وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 56 - من سورتي البقرة والصف - التجارة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

التجارة مع الله :

 أيها الأخوة الكرام ؛ وردت كلمة " التجارة " في القرآن الكريم في أماكن عديدة ، وقبل أن نأتي على بعض هذه الأماكن ، مفهوم التجارة أن تدفع شيئاً وأن تأخذ أكثر منه ، أن تدفع شيئاً هو الرأسمال ، الكلفة ، وأن تأخذ أكثر منه هو المبيع ، رأس المال مع الربح ، والإنسان حينما يتاجر ويحقق ربحاً يشعر بنوع من الراحة ، والإنجاز ، وكلما كان الربح أوفر كلما كان السرور بهذه التجارة أكبر .
 لكن الله عز وجل انطلاقاً من مفهومنا التجاري سمّى الإيمان به ، وطاعته ، وطاعة رسوله ، والجهاد في سبيله تجارة ، بل هي أربح أنواع التجارة ، بل هي التجارة التي لا تخسر ، بل هي التجارة التي لا تُصَدَّق . .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾

[سورة الصف: 10-11]

 التجارة مع الله أن تعيش سنوات معدودة كأي إنسان ، وأن تطيع الله في هذه السنوات، مع أن الله جلّ جلاله ما حرمك شيئاً ، ولكن أباح لك عشرة آلاف نوع من الطعام ومنعك من الخنزير ، أباح لك عشرات بل مئات أنواع الشراب ومنعك من الخمر ، أباح لك الزوجة مثنى وثلاث ورباع ومنعك من الزنا ، في أصل الدين لا يوجد حرمان ، في هذا العمر المحدود تطيع الله عز وجل من دون حرمان ، من دون عُقَد ، من دون شعور بالنقص ، وتبذل من مالك صدقةً، وتغض بصرك ، وتضبط لسانك ، وتضبط دخلك ، وتضبط إنفاقك ، سنوات معدودة تمضي سريعاً فإذا أنت في جنةٍ عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين .
 لا يتناسب الجُهد مع العطاء ، لا يتناسب شيء محدود مع شيء غير محدود ، لا يوجد تناسب ، فتسمى هذه تجارة من باب التجاوز ، لا توجد تجارة تشتغل عشر سنوات ، فتتمتع بهذا الربح مليار مليار مليار مليار مليار ، وقدر ما قلت مليار سنة ، بنعيم مقيم ، هؤلاء المنافقون قال الله عنهم:

﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾

[سورة البقرة : 16]

 الإنسان إذا آثر الدنيا على الآخرة خسرهما معاً ، وإذا آثر الآخرة على الدنيا ربحهما معاً ، فالذي يؤثر الآخرة على الدنيا يعدّ أكبر تاجر على وجه الأرض ؛ لأنه تاجر مع الله ، والله عز وجل حينما تتاجر معه يريدك أن تربح عليه ، وأن تربح أضعافاً مُضاعفة ، فالرجل يضع اللقمة في فم زوجته يراها يوم القيامة كجبل أحد .
 امرأةٌ طلبت من زوجها الصحابي مطالب دنيوية ، قال : " اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فلأن أضحي بكِ من أجلهن أهون من أضحي بهن من أجلكِ" .

 

مفهوم التجارة :

 مفهوم التجارة أن تدفع شيئاً وأن تأخذ أعلى منه قيمةً ، هذه التجارة مع الناس ، لكن مع رب الناس من نوع آخر ، تقدم شيئاً محدوداً ، معقولاً ، طبيعياً من دون جهد ، تستحق جنة إلى أبد الآبدين ، هؤلاء الذين ربحت تجارتهم .
 الصحابي الجليل الذي كان في طريق الهجرة ، وألقي القبض عليه ، وأرادوا أن يقتلوه قال : أدلكم على مالي في مكة . فدلَّهم على ماله كله ، وأخذوا ماله كله ، وهو نجا فقط بجلده ، فلما وصل إلى المدينة ، وقصّ على النبي ما حدث قال:

((ربح البيع أبا يحيى))

[الجامع لأحكام القرآن]

 خسر ماله كله ، وقال له النبي الكريم " ربح البيع أبا يحيى " ، فأنا أتمنى بعد هذا الشهر الكريم ، وبعد هذه الصلوات ، والصيام ، والقيام أن نتاجر مع الله ، وأن نبدأ بعد رمضان صفحةً جديدة .

 

من تاجر مع الله ربح الآخرة :

 لو فرضنا - لا سمح الله ولا قدَّر - إنساناً قصَّر في رمضان ، لم تكن صلاته مُحْكَمَةً في رمضان ، كان مُنشغلاً بقضية كبيرة في رمضان ؛ فلم يعجبه قيامه ولا صيامه ، فماذا يفعل ليجعل من العام كله رمضان ؟ الله عز وجل هو ربنا في رمضان ، وربنا بعد رمضان ، وباب الإقبال على الله مفتوحٌ على مصارعه ، فأنا أدعوكم إلى التجارة مع الله لأنها تجارةٌ ربحها خيالي ، بل أغرب من الخيال . .

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾

[ سورة البقرة: 245 ]

 أنا مرة حدثتكم عن إنسان آذن مدرسة ، دخله محدود جداً ، أربعة آلاف في الشهر ، عنده ثمانية أولاد ، ورث أرضاً قيمتها ثلاثة ملايين ونصف ، أرض ورثها في أطراف دمشق ، إنسان ميسور الحال ، غني من أغنياء دمشق ، أراد أن يتقرَّب إلى الله ببناء مسجد في هذه المنطقة ، فأرسل أحد إخواننا وهو مهندس ليستطلع له عن أرض مناسبة ، فرأى هذه الأرض مناسبة جداً ، فلما اتفق على سعرها ثلاثة ملايين ونصف وهي مناسبة ، جاء المهندس بصاحب المشروع المتبرع ، أراه الأرض ، وجمعه مع صاحب الأرض ، هذا الآذن الذي ورث الأرض من أشهر ، ودخله أربعة آلاف ، وعنده ثمانية أولاد ، كتب له هذا الغني شيكاً بمليونين ، فقال له الآذن: أين البقية ؟ قال له : البقية عند التنازل ، قال له : أي تنازل ؟ لماذا التنازل ؟ قال له : لأن هذه الأرض سأقيم عليها مسجداً . يقول الرجل- الآن هو مريض شفاه الله وعافاه - : هذا الآذن مسك الشيك بعد أن أخذه مني ومزقه فوراً . هو خاف هل هذا الآذن ضد الدين أم ماذا ؟ لما عرف أن الأرض سيقام عليها جامع يريد أن يلغي البيعة ؟ قال له : لا ، أنا أولى منك أن أقدمها لله عز وجل ، يقول الأخ : بحياتي ما صغرت أمام إنسان كما صغرت أمام هذا الآذن ، لأنه لا يملك من الدنيا إلا هذه الأرض ، وله دخل أقل من حاجته بكثير ، وفقير جداً ، هذا الآذن ماذا فعل ؟ هذا أذكى إنسان ، هذا تاجر مع الله ، مع الله تاجر .
 سيدنا الصديق قَدَّم كل ماله ، تاجر مع الله عز وجل ، يأتي إنسان آخر يترك مئة مليون ، مئتي مليون ، والله إنسان على فراش الموت ، ترك ثمانمئة مليون سنة ألف وتسعمئة وخمس و سبعين ، ثمانمئة مليون حصّلها كلها من القمار ، يبدو وهو في النزع الأخير طلب أحد العلماء ، العلماء جبَّارو خواطر ، واحد جاء لعنده ، قال له : ماذا أفعل ؟ هذا العالم كان صريحاً، قال له : والله لو أنفقت كل هذا المال في يومٍ واحد لن تنجو من عذاب الله .
 هذا أحمق ، أما هذا الآذن الذي قدم ثلاثة ملايين ونصف لله عز وجل ، هذا تاجر مع الله .
 أحياناً تجد شخصاً يقدم روحه ، يقدم وقته ، يقدم جُهده ، يقدم إتقاناً عجيباً بصمت دون أن يَعْلَم أحد ، يأتي إنسان آخر لا يقدم شيئاً ، ولكنه يجمِّع أموالاً طائلة ، الاثنان يموتان ، واحد في روضات الجنَّات ، والآخر في حُفر النيران ، من هو العاقل ؟ الذي تاجر مع الله ، هؤلاء المنافقون فما ربحت تجارتهم ، أما أبو يحيى قال له سيدنا رسول الله: "ربح البيع أبا يحيى"، ربحت تجارتك ، هو خسر كل ماله لكنه ربح الجنة ، ربح الأبد ، خسر الحياة الدنيا ، الله سمَّاها دنيا ، وربح الحياة العليا ، خسر سنوات معدودة ، وربح نعيماً مقيماً في جنَّات النعيم .

﴿ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾

[ سورة البقرة: 16]

 فالإنسان يتاجر مع الله عز وجل .

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾

[ سورة البقرة: 245 ]

أهل الدنيا يعملون للدنيا فقط :

 مرة قال لي شخص : إنه مقطوع ، ومعه أهله ، ويبدو أنه مقطوع بمكان في أول الطلعة ، قال لي : وقفنا ساعة ساعتين لا أحد وقف لنا ، مقطوع يريد رافعة للسيارة ، ولا يوجد عنده رافعة ، والدولاب أصابه عطب ، قال لي : نؤشر للسيارات ، كل واحد يريد أن يطلع هذه الطلعة يأخذ عزيمة مسبقة ، ثم وقف أحدهم قال لي : لما وقف أكبرته ؛ هذا عنده شهامة ، عنده مروءة ، عنده حب للخير ، أعطاه الرافعة ، وأثناء رفع السيارة قال لي : أنا أحدث نفسي بكرمه ، بمروءته ، بشهامته ، بحبه للخير ، بعد أن انتهى قال لي : اسمح لي بخمس ليرات ، فقال له صاحب السيارة المعطوبة : والله لو طلبت مئة ليرة لأعطيك ، لكن يا ليت لم تطلب خمس ليرات. لأن عملك قد يرقى بك في الآخرة ، لكنه صار عملاً مأجوراً .
 كذلك الآن أهل الدنيا ، لا يمكن أن يعمل عملاً لله ، كله يريد أجرة على عمله ، كأن الله أحبط أعمالهم ، حتى الأعمال الصالحة يريد طريقة ، يريد أجرة ، يريد إشارة ، يقول لك : نريد أجرة ، والله سمعت البارحة عن إنسان لزمه قطعة للسيارة ، طلب فقط رقمها ، قال له : أريد ألفين وخمسمئة لكي أعطيك رقم القطعة ، لا يوجد بيع ولا شراء ، يريد رقمها على الكمبيوتر فقط ، قال له: أريد ألفين وخمسمئة ، لا يمكن أن يقدم شيئاً إلا بمال .
 فيا أخواننا الكرام ؛ تاجروا مع الله عز وجل ، اعمل عملاً لوجه الله لا تبتغ به أجرةً ، ولا سمعةً ، ولا ثناء ، والله أخوان كثيرون ، يعملون عملاً بطولياً ، يقول لي : أرجوك لا تتكلم عن هذا العمل لأحد ، أرجوك أكتم الأمر ، يبدو أن إخلاصه عال ، قبض من الله الأجرة ، الذي يعمل له رأى هذا العمل ، وكلما الإنسان ضعف إخلاصه يستجدي المديح من الناس ؛ يحدثهم عن نفسه ، يمدح نفسه ، يتكلم عن إنجازاته لكي يمدحوه ، إذا عمل عزيمة يقول : قد لا يكون الأكل قد أعجبكم ؟ يقولون : أعوذ بالله ما هذا الكلام ، ما شاء الله على هذا الأكل ، يستجدي المديح .
 إذا دخلت لبيته : إن شاء الله أعجبك الأثاث ؟ والله ممتاز ، ما شاء الله على هذا الذوق . يريد دائماً أن تمدحه ، فكلما ضعف إخلاص الإنسان يحب أن يستجدي المديح ، ويظهر، ويريد الشهرة .

الإخلاص أربح تجارة مع الله :

 أما إذا كان الإخلاص عالياً :

﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾

[سورة الإنسان :9]

 ومع الله يا أخوان أربح تجارة ، والله في بعض الأخوان يعملون في هذا المسجد بصَمت عجيب ، من أي نوع ، ولا أحد يعرفهم ، ولا يريد أن يعرفه أحد ، ويبذل ساعات طويلة في العناية بهذا المسجد ، هو يرجو رحمة الله ، نريد هذا الإنسان .
 سيدنا عمر ببعض المعارك جاء رسول من معركة نهاوند قال له : حدثني ؟ قال له : مات خلقٌ كثير ، قال: من هم ؟ قال الرسول : إنك لا تعرفهم . فبكى عمر ثم قال : وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم ؟ فأنت اعمل عملاً لوجه الله ، وأبواب الخير والله لا تُعَدّ ولا تحصى ، إذا ربيت ابنك فهذا أعظم عمل ، تقيل عثرة إنسان أعظم عمل ، ترحم ضعيفاً أعظم عمل ، تطعم جائعاً أعظم عمل ، ترعى يتيماً أعظم عمل ، تتبنى طالب علم أعظم عمل ، تنقل الحق للناس بطريقةٍ أو بأخرى أعظم عمل ، تكون زوجاً رحيماً أعظم عمل ، أبواب العمل لا تُعَدُّ ولا تحصى ، وكلها عملة الآخرة ، نقد الآخرة ، والدليل الإنسان يقول عند الموت :

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾

[ سورة المؤمنون : 99-100]

 فنحن يمكن أن نفتح مع الله صفحة جديدة بعد رمضان ، الذي صام بإتقان ، والذي قصَّر بالصيام ، والذي قام ، والذي لم يقم ، ممكن أن يفتح مع الله صفحة جديدة بعد رمضان ، يقول له : يا رب أنا أريد أن يكون شهر شوال أيضاً رمضان . إذا كان غض بصره برمضان و صلى الفجر في جماعة يتابع هذه العبادة ، برمضان قرأ قرآناً يتابع العبادة ، برمضان أنفق يتابع العبادة ، الله أساساً أرادنا أن نكون في هذا الشهر على حال مستمر في كل الشهور .

 

تحميل النص

إخفاء الصور