقاً كما نزل ككلام الله عز وجل، فالله تولى بذاته حفظ هذا الكتاب .
من لوازم حفظ كلام الله حفظ كلام النبي عليه الصلاة والسلام :
ولعلماء العقيدة إضافة أخرى، بما أن كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو بيان وتوضيح لكلام الله، فمن لوازم حفظ كلام الله، حفظ كلام النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك هيأ الله لهذا الحديث الشريف رجالاً عِظاماً أعطاهم ملكات تفوق حد الخيال، فنقّحوا هذا الحديث وبوّبوه، وصنفوه، وأخرجوه، وبيّنوا لنا المتواتر، والصحيح، والحسن، والضعيف، والموضوع، أيضاً أن ينهض رجال كبار ويستخدمون طاقات إنسانية كبرى من أجل الحفاظ على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أيضاً يندرج تحت باب أن الله سبحانه وتعالى تولى حفظ كلامه .
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) ﴾
إذاً: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾
القرآن الذي نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا الذي بين أيدينا بالتمام والكمال، قد يقول قائل ما الدليل؟ أقول لك هذه قضية إيمانية، لعلي أشرت قبل قليل إلى أنه يمكن أن تؤمن بالله من خلال خلقه عن طريق عقلك، ويمكن أن تؤمن بالله من خلال كلامه عن طريق التدبر، ويمكن أن تؤمن بالله عن طريق رسوله، ولكن قضية أن الله تولى حفظه، هذا إخبار من الله عز وجل، فإذا آمنت بهذا الثابت الأول الكون الذي يدل على الله، ثم آمنت بإعجاز القرآن الكريم على أنه كلام الله، وعلى أنه بكل آياته قطعي الثبوت، قال الله عز وجل في هذا القرآن
القضايا التي غابت عنك عينها و آثارها دليل اليقين بها الخبر الصادق:
هناك قضايا أداة اليقين بها الحواس الخمس فقط، القضايا التي ظهر فيها عين الشيء وآثاره، والقضايا التي غابت بها عين الشيء بقيت آثاره أداة اليقين بها العقل فقط، بعرة تدل على البعير، أقدام تدل على المسير، ماء يدل على الغدير.
أما القضايا التي غابت عنك الآثار والمؤثرات دليل اليقين بها الخبر الصادق، الله عز وجل أخبرنا بقرآنه أنه حفظ هذا القرآن، فإيماننا بحفظه، وأن الذي بين أيدينا هو نفسه الذي نزل على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، هذه قضية إيمانية لا تحتمل المناقشة:
المؤمن يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى فعال وحده وأن يد الله فوق أيديهم :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25) ﴾
فالمؤمن يعتقد بكل قطرة في دمه، وبكل خلية في جسمه أن الله سبحانه وتعالى فعال وحده، وأن يد الله فوق أيديهم، وأنه :
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ۚ
الإيمان الحقيقي أن تعلم أن الله فعال لما يريد:
قال تعالى :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ ٱلْأَمْرُ كُلُّهُ
﴿ لَهُۥ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ
﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ۖ لَهُۥ غَيْبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِۦ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِىٍّۢ وَلَا يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِۦٓ أَحَدًا
﴿ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ
أنت حينما تعتقد هذا الاعتقاد التوحيدي تكون مؤمناً حقاً، والإيمان لا يرقى إليك بإيمانك أن الله موجود، وأن الله خالق السماوات والأرض، ولكن الإيمان الحقيقي أن الله:
﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ(16) ﴾
ابدأ بمعرفة الله لا من خلال أفعاله بل من خلال خلقه وكلامه :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
أحد أكبر أسباب العذاب النفسي أن تدعو مع الله إله آخر ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾ والشيء المريح وحده هو أن توحّد وأن تؤمن .
الإنسان حينما يكذب بهذا الدين يخسر نفسه:
أيها الإخوة، ثم تأتي الآية التي بعد هذه الآية :
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) ﴾
الرابح الأول هو الذي ربح نفسه والخاسر الأول هو الذي خسر نفسه:
﴿ فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِۦ ۗ قُلْ إِنَّ ٱلْخَٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ
فالتكذيب يوصل إلى الخسارة الفادحة، يعني الإنسان بيده أشياء كثيرة، خسر محل تجارة لم تربح، شريك اقتنص الشركة لكن طاقاته وإمكانياته موجودة، أما إذا قُتل توقف كل شيء.
شيء آخر: في مرحلة أخرى غير أنك لا تؤمن ، قال :
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً
عندما رتب الله المعاصي تصاعدياً جعل على رأس هذه المعاصي أن تفتري على الله الكذب:
﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
أن تفتري على الله الكذب، أن تقول مثلاً: إن الله خلق الإنسان في الأصل كافراً، جاء إلى الدنيا نفّذ مشيئة الله عز وجل، لأن الله قدّر عليه الكفر، ثم وضعه الله في جهنم إلى أبد الآبدين، هذا افتراء على الله، هذا سوء ظن بالله عز وجل، بل إن عقيدة الجبر فيها إساءة إلى الإيمان بالله عز وجل :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إِياك أن تبتل بالماء
* * * *
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ(22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) ﴾
تكاد ترقى هذه الأعمال إلى مستوى الجريمة، إن لم تؤمن خسرت نفسك، وخسرت كل شيء، وخسرت الأبد، إن افتريت على الله كذباً كنت ظالماً أشد الظلم، فالإنسان إن لم يؤمن وغطّى عدم إيمانه بافتراء على الله وعلى كتابه وعلى رسوله صار خاسراً ظالماً، لذلك يوم القيامة حينما يسأل يقول :
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين