- الخطب
- /
- ٠1خطب الجمعة
الخطبة الأولى:
الحمد لله ثمّ الحمد لله ، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله ، وما توفيقي ولا اعتصامي ولا توكّلي إلا على الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارًا لرُبوبيَّته ، وإرغامًا لمن جحد به وكفر ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا صلى الله عليه وسلّم رسول الله سيّد الخلق والبشر ما اتَّصَلَت عين بنظر ، أو سمعت أذنٌ بِخَبر . اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه ، وعلى ذريّته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدّين ، اللَّهمّ ارْحمنا فإنّك بنا راحِم ، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر ، والْطُف بنا فيما جرَتْ به المقادير ، إنَّك على كلّ شيءٍ قدير ، اللّهمّ علّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزدْنا علمًا ، وأرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتّبعون أحْسنه ، وأدْخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الإنسان بين موقفَيْن ؛ إما أن يستجيب للحق وإما أن يتَّبِع الهوَى :
أيها الأخوة الكرام ؛ تَتْميمًا للموضوع السابق حول موضوع مرض الإيدز الإنسان أيها الأخوة رُكِّب - كما قال الإمام عليّ كرَّم الله وجهه - مِن عَقْل وشَهوة ، في حين أنّ الملَكَ ركّب من عقل دون شَهوة ، وأنّ الحيوان ركِّب من شهوة دون عقل ، وأنّ الإنسان ركِّبَ من كِلَيْهما ، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمَتْ شهوته على عقله أصبح دون الحيوان ، لذلك هذه الشهوة التي أوْدَعها الله في الإنسان - وقد ذكرتُ لكم في الأسبوع السابق أنّها حِياديَّة - إما أنّها درجاتٍ نرقى بها ، وإما أنَّها دركاتٍ نهوي بها ، إما أنَّها قِوَى محرِّكة ، وإما أنّها قِوَى مُدَمِّرة ، على كلٍّ في الإنسان شهواتٌ أوْدعها الله فيه ، القرآن الكريم عبَّر عنها أحيانًا بالهَوَى ، لذلك لو تتبَّعنا الآيات الكريمة التي ذكرت الهوى لرأينا العجب العُجاب ، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة طه :
﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾
أي سقط ، فهَوَى يَهْوي بمَعنى سقط يسقط ، والعجيب أنّ هذا الفعل يُستعمل تارةً للسقوط ، وتارةً للميل ، فينبغي أن نفْهم أنّ الهوىَ بِمَعنى المَيْل ربّما تطابق مع السُّقوط ، والإنسان لأنْ يسقط من السماء إلى الأرض أهْوَنُ من أن يسقط من عين الله ، وسُقوط الإنسان أيْ هلاكهُ .
الكفار تصوُّراتهم غير صحيحة و عقيدتهم غير صحيحة :
الله سبحانه وتعالى في آية من سورة النجم بيَّن أنّ هؤلاء الكفار ، هؤلاء المعرضون إن يتّبعون إلا الظنّ وما تَهوى الأنفس ، فالإنسان أيها الأخوة إما أن يقودهُ عقلهُ ، وإما أن يقودهُ هواه ، وليس هناك حالة ثالثة ، إما أن يتَّبِعَ الهوى ، وإما أن يتَّبِعَ العقل ، العقل يدلُّه على الله ، العَقل يأمرُهُ بِطَاعة الله ، والعمل للآخرة ، بينما الهوى يأمرُه أن يفعل كلّ شيءٍ يقضي شَهوتهُ ولذَّتهُ ولو كان عُدْوانًا ، أو بَغْيَا ، أو طُغيانًا ، فهؤلاء الكفار يقول الله عنهم : إنّ يتَّبعون إلا الظنّ أيْ تصوُّراتهم غير صحيحة ، عقيدتهم غير صحيحة ، فلْسفتهم غير واقِعِيَّة ، وهذا هو الظنّ .
فيا أيها الأخوة ، الإنسان ينبغي أن تبلغ عقيدته درجة اليقين ، قال تعالى :
﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴾
أما إذا ظنَّ ظنًّا ، والظنّ لا يُغني من الحق شيئًا ، فهناك وهْمٌ ، وهناك شكّ ، وهناك ظنّ ، وهناك غلبة ظنّ ، وهذه كلّها لا تُغني من الحق شيئًا ، وبعد علم اليقين هناك حقّ اليقين ، وبعد حقّ اليقين هناك عَين اليقين ، فإذا رأيْتَ دُخانًا وراء جدار عِلْمُ اليقين يقول لك : لا دُخان بلا نار ، فإذا رأيْتَ النار بأمِّ عَينِك ، رأيْتَ عَيْن النار ، فضلاً عن آثارها وهي الدخان فهذا هو حق اليقين ، فإذ لمسْت النار ، واحترقَت يدُك بها فهذا هو عين اليقين ، ينبغي أن تكون دائرة عقيدتك في علم اليقين ، وحقّ اليقين ، وعين اليقين ، أما الوهم والشكّ والظنّ وغلبة الظنّ فكلُّ هذا لا يُغني من الحقّ شيئًا ، قال تعالى :
﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ﴾
الذي يُحرّكهم أوهام ليْسَت واقعيَّة ، وشهوات دنيئة مسْتعرة تغلي في نفوسهم ، هذا وصْفٌ دقيق لِخَالق الكون عن الكفار .
من حاسب نفسه في الدنيا حساباً عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيراً :
أيها الأخوة الكرام ؛ الصّفة الأولى التي وصف بها الله نبيَّه عليه الصلاة والسلام هي إنَّه لعلى خلق عظيم ، أما كلامهُ فقد وصفه الله عز وجل بأنَّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، فنحن البشر إما أن ننطق عن الحق الذي أنزلهُ الله من السماء ، إما أن تنطق بآيةٍ ، أو بحديث صحيح ، أو بِحُكمٍ شرعي ، أو بِحَقيقة ساطعة كوْنيَّة ، وإما أن تنطق عن الهوى ، والنبي عليه الصلاة والسلام في كلّ أطواره ، وفي كلّ أحواله ، في غضبه وفي رضاه ، وفي ضيقه وفي وُسعته لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
أيها الأخوة الكرام ؛ في سورة النازعات آيةٌ كريمة ، وهي قوله تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
قال بعض المفسِّرين : مقام الله عز وجل أيْ وُقوف العبد بين يدي ربّه يوم القيامة، لذلك ترى المؤمن ما من موقف يقفهُ إلا ويسأل نفسهُ ؛ ما جوابك لله إذا وقفْت بين يدي الله عز وجل ؟! أيها الإنسان تحرَّك كيفما شئت ، ولكن هيِّئ لرَبِّكَ جوابًا عن كلّ موقفٍ وحركة، وعن كلِّ سكنةٍ ، وعن كلّ إنفاق ، وعن كلّ منْعٍ ، وعن كلّ عطاء ، أيُّ موقفٍ تقفهُ ينبغي أن تُهَيِّئ لله تعالى جوابًا قال تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾
أي مقامه بين يدي الله عز وجل حين الحِساب ، قال تعالى :
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
أيْ أنَّ النفس أمارة بالسوء ، فلو أنَّ النفس أتْبعْتها ما تشتهي لوَقَفْتَ يوم القيامة أمام ربِّك موقفًا صعْبًا ، أما لو نهَيْتَ نفسكَ عن الهوى ، ووضَعْتَ مُيول النفس الدنيئة تحت قدمك ، وخفْتَ مقام ربّك ، وخفْتَ أن تقف بين يديه لِتُسأل عن كلّ شيء ، فإنّ الجنّة هي المأوى ، لذلك من حاسب نفسهُ في الدنيا حسابًا عسيرًا كان حسابه يوم القيامة يسيرًا ، ومن كان حسابهُ لنفسه يسيرًا كان حسابه يوم القيامة عسيرًا ، قال تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾
أي وقوفه بين يدي الله عز وجل ، وقال تعالى :
﴿وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
من يتبع هواه ليس أهلاً للسؤال و الاستشارة :
أيها الأخوة الكرام ؛ إما أن تتَّبِعَ الهوى ، وإما أن تتَّبِعَ ما يُمليه عليك عقلك ، والعقل المطلق متطابق مع النقل الصحيح ، فإذا فكَّرْتَ تفكيرًا صحيحًا تنتهي إلى نتائج متطابقة مع الأمر الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام ، والنهي الذي نهى عنه ، أما العقل الجامح فقد يتناقض مع النقل الصحيح ، وأما النقل غير الصحيح فقد يتناقض مع العقل الصحيح .
أيها الأخوة الكرام ؛ وربّنا سبحانه وتعالى في سورة الكهف ينهانا ويقول :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
هذا الذي يتَّبِعُ هواه ليس أهلاً أن تسأله ، ولا أن تسْتشيره ، ولا أن تسْتنصِحَهُ ، ولا أنْ تعرِضَ عليه مشكلتك ، ولا أن تهتدي بِرأْيِهِ ، فإنَّه لا رأْيَ له ، كان أمْرهُ فرطًا ، والغفلة هنا أيُّها الأخوة تُقاسُ على أشياء كثيرة ، قال تعالى :
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
إزاغَةُ الله لقُلوبهم إزاغةٌ جزائيَّة مَبْنِيَّة على زَيْغٍ اختياري ، وإذا عُزِيَ الإضلال إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي ، الذي أساسه ضلال اختياري ، وكذلك أغفلنا قلبه عن ذِكرنا ، هذا الإغفال الجزائي الذي يُبنى على غفلةٍ اختياريّة ، قال تعالى :
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
وفي آية ثانية في سورة طه ، قال تعالى :
﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ﴾
أيْ تسْقط ، كلُّ الآيات التي تأتي فيها كلمة الهوى تُشير إلى الشهوات التي لا ترضي الله عز وجل .
من يتبع هواه بغير هدى من الله أشدّ الناس ضلالاً :
ثمّ إنّ الله يبيِّنُ أنّ هذا الذي يتَّبعُ الهوى لقد جعل من الهوى إلهًا له يعبدُه من دون الله ، قال تعالى :
﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ﴾
هذا الذي يتحرَّك وفْق أهوائه المنحرفة ، هذا الذي يقف أيّ موقف في ضوء أهوائه الضالة ، وهذا الذي يعطي عن هوى ، ويمنع عن هوًى ، يُسرُّ عن هوًى ، ويغضبُ عن هوًى ، هذا الذي يُسيِّرُه الهوى كيفما شاء كأنّه اتَّخذ الهوى إلهًا له ، ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى في سورة القصص يبيِّنُ أنَّه ما من إنسان على وجه الأرض أشدّ ضلالاً وانحرافًا وعمًى من الذي اتَّبَعَ هواه بغير هُدًى من الله عز وجل ، في هذه الآية إشارةٌ إلى أنّ هذه المُيول التي أوْدعها الله فينا ، إلى أنّ هذه الشهوات التي غرزها الله في نفوسنا ، لو أنَّنا تحرَّكنا من خلالها وفْق شرْع الله عز وجل ومنهج الله لا شيء علينا ، فلو أنّ حُبّ المال أوْدَعَهُ الله في كلّ إنسان ، لو أنّ هذا الحبّ أفرغَهُ في قناةٍ شرعيَّة ، وهي العمل الشرعي ، الكَسب المَشْروع ، أوْدَعَ الله في الإنسان حبّ النّساء ، لو أنّ هذا الحبّ أفْرغَهُ في قناة الزواج النظيفة ، التي تبني المجتمع ، لا شيءَ عليه ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّه﴾
أي أنّ الميْل قد يكون قوَّة تبني ، أنّ الشهوات قد تكون أساسًا لِرُقِيِّنا إلى ربّ الأرض والسموات ، ولكن بِشَرط أن تتَّبِعَ الهوى وفْق منهج الله تعالى .
من يكذب بآيات الله فهو في ضلال مبين :
تتِمَّة الآية :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
وهناك علاقة وشيجة بين طرفي الآية ، فهذا الذي يتَّبعُ هواه بغير هدًى من الله لا بدّ من أن يظلم ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾
وفي سورة الأنعام يقول الله عز وجل :
﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾
الحقّ لا يتبدَّل ولا يتعدَّد ، فهذا الذي يكذب بآيات الله هذا في ضلال مبين ، إذًا كلّ تعليماته ، وكلّ إرشاداته ، وكلّ آرائه ، وكلّ تصوُّراته ، ضلال في ضلال قال تعالى :
﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾
لأنه ما بعد الحق إلا الضلال ، ما بعد التكذيب بالآيات إلا الضلال العميم .
ثمرات اتباع الهوى :
أيها الأخوة الكرام ؛ وفي سورة الجاثية يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
وكأنّ الذي يعلم لا يتَّبعُ الهوى ، وكأنّ الذي لا يعلم يتَّبع الهوى ، وكأنّ بين العلم والهوى تناقضًا بمَعنى وُجود أحدهما ينقض الآخر ، قال تعالى :
﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
لا يعلمون إذًا لهم أهواء ، لو أنّهم يعلمون لأخضعوا أهواءهم لمنهج الله عز وجل، أما أن ينطلق الإنسان من شهواته ، ومن أهوائه ، دون أن يتقيَّد بِمَنهج الله عز وجل فالنّهاية وخيمة جدًّا ، إنّها إفسادٌ للسموات والأرض ومن فيهنّ ، أليْسَت الأجواء ملوّثة ؟ أليْسَت طبقة الأوزون مخلْخَلة ؟ أليْسَت مياه البحار ملوَّثة ؟ أليْسَت النباتات ملوّثة بهذه المُبيدات ؟ أليْسَت حياتنا كلّها تشكو التلوّث ؟ أليْست العلاقات الإنسانيّة تشكو التلوّث ؟ هذا هو الفساد ، قال تعالى :
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ﴾
فالبشريَّة إن انطلقت من أهوائها فهي تنتحر باختيارها ، وحينما تقول : القارة الإفريقيّة ، وبعض القارات الأخرى على وشك الهلاك بِفِعل هذا المرض الذي تحدَّثتُ عنه في الأسبوع السابق ، إنّهم قد اتَّبعُوا أهواءهم فهَلَكوا ، قال تعالى :
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ﴾
ألَيْسَت المجتمعات الغربيَة قد انتهَتْ منها الأسرة ؟ انتَهَتْ منها العلاقات النظيفة ، أليْسَ هذا التمزّق والتفتُّت والضياع والشقاء الإنساني بِفِعْل المخدّرات ؟ وبِفِعل الانحرافات ؟ وبفعل هذه الأمراض الوبيلة ؟ أليْسَت هي ثمرة اتِّباع الهوى ؟ قال تعالى :
﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ﴾
هذه الآية في سورة المؤمنون .
أيها الأخوة الكرام ؛ كَمِقْياسٍ دقيق يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿َ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
فالإنسان بين موقفَيْن ، إما أن يستجيب للحق ، وإما أنَّه يتَّبِعُ الهوَى ، فإن لم يسْتجِب للحق ، فهو يقينًا يتَّبعُ الهوى قال تعالى :
﴿َ فإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾
الهوى في القرآن الكريم :
يا أيها الأخوة الكرام ؛ الهوى في القرآن الكريم وردَ في أكثر الآيات مذمومًا إلا في آيةٍ واحدة ، وهي دُعاءٌ ورد على لٍسان سيّدنا إبراهيم :
﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾
أحيانًا يأتي الهوى بِقَرينةٍ تدلّ على أنَّه المَيْل إلى الحق ، المَيْل إلى إنصاف الناس ، والمَيْل إلى طاعة الله ، وهذا يؤكِّدُه قوله تعالى :
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّه﴾
أي لو أنّ هذا الهوى ما رسخ في الإنسان بالطريقة التي شرعها الله عز وجل لا شيء عليه ، لذلك ورد في بعض الأحاديث الصحيحة فقد روى الإمام مَالِك عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ :
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ ))
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
(( حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا قَالَتْ : فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ : لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ))
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
الكيّس أي العاقل من دان نفسه ، أي ضبط جوارحهُ ، ضبط شهواته ، ضبط ميولهُ ، قنَّنَ مُيوله وفْق شرع الله ، ووفق منهج الله ، هذا هو العاقل ، وعمل لما بعد الموت ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني ، والله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع عباده بالأماني ، لا يتعامل معهم إلا بالسعي الصحيح ، قال تعالى :
﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ﴾
هذا التمنّي كما قال تعالى :
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ﴾
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
ومن أدعية النبي عليه الصلاة والسلام كما روى الترمذي ، عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ عَمِّهِ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَهْوَاءِ ))
إذًا ركِّبَ الحيوان من شهوة بلا عقل ، في حين أنّ الملَكَ ركّب من عقل دون شَهوة ، وركِّبَ الإنسان من كِلَيْهما ، فإن سما عقله على شهوته ، قال تعالى :
﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
فإذا سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمَت نفسه على عقله ، واتَّبع هواه ، وكان أمره فرطًا ، أصبح دون الحيوان .
الإنسان دائماً بين نِداء الشَّهوة ونِداء العقل :
فيا أيها الأخ الكريم ؛ وأنت في بيتك ، وأنت في عملك ، وأنت في الطريق غرائزُك تدعوك إلى شيء ، وعقلك يدعوك إلى شيء ، تقول لك الغريزة : اُنظر ، ويقول لك عقلك : غُضّ الطرْف ، تقول لك الغريزة : خُذ هذا المبلغ من المال ، يقول العقل : لا تأخذهُ هذا مالٌ حرامٌ مَشبوه ، فدائمًا أنت بين نِداء الشَّهوة ونِداء العقل ، طوبى لِمَن استجاب لِنِداء العقل ، وأعرض عن نداء الشهوة ، واقرَأ الآيات كلّها تجد أنّ الهوى في معظم الآيات الكريمة ورد في معرض الذمّ ، وأنّ الهوى إذا أطلق انصرف إلى الهوى غير المَشْروع الذي لا يرضي الله عز وجل .
أيها الأخوة الكرام ؛ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم ، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطّى غيرنا إلينا فلْنَتَّخِذ حذرن .
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))
* * *
الخطبة الثانية :
أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، صاحب الخلق العظيم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تفسير سرعة التِئام جروح الأسماك :
أيها الأخوة الكرام ؛ من آيات الله الدالة على عظمته ، وقد بيَّنْتُ لكم كثيرًا أنّ التفكّر في آيات الله في كونه أقْصَر طريق إلى الله ، وأوْسعُ باب ندخل منه إلى مُعاينَة عظمة الله عز وجل ، فهناك فُنون حربيَّة تُتْقنها الأسماك ، الحرب كما تعلمون كرّ وفرّ ، وما من حُروبٍ تدور إلا وفيها قَتلى وجرْحى ، وكذلك الأمر لدى سُكَّان البحار ، فكم من سمكةٍ فرَّت وهي تحملُ جراحًا من عضَّة أو نهشةٍ أصابتْها من عدوّها ، ولكنّ الشيء الذي يلفتُ النَّظر أنّ جراح الأسماك سريعًا ما تشفى ، سريعًا ما تلتئِم ، في وقتٍ قياسيّ لا يُصدّق ، هذا السؤال حيَّر علماء الحيوان ، بعضُ العلماء عزا هذه الظاهرة ، سرعة التِئام جروح الأسماك في وقتٍ قياسي وقصيرٍ جدًّا بالقياس إلى التئام جروح الإنسان إلى مُلوحة المياه ، ولكنّ هذا التفسير سقط أمام ظاهرة كثيرة ، شاهدها علماء البحار بأُمِّ أعْيُنهم ، فعُلماء البحار ، وعلماء الأسماك وجدوا من خلال الملاحظة الدقيقة ، أنّ بعض الأسماك إذا ما جُرحت تلجأُ إلى أسماك من نوعِهِا ، يتناوَبُ بعضها خلف بعض على الالتِصاق بأماكن الجروح ، أسماكٌ تلتصقُ مع السمكة الجريحة ، تأتي الأولى والثانية والثالثة إلى أن يلتئمَ الجُرح ، اعْتَقَد العلماء أنّ هذه الأسماك تفرزُ مواد تُعين على شِفاء الجروح والتئامها ، فما كان من علماء الأسماك إلا أن جاؤوا ببعض هذه الأسماك إلى مختبرات ، ووضَعوها في مياه مالحة ، ووضعوها في الشروط نفسها ، وأحْدثوا جرحًا في بعض هذه الأسماك ، الشيء الذي يلفتُ النظر ثانيًا أنّ هذه الأسماك امْتَنَعَتْ عن معالجة زميلتها !! وهي تحت سمْع وبصر العلماء !! وبقي هذا السرّ دفينًا سنواتٍ طويلة ، إلى أن استطاع عالمٌ قضى سنوات طويلة في تحليل هذه المواد التي تفرزها الأسماك حينما تلتصقُ بِزَميلاتها الجرحى، فإذا هذه المواد سامَّة وضارَّة ظاهرًا ، لكنّ بعضها متخصِّصٌ بِتَخثير الدمّ ، وبعضها يُعين على انقباض الجلد والعضلات ، وفي بعضها مادّة لاصقة ، يخثّر الدم أوّلاً ، تُشدّ العضلات والجلد ثانيًا ، تأتي المادة اللاصقة ثالثاً لتُنهيَ هذا الجرح نهائيًّا ، جيءَ بِبَعض هذه المواد ووُضِعَت على جرح الإنسان فإذا هو يلتئِمُ في ثلث الوقت الذي من عادته أن يلتئم به من عشرة أيام إلى ثلاثة أيام بتأثير هذه المواد ، دون أن يكون لهذه المواد أعراضٌ جانبيَّة ، قال العلماء : وكأنّ هذه المواد المتنوّعة - بعضها للتخثير ، وبعضها لِشَدّ الجلد والعضلات ، وبعضها كمادّة لاصقة - تتعاونُ فيما بينها ، وتنسِّقُ وظائفها ، وكأنَّها واعِيَةٌ هادفةٌ تتعمَّد الوُصول إلى نتيجةٍ واحدة ، ألا وهي سُرعة التئام الجروح .
أيها الأخوة الكرام ؛ هذه الآية الكَوْنيَّة مِصْداق قول الله تعالى :
﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾
علمٌ ما بعده علم ، وقدرةٌ ما بعدها قدرة ، لذلك قال بعض العلماء : كلُّ إنسانٍ لا يرى من هذا الكون قوَّة هي أقوى ما تكون ، عليمة هي أعلم ما تكون ، حكيمة هي أحكمُ ما تكون ، رحيمةً هي أرحم ما تكون ، هو إنسانٌ حيّ ولكنَّهُ ميِّت ، ففي كلِّ شيءٍ له آية تدلّ على أنَّه واحدُ ، يمكن أن تفكِّر في الأسماك فترى العجب العُجاب ، يمكن أن تفكِّر في الأطيار التي زوَّدها الله برؤيةٍ تزيد ثمانية أضعاف عن قدرة رؤية الإنسان ، يمكن أن ترى طائرًا يقطعُ سبعة عشر ألف كيلو متر من دون توقّف !! ما هذه الرحلة ؟! تعجزُ عنها أكبر الطائرات الأرضيَّة .
أيها الأخوة الكرام ؛ الكون مَظْهرٌ لأسماء الله الحسنى ، وصفاته الفضلى ، يمكن أن تلْمسَ من خلال الكون أسماء الله الحسنى ؛ قدرته ، علمه ، رحمته ، عدالته ، لذلك القرآن الكريم طافحٌ بالآيات التي تدْعو إلى التفكّر في خلق السموات والأرض ، قال تعالى :
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾
الدعاء :
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقنا واصرف عنا شرّ ما قضيت ، فإنك تقضي بالحق ولا يُقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ، ولك الحمد على ما قضيت ، نستغفرك ونتوب إليك ، اللهم هب لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك . اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا ، أرضنا وارض عنا ، اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا بها جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا اللهم بأسماعنا ، وأبصارنا ، وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا ، مولانا رب العالمين . اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، ودنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا ، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر ، مولانا رب العالمين . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك . اللهم لا تؤمنا مكرك ، ولا تهتك عنا سترك ، ولا تنسنا ذكرك يا رب العالمين . اللهم استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا ، وآمنا في أوطاننا ، واجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين . اللهم إنا نعوذ بك من الخوف إلا منك ، ومن الفقر إلا إليك ، ومن الذل إلا لك ، نعوذ بك من عضال الداء ، ومن شماتة الأعداء ، ومن السلب بعد العطاء . اللهم ما رزقتنا مما نحب فاجعله عوناً لنا فيما تحب ، وما زويت عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب . اللهم صن وجوهنا باليسار ، ولا تبذلها بالإقتار ، فنسأل شرّ خلقك ، ونبتلى بحمد من أعطى ، وذم من منع ، وأنت من فوقهم ولي العطاء ، وبيدك وحدك خزائن الأرض والسماء . اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين . اللهم بفضلك وبرحمتك أعل كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وخذ بيد ولاتهم إلى ما تحب وترضى ، إنك على ما تشاء قدير ، وبالإجابة جدير .