وضع داكن
23-04-2024
Logo
رحلة أمريكا 4 - المحاضرة : 03 - الدعوة إلى الله وقواعدها .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 

الدعوة إلى الله دعوتان :

أيها الأخوة الكرام ، بادئ ذي بدء أشكر للقائمين على هذا المؤتمر دعوتهم الكريمة التي إن دلت على شيء فعلى حسن الظن بي ، وأرجو الله أن أكون عند حسن ظنكم.
أيها الأخوة الكرام ، يقول الله جلّ جلاله في كتابه الكريم :

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[ سورة فصلت: 33 ]

من خلال هذه الآية الكريمة يتضح أنه ما من أحد أفضل عند الله ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال : إنني من المسلمين ، لأن الدعوة إلى الله صنعة الأنبياء :

﴿ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ﴾

[ سورة الأحزاب: 45-46 ]

لكن أيها الأخوة - الكلام دقيق وأحياناً الحقيقة المرة هي أفضل ألف مرة من الوهم المريح - الدعوة إلى الله دعوتان ، دعوة إلى الله خالصة ، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله ، الدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها الاتباع لا الابتداع ، إنما أنا متبع ولست بمبتدع ، لذلك هناك حكمة تكتب على الظفر : " اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورع لا يتسع".
الدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاتباع ، الخضوع لمنهج الله ، تطبيق شرع الله ، الدعوة إلى الله الخالصة لها خصائص ، بينما الدعوة إلى الذات أساسها الابتداع ، تبتدع من أجل أن تنفرد ، تبتدع من أجل أن تقول : ليس هناك أحد مثلي ، لذلك اتبع لا تبتدع، اتضع لا ترتفع، الورع لا يتسع .
الدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاتباع بينما الدعوة إلى الذات أساسها الابتداع ، الدعوة إلى الله الخالصة أساسها التعاون ، القرآن الكريم يأمر المؤمنين بالتعاون :

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

قال العلماء : البر صلاح الدنيا والتقوى صلاح الآخرة . فالعلماء علامة إخلاصهم فيما بينهم التعاون ، علامة إخلاصهم أن يكون أحدهم معيناً للآخر ، أن يشكلوا هيئة استشارية.
يا أيها الأخوة الكرام ، التعاون لا التنافس ، التنافس معنى ذلك هناك مكاسب مادية في الدعوة إلى الله ، إذاً لا بد من التنافس ، أما إذا كان هناك دعوة إلى الله خالصة فأساسها التعاون :

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾

[ سورة المائدة: 2 ]

كل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب .
أيها الأخوة : الدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاعتراف بالآخر ، أما الدعوة إلى الذات فأساسها إلغاء الآخر ، فكما أنت داعية موفق هناك آلاف الدعاة الموفقين مثلك ، الدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاتباع ، التعاون ، الاعتراف بالآخر ، و الدعوة إلى الذات أساسها الابتداع ، والتنافس ، وإلغاء الآخر .

 

تحرر الداعية من ضغوطات المجتمع التي قد تشوه دعوته :

أيها الأخوة الكرام ، آية ثانية :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الأحزاب:39 ]

هؤلاء الدعاة إلى الله ، الذين يبلغون رسالات الله ، لهم آلاف الصفات ، مئات الصفات ، اكتفى القرآن بصفة واحدة :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه ﴾

[ سورة الأحزاب:39 ]

فإذا خشي الداعية غير الله سكت عن الحق خوفاً وتكلم بالباطل تملقاً ، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهت دعوته ، قال بعض علماء البلاغة : هذه الصفة صفة متعلقة بالموصوف فإذا ألغيت ألغي الموصوف ، هذه الصفة مترابطة بالموصوف ترابطاً وجودياً فإذا ألغيت ألغي الموصوف ، فالدعوة إلى الله إذا خشي الداعية غير الله سكت عن الحق وتكلم بالباطل فانتهت دعوته ، أبو جعفر المنصور يقول لأبي حنيفة : لو تغشيتنا ، تعال إلينا ، قال : ولم أتغشاكم وليس لي عندكم شيئاً أخافكم عليه ؟ وهل يتغشاكم إلا الذي يخافكم على شيء ؟ إنك أن قربتني فتنتني ، وإن أبعدتني أزريت بي .
فلذلك لا بد من أن يكون الداعية متحرراً من ضغوطات المجتمع التي قد تشوه دعوته :

﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّه ﴾

[ سورة الأحزاب:39 ]

هذه خصيصة ثانية .

 

علة خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

الثالثة ، يصف الله الأمة فيقول :

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾

[ سورة آل عمران: 110]

قال علماء التفسير : معنى كنتم خير أمة أي أصبحتم بهذه البعثة خير أمة أخرجت للناس ، ويتغنى العرب دائماً بهذه الآية :

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ﴾

[ سورة آل عمران: 110]

ولكن الله سبحانه وتعالى بيّن علة الخيرية :

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

[ سورة آل عمران: 110]

يقول عليه الصلاة والسلام دققوا في هذا الحديث :

(( ... كيف بكم إذا لمْ تأمروا بالمعروفِ ولم تَنْهَوْا عن المنكر ؟ قالوا : يا رسول الله وإنَّ ذلك لكائن؟ قال: نعم، وأشدُ، كيف بكم إذا أمرتُم بالمنكر ونهيُتم عن المعروف؟ قالوا: يا رسول الله وإنَّ ذلك لكائن؟ قال: نعم، وأَشدُّ منه سيكون، قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف بكم إذا رأيتُمُ المعروفَ منكراً والمنكر معروفاً ))

[ تاج الأصول في جامع أحاديث الرسول عن علي بن أبي طالب ]

أخطر مرحلة يعيشها المجتمع الإسلامي مرحلة تبدل القيم ، فالذي جمع مالاً غزيراً دون النظر إلى مصدره له مكانة علية ، من هنا من علامات قيام الساعة أن الإنسان قيمته بمتاعه ، نحن في عصر الأشياء ، البشرية مرت بعصر المبادئ ، عصر المبادئ لما جبلة اعتدى على أعرابي ، سيدنا عمر قال له : أرضِ الفتى ، لا بد من إرضائه مازال ظفرك عالقاً بدمائه ، أو يهشمن الآن أنفك وتنال ما فعلته كفك ، قال جبلة : كيف ذاك يا أمير المؤمنين هو سوقة وأنا صاحب تاج ، كيف ترضى أن يخر النجم أرضاً ؟ نزوات الجاهلية ورياح العنجهية قد دفناها وأقمنا فوقها صرحاً جديداً ، وتساوى الناس لدينا أحراراً وعبيداً ، قال له : كان وهماً ما جرى في خلدي أنني عندك أقوى وأعز، أنا مرتد إذا أكرهتني. قال عمر : عالم نبنيه ، كل صدع فيه يداوى ، وأعز الناس بالعبد بالصعلوك تساوى ، هذا عصر المبادئ ، لذلك :

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾

[ سورة آل عمران: 110]

فإن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر نحن أمة كأي أمة خلقها الله ، بل أنتم بشر ممن خلق ، مالنا أية ميزة ، علة خيريتنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

 

الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :

أيها الأخوة الكرام ، شيء آخر ، يقول الله عز وجل :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108 ]

بعض علماء التفسير قال : ما معنى على بصيرة ؟ أي مع الدليل والتعليل ، أنت حينما تأتي بالدليل وتأتي بالتعليل تسهم في إقناع الآخر ، لذلك لولا الدليل لقال من شاء ما شاء، والدعوة إلى الله مع الدليل تكسب المدعو فكراً دينياً صحيحاً، لذلك في بعض كتب الفقه ما من حكم شرعي إلا والدليل معه ، سمى العلماء هذا الكتاب فقهاً معللاً ، والفقه المعلل ينمي الملكة الفقهية عند الإنسان ، فإذا أردت أن تقتني كتاب فقه ابحث عن كتاب فقه معلل ، لذلك :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108 ]

على بصيرة أي بالدليل والتعليل ، أنا ومن اتبعني استنبط بعضهم من ذلك أن الدعوة إلى الله فرض عين من هذه الآية :

﴿ قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾

[ سورة يوسف: 108 ]

فالذي لا يدعو إلى الله على بصيرة ليس متبعاً لرسول الله ، ولكن كيف نفرق بين دعوة إلى الله هي فرض عين ودعوة إلى الله هي فرض كفاية ، الدعوة إلى الله فرض عين في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، حضرت خطبة ، استمعت إلى شرح آية ، تأثرت بها انقل هذا الشرح لزوجتك ، لأولادك، لإخوانك ، لأصدقائك في نزهة ، في وليمة ، اذكر الله عز وجل من خلال ما سمعت ، هذه دعوة إلى الله تعد فرض عين على كل مسلم ، في حدود ما تعلم ومع من تعرف ، هذه فرض على كل مسلم :

(( بلغوا عني ولو آية ))

[ أخرجه البخاري عن ابن عمرو ]

لو كل واحد منا استمع إلى خطبة تأثر بها ونقلها إلى أهله ، إلى أولاده ، إلى جيرانه ، في لقاءاته ، في نزهاته ، في ولائمه، لكان المجتمع الإسلامي بواقع غير هذا الواقع ، كلمة جاءتني الآن : والله الذي لا إله إلا هو لو أن الجاليات الإسلامية في العالم طبقت الإسلام تطبيقاً صحيحاً لكان موقف الغرب من الإسلام غير هذا الموقف .

 

ارتباط العبادات الشعائرية بالعبادات التعاملية :

لذلك أنا أخاطب أي أخ كريم مقيم في هذه البلاد ، أنت وحدك في هذه البلاد عليك مهمة ، وتحمل رسالة ، ينبغي أن تنقل لمن حولك من سكان هذه البلاد نزاهة الدين ، عظمة الدين ، صفاء المؤمن ، صدق المؤمن، أمانة المؤمن ، سيدنا جعفر رضي الله عنه حينما سأله النجاشي عن الإسلام ، قال:

(( أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، ... ))

[ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

إن حدثك فهو صادق ، إن عاملك فهو أمين ، إن استثيرت شهوته فهو عفيف ، وفوق ذلك تاج النسب :

(( ...فدعانا إلى الله لنوحده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ))

[ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

هذه العبادة التعاملية .
أيها الأخوة ، أتمنى من كل قلبي أن تؤكدوا على هذه الحقائق ، العبادات الشعائرية كالصلاة والصيام والحج والزكاة لا تقطف ثمارها إلا إذا صحت العبادة التعاملية :

(( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ))

[ سنن ابن ماجه عن ثوبان ]

هذه الصلاة إذا لم يكن هناك استقامة في المظهر والمخبر ، في الخلوة والجلوة ، في بيتك وعند الناس ، فلن تقطف ثمارها ، لذلك قال النبي الكريم :

((خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ....))

[الترمذي عن عائشة أم المؤمنين]

في البيت يلبس ، يتعطر ، يبتسم ، يصافح ، ينحني أحياناً ، يستقبل الضيف، يرحب به ، هذه أخلاق مرتبطة بعمله ولها علاقة بمصلحته ، لكن أين أخلاقه الحقيقية ؟ في البيت ، فالنبي الكريم قال :

((خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي))

[الترمذي عن عائشة أم المؤمنين]

فلذلك لا بد كما قلت قبل قليل من أن يكون الخلق مستمراً في المناسبات و غير المناسبات ، في الخلوة و الجلوة ، المؤمن مؤمن في السراء والضراء ، مع الناس و وحده ، فلذلك الإخلاص ، ألا تختلف العبادة عندما تكون مع الناس أو تكون وحدك في البيت .

 

العبادات التعاملية هي الأساس في قطف ثمار الدين :

أيها الأخوة الكرام ، كلكم يعلم أن هناك عبادات شعائرية فالصلاة لا بد لها من استقامة وعمل صالح ، والصيام :

(( مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعمَلَ بِهِ، فَليسَ للهِ حاجة فِي أَن يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ))

[البخاري عن أبي هريرة ]

(( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ))

[الحاكم عن أبي هريرة ]

الحج :

(( من حج بمال حرام فقال : لبيك اللهم لبيك ، قال الله له : لا لبيك ولا سعديك وحجك مردود عليك))

[الأصبهاني في الترغيب عن أسلم مولى عمر بن الخطاب ]

الزكاة :

﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ﴾

[ سورة التوبة: 53]

((من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل وما حقها؟ قال: أن تحجبه عن محارم الله))

[ الترغيب والترهيب عن زيد بن أرقم بسند فيه مقال كبير ]

هذه الشهادة والصلاة والصوم والحج والزكاة بأدلة قطعية قرآنية نبوية ، إن لم تتحقق العبادة التعاملية من صدق وأمانة وعفة وإخلاص فلن نقطف من ثمار الدين شيئاً .
أيها الأخوة الكرام ، الحقيقة الأولى والدقيقة العبادات التعاملية أي الأخلاق لن نستطيع أن نعقد اتصالاً بالله إلا إذا صحت ، هناك عبادة تعاملية صحيحة تأتي بعدها العبادة الشعائرية ، لذلك قالوا : إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في طاعة الآمر ، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من الأمر .
أيهاالأخوة الكرام ، النبي عليه الصلاة والسلام آتاه الله علماً ، آتاه الله بياناً رائعاً ، يعد كلام النبي الكريم أفصح كلام بعد القرآن ، آتاه جمالاً ، قواماً ، آتاه أشياء لا تعد ولا تحصى، لكن الله عز وجل حينما أراد أن يمدحه بماذا مدحه ؟ بخلقه فقال تعالى :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4]

هذا الذي جعل ابن القيم رحمه الله يقول : " الإيمان هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الإيمان ".

 

تطبيق السنة الشريفة التي هي أقوال النبي وأفعاله وإقراره :

أيها الأخوة : السنة واجبة التطبيق ، عندنا كتاب وسنة ، لكن السنة أفعال النبي كما تعلمون ، أقوال النبي وأفعاله وإقراره ، يمكن أن نضيف إلى سنة النبي سنته الدعوية ، كيف دعا إلى الله ، كيف عامل أصحابه ، هل تصدقون في بعض الغزوات ، الرواحل ثلاثمئة راحلة والصحابة ألف ، فأمر قائد الجيش رسول الله قال : كل ثلاثة على راحلة - هو سيد الخلق وحبيب الحق ، وسيد ولد آدم ، نبي مرسل - وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، سوى نفسه مع أقل جندي في الجيش ، ركب الناقة فلما جاء دوره في المشي قال صاحباه : نحن نمشي عنك ، فقال قولاً والله لا أنساه حتى الموت ، قال : " ما أنتما بأقوى مني على السير- كان رياضياً- ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر " .
هذه أخلاق النبي الكريم ، أعرابي أراد أن يلتقي بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ذهب إلى المسجد نظر في الحاضرين ثم قال : أيكم محمد ؟ ماذا تستنبطون من هذا أيكم محمد ؟ ليس له كرسي خاص ، أو جلسة خاصة ، أو مكان خاص ، قال : أيكم محمد ؟ هناك روايتان؛ الأولى : أحدهم قال له : ذاك الوضيء ، المتألق ، و هناك رواية ثانية قال له : أنا . هذا معنى دقيق جداً حينما سوى نفسه بأصحابه تسوية تامة كان ذا خلق عظيم :

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾

[ سورة القلم: 4]

أيها الأخوة الكرام ، ثمامة بالغ في التنكيل بأصحاب النبي وتقتيلهم ، وقع أسيراً في قبضة أصحاب رسول الله ، وجاؤوا به إلى المدينة ، ربط في إحدى سواري المسجد ، مرّ به النبي قال : ما عندك يا ثمامة ؟ قال : إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن أردت المال خذ ما شئت ، عفا عنه ، يقول هذا الرجل الذي دخل في الإسلام : والله ما كان على وجه الأرض رجل أبعض إليّ من محمد والآن ما على وجه الأرض من رجل أحبّ إليّ من محمد .

 

قواعد الدعوة إلى الله :

1 ـ القدوة قبل الدعوة :

أيها الأخوة : القاعدة الأولى في الدعوة إلى الله : القدوة قبل الدعوة ، سيدنا عمر سأل أحد الولاة : " ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال له : أقطع يده ، فقال للوالي : إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر له حرفتهم ، فإن وفرنا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ".

2 ـ الإحسان قبل البيان :

أيها الأخوة الكرام ، شيء آخر هو الإحسان قبل البيان في الدعوة إلى الله ، أي أنت عليك أن تفتح قلبه بإحسانك ليفتح عقله لبيانك ، افتح قلبه بإحسانك ليفتح عقله لبيانك ، لذلك :

(( يا داود ذكِّر عبادي بإحساني إليهم فإن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ))

[ حديث قدسي رواه البيهقي عن عمير بن وهب ]

نفتح قلوب من حولنا بالإحسان ليفتحوا لنا عقولهم للبيان ، لذلك قالوا : من هو الولي ؟ أهو الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال : لا ، قالوا : أهو الذي يطير في الهواء ؟ قال: لا، قال : الولي كل الولي الذي تجده عند الحرام والحلال .
أن يراك حيث أمرك وأن يفتقدك حيث نهاك ، و هذا معنى قوله تعالى :

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾

[ سورة يونس: 62-63 ]

3 ـ الترغيب قبل الترهيب :

الآن أيها الأخوة الترغيب قبل الترهيب ، هناك دعاة إلى الله يتحدثون دائماً عن النار ، عن أهوال النار ، وعن عذاب القبر ، هذا شيء لا بد من ذكره لكن باعتدال ، اجعل من الترهيب والترغيب معاً ، والإيجابيات والسلبيات معاً ، ووصف أهل الجنة وأهل النار معاً ، هذا التوزيع ، وهذا التناغم ، وهذه المساواة بين الطرفين أفضل بالدعوة من أن تختص بالجانب السلبي ، فقالوا : الترغيب قبل الترهيب .

4 ـ التيسير قبل التعسير :

قالوا : والتيسير قبل التعسير ، جاء إنسان فرنسي أعلن إسلامه في مصر في الأزهر ، تولاه أحد العلماء فأبقاه ستة أشهر في أنواع المياه في البداية ، حتى خرج من جلده ، فترك هذا العالم التقى مع الإمام محمد عبدو قال له : الماء الذي تشربه توضأ منه ، ألغى له ستة أشهر ، الآن نحن بحاجة إلى تبسيط الدين ، وإلى تطبيقه ، وإلى عقلنته ، الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، هناك نص لا تفتعل تناقضاً بين العقل وبين النص الشرعي ، السبب كما أرى والله أعلم ، الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح ، مع التأويل الصحيح ، هناك نقل صحيح بتأويل غير صحيح ، وهناك نقل غير صحيح ، لا بد من نقل صحيح مع تأويل صحيح ، هذا أول خط ، الخط الثاني خط العقل غير التبريري ، هناك عقل تبريري يغطي أخطاءه بتبريرات لا تقبل ، فنحن نريد نقلاً صحيحاً مؤولاً تأويلاً صحيحاً ، مع عقل صريح ليس تبريرياً ، مع فطرة سليمة ليست منطمسة ، مع واقع موضوعي ليس مزوراً ، هذا الحق ، ما جاء به النقل الصحيح من عند الله مع التأويل الصحيح وقبله العقل الصريح وارتاحت إليه الفطرة السليمة وأكده الواقع الموضوعي ، هكذا الحق ، لأن الوحي وحي الله ، ولأن العقل جهاز أودعه الله فينا فمبادئه تتوافق تماماً مع واقع الكون ، مبدأ الغائية والسببية وعدم التناقض ، فالنص الأصلي من عند الله ، أو من عند رسوله ، والعقل جهاز أودعه الله فينا ، والفطرة سليمة ، خصائص النفس البشرية تتوافق مع الفطرة ، قال تعالى :

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾

[سورة الروم:20]

والواقع يؤكد ما جاء به القرآن ، إذاً عقل صريح مع تأويل صحيح مع فطرة سليمة مع واقع موضوعي هذا هو الحق .

5 ـ التربية لا التعرية :

أيها الأخوة الكرام ، التربية لا التعرية ، هناك من يرى أنه لابد من التعنيف في الدعوة ، أو لا بد من أن يكشف الإنسان أمام الكل ، كان عليه الصلاة والسلام يقول : " ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا "، فهذه الكناية اللطيفة من باب الأدب ، ومن باب الستر، ومن باب مكارم الأخلاق .

الابن استمرار لأبيه فعليه أن يكون على شاكلته :

أخواننا الكرام ، أي إنسان بالأرض الآن سبعة مليارات إنسان في الأرض ، الإنسان حريص حرصاً لا حدود له على سلامته ، و سلامته باستقامته ، أبداً لو أن هناك هدفاً كبيراً وفي الطريق عقبات ، والعقبة على عرض الطريق ، فالطريق غير سالك ، فالإنسان حينما يستقيم يزيل كل العقبات عن الطريق إلى الله ، فإذا استقام لا يوجد عقبات لا بد من حركة قال تعالى :

﴿ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾

[ سورة فاطر: 10]

بالعمل الصالح يرتفع الإنسان ، الآن الاستقامة سبيل السلامة والعمل الصالح سبيل السعادة ، أما الاستمرار وأنتم في أمس الحاجة والبلاد الغربية كلها في أمس الحاجة للشيء الثالث الذي هو تربية الأولاد ، فلو بلغت أعلى منصب في الأرض ، وجمعت أكبر ثروة في الأرض ، وارتقيت إلى أعلى مكانة في الأرض ، ولم يكن ابنك كما تتمنى فأنت أشقى الناس :

﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾

[سورة الفرقان: 74 ]

فلذلك إذا كنت بحاجة في بلدك إلى بعض الجهد لتربية أولادك صدق ولا أبالغ أنت هنا بحاجة إلى عشرة أضعاف الجهد الذي تبذله في بلدك لتربية أولادك ، لأن هنا يوجد عقبات كأداء أمام الالتزام ، هناك صوارف كثيرة ، فلا بد من أن يعوض الأب عن هذه البيئة المتفلتة بتوجيه سديد ، وقدوة عالية ، لكن أخواننا الكرام ، كلام دقيق جداً لمجرد أن يكون الأب والأم ملتزمين فهذه دعوة لأبنائهم ، الأب المستقيم كلامه مضبوط ، مشاعره مضبوطة ، لا يوجد انحرافات و لا معاص و لا آثام ، الأب بهذا الشكل اعتماداً على مبدأ القدوة قبل الدعوة يعرف الطريق إلى تربية أولاده ، ولن يستطيع الإنسان أن يسعد إذا رأى ابنه ضائعاً مهما بلغ من مرتبة عالية، أو مال كثير ، أو عز عزيز ، لا بد من أن يرى ابنه استمراره وطريقه من بعده على شاكلته فيما يفعل .

 

خاتمة و توديع :

أيها الأخوة الكرام : أرجو الله تعالى لكم أن يحفظ إيمانكم ، ويحفظ أولادكم ، وأهلكم، وصحتكم ، ومالكم ، وأن يعينكم على تربية أولادكم ، وأن تنتبهوا لهاتين النقطتين : أنت هنا معك رسالة إلى أهل هذه البلاد ، أن تنقل لهم عظمة ديننا ، وعظمة أخلاق نبينا ، وأن تعطيهم الصورة المشرقة ، وإذا ذهبت إلى بلادك لك رسالة أخرى أن تنقل لهم إيجابيات هذه البلاد ، فأنت تحمل رسالتين ؛ واحدة تنقلها إلى بلادك إذا ذهبت إليهم ، والثانية تنقلها إلى أهل هذه البلاد ما دمت تعيش معهم ، وأرجو الله لكم التوفيق والنجاح .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

إخفاء الصور